(291)
مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد » (1).
    إذن : هنا الاسلام لم يسمح بقيام المضاربة والمشاركة في الربح على أساس أداة الانتاج ، مع أن هذا الاتفاق بين صاحب الآلة والصائد ليس فيه ضرر على الصائد ولا على صاحب الآلة ، فلماذا لم يجوزه الاسلام؟
    نقول : إن الاسلام نظم لأدوات الانتاج اسلوب الأجر بتشريع أحكام الاجارة فقط ، وليس لمن له أداة من أدوات الانتاج أن يشارك في الربح ، لذا رأينا اتفاق أهل الاسلام على جواز استئجار أداة الانتاج ، أما حينما أرادت أداة الانتاج أن تشارك في الربح فقد منع منه العلماء ، وما ذاك إلاّ لأجل أن الاسلام له طريقة خاصة ومذهب اقتصادي معين يتوافق مع تصوره عن العدالة الاجتماعية ، فليس كل مكان لايوجد فيه ضرر على البنك فهو جائز.
    وهنا نقول : بالنسبة لرأس المال التجاري سواء كان من المصرف ، أو من الأفراد ، أو من الدولة ، أو من غير ذلك ، فالاسلام لم يسمح لرأس المال التجاري بالكسب على أساس الاجور ، فلا يجوز لصاحب النقد أن يقرض بفائدة ، أي يدفعه الى العامل ليتاجر به ويتقاضى من العامل أجراً على ذلك ، و ذلك لأن الأجر يتمتع بميزة الضمان وعدم الارتباط بنتائج العملية وما يكتنفها من خسائر و أرباح ، وهذا هو الربا المحرّم شرعاً. نعم ، يجوز لصاحب النقد أو السلعة أن يدفع ماله الى العامل ليتاجر به ويتحمل وحده الخسارة بينما يقاسمه الأرباح بنسبة مئوية إذا حققت العملية ربحاً ، فالمشاركة في الربح مع تحمل أعباء الخسارة هو الأسلوب الوحيد الذي سمح لرأس المال التجاري باتخاذه (2). وأما العامل فقد سمح له الاسلام باسلوب الاجارة واسلوب المشاركة في الربح. فيستطيع أن يؤجر نفسه للعمل بأجر معين كما يجوز أن يشارك في الربح بنسبة مئوية كما في المضاربة.

     (1) المبسوط للسرخسي ج22 / ص 35.
     (2) راجع « اقتصادنا » للشهيد الصدر ، ص 616 وما بعدها.

(292)
إذن : ما ذكره الاستاذ النمر من عدم ضرر على البنك إذا أعطى الربا القرضي هو كلام غير مسؤول من قبل من يدعي أنه يعرف التشريع الاسلامي ، مع أن التشريع الاسلامي الذي بأيدينا من أحكام هو عبارة عن نظريات اقتصادية اسلامية تكشف عن المذهب الاقتصادي في الاسلام ، لذا لايجوز لمن يتبع الذهنية الرأسمالية أن ينظر الى الأحكام الاسلامية من ناحية النظرة الرأسمالية ، بل الأحكام الاسلامية تختلف في أساسها عن النظام الرأسمالي الموجود الذي يحلل الربا « القرض بفائدة » استناداً منه الى جواز أن يكون رأس المال داخلاً في أحكام الاجارة ، وقد رأينا أن الاسلام يمنع هذا أشد المنع ، وما الآيات القرآنية الناهية عن الربا والروايات الكثيرة إلاّ شاهد ودليل على عدم السماح لرأس المال أن ينمو عن طريق الاجارة في الاسلام.

تنبيه و تعميق للنظرية :
    لعل النمر يرتدع عن الفتاوى التي تخالف نصوص الاسلام ، فهنا نريد أن نحلل للاستاذ النمر بعض النصوص التي عليها فتاوى فقهاء الاسلام ، و خلاصة ما نقول : هو أنه توجد عندنا فتويان :
    الأولى : هي ما تقدم الاشارة إليها ، وهي جواز اجارة أدوات الانتاج وجواز الكسب الواقع على هذه الاجارة باتفاق علماء الاسلام.
    الثانية : عدم جواز اجارة رأس المال النقدي وعدم جواز الكسب الواقع على هذه الاجارة ، وهذا الحكم هو مورد وفاق علماء الاسلام الملتزمين بالنصوص القرآنية و الروائية.
    وهنا قد يتساءل النمر فيقول : إذا كان بالامكان اجارة أداة الانتاج بما انها عمل مختزن ، وكذلك يجوز اجارة البيت للعلة نفسها ، فكذلك يجوز اجارة رأس المال النقدي ، فأي فرق بينهما؟
    وفي الجواب عن ذلك : نقول : إن الاسلام عندما سمح لأداة الانتاج أن تؤجر وكذلك الأمر في البيت ، وكذلك الأمر في ايجار الانسان نفسه للعمل ، فان هذا يكشف عن قاعدة ايجابية في الفقه الاسلامي ، هي : أن العمل المباشر والعمل


(293)
المختزن هوجهد ، فالاجرة التي يتسلّمها عن العمل المباشر تكون في مقابل الجهد الذي بذله العامل مباشرة ، و كذلك الأمر في الدار وأداة الانتاج ، فانه عمل مختزن فيكون جهداً قد تم انفصاله عن العامل ، وحينئذ تكون الاجرة في مقابل العمل المختزن ، إذن تكون الاجرة في كل هذه الأمثلة هي في الحقيقة اجرة على عمل.
    أما بالنسبة الى رأس المال و منعه من النمو عن طريق الاجارة ، فان هذا أيضاً قاعدة ، إلاّ أنها عكس القاعدة الأولى ، وهي عبارة عن : « أن كل كسب لايسوغه عمل منفق فهو حرام » ، وما نحن فيه هو أحد مصاديق هذه القاعدة ، وتوجد مصاديق اخرى لها. مثلاً ، إذا أجرتُ داراً بخمسين ديناراً ثم أجرتها بالسعر نفسه مع سكناي في الدار ، أو بأكثر من السعر مع عدم سكناي في الدار ، فهنا يوجد كسب لي من دون عمل. وهذا لايجوز ، كما عليه جملة من علماء الاسلام (1) وفي هذا الحكم نصوص كثيرة منها :
    صحيحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما ( الإمامين الباقر أو الصادق ( عليهما السلام ) أنه سئل عن الرجل يتقبل بالعمل فلا يعمل فيه ، و يدفعه الى آخر فيربح فيه قال : « لا ، إلاّ أن يكون قد عمل فيه شيئاً » (2).
    وصحيحة محمد بن مسلم الثانية ، عن أحدهما ( عليه السلام ) قال : سألته عن الرجل الخياط يتقبل العمل فيقطعه و يعطيه من يخيطه و يستفضل ، قال : « لابأس قد عمل فيه » (3).
    وصحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : « لو أن رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها وأجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ،
     (1) كالسيد المرتضى والحلبي والصدوق وابن البراج والشيخ المفيد والشيخ الطوسي / راجع المبسوط للشيخ الطوسي / ج 3 ص 336 / عن اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر / ص 607.
     (2) وسائل الشيعة / ج 13 / باب 23 من أحكام الاجارة / ح 1 / ص 265.
     (3) المصدر نفسه / ح 5.

(294)
ولايؤاجرها بأكثر مما استأجرها به ، إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (1).
    وصحيحة الحلبي الثانية ، عن الامام الصادق ( عليه السلام ) في الرجل يستأجر الدار ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به قال : « لا يصلح ذلك إلاّ أن يحدث فيها شيئاً » (2) وغيرها.
    ونقل الجزيري ، عن فقهاء الأحناف « أن الشخص إذا استأجر داراً أو دكاناً بمبلغ معين ، كجنيه في الشهر ، فلا يحل له أن يؤجرها لغيره بزيادة » (3).
    وذكر السرخسي الحنفي في « مبسوطه » ، عن الشعبي ، في رجل استأجر بيتاً وأجره بأكثر مما استأجره به ، أنه لابأس بذلك إذا كان يفتح بابه و يغلقه ويخرج متاعه فلا بأس بالفضل ، وعلق السرخسي على ذلك بقوله : بيّن أنه إنما يجوز له أن يستفضل إذا كان يعمل فيه عملاً ، نحو فتح الباب واخراج المتاع ، فيكون الفضل له بازاء عمله وهذا فضل اختلف فيه السلف ... و كان ابراهيم يكره الفضل إلاّ أن يزيد فيه شيئاً ، فان زاد فيه شيئاً طاب له الفضل ، وأخذنا بقول ابراهيم (4).
    وهذا الذي نقلناه عن علماء السنة هو نفسه ماذهبت إليه الإمامية مستندةً الى النصوص الشرعية ، وحينئذ نقول : إن كسب المرابي هو كسب بلا عمل فلا يجوز. أفهل يقبل الدكتور النمر على هذه النتيجة الاقتصادية الشرعية؟

الفرق بين العقارات وأدوات الانتاج ورأس المال :
    قد يقول الاستاذ النمر : كما يمكنك أن تستأجر داراً تسكنها برهة من الوقت ثم تدفعها الى صاحبها مع اجرة معينة ، كذلك يسمح لك في القرض الذي يقرض
     (1) المصدر نفسه / باب 22 / ح 3.
     (2) المصدر نفسه / ح 4.
     (3) الفقه على المذاهب الأربعة / ج 3 ص 117.
     (4) المبسوط / للسرخسي ج 15 ص 78 ، عن اقتصادنا ص 613.

(295)
بالفائدة أن تقترض كمية من النقود لتستخدمها في أغراض تجارية أو استهلاكية ثم تدفع الكمية نفسها مع اجرة محددة الى الشخص الذي استقرضت المال منه.
    الجواب : يوجد فرق نظري بين العقارات و أدوات الانتاج ورأس المال النقدي. فان العقارات والأدوات الانتاجية هي عمل مختزن ، فيكون للمستأجر الحق في استهلاك قسط منه من خلال استخدام العقار أو أداة الانتاج التي يباشرها ، وحينئذ تكون الاجرة في مقابل العمل المختزن. إذن ، الكسب قام على أساس عمل منفق في السلعة ، وهذا يجوز كما تقدم.
    أما الكسب المضمون القائم على رأس المال النقدي ، فليس له ما يسوغه نظرياً ، لأن التاجر الذي يستقرض ( الف دينار ) لمشروع تجاري بفائدة معينة ، فانه سوف يدفع الألف دينار في الوقت المحدد الى الدائن من دون أن يستهلك منها ذرة ، وحينئذ تصبح الفائدة كسباً غير مشروع لأنه لايقوم على أساس أي عمل منفق ، فطبيعة رأس المال النقدي عند القرض لايؤدي الى استهلاك شيء أصلاً ( لامنه ولا من العمل المتجسد فيه ). أما انتفاع المستأجر بالبيت أو الأداة فانه يؤدي الى استهلاك شيء من العمل المختزن فيها ، ولهذا اجاز لصاحب البيت أن ينتفع لقاء العمل الذي استهلك من استخدام الدار أو الأداة (1).

المسوغ للفائدة :
    قد يقال ، كما قالت الرأسمالية على يد بعض رجالاتها : إن القيمة التبادلية لدينار اليوم هي أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل ، فاذا أقرضت غيرك ديناراً الى سنة ، كان من حقك في نهاية السنة أن تحصل على أكثر من دينار ، لتسترد بذلك ما يساوي القيمة التبادلية للدينار الذي أقرضته ، فالفائدة هي الفرق بين قيمة الحاضر وقيمة المستقبل.

     (1) يراجع اقتصادنا / للسيد الشهيد الصدر للتوسع ج 2.
(296)
الجواب : ان هذا الكلام قد يحصل عكسه في بعض الظروف ، كما إذا كانت قيمة السلع عالية جداً نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي و نجوم الحرب في البلاد وضعف الحكومة ، ثم بعد فترة من الزمن يتحسن الوضع الاقتصادي وتنتهي الحرب وتأتي للحكم حكومة قوية ، فهنا ترتفع قيمة الدينار بحيث إنه إذا كانت قيمته التبادلية كيلواً من السكر ، فأصبحت قيمته التبادلية كيلوين من السكر ، فهل هنا يقول الاقتصاديون الرأسماليون بأن من أقترض خمسين ديناراً وقت الحرب ، فبعد الحرب يؤدي خمسة وعشرين ديناراً لانها هي القيمة التبادلية للخمسين؟
    أقول : لاأظن أن يلتزم بهذا أحد منهم ، وما ذلك إلاّ لأن المقرض هي الدنانير نفسها ، والدنانير هي هي بطبيعتها لاتنزل قيمتها ولاترتفع ، وإنما الذي ينزلويرتفع هي السلع ، وهذه السلع ليست هي المُقرَضَة حتى نُلزِم المدين بما يساويها.
    ثم حتى لو سلّمنا بصحة هذه المقالة وهي : « أن القيمة التبادلية لدينار اليوم أكبر من القيمة التبادلية لدينار المستقبل » إلاّ أن هذا وحده لايسوغ الفائدة مالم تتفق الفائدة مع تصورات العدالة التي يتبناها المذهب الاسلامي عن العدالة. فمثلاً ، نحن نعتقد أن كثيراً من العناصر لها دخل في تكوين القيمة التبادلية لسلعة من السلع بعد الانتاج ، كالعامل الذي يغزل الصوف الذي أملكه أنا ، والماكنة التي هي لزيد والتي لها دخل في غزل الصوف ، ووجود قيمة تبادلية للصوف ، هذه الامور كلها لها دخل في تكوين القيمة التبادلية ، إلاّ أنها ليس لها نصيب في تلك السلعة في التوزيع الاسلامي ، وإنما لها الأجر من صاحب الصوف. إذن ، عناصر الأنتاج ليس لها نصيب في السلعة المنتجة بعد الانتاج ، وإنما لها اجور فقط لأنها أدت بذلك عملاً ، وعمل المسلم محترم. فهنا في مسألتنا فلنفترض أن المرابي بأمواله التي قدمها الى المستقرض كان قد تدخل في تكوين القيمة التبادلية للسلعة المنتجة ( الصوف المملوك ) إلاّ أن هذا لوحده لايسوغ أخذ اجرة ، مالم تتفق الاجرة المأخوذة مع تصورات العدالة التي يتبناها المذهب الاسلامي ، ولكننا نجد أن الاسلام ـ كما تقدم ـ لايجيز كسباً من دون انفاق عمل مباشر أو مختزن ، والفائدة


(297)
هي من هذا القبيل لأنها تبعاً للتفسير الرأسمالي المتقدم ، نتيجة لعامل الزمن وحده دون عمل منفق ، وإذا كان هذا هو المدعى ، فمن حق المذهب أن يمنع الرأسمالي عن استغلال دور الزمن في الحصول على كسب ربوي ، حتى لو اعترف المذهب بدور ايجابي لعامل الزمن في تكوين القيمة ، إلاّ أن هذا في السلع والنقد الذي تحت يده وتصرفه ، أما إذا أقرضه لآخر وملَّكه له مع الضمان ، فليس له أن يطالب بأكثر مما ملّك ، لأنه كسب بدون عمل.
    والى هنا تم الحديث مع الدكتور النمر من الناحية التشريعية الفقهية ، ولنا معه حديث آخر من الناحية الاقتصادية ، إذ لعله لاينسجم مع الشريعة والفقه وإنما ينسجم مع الاقتصاد الرأسمالي أو الماركسي ، وسوف نبيّن فيما بعد أن الماركسية تمنع من الربا ، كما أن الرأسمالية تعترف بواسطة أقطابها ( كينز ) وأمثاله بأن الفائدة كلما انخفضت تحسن الوضع الاقتصادي العام ، وكلما ارتفعت تدهور الوضع الاقتصادي العام ، فاذا كان هذا هو المصرح به عندهم كما سيأتي ، يتضح أنَّ كبار الاقتصاديين الرأسماليين أدركوا أن انخفاض الفائدة الى نصف الواحد بالمائة هو الأسلم للأقتصاد العالمي. إذن ، فهم يرون ضررها أكثر من فائدتها ، ولعل بهذا الذي سيأتي يقتنع الدكتور النمر ، وما علينا إلاّ الارشاد والتذكير بما ينفع الناس.

2 ـ مع الدكتور جمال مرسي بدر
    بعد نشر موضوع النمر بأربعة أيام نشرت الأهرام كلمة تحت عنوان : « حكم الشرع في فوائد القروض والودائع المصرفية » لكاتب يدعى الدكتور جمال مرسي بدر ، استاذ الشريعة الاسلامية بجامعة نيويورك. قال الدكتور في مقاله :
    « إني أتفق مع فضيلة الدكتور النمر كل الاتفاق في الرأي الذي قال به ، وإن كنت أقترح تبريراً آخر للوصول الى النتيجة نفسها ».
    والتبرير هو : « إن القاعدة في الفقه الاسلامي ، أن الأحكام المانعة التي


(298)
تقضي بالتحريم لايتوسع في تفسيرها ولايجوز سحبها على مالم يرد به النص ، ومن ثم فإن الحديث الشريف الذي يحرِّم أي زيادة في تبادل الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة لايجوز أن نعتبره منطبقاً على نقود من غير هذين الصنفين ».
    ثم قال : « ولمّا ظهرت في بلاد الاسلام العملات المسكوكة من المعادن الخسيسة كالنحاس أو البرونز ، أجمع الفقهاء على أن حكم الربا لايسري عليها ، فأجازوا مثلاً أن يقرض زيد عمراً ألف قطعة نقدية من النحاس مشترطاً عليه أن يردها ألفاً ومائتي قطعة ، ولم يقل أحد من الفقهاء القدامى من مختلف المذاهب أن المائتي قطعة الزائدة تعتبر من قبيل الربا ، ولما كانت النقود الورقية هي المثل البارز للنقود بالاصطلاح ، فان القاعدة التي طبقها القدامى على غيرها من النقود بالاصطلاح تنطبق على النقود الورقية من باب أولى وآحرى ، ولذلك لاتكون الفوائد في عصرنا هذا من قبيل الربا المحرم ».
    أقول : لعمري إنه حاطب ليل ، فقد خلط بين حديث الأصناف الستة الوارد في ربا البيع من جهة وربا القرض الذي تحدث عنه الدكتور النمر من جهة أخرى. فعلى الاجتهاد السلام إذا كان الدكتور مجتهداً قد أدلى برأيه كما هو واضح.
    ولعل السبب في هذه الفتاوى هي الشهادات التي تعطى لغير مستحقيها من طلاب الدنيا الذين لاورع لهم في الدين إلاّ بقدر ما تدرّ عليهم الدنيا من أرباح ظاهرة ، بل هي سبب خسرانهم في الآخرة ، فان الدنيا مزرعة الآخرة. وما نعمل وكل انسان فمه مفتوح يقول من دون حساب ولامسؤولية ، لأن الدولة التي ينتمي إليها قد قررت عملاً محرماً في الشريعة الاسلامية ، ولابُدَّ لطلاب الدنيا من التأييد والتسديد وجمع الأدلة الواهية وإن كانت شيطانية؟
    نعم ، ليس علينا إلاّ الرد ، ولكن للحقيقة فقط نقول : لقد جانب صاحب المقال الصواب بقوله : « ولما ظهرت في بلاد الاسلام العملات المسكوكة من المعادن الخسيسة ... أجمع الفقهاء على أن حكم الربا لايسري عليها ، فأجازوا مثلاً أن


(299)
يقرض زيد عمراً ألف قطعة نقدية من النحاس مشترطاً عليه أن يردها ألفاً ومائتي قطعة ، ولم يقل أحد من الفقهاء القدامى من مختلف المذاهب أن المائتي قطعة الزائدة تعتبر من قبيل الربا ... ».
    واليك الأدلة على ذلك ( في خصوص الفلوس ) :
    ورد في المدونة الكبرى للامام مالك 3 ( 395 ـ 396 ) بعض الروايات الدالة على الربا في الفلوس منها :
    أ ـ ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن أنه قال : الفلوس بالفلوس بينهما فضل فهو لايصلح في عاجل لآجل ، ولا عاجل بعاجل ، ولايصلح بعض ذلك ببعض.
    ب ـ قال الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد وربيعة ، أنهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نظرة.
    ج ـ الحنفية : « شرح العناية على الهداية » و ( شرح فتح الغدير » ( 6 / 162 ) :
    « الفلوس الرايجة أمثال متساوية قطعاً ، لاصطلاح الناس على اصدار قيمة الجودة منها ، فيكون أحد الفلسين فضلاً خالياً عن العوض مشروطاً في العقد وهو الربا ». وأما الأدلة الدالة على تقوله على أقوال العلماء ( فيما يشمل الفلوس ) فهي :
    أ ـ مالك في « المدونة » ( 4 / 25 ) : « وكل شيء أعطيته الى أجل فردّ إليك مثله وزيادة فهو ربا ».
    ب ـ قال ابن قدامة في « المغني » ( 4 / 364 ) : « المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلا أو كان بحاله ».
    ج ـ قال ابن تيمية في « مجموع الفتاوى » ( 29 / 535 ) : « لايجب في القرض إلاّ ردّ المثل بلا زيادة ». وقال : « وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء. والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته ».
    د ـ أهل الظاهر : الذين وقفوا عند الأصناف الستة في ربا البيع ، كابن حزم في « المحلّى » ( 8 / 462 ) قال : « ولا يجوز في القرض إلاّ ردّ مثل مااقترض » وقال في


(300)
موضع آخر ( 9 / 509 ) : « والربا يجوز في البيع والسَلَم إلاّ في ستة أشياء فقط ... وهو في القرض في كل شيء فلا يحل اقراض شيء ليردّ إليك أقل ولا أكثر ... ».
    ومما ورد عن الإمامية قول المحقق الحلي في الشرائع ( ج 2 / 67 ) عن حقيقة القرض : « والاقتصار على رد العوض فلو شرط النفع حرم ولم يفد الملك ». ثم قال فيما يصح اقراضه ( ص68 ) : « وهو كل مايضبط وصفه وقدره ، فيجوز إقراض الذهب والفضة وزناً والحنطة والشعير كيلاً ووزناً ، والخبز وزناً وعدداً ... وكل مايتساوى أجزاؤه يثبت في الذمة مثله ... وما ليس كذلك يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم ». وواضح دخول الفلوس والأوراق النقدية في هذه الفتوى.
    أقول : لاأحب أن أطيل على الدكتور مرسي بدر في نقل الفتاوى من قبل علماء الاسلام الذين نسب إليهم عدم القول في حرمة ربا الفلوس ، وألحق بها الأوراق النقدية ، بل أقول له : ان هذا الاطباق على حرمة ربا القرض سواء كانت في الذهب أو الفضة ، أو في الفلوس ، أو في الأوراق النقدية ، إنما نتج عن اطلاق النصوص القرآنية والروائية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأهل بيته الكرام ، وعن الصحابة. فمن الروايات التي وردت عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ما تقدم من صحيحة علي بن جعفر في « قرب الإسناد » عن أخيه الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) قال : « سألت أخي موسى ( عليه السلام ) عن رجل أعطى رجلاًمائة درهم على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقل أو أكثر. فقال : هذا الربا المحض (1) ». وموثق إسحاق بن عمار قال : « قلت لأبي إبراهيم الامام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) : الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً فيطول مكثه عند الرجل لايدخل على صاحبه منه منفعة ، فينيله الرجل ، كراهة أن يأخذ ماله ، حيث لايصيب منه منفعة ، يحل ذلك له؟ قال :لابأس إذا لم يكن شرطاه (2) ».

     (1) وسائل الشيعة / ج 12 باب ( 12 ) من أبواب الصرف / ح 1.
     (2) المصدر نفسه / ج 13 / باب ( 9 ) من أبواب الدَين والقرض / ح 13.