خَصائِصُ الأئمَة عليهم السلام ::: 61 ـ 75
(61)
جندبا يومئذ إثنتا عشرة ضربة مما ضربه الخوارج (1).
    وفي حديث آخر قال :
     لما قتل أمير المؤمنين عليه السلام أهل النهروان قال لاصحابه : اطلبوا إلي رجلا مخدج اليد ، وعلى جانب يده الصحيحة ثدي كثدي المرأة إذا مد إمتد ، وإذا ترك تقلص ، عليه شعرات صهب ، وهو صاحب رايتهم يوم القيامة ، يوردهم النار و بئس الورد المورود ، فطلبوه فلم يجدوه فقالوا : لم نجده. فقال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ونصب الكعبة ، ما كذبت ولا كذبت ، وأني لعلى بينة من ربي ، قال : فلما لم يجدوه. قام والعرق ينحدر عن جبهته ، حتى أتى وهدة من الارض فيها نحو من ثلاثين قتيلا ، فقال : ارفعوا إلي هؤلاء فجعلنا نرفعهم حتى رأينا الرجل الذي هذه صفته تحتهم ، فاستخرجناه ، فوضع أمير المؤمنين رجله على ثديه الذي هو كثدي المرأة ثم عركه بالارض ثم أخذه بيده وأخذ بيده الاخرى يد الرجل الصحيحة ، ومدها حتى استويا ، ثم التفت إلى رجل جاء إليه وهو شاك فقال : وهذه لك آية. ثم قال : إن الجانب الآخر الذي ليس فيه يد ليس فيه ثدي فشقوا عنه جانب قميصه ، فإذا له مكان اليد شئ مثل غلظ الابهام وإذا ليس في ذلك الجانب ثدي ، فقال للرجل الشاك : وهذه لك آية اخرى (2).
     وبإسناده عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام ، قال : لما قدم عبد الله بن عامر بن كريز (3) المدينة لقى طلحة والزبير ، فقال لهما بايعتما علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ فقال : أما والله لا يزال ينتظر بها الحبالى من بني هاشم ، ومتى تصير اليكما ، أما والله على ذلك ما جئت حتى ضربت على
1 ـ الارشاد/318 ، بصورة مفصلة. سفينة البحار 1/182. مجمع الزوائد 6/241 بسنده عن جندب وقال : رواه الطبراني.
2 ـ أعلام الورى/171. كفاية الطالب/177. خصائص النسائي/138. تاريخ بغداد 1/159. مجمع الزوائد 6/234.
3 ـ عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف .. أسلم يوم الفتح وكان من الموالين إلى بني أمية وبقى إلى خلافة عثمان.


(62)
أيدي أربعة آلاف من أهل البصرة كلهم يطلبون بدم عثمان فدونكما فاستقيلا أمركما.
     فأتيا عليا عليه السلام فقالا له إئذن لنا في العمرة ، فقال : والله إنكما تريدان العمرة وما تريدان نكثا ولا فراقا لامتكما وعليكما بذلك أشد ما أخذ الله على النبيين من ميثاق ؟ قالا : نعم. قال : انطلقا فقد أذنت لكما ، قال : فمشيا ساعة ، ثم قال : ردوهما فأخذ عليهما مثل ذلك ، ثم قال : إنطلقا فاني قد أذنت لكما ، فانطلقا حتى أتيا الباب ، فقال : ردوهما الثالثة ، ثم قال : والله إنكما تريدان العمرة وما تريدان نكث بيعتكما ، ولا فراق امتكما ، وعليكما بذلك أشد ما أخذ الله على النبيين من ميثاق ، والله عليكما لذلك راع كفيل ، قالا : اللهم نعم قال : أللهم اشهد ، اذهبا وانطلقا ، والله لا أراكما إلا في فئة تقاتلني (1).
     وعنه عليه السلام ، قال خطب أمير المومنين عليه السلام : فقال : سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألونني عن فتنة يضل فيها مائة ويهتدي فيها مائة إلا أخبرتكم بسائقها وناعقها إلى يوم القيامة حتى فرغ من خطبته (2).
    قال : فوثب إليه بعض الحاضرين فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني كم شعرة في لحيتي ؟ فقال : أما أنه قد أعلمني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله إنك تسألني عن هذا ، فوالله ما في رأسك شعرة إلا وتحتها ملك يلعنك ولا في جسدك شعرة إلا وفيها شيطان يهزك ، وإن في بيتك لسخلا يقتل الحسين ابن رسول الله ، قال أبو جعفر عليه السلام : وعمر بن سعد لعنه الله يومئذ يحبو (3).
1 ـ أعيان الشيعة 1/448 الطبعة الكبيرة. غزوات أمير المؤمنين/54. أعلام الورى/169.
2 ـ الغدير 6/193 و 194 وج 7/107 و 108.
3 ـ الارشاد 1/331 بسنده عن زكريا بن يحيى القطان ، عن فضل بن الزبير عن أبي الحكم قال : سمعت مشيختنا وعلماءنا يقولون ـ الحديث ـ أعلام الورى/186. البحار 44/256. شرح ابن أبي الحديد 1/253 نقلا عن كتاب الغارات لابي هلال الثقفي. كامل الزيارات/74.


(63)
    وبإسناد مرفوع إلى الحسن بن أبي الحسن البصري قال : سهر علي عليه السلام في الليلة التي ضرب في صبيحتها ، فقال : أني مقتول لو قد أصبحت فجاء مؤذنه بالصلاة فمشى قليلا فقالت إبنته زينب يا أمير المؤمنين مر جعدة (1) يصلي بالناس فقال : لا مفر من الاجل ثم خرج (2).
    وفي حديث آخر قال :
    جعل عليه السلام يعاود مضجعه فلا ينام ، ثم يعاود النظر في السماء ، ويقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها لليلة التي وعدت. فلما طلع الفجر شد إزاره وهو يقول :
اشدد حيازيمك للموت ولا تجزع من الموت فإن المـوت لاقيـكا وإن حـل بـواديكـا
    وخرج عليه السلام. فلما ضربه ابن ملجم ـ لعنه الله ـ قال : فزت ورب الكعبة ... وكان من أمره ما كان صلوات الله عليه (3).
1 ـ جعدة بن هبيرة إبن اخت أمير المؤمنين وامه ام هاني بنت أبي طالب وكان فقيها فارسا شجاعا ذا لسان وعارضة قوية.
2 ـ سفينة البحار 1/157 وفيه : قالت ام كلثوم يا أمير المؤمنين مر جعدة يصلي بالناس قال : نعم مروا جعدة فليصل. روضة الواعظين/135.
3 ـ الصواعق المحرقة/80. روضة الواعظين/136. نظم درر السمطين/137. فضائل الخمسة 3/66.


(64)
    وروى عن جعفر بن محمد عليه السلام ، انه لما غسل أمير المؤمنين عليه السلام ، نودوا من جانب البيت إن أخذتم مقدم السرير كفيتم مؤخره ، وإن أخذتم مؤخره كفيتم مقدمه. وأشار عليه السلام إلى أن الملائكة قالت ذلك (1).
    وأنا الآن مورد بمشية الله ، بعد ذكر الدلائل والاعلام ، خواص أخباره عليه السلام ، وفصولا من كلامه ، ومواعظه ، وحكمه ، ويسيرا من قضاياه العجيبة ، وأجوبته عن المسائل الغريبة على الشرط في الاختصار والاقتصار غير ذاكر شيئا من خطبه الطوال ، وكتبه إلى ولاة الاعمال ، ولا شرح سيرته في خلافته ، وذكر الاحداث والحروب في أيامه ، وفضائله التي إشترك الناس في روايتها وهي أظهر من إن يشار إليها ، لان جميع ذلك قائم بذاته ، ومشهور في مواضعه.
     حدثني هارون بن موسى ، قال : حدثني محمد بن يعقوب ، عن الحسين بن محمد بن يحيى ، عن الوليد بن أبان ، عن محمد بن عبد الله بن مسكان عن أبيه ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام ، إن فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب عليه السلام تبشره بمولد النبي صلى الله عليه وآله ، فقال لها أبو طالب : إصبري سبتا إنك بمثله إلا النبوة (2).
    قال : والسبت ثلاثون سنة ، وكان بين مولد النبي ، وأمير المؤمنين عليهما السلام ثلاثون سنة.
    حدثني هارون بن موسى ، قال : حدثني محمد بن يعقوب ، عن علي بن محمد بن عبد الله ، عن السياري عن محمد بن جمهور عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال : إن فاطمة بنت أسد عليها السلام ـ ام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كانت أول إمراة هاجرت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه ـ من مكة
1 ـ روضة الواعظين/136.
2 ـ اصول الكافي 1/452. روضة الواعظين/81. فاطمة بنت أسد ـ خ ـ. البحار 35/6.


(65)
إلى المدينة على قدميها ، وكانت من أبر الناس عند رسول الله صلى الله عليه وآله فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ان الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا ، فقالت : واسوأتاه. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله فأني أسأل الله أن يبعثك كاسية.
    وسمعته يذكر ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه : فإني أسأل الله أن يكفيك ذلك.
    وقالت لرسول الله ، صلى الله عليه ، يوما : إني أريد أن أعتق جاريتي هذه فقال لها : إن فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار ، فلما مرضت أوصت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأعتقت الجارية المقدم ذكرها.
    واعتقل لسانها فجعلت تومى إلى رسول الله ـ عليه السلام ـ إيماء فقبل عليه السلام وصيتها. فبينا هو ـ صلى الله عليه ـ ذات يوم قاعدا إذ أتاه أمير المؤمنين عليه السلام وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ما يبكيك ؟ قال إن امي فاطمة قد قضت فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأمي والله. وقام صلى الله عليه وآله مسرعا ، حتى دخل فنظر إليها ، وبكى ، ثم أمر النساء أن يغسلنها. وقال عليه السلام : إذا فرغتن فلا تحدثن شيئا حتى تعلمنني ، فلما فرغن أعلمنه ذلك فأعطاهن أحد قميصيه ، وهو الذي يلى جسده وأمرهن أن يكفنها فيه ، وقال للمسلمين : إذا رأيتموني قد فعلت شيئا لم أفعله قبل ذلك فاسألوني لم فعلته ؟ فلما فرغن من تغسيلها ، وتكفينها دخل ـ صلى الله عليه وآله ـ فحمل جنازتها حتى أوردها قبرها ثم وضعها ، ودخل القبر فاضطجع فيه ، ثم قام فأخذها على يديه حتى وضعها في القبر ثم انكب عليها طويلا يناجيها ، ويقول لها إبنك إبنك. ثم خرج وسوى عليها التراب ، ثم انكب على قبرها فسمعوه يقول : لا اله الا الله اللهم اني أستودعها إياك ، ثم إنصرف.
    فقال المسلمون يارسول الله إنا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم ، فقال : اليوم فقدت أبا طالب ، إن كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على


(66)
نفسها ، وولدها ، وإني ذكرت القيامة وأن الناس يحشرون عراة ، فقالت : واسوأتاه فضمنت لها أن يبعثها الله كاسية ، وذكرت ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك ، فكفنتها بقميصي ، واضطجعت في قبرها لذلك ، وانكببت عليها فلقنتها ما تسأل عنه ، فانها سئلت عن ربها فقالت : وسئلت عن رسولها فأجابت ، وسئلت عن وليها وإمامها فأرتج عليها فقلت لها : إبنك إبنك (1).
    وروي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لما أجمع على المضي إلى تبوك ناجى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فأطال فقال أبو بكر لعمر : لقد أطال مناجاته لابن عمه ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما أنا ناجيته ، ولكن الله ناجاه ، وفي ذلك يقول حسان :
ويوم الثنية عنـد الوداع تنــحى يودعه خاليـا فقالوا يناجيه دون الانام علي فم أحمد يوحى إليه وأجمع نحو تبـوك المضيا وقد وقف المسلمون المطيا بل الله أدنـاه منـه نجيـا كلاما بليغا ووحيا خفيا (2)

1 ـ تنقيح المقال 3/81. اصول الكافي 1/453. دعائم الاسلام 2/361. مسند الرسول 1/250.
2 ـ حلية الاولياء 7/195. كفاية الطالب/282. خصائص النسائي/81.


(67)
    وبإسناد مرفوع إلى جندب ، عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال : دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعنده أناس قبل أن تحتجب النساء فأشار بيده أن اجلس بيني ، وبين عائشة ، فقالت : تنح كذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ماذا تريدين من أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام (1).
    وبإسناد مرفوع إلى بريدة الاسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه أن يسلموا على علي عليه الصلاة والسلام بإمرة المؤمنين ، فقال عمر بن الخطاب : يارسول الله أمن الله أم من رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وآله : بل من الله ومن رسوله (2).
1 ـ الغدير 1/270. سفينة البحار 1/29. البحار 37/302.
2 ـ البحار 37/304. المناقب لابن شهراشوب 3/52.


(68)
    روي أن أمير المؤمنين عليه السلام ، خطب الناس ، فقال : أيها الناس من عرف نسبي وإلا فأنا أعرفة نسبي ، فقام إليه إبن الكواء ، فقال : أنت علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، حتى بلغ إلى قصي بن كلاب قال : أو تعرف لي نسبا غير هذا ؟ فقال : لا ، فقال : إن أبي سماني زيدا باسم قصي فأنا زيد بن عبد مناف بن عامر بن عمرو بن المغيرة بن زيد بن كلاب ، وإسم أبي طالب عبد مناف وإسم عبد المطلب عامر ، قال الشاعر فيه :
قـامت تبكيه عـلى قبره تركتني في الدار ذا غربة من لـي من بعدك يا عامر قـد ذل من ليس له ناصر
    وإسم هاشم عمرو ، وفيه يقول الشاعر :
عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف (1)
    وإسم عبد مناف المغيرة ، قال الشاعر فيه وفي إخوانه :
إن المغيـرات وأبنـاءهم من غيـر أحيـاء وأموات
    يعني عبد مناف واخوته وسماهم كلهم المغيرات لان فيهم المغيرة ، ومثل هذا كثير في كلام العرب. وإسم قصى زيد قال الشاعر (2) :
1 ـ البيت لعبد الله بن الزبعرى بن قيس السهمي القرشي شاعر قريش في الجاهلية مات نحو 15 هـ‍ كان شديدا على المسلمين. الطبقات الكبرى 1/76. الشعر والشعراء/132.
2 ـ البيت من شعر حذافة بن غانم العدوي ... الطبقات الكبرى 1/71.


(69)
قصي أبوكم كان يدعى مجمعـا وأنتم بنو زيـد وزيـد أبوكـم به جمع الله القبـائـل من فـهـر به زيدت البطحاء فخرا على فخر (1)

1 ـ الكامل في التاريخ 2/6. الطبري 2/179. ثمار القلوب/89. نهاية الارب 16/33. تاريخ اليعقوبي 1/201.

(70)
    ما يروى بإسناد عن سهل بن كهيل عن أبيه في قول الله عزوجل : ( ووصينا الانسان بوالديه إحسانا ) (1) قال : أحد الوالدين علي بن أبي طالب عليه السلام (2).
    وقال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ، قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : لتعطفن علينا الدنيا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها ثم قرأ : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض ) الآية (3).
    ذكروا ان ضرار بن ضمرة الضبابي (4) دخل على معاوية بن أبي سفيان وهو
1 ـ سورة الاحقاف/15.
2 ـ المناقب لابن شهراشوب 3/105.
في السند سهل كهيل ، وأظنه تصحيف والصحيح سهل بن حنيف وهو من الذين أنكروا على أبي بكر غصبه الخلافة وكان أمير المؤمنين (ع) يحبه شديدا ، وحنيف بن ريال من الصحابة شهد احدا وما بعدها من المشاهد وقتل يوم مؤتة.
3 ـ سورة القصص/5.
شرح ابن أبي الحديد 19/29. شرح ابن ميثم 5/349.
4 ـ ضرار بن ضمرة الضبابي ... من خلص أصحاب علي عليه السلام فصيح المقال طلق اللسان.


(71)
بالموسم ، فقال له : صف عليا قال : أو تعفني ؟ قال : لابد أن تصفه لي ، قال : كان والله أمير المؤمنين عليه السلام طويل المدى ، شديد القوى ، كثير الفكرة ، غزير العبرة ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطلق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويأنس بالليل ووحشته ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا دعوناه ويعطينا إذا سألناه ، ونحن والله مع قربه لا نكلمه لهيبته ، ولاندنو منه تعظيما له ، فإن تبسم فعن غير أشر ولا اختيال ، وإن نطق فعن الحكمة وفصل الخطاب ، يعظم أهل الدين ويحب المساكين ، ولا يطمع الغني في باطله ، ولا يوئس الضعيف من حقه ، فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه قابض على لحيته ، يتململ تملل السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول :
    يادنيا ، يادنيا ، إليك عني أبي تعرضت ؟ أم لي تشوقت ؟ لا حان حينك ، هيهات ، غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه من قلة الزاد وطول المجاز ، وبعد السفر وعظيم المورد.
    قال : فوكفت دموع معاوية ما يملكها ، وهو يقول : هكذا كان علي عليه السلام ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزني عليه والله حزن من ذبح واحدها في حجرها فلا ترقأ دمعتها ولا تسكن حرارتها (1).
    وبإسناد مرفوع إلى عبد الله بن العباس رحمه الله قال : نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) (2) قال : محبة في قلوب المؤمنين (3).
1 ـ مناقب ابن شهراشوب 2/103. حلية الاولياء 1/84. الاستيعاب 2/463. الرياض النضرة 2/212.
2 ـ سورة مريم/96.
3 ـ الغدير 2/55. الرياض النضرة 2/207. الصواعق المحرقة/102. نور الابصار/101. فضائل الخمسة 1/323. مجمع الزوائد 9/125 وقال : رواه الطبراني في الاوسط.


(72)
     حدثني هارون بن موسى ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن عمار العجلي الكوفي ، قال : حدثني عيسى الضرير عن أبي الحسن عن أبيه ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : حين دفع الوصية إلى علي ، يا علي أعد لهذا جوابا غدا بين يدي ذي العرش ، فإني محاجك يوم القيامة بكتاب الله ، حلاله وحرامه ومحكمه ومتشابهه على ما أنزل الله ، وعلى تبليغه من أمرتك بتبليغه ، وعلى فرائض الله كما أنزلت وعلى أحكامه كلها من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتحاض عليه وإحيائه مع إقامة حدود الله كلها ، وطاعته في الامور بأسرها ، وإقام الصلاة لاوقاتها ، وإيتاء الزكاة أهلها ، والحج إلى بيت الله ، والجهاد في سبيله ، فما أنت صانع يا علي ؟ قال : فقلت بأبي وأمي إني أرجو بكرامة الله تعالى ، ومنزلتك عنده ونعمته عليك ، أن يعينني ربي عزوجل ، ويثبتني فلا ألقاك بين يدي الله مقصرا ولا متوانيا ولا مفرطا ولا أمعر ، وجهك وقاؤه وجهي ووجوه آبائي وأمهاتي.
    بل تجدني بأبي وامي مشمرا لوصيتك إن شاء الله ، وعلى طريقك ما دمت حيا حتى أقدم عليك ، ثم الاول فالاول من ولدي غير مقصرين ولا مفرطين ، ثم أغمي عليه صلوات الله عليه وآله ، قال : فانكببت على صدره ووجهه ، وأنا أقول واوحشتاه بعدك بأبي أنت وأمي ووحشة إبنتك وإبنيك ، واطول غماه بعدك يا حبيبي ، إنقطعت عن منزلي أخبار السماء ، وفقدت بعدك جبرئيل فلا أحس به ، ثم أفاق صلى الله عليه وآله.
    حدثني هارون بن موسى ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن عمار ، قال : حدثني أبو موسى الضرير البجلي ، عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : سألت أبي فقلت له ما كان بعد إفاقته صلى الله عليه ؟ قال : دخل عليه النساء يبكين ، وارتفعت الاصوات وضج الناس بالباب المهاجرون والانصار.
    قال علي عليه السلام : فبينا أنا كذلك إذ نودي أين علي ؟ فأقبلت حتى دخلت إليه ، فانكببت عليه ، فقال لي : يا أخي فهمك الله وسددك ، ووفقك


(73)
وارشدك ، واعانك وغفر ذنبك ، ورفع ذكرك ، ثم قال : يا أخي إن القوم سيشغلهم عني ما يريدون من عرض الدنيا ، وهم عليه قادرون ، فلا يشغلك عني ما شغلهم ، فإنما مثلك في الامة مثل الكعبة نصبها الله علما ، وإنما تؤتى من كل فج عميق ، وناد سحيق ، وإنما أنت العلم علم الهدى ، ونور الدين ، وهو نور الله ، يا أخي والذي بعثني بالحق لقد قدمت إليهم بالوعيد ، ولقد اخبرت رجلا رجلا بما افترض الله عليهم من حقك ، وألزمهم من طاعتك فكل أجاب إليك وسلم الامر إليك ، وإني لاعرف خلاف قولهم.
     فإذا قبضت ، وفرغت من جميع ما وصيتك به ، وغيبتني في قبري فالزم بيتك ، واجمع القرآن على تأليفه ، والفرائض والاحكام على تنزيله ، ثم امض ذلك على عزائمه وعلى ما أمرتك به ، وعليك بالصبر على ما ينزل بك منهم حتى تقدم علي.
    قال عيسى : فسألته وقلت : جعلت فداك قد أكثر الناس قولهم في أن النبي عليه السلام ، أمر أبا بكر بالصلاة ثم أمر عمر ، فأطرق عني طويلا ، ثم قال : ليس كما ذكر الناس ولكنك يا عيسى كثير البحث عن الامور لا ترضى إلا بكشفها ، فقلت : بأبي أنت وامي ، من أسأل عما أنتفع به في ديني ، وتهتدي به نفسي مخافة أن أضل غيرك ؟ وهل أجد أحدا يكشف لي المشكلات مثلك ؟ فقال : إن النبي صلى الله عليه وآله لما ثقل في مرضه دعا عليا عليه السلام ، فوضع رأسه في حجره واغمي عليه ، وحضرت الصلاة فأذن بها فخرجت عائشة فقالت : يا عمر اخرج فصل بالناس ، فقال لها : أبوك أولى بها مني ، فقالت : صدقت ، ولكنه رجل لين ، وأكره أن يواثبه القوم ، فصل أنت ، فقال لها : بل يصلي هو ، وأنا أكفيه إن وثب واثب ، أو تحرك متحرك ، مع أن رسول الله مغمى عليه ، ولا أراه يفيق منها ، والرجل مشغول به ، لا يقدر أن يفارقه ـ يعني عليا عليه السلام ـ فبادروا بالصلاة قبل أن يفيق فإنه إن أفاق خفت أن يأمر عليا بالصلاة ، وقد سمعت مناجاته له منذ الليلة ، وفي آخر كلامه يقول لعلي عليه السلام : الصلاة ، الصلاة.


(74)
    قال : فخرج أبو بكر يصلي بالناس ، فظنوا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم يكبر حتى أفاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : أدعو لي عمي ـ يعني العباس ، رضي الله عنه ـ فدعى له فحمله وعلي عليه السلام ، حتى أخرجاه فصلى بالناس وإنه لقاعد ، ثم حمل فوضع على المنبر بعد ذلك فاجتمع لذلك جميع أهل المدينة من المهاجرين والانصار حتى برزت العواتق من خدورها ، فبين باك وصائح ، ومسترجع ، وواجم ، والنبي عليه السلام يخطب ساعة ، ويسكت ساعة ، فكان فيما ذكر من خطبته أن قال :
     يا معشر المهاجرين والانصار ، ومن حضر في يومي هذا ، وفي ساعتي هذه من الانس والجن ليبلغ شاهدكم غائبكم ، ألا إني قد خلفت فيكم كتاب الله فيه النور والهدى ، والبيان لما فرض الله تبارك وتعالى من شيء حجة الله عليكم وحجتي وحجة وليي. وخلفت فيكم العلم الاكبر ، علم الدين ، ونور الهدى ، وضياءه وهو علي بن أبي طالب ، ألا وهو حبل الله ( فاعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) (1).
     أيها الناس هذا علي من أحبه وتولاه اليوم ، وبعد اليوم ، فقد أوفى بما عاهد عليه الله ، ومن عاداه وأبغضه اليوم ، وبعد اليوم جاء يوم القيامة أصم وأعمى ، لا حجة له عند الله.
    أيها الناس لا تأتوني غدا بالدنيا تزفونها زفا ، ويأتي أهل بيتي شعثا غبرا مقهورين مظلومين تسيل دماؤهم ، إياكم واتباع الضلالة والشورى للجهالة ، ألا وإن هذا الامر له أصحاب قد سماهم الله عزوجل لي وعرفنيهم وأبلغتكم ما أرسلت به اليكم ولكني أراكم قوما تجهلون (2).
1 ـ سورة آل عمران/103.
2 ـ سورة الاحقاف/23.


(75)
    لا ترجعوا بعدي كفارا مرتدين تتاولون الكتاب على غير معرفة ، وتبتدعون السنة بالاهواء ، وكل سنة وحديث وكلام خالف القرآن فهو زور وباطل.
    القرآن إمام هاد ، وله قائد يهدى به ، ويدعو إليه ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، وهو علي بن أبي طالب ، وهو ولي الامر بعدي ، ووارث علمي ، وحكمتي ، و سري ، وعلانيتي ، وما ورثه النبيون قبلي ، وأنا وارث ومورث فلا تكذبنكم أنفسكم.
    أيها الناس الله الله في أهل بيتي ، وأنهم أركان الدين ، ومصابيح الظلام ، ومعادن العلم.
    علي أخي ، ووزيري ، وأميني والقائم من بعدي بأمر الله ، والموفي بذمتي ، ومحيي سنتي ، وهو أول الناس إيمانا بي ، وآخرهم بي عهدا عند الموت ، وأولهم لقاء إلي يوم القيامة ، فليبلغ شاهدكم غائبكم.
    أيها الناس من كانت له تبعة فها أناذا ، ومن كانت له عدة أو دين فليأت علي بن أبي طالب ، فأنه ضامن له كله حتى لا يبقى لاحد قبلي تبعة (1).
    وحكي أن معاوية بن أبي سفيان سأل عبد الله بن العباس رحمة الله عليه ، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال إبن عباس : هيهات ، عقم النساء أن يأتين بمثله ، والله ما رأيت رئيسا مجربا يوزن به ، ولقد رأيته في بعض أيام صفين ، وعلى رأسه عمامة بيضاء تبرق وقد أرخى طرفيها على صدره وظهره ، وكانّما عيناه سراجا كسليط ، وهو يقف على كتيبة كتيبة حتى انتهى إلي وأنا في كنف من القوم وهو يقول :
    معاشر المسلمين إستشعروا الخشية ، وتجلببوا بالسكينة ، وعضوا على النواجذ (2) فإنه أنبى للسيوف عن الهام (3) واكملوا اللامة (4) وقلقلوا السيوف في أغمادها
1 ـ البحار 22/482 ـ 284. الطرف/29 ـ 34.
2 ـ النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الاضراس.
3 ـ ألهام : جمع هامة وهي الرأس.
4 ـ أللامة : الدرع.
خَصائِصُ الأئمَة عليهم السلام ::: فهرس