المكاسب ـ جلد الأول ::: 11 ـ 20
(11)
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه محمد وآله الطاهرين.
    وأما بعد :
    فمنذ أن التحق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى بدأ الاختلاف في وجهات النظر الفقهية ، انطلاقا من الاختلاف في الإمامة الكبرى وما استتبعه من الاختلاف في الاصول التي يبتني عليها الفقه ، كالسنة والإجماع والاجتهاد والقياس ونحو ذلك ، فإن الاتجاه المخالف للاتجاه الفقهي لأهل البيت عليهم السلام بدأ بطرح فكرة حجية الإجماع ـ بطريقته الخاصة ـ والاجتهاد بالرأي والقياس وما شابهها ، بينما كان أهل البيت عليهم السلام يرفضون ذلك كله لأسباب يطول شرحها.
    وأما السنة ، فلما كانت السنة المنقولة عن الإمام عليه السلام ـ عندهم ـ كالسنة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي حجة لو ثبتت بطريق موثوق به.
    وعلى هذا الأساس صار لأهل البيت عليهم السلام فقه مستقل مستلهم


(12)
من الكتاب الكريم والسنة النبوية المودعة عند أئمتهم عليهم السلام.
    ولم تتسعهوة الخلاف بين الاتجاهين بصورة كاملة في الصدر الأول لعاملين ، وهما : قرب العهد بعصر النصوص ، وعدم اعتماد الاتجاه الآخر على الاصول المرفوضة لدى أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرا ، بل كانت فتاوى الإمام علي عليه السلام هي المرجع الوحيد في مايستجد من قضايا وأحداث كان يعجز الآخرون عن بيان حكمها الشرعي ، فهذا عبد الرزاق يحدثنا في مصنفه عن نافع مولى ابن عمر ، عن أسلم مولى عمر : أن رجلا سأل عمر عن بيض النعام يصيبه المحرم ، فقال له عمر : أرأيت عليا ؟ فاسأله ، فإنا قد امرنا أن نشاوره (1).
    ومع ذلك كله نرى ـ ومع الأسف ـ أن الفقه المنقول عن غيره في كتب العامة أكثر مما هو منقول عنه ، والأسباب غير خفية على المتأمل.
    وعلى أي حال ، فقد تجسد هذا الاستقلال بوضوح أيام الإمامين : الباقر والصادق عليهما السلام حيث سمحت لهما الظروف بإظهار فقه أهل البيت عليهم السلام ، لأنهما عاشا الفترة الانتقالية للحكم من الأمويين إلى العباسيين ، فقد كثر تلامذتهما ، واشتهر أن تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام كانوا أكثر من أربعة آلاف ، انتشروا في البلاد الإسلامية ، وكان أكثر تمركزهم في مدرستي المدينة والكوفة ، فقد روي عن الحسن بن علي الوشاء قوله : لو علمت أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه ، فإني أدركت في هذا المسجد ـ أي مسجد الكوفة ـ
1 ـ مصنف عبد الرزاق 4 : 422.

(13)
تسعماءة شيخ ، كل يقول : حدثني جعفر بن محمد ... (1).
    وقد تمكن هذان الإمامان منوضع الاسس العامة للاجتهاد الصحيح ، كالقواعد الاصولية ، مثل : الاستصحاب ، والبراءة ، والاحتياط ، وأحكام التعارض بين الأخبار ، والتسامح ، ونفي الضرر ونحو ذلك ، وكالقواعد الفقهية ، مثل : قاعدة اليد ، وسوق المسلمين ، والضمان ، والإتلاف ، وأصالة الصحة ( حمل فعل المسلم على الصحيح ) وعشرات بل مئات القواعد الاخرى.
    ولم يكتف الأئمة بذلك ، بل كانوا يدربون تلامذتهم على الاستنباط والاجتهاد الصحيح ، فقد روي عنهم عليهم السلام قولهم : علينا إلقاء الاصول ، وعليكم التفريع (2).
    وهكذا أخذ الفقه الإمامي يتسعرغم تزايد الضغوط بعد الإمام الصادق عليه السلام بحيث كان من الصعب التوصل إلى الأئمة لأخذ العلم عنهم ، ورغم ما كانت تبذله السلطات من جهود متواصلة لإبعاد الناسعن أبواب الأئمة عليهم السلام ، وكان من جملتها تأييد المتفقهة المخالفين لهم ، وإرجاع عامة الناس إليهم.
    انتهى دور الحضور ولم يتجاوز التفكير الفقهي الإمامي حدود تفسير النصوص التي جمعها أصحاب الأئمة في اصولهم الروائية ، واستمر الأمر كذلك حتى اتسعت دائرة التفكير الفقهي شيئا فشيئا ، وأخذت الكتب الفقهية تستقل عن كتب الحديث ، فكتبت المجاميع الحديثية
1 ـ رجال النجاشي : 40 ، الترجمة رقم ( 80 ).
2 ـ الوسائل 18 : 41 ، الباب 6 من أبوابصفات القاضي ، الحديث ( 52 ).


(14)
المستقلة ك‍الكافي ومن لا يحضره الفقيه و التهذيب و الاستبصار ، ودونت مجاميع فقهية مستقلة أيضا ، وقد دونت هذه المجاميع على نحوين :
    الأول ـ الكتب الفقهية التي اقتصرت على تلخيص الروايات وحذف أسانيدها من دون تفريع فروع زائدة على ما ورد فيها ك‍المقنع و الهداية للشيخ الصدوق قدس سره و المقنعة للشيخ المفيد قدس سره و النهاية للشيخ الطوسي قدس سره وغيرها.
    الثاني ـ الكتب التي لم تقتصر على ذلك ، بل أخذت تتوسع في التفريع والاستنباط بالاستعانة بالطرق الاجتهادية الصحيحة. وكان الرائد لهذه الطريقة القديمان : الحسن بن أبي عقيل العماني ، وابن الجنيد أبو علي الإسكافي (1) ، وهما من أعلام القرن الرابع ، فقد ألف الأول كتابه المتمسك بحبل آل الرسول ، والثاني تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة و المختصر الأحمدي.
    فكان لهذين الفقيهين الدور الفعال والمؤثر في إشاعة الطريقة الاجتهادية وإن كان المعروف عن ابن الجنيد أنه كان يعمل بالقياس ، إلا أن لأهل التحقيق بحثا حول النسبة ومفادها لا يسعنا التعرض له فعلا.
    وقد حذا حذوهما الشيخ المفيد قدس سره فإنه وإن كان ينتقد ابن الجنيد أخذه بالقياس حسبما نسب إليه إلا أن طريقة تفكيره تدل على تبنيه للخط الاجتهادي وإن كان كتابه المقنعة على منهج الكتب المقتصرة
1 ـ انظر الفوائد المدنية للاسترابادي : 30 ، والفوائد الرجالية للعلامة بحر العلوم 2 : 211 ـ 220.

(15)
على متون الروايات كما تقدم.
    وتمخضت طريقة المفيد الاجتهادية عن شخصيات فقهية كان لها دور كبير في تطوير الفقه الإمامي ، كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي قدس سرهما ، فقد ألف السيد المرتضى كتابه الذريعة في اصول الفقه ، و الانتصار و الناصريات وغيرهما في الفقه.
    وأما شيخ الطائفة الطوسي قدس سره فقد كان دوره في ترسيخ قواعد الفقه الاجتهادي من حيث النظرية والتطبيق أكثر من غيره ، فقد ألف كتابه العدة في اصول الفقه ، و المبسوط في الفقه ، وقد صرح بهذا الإنقلاب في مقدمة المبسوط.
    واستقرت هذه الطريقة بين الفقهاء وأخذت تتكامل رغم العقبات العديدة التي واجهتها.
    وكان للفقهاء الكبار أمثال ابن إدريس والمحقق والعلامة والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخر عنه الدور الكبير في ترسيخ الفقه الاجتهادي ، وخاصة الوحيد البهبهاني ( م 1205 ) الذي كان له الدور المشرف في القضية بعد أن حاولت الطريقة الأخبارية اكتساح الطريقة الاجتهادية من جذورها ، ثم تلاه تلامذته وتلامذة تلامذته إلى أن وصل الدور إلى العلامة المؤسس الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره.
    وليس من الجزاف إذا قلنا : إن ما قام به الشيخ الأنصاري قدس سره يشابه (1) ما قام به الشيخ الطوسي قدس سره ، فإن الشيخ الطوسي قام
1 ـ هناك أوجه شبه عديدة بين هاتين الشخصيتين العظيمتين تحتاج إلى دراسة مستقلة ، منها الدقة التامة في مراعاة المثل الأخلاقية في بحوثهما ومناقشاتهما.

(16)
بانقلاب في الاصول والفقه بصورة عامة في أوائل تأريخ الفقه الاجتهادي ، والشيخ الأنصاري قام بانقلاب في الاصول والفقه ، وخاصة الفقه المعاملي ، بعد حوالي ثمانية قرون.
    إن الفقه وإن كان قد قطع شوطا كبيرا في القرن الثالث عشر بيد شيخ الفقهاء صاحب الجواهر قدس سره حيث إن كتابه احتوى من التحقيقات القيمة ما لا يستغني عنه فقيه حتى في اليوم الحاضر ، إلا أن ما أتى به الشيخ الأنصاري قدس سره في خصوص الفقه المعاملي لم يأت به فقيه من قبله ، ولسنا نريد أن نقول : إن كل ما أتى به جديد ، فإن ذلك غير صحيح ، كيف ؟ وقد استفاد ممن تقدمه من الفقهاء ، وهذه سنة العلم يأخذ المتأخر من المتقدم ويبني عليه ، إلا أننا نقول : إن مجموع ما دونه في خصوص الفقه المعاملي من حيث المجموع وبهذه الكيفية والسعة والعمق ، لم يأت به من سبقه ، وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة معمقة ليس بإمكاننا الدخول فيها ـ فعلا ـ ولكن سنقوم فيما يلي بمقارنة سريعة وخاطفة بين كتابي المكاسب والجواهر الذين لا يفصل بينهما فاصل زمني يعتد به ، ونشير إلى بعض الفوارق بينهما.
    وهذه الفوارق وإن كانت فوارق كيفية إلا أنها ربما تحكي عن فوارق جوهرية أيضا.
    ومهما يكن فالفوارق التي يمكن ذكرها فعلا هي :
    أولا ـ في كيفية الدخول في الموضوع :
    إن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما يريد الدخول في بحث ما ، يقسم ـ غالبا ـ الموضوع الذي يريد أن يبحث فيه إلى أقسامه ، ثم يدخل


(17)
في كل قسم بالترتيب ، وقلما نجده يدخل في موضوع مهم من دون مقدمة. نعم قد يدخل في موضوع ما بالمناسبة واستطرادا ومن دون ذكر عنوان فيما إذا لم يكن من صميم الموضوع.
    وأما صاحب الجواهر رغم أن كتابه شرح للشرائع ، وهو من أحسن الكتب الفقهية تنظيما وتبويبا ، لكن لما كان الفاصل الزمني بين تأليف الشرائع وتأليف الجواهر كبيرا ، فإن ذلك يقتضي تضخم المطالب الفقهية وتوسعها وتكاملها ، فلذلك كان اللازم على صاحب الجواهر أن يتعرض للموضوعات التي لم يتعرض لها في الشرائع ، وقد فعل ذلك ، لكنه ربما دخل في البحث فيها من دون أن يلتفت إلى كيفية دخوله فيها إلا أهل الدقة والنظر.
    فمثلا : أن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما ذكر النوع الرابع مما يحرم الاكتساب به ، قال :
    ( النوع الرابع : ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه ، وهذا النوع وإن كان أفراده هي جميع الأعمال المحرمة القابلة لمقابلة المال بها في الإجارة والجعالة وغيرهما إلا أنه جرت عادة الأصحاب بذكر كثير مما من شأنه الاكتساب به من المحرمات ، بل وغير ذلك مما لم يتعارف الاكتساب به ، كالغيبة والكذب ونحوهما ، وكيف كان فنقتفي آثارهم ... ) ثم ذكر الموارد واحدا واحدا إلى أن وصل إلى الغيبة فقال :
    ( الرابعة عشر : الغيبة حرام بالأدلة الأربعة ... ) فيدخل في البحث ابتداء منبيان الحكم ، ثم الموضوع ، ثم الشرائط ، ثم المستثنيات.


(18)
    وأما صاحب الجواهر قدس سره فإنه لما لم يتعرض المحقق في الشرائع لموضوع الغيبة ، للسبب الذي ذكره الشيخ ، وهو : أنه لم يتعارف أن يقابل بالمال ، فكر في منفذ يدخل منه في البحث عن الغيبة ، فالتجأ إلى بحث الهجاء الذي ذكره صاحب الشرائع لتعارف أخذ الجعل والأجر عليه ، فلما وصل ـ صاحب الجواهر ـ في بحثه إلى عدم حرمة هجاء الكافر و ... قال : وأولى من ذلك غيبتهم ... فدخل في بحث الغيبة من هذا المنفذ ، فبحث في حكمها ، ثم في موضوعها ، ثم في مستثنيات الغيبة.
    فنرى أن صاحب الجواهر دخل في هذا الموضوع المهم من دون أن يعنون له عنوانا مستقلا ، ولذلك لا يلتفت إلى كيفية وروده ومحله إلا من تتبع الموضوع بدقة.
    وما أكثر الموارد من هذا النمط في الجواهر.
    ثانيا ـ في تنظيم البحث واستيعاب جوانبه :
    إن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما يريد الدخول في البحث عن موضوع ما يدخل فيه على أساس منهج معين قد يعلنه قبل الدخول في البحث ، وقدلا يعلنه ولكن يلتزم به في بحثه ، وعلى أي حال فهو يسير في البحث طبقا لمنهجية معينة ، فلا يرجع إلى المرحلة التي اجتازها ، نعم قد يكر في بحثه مع مراعاة المرحلية ـ أي في المرحلة الواحدة ـ.
    وأما صاحب الجواهر فإنه لم يراع المرحلية في بحثه ، فلذلك


(19)
نراه يرجع إلى المرحلة التي اجتازها ، ونرى في أبحاثه تموجا وظاهرة الكر والفر العلمي الكثير ، وهذا مما يؤدي إلى صعوبة فهم الجواهر بخلاف المكاسب ، فإنه مع غض النظر عن مستوى البحث العلمي الدقيق واحتياجه إلى الدقة والفهم ، لا يصعب التوصل إلى ما يرومه الشيخ غالبا.
    ولنذكر بيع الفضولي مثالا لهذه المقارنة (1) :
    عقد الفضولي في المكاسب :
    إن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما أراد الدخول في بيع الفضولي دخل فيه على النحو التالي :
    1 ـ فإنه قال إن من شرائط المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين من المالك أو الشارع ، ولذلك لا يترتب على عقد الفضولي ما يترتب على عقد غيره من اللزوم. ومن هنا دخل في بحث عقد الفضولي.
    2 ـ ثم بين أن مورد البحث هو العقد لا الإيقاع.
    3 ـ ثم عرف الفضولي.
    4 ـ ثم قسم البحث وقال : إن الفضولي قد يبيع للمالك وقد يبيع لنفسه ، وعلى الأول قد لا يسبقه منع من المالك وقد يسبقه. فهنا مسائل ثلاث : الاولى : أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع منه.
    5 ـ واستدل له بعدم اشتراط سبق الإذن في صحة العقد ،
1 ـ كانت المقارنة أوسع مما هو مذكور إلا أننا اختزلناها مخافة التطويل.

(20)
وأن مقتضى الإطلاقات عدم الاشتراط ، بل تكفي الإجازة اللاحقة.
    6 ـ ثم ذكر الاستدلال برواية عروة البارقي وصحيحة محمد ابن قيس وناقشهما.
    7 ـ ثم نقل الاستدلال على الصحة بفحوى صحة عقد النكاح من الفضولي في الحر والعبد ، واستشكل فيه بأن الأمر على عكس ما استدل به ، لأنه إذا صح في البيع فيصح في النكاح بطريق أولى ، لأنه أولى أن يحتاط فيه ، ثم بين وجه اقتضاء الاحتياط صحة نكاح الفضولي.
    8 ـ ثم ذكر عدة روايات مؤيدة لصحة الفضولي.
    9 ـ ثم استعرض استدلالات القائلين ببطلان الفضولي ، وناقشها.
    10 ـ ثم دخل في المسألة الثانية وهي : أن يسبق العقد منع المالك له.
    11 ـ ثم دخل في المسألة الثالثة ، وهي : أن يبيع الفضولي لنفسه.
    12 ـ ثم ذكر أمرين : الأول ـ أنه لا فرق على القول بصحة بيع الفضولي بين كون مال الغير عينا أو دينا في ذمة الغير. الثاني ـ أنه لا فرق فيما ذكر من أقسام بيع الفضولي بين البيع العقدي والمعاطاتي بناء على إفادة المعاطاة الملك.
    13 ـ ثم دخل في البحث عن الإجازة والرد ، وقسم البحث إلى البحث في حكمها وشروطها ، والبحث في المجيز ، ثم البحث في المجاز.
    14 ـ أما بالنسبة إلى حكمها فذكر القولين المعروفين ، وهما :
المكاسب ـ جلد الأول ::: فهرس