(321)
أصوات من هنا وهناك لتؤيد فتوى التحليل التي هي خلاف القرآن والسنة.
    ثم هناك أدلة اقتصادية تدل على حرمة الربا القرضي رجحنا ذكرها هنا اتماماً للفائدة ، وللذكرى ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وسوف نبيّن فيها أن الاقتصاديين الكبار في المجتمع الرأسمالي يصرحون بأن انخفاض سعر الفائدة يؤدي الى انعاش الاستثمار ، وبالتالي يُحسِن الحالة الاقتصادية ، وان ارتفاع سعر الفائدة يؤدي الى تدهور الاستثمار والحالة الاقتصادية ، ومن هذه النتيجة يُطرح السؤال التالي : إذن ، لماذا لانحرّم الفائدة من الوجهة الاقتصادية؟ وهذا ما سوف نتحدث عنه فيما يأتي ان شاء الله

الأدلة الاقتصادية على حرمة ربا القرض :
    إذا أردنا أن ننظر بمنظار اقتصادي للفائدة ونقوّمها من ناحية فائدتها للاقتصاد الوطني ، وعدم فائدتها أو ضررها ، فإننا نجد أن حرمة الفائدة تؤدي :
    أولاً : الى القضاء على التناقض المرير بين مصالح التجارة والصناعة ، ومصالح رأس المال الربوي ، إذ أنَّ الرأسماليين الذين يؤمنون بالفائدة « ينتظرون دائماً فرصتهم الذهبية حين تشتد حاجة رجال الأعمال في التجارة والصناعة الى المال ، ويزيد طلبهم عليه ، لكي يرفعوا سعر الفائدة ويمسكوا بأموالهم طلباً لأعلى سعر ممكن لها. أما حين ينخفض الطلب على المال من رجال الأعمال ونقل حاجتهم إليه ، ويهبط تبعاً لذلك سعر الفائدة ، فسوف نجد الرأسماليين وهم يعرضون أموالهم بكل سخاء وبأزهد الأجور. ومن الواضح أن إلغاء الفائدة يضع حداً لهذا التناقض في حياة طبقة المرابين وطبقة التجار في المجتمع الرأسمالي ، لأن إلغاء الفائدة سوف يؤدي بطبيعة الحال الى تحويل الرأسماليين الذين كانوا يقرضون أموالهم بفائدة الى مضاربين ( المضاربة الشرعية ) يساهمون في مشاريع صناعية وتجارية على أساس الاشتراك في الأرباح ، وبذلك يتحدد الموقف ، ويصبح رأس


(322)
المال في خدمة التجارة والصناعة ، ويلبّي حاجاتها ويواكب نشاطها » (1).
    وبما أننا لانفرق بين طبقة الرأسماليين والتجار وما يقوم به البنك العالمي اليوم من القرض بفائدة ، فإن البنوك أيضاً تقوم بالدور نفسه الذي يقوم به المرابي من التناقض بين مصالح رأس المال الربوي ومصالح التجارة والصناعة.
    ثانياً : الى الحصول على مكسب آخر من تحريم الفائدة وهو وجود العزم والطمأنينة في المشاريع الضخمة الطويلة الأمد ، إذ أنَّ صاحب المال ـ بعد إلغاء الفائدة ـ لم يبق أمامه إلاّ أمل الربح ، وهذا يُحرّكه نحو المشاريع الضخمة المغرية بأرباحها ونتائجها ، خلافاً لحاله في المجتمع الربوي ، فإنه يفضل إقراض المال بفائدة على توظيفه في تلك المشاريع ، إذ أنَّ الفائدة مضمونة على أي حال ، كما أنه سوف يفضِّل أيضاً أن يقرض المال لأجل قصير ويتحاشى الإقراض لمدة طويلة لئلا يفوته شيء من سعر الفائدة ، إذا ارتفع في المستقبل القريب سعرها ، وبذلك يضطر المقرضون ( مادام أجل الوفاء قريباً ) الى استخدام أموالهم في مشاريع قصيرة الأمد حتى يتمكنوا من إعادة المبلغ في الوقت المحدد مع الفائدة المتفق عليها الى البنك أو الرأسمالي الكبير.
    كما ان إباحة الفائدة تؤدي الى ضررين آخرين هما :
    الأول : إن رجال الأعمال في ظل نظام الفائدة لن يقدموا على إقتراض المال من الرأسماليين وتوظيفه في مشروع تجاري أو صناعي مالم تبرهن الظروف على أن بإمكانهم الحصول على ربح يزيد عن الفائدة التي يتقاضاها الرأسمالي ، وهذا يعيقهم عن ممارسة كثير من ألوان النشاط في كثير من الظروف ، كما يجمد المال في البنوك وعند الرأسماليين ، ويحرمه من المساهمة في الحق الاقتصادي ولايسمح له بأي لون من ألوان الإنفاق الإنتاجي أو الاستهلاكي ، الأمر الذي يؤدي الى عدم إمكان
     (1) اقتصادنا ، للشهيد الصدر ص 656.
(323)
تصريف كل المنتجات وكساد السوق وظهور الأزمات وتزلزل الحياة الاقتصادية.
    أما عند إلغاء الفائدة ، وتحويل الرأسماليين والبنوك الى تجار مساهمين مباشرة في مختلف المشاريع التجارية والصناعية ، فإنهم سوف يجدون من مصلحتهم الاكتفاء بقدر أقل من الربح لأنهم لن يضطروا الى تسليم جزء منه باسم الفائدة ، وسوف يجدون من مصلحتهم أيضاً توظيف الفائض عن حاجتهم من الأرباح في مشاريع التجارة والانتاج ، وبذلك يتم إنفاق الناتج كله إنفاقاً استهلاكياً وإنتاجياً بدلاً من تجميد جزء منه في جيوب المرابين بالرغم من حاجة التجارة والصناعة إليه ، وتوقف تصريف جزء من المنتجات على إنفاقه (1).
    الثاني : إن نظام الفائدة يحث ويشجع على الاكتناز حتى يحصل لدى البنوك أو الرأسماليين رؤوس أموال لمشاريع كبار ، ولكن الاكتناز يعرقل حركة الحياة الاقتصادية ويهدد حركة الانتاج إذا حصل من الأفراد أو من المؤسسات والبنوك. وإليك توضيح ذلك :
    كان في عصر المقايضة أن المنتج لاينتج إلاّ بقدر ما يستهلك ، لأنه يستبدله بسلعة أخرى يستهلكها ، وحينئذ تكون السلعة المنتجة تتضمن دائماً طلباً بقدرها ، وبهذا يتساوى الانتاج والاستهلاك ، والعرض الكلي مع الطلب الكلي.
    أما بعد اختراع النقد ( كوسيلة للقضاء على المصاعب المعروفة لعصر المقايضة التي ليس هنا محل ذكرها ) فقد صار المنتج ينتج لا لاستهلاكه ، بل بقصد أن يبيع ويحصل على نقد ليضيفه الى ما ادخره من نقود ، وبهذا يوجد عرض لايقابله طلب ، فيختل لأجل ذلك التوازن بين العرض العام والطلب العام ، ويتعمق هذا الاختلال بقدر ما تتسع ظاهرة الاكتناز لدى المنتجين والبائعين ، وبهذا يظل جزء كبير من الثروة المنتجة دون تصريف ، وتعاني السوق الرأسمالية
     (1) المصدر السابق ص 657.
(324)
من مشكلة تصريفها ، وبذلك تتعرض حركة الانتاج والحياة الاقتصادية لأشد الأخطار (1).
    وأما الاسلام : فقد اختلف مع الرأسمالية في نظرته الى الادخار والاكتناز ، ونظرته الى الفائدة ، فقد جعل ضريبة على المال المكتنز ، وحث على إنفاق المال في مجالات الاستهلاك غير المسرف والانتاج المثمر ، حتى جاء في الحديث عن الامام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ( إن الله إنما أعطاكم هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله ، ولم يعطكموها لتكنزوها ) (2) وقد صرّح القرآن الكريم وهدد المكتنزين ، إذ قال : ( والّذين يكنزونَ الذهبَ والفضَّةَ ولايُنفقونها في سبيل الله فبشِّرهُمْ بِعذاب أليم * يومَ يُحمى عليها في نارِ جهنَّمَ بها جِباهُهُمْ وجنوبُهُمْ وظُهورهُمْ هذا ما كنزتُمْ لأنفسِكُمْ فذوقوا ما كُنتُمْ تَكنِزون ) ( التوبة/34ـ35 ).
    ثم إن الاسلام بغير حاجة الى الاكتناز والحث عليه ، لوجود رؤوس أموال ضخمة تملكها الدولة ويمتلكها المجتمع الاسلامي ويملكها الناس ، هذه هي الملكيات العامة المعترف بها في الاسلام. وتستطيع الدولة أو البنوك استثمارها في المشاريع الاقتصادية والعمرانية الضخمة ، وهذا بخلاف الرأسمالية التي لاتقر بهذه الملكية للدولة وللمجتمع ، هي بحاجة الى تشجيع الاكتناز حتى تتجمع لديها الأموال لهذه المشاريع.

الكسب بدون عمل حرام :
    الكسب بدون عمل غير جائز من الناحية الاقتصادية ، لأن الاقتصاد يريد عملاً وجهداً ( إما أن يكون مباشراً أو مختزناً ) حتى يتمكن الانسان من الحصول
     (1) هذا في صورة ما إذا لم تفكر الدولة الرأسمالية بايجاد أسواق لها في الدول الضعيفة ، وأما إذا فكرت بذلك فإنها سوف تستعمل شتى الحيل لاستثمار تلك الدولة في سبيل جعلها سوقاً لبضائعها ، وبهذا يحدث لنا الاستعمار الذي رأينا منه الكثير.
     (2) الكافي / ج 4 / باب وضع المصروف موضعه / ح 5 ص 32.

(325)
على ربح في مقابل عمله. أما إذا أخذ الانسان يكتسب ويحصل على الربح من دون مباشرة عمل ( مباشر أو مختزن ) فهذا معناه في المصطلح الاقتصادي تحرك الميزان من جانب واحد وهو لايجوز في المنظار الاقتصادي ، إذ أنَّ المنظار الاقتصادي يقول بلا بدّية تحرك الميزان من جانبين : عمل و كسب ، أي عمل في كفة وكسب في كفة أخرى.
    وهذه الحقيقة لم يغفلها الفقه الاسلامي ، فقد حرم الكسب القائم بدون عمل وصرح الفقهاء : بأنه لايجوز للانسان أن يستأجر أرضاً أو أداة انتاج بأجرة معينة ثم يؤجرها بأكثر من ذلك مالم يعمل في الأرض أو أداة الانتاج عملاً يسوّغ حصوله على الزيادة. وقد نص على هذا الحكم جماعة من كبار الفقهاء ، كالسيد المرتضى ، والحلبي ، والصدوق ، وابن البراج ، والشيخ المفيد ، والشيخ الطوسي (1).
    وهذا الرأي الفقهي يستند الى أحاديث وردت بهذا الصدد ، منها :
    1 ـ موثقة أبي بصير قال : قال الامام أبوعبدالله الصادق ( عليه السلام ) : « إني لأكره أن أستأجر رحاً وحدها ثم اواجرها بأكثر مما استأجرتها به ، إلاّ أن يحدث فيها حدث أو تغرم فيها غرامة » (2).
    2 ـ صحيحة الحلبي ، عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : « في الرجل يستأجر الدراثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به؟ قال ( عليه السلام ) : لا يصلح ذلك ، ألاّ أن يحدث فيها شيئاً » (3).
    وهذا الكلام نفسه نقوله في العمل أيضاً ، فلا يجوز أن يتفق شخص مع آخر على إنجاز عمل بأجرة معينة ثم يستأجر للقيام بذلك العمل أجيراً آخر لقاء مبلغ أقل من الأجرة التي ظفربها في الاتفاق الأول ليحتفظ لنفسه بالفارق بين الأجرتين
     (1) المبسوط / للطوسي / ج 3 ص 226.
     (2) وسائل الشيعة / ج 13 / باب 22 من أبواب الاجارة / ح 5 ص 265.
     (3) المصدر السابق / ح 4.

(326)
من دون عمل يقوم به. و الدليل على ذلك الروايات الكثيرة ( وقد تقدم بعضها ) ، ومنها صحيحة محمدبن مسلم ، أنه سأل الامام الصادق ( عليه السلام ) « عن الرجل يتقبّل بالعمل فلا يعمل فيه ، ويدفعه الى آخر فيربح فيه؟ قال : لا ، الاّ أن يكون قد عمل شيئاً » (1) و مثلها روايات كثيرة.
    إذن ، من كل هذه المقدمة نستفيد فقهياً واقتصادياً أن الكسب من دون تقديم عمل لايجوز ، وبما أن المرابي هو كذلك ، فانه يكتسب من دون تقديم عمل ( مباشر أو مختزن ) فهو لايجوز.
    وقد يقال ان المال النقدي الذي يقدمه المرابي هو عبارة عن عمل مختزن فيجوز أن يؤجره فيكون كسبه في مقابل العمل المختزن.
    فاننا نقول : قد تقدم منّا أن العمل المختزن إنما يجوز إيجاره للغير وأخذ الكسب عليه ( كالبيت والدكان والآلة ) لأنه يُستهلك بعضه بالاستعمال ، أما هنا في النقد المالي فإنه يرجع بنفسه من دون ذرة استهلاك ، ولهذا يكون كسباً من دون عمل ، وهذا يتعارض مع تصورات الاسلام عن العدالة.
    نعم ، إذا كانت الفائدة هي : تعبير عن حق الرأسمالي في شيء من الأرباح التي جناها المقترض عن طريق ما قدم إليه من مال ، فان هذا الحق بالاضافة إلى أنه في صورة استثمار المال وحصول الربح فقط والاسلام أقرّ هذا الحق في صورة ما إذا كان اشتراك بين صاحب المال والعامل وربط الرأسمالي بنتائج العملية ، وهذا هو معنى المضاربة التي جوّزها الاسلام ، بشرط أن يكون حق الرأسمالي المتقدم بصورة نسبة مئوية ، وإذا حصلت خسارة فانه هو الذي يتحملها فقط ، أما العامل فقد خسر عمله ، وهذا هو معنى تحرك الميزان من جانبين ، وهو جائز اقتصادياً أيضاً ، ولكن هذا يختلف بصورة جوهرية عن الفائدة بمفهومها الرأسمالي التي تضمن له أجراً ثابتاً منفصلاً عن نتائج العملية التجارية.

     (1) وسائل الشيعة / ج 13 / باب 23 من أبواب الاجارة / ح 1 ص 265.
(327)
وقد يقال : ان المال الذي قدمه الرأسمالي الى المدين ( قد هبطت قيمته التبادلية ) فالربح والفائدة هو عبارة عن قيمة هذا الهبوط ، فيكون جائزاً.
    والجواب : صحيح انه في بعض الحالات تكون القيمة التبادلية للدينار أكثر منها في وقت آخر ، وقد يكون العكس صحيح ، فاذا كانت القيمة التبادلية للدينار تساوي مائة كيلو من الحنطة ثم تحسنت فكانت تساوي مئتي كيلومن الحنطة ، فهل يرضى الدائن بأن يأخذ نصف دينار على ديناره الذي أسلفه للمدين بحجة أن القيمة التبادلية للدينار قد تحسنت؟! والجواب : إن المدين لايرضى بذلك لأنه إنما أقرض الدينار فهو يريده بنفسه سواء نزلت قيمته التبادلية أو صعدت ، فان هذا النزول أو الصعود هو تابع الدينار نفسه ولمالكه ، ولايجوز أن يتحمل النزول فرد آخر ، كما لايجوز أن يستفيد من الصعود غير صاحبه المالك له.
    ثم : لماذا لانقول هذا الكلام عندما أؤجر بيتي لفلان بخمسين ديناراً ثم تهبط قيمة البيت فهل يجوز أن نقول إن المستأجر يتحمل قيمة الهبوط؟! وبعكس ذلك إذا صعدت قيمة البيوت ، فإنه لايجوز للمستأجر أن يقول : أنا أستحق نصف قيمة الصعود ، إذ إن صعود قيمة السلعة أو هبوطها نتيجة لأوضاع خاصة لاربط لها بالمقرض أو المستأجر. وعلى هذا الأساس إذا نزلت أسعار النقود في السوق ، إلاّ أن هذا لايكون استهلاكاً للعمل المختزن في النقد وقد انتفع به المستقرض حتى يجب عليه تعويضه ، بل إنَّ العمل المختزن في النقد لايزال كما هو لم يتفتت ولم يستهلك وإنما العمل يكون قد حصل على كسب بدون سبب ، أي حصل صاحب النقد على كسب من دون أن يستهلك من عمله المختزن شيئاً خلال عملية الانتفاع ، وهذا ما يرفضه الاسلام حسب النهي عن كسب بدون عمل.

الأثر الفطري للربا :
    لقد تعرضنا في كتابنا « الربا فقهياً واقتصادياً » الى مضار الربا ، وذكرنا أن له مضاراً من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ، ومن ناحية المرابي ومن


(328)
ناحية المنتج ومن ناحية تنمية الاقتصاد ، فمن أراد التوسعة فعليه مراجعة الكتاب (1) ، إلاّ أننا هنا نستل من ذلك الفصل عنوان الأثر الفطري للربا لنجعله أمام الرأي العام ، ونقول للنمر وطنطاوي ومرسي ، إذا كان الربا حلالا فلماذا هذه الضجة عندما أقرضت امريكا بريطانيا قرضاً ربوياً؟!
    نقول : بعد الحرب العالمية الثانية عقدت اتفاقية ( برتين وود ) لَديْن كبير من قبل امريكا لبريطانيا ، ولكن بريطانيا قد تأثرت من هذا القرض الربوي على لسان كبار سياسيهم واقتصاديهم ، فمما قاله ( اللورد كينز ) بعد ان عقد الاتفاقية مع امريكا باعتباره ممثلاً للشعب الانجليزي : « لا أستطيع أن أنسى أبد الدهر ذلك الحزن الشديد ، والألم المرير الذي لحق بي من معاملة امريكا إيانا في هذه الاتفاقية ، فانها أبت أن تقرضنا شيئاً إلاّ بالربا ».
    ومما قاله تشرشل : « إني لأتوجس خلال هذا السلوك العجيب المبني على الإثرة وحب المال الذي عاملتنا به امريكا ضروباً من الأخطار. والحق أن هذه الاتفاقية قد تركت أثراً سيئاً جداً فيما بيننا و بين امريكا من العلاقة ».
    وقال اللورد والتن وزير المالية : « إن هذا العبء الثقيل الذي نخرج من الحرب وهو على ظهورنا ، جائزة عجيبة جداً نلناها على ماعانينا في الحرب من الشدائد والمشاق والتضحيات لأجل الغاية المشتركة ، وندع للمؤرخين في المستقبل أن يروا رأيهم في هذه الجائزة الفذة من نوعها ، التمسنا من امريكا أن تقرضنا قرضاً حسناً ولكنها قالت لنا جواباً على هذا : ماهذه بسياسة عملية » (2).
    الخلاصة : إن المرابين بالرغم من أنهم طفيليون على مائدة أموال الناس ، والمترقب أن يكون حظهم أقل من حظ أصحاب الموائد أنفسهم ، أصبح حظهم
     (1) ص 377.
     (2) الربا / للمودودي / ص 43 ـ 44.

(329)
أكثر ، وذلك لأن نفعهم مضمون سواء ربحت التجارة أو خسرت ، فكأن المال ـ تلقائياً ـ ينمو بمضي الزمن عليه في ذمة الناس بلا حاجة الى أي عمل من قبل صاحب المال!!.
    وقد ذكروا أن هناك كتاباً أصدره أحد العلماء الفرنسيين الأحرار « كتاب لم يكد يخرج من المطابع سنة ( 1955 ) حتى استولى عليه هذا الاخطبوط ( أصحاب المصارف الربوية ) فأباد جميع نسخه إلاّ عدداً قليلاً افلت من قبضته » (1). وعنوان هذا الكتاب : « الماليون وكيف يحكمون العالم ويقودونه الى الهاوية » ذكروا أن فيه أدلة كثيرة ووثاق ثابتة تثبت بالبرهان أن كل المحن و الكوارث هي من صنع أصحاب المصارف المرابين.
    ويشير الكتاب نفسه في مقدمته الى كتاب آخر يقول عنه الدكتور محمد عبدالله العربي : بحثت عنه سنوات متتالية وفي كل مكان فلم أجد له أثراً ، ولعل الاخطبوط قد أباده أيضاً ، والكتاب عنوانه : « فرنسا اليهودية أمام الرأي العام » ( ونقتبس من هذه المقدمة كلمة لمؤلف هذا الكتاب الثاني ... لأنها صورة دقيقة وموجزة لنفوذ البنوك العالمية الحديثة ) وهي :
    « ان الذي يلفت النظر في عصرنا ليس هو فقط تكدس الثروات في أيد قليلة وأحياناً بأساليب فاجرة ، بل هو على الأخص تكدس قوة هائلة تتمثل في سيطرة اقتصادية لاضابط لها ولاقيد ، سيطرة تصول بها فئة قليلة ليسواهم ـ في الغالب ـ ملاّك المال ، بل مجرد مستودعين له ، ولكنهم يديرونه ويتصرفون فيه كما لو كانوا ملاّكه بالفعل » ، « إنها لقوة هائلة تلك القوة التي يصول بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال ، وعلى الائتمان ، أي الإقراض الذي يوزعونه بمحض مشيئتهم المطلقة ، فكأنهم بذلك إنما يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي
     (1) المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الاسلامية / د. محمد عبدالله العربي ص 92.


(330)
بكل أوضاعه ، فاذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس ، وإذا شاءوا قدّروا مدى انسيابه في جسم الجهاز ، التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية ». « ثم إن تجمع هذه القوى وهذه الموارد المالية في أيديهم يؤدي بالتالي الى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية ، وذلك يتحقق في خطوات ثلاث متدرجة متساندة ، الاولى ، الكفاح في سبيل احراز السيادة الاقتصادية. ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم ، ومتى تحققت لهم بادروا الى استغلال طاقاتها وسلطاتها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية ، وفي النهاية ينقلون المعركة الى المجال الدولي العالمي ». والنتيجة الملازمة لهذا الوضع وهي : « أن ولي الأمر ـ الذي كان مفروضاً فيه أن يمثل مصالح المجتمع وأن يحكم من مكانه الرفيع في نزاهة وحياد وعدل وايثار لمصالح المجتمع ـ قد سقط الى درك الرقيق لهذه القوى المالية ، وأصبح أداة طيّعة لتنفيذ أهوائها وشهواتها » (1) .
    فهل يريد النمر وطنطاوي ومرسي أن يزيدوا من قوة المصارف وقوة الفضائح التي تصدر منها؟! وماذا سيكون الجواب غداً عند مليك مقتدر؟ وأخيراً ، أذكر لكم آيات الربا القرآنية ليتذكر مَنْ يدعو الى حلّيته ولو بصورة خاصة وبحجج سقيمة.
    قال تعالى : ( وما آتيتُمْ مِن رِباً ليربو في أموالِ الناس ، فلا يَربو عند الله وما آتيتُمْ من زكاة تُريدونَ وجه الله فأولئِكَ هُمُ المُضعِفون ) ( الروم / 39 ).
     ( يا أيُّها الذين آمنوا لا تَأكلوا الربا أضعافاً مُضاعفةً واتَّقوا الله لعلكُمْ تُفلحون * واتقوا النارَ التي اُعدَّت للكافرين ) ( آل عمران 130 / 131 ).
     ( فيظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات اُحلَّت لهم وبصدّهم عن سبيل الله كثيراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا لكافرين
     (1) المصدر السابق / ص 93.