(381)
تغيير قيمة العملة


(382)

(383)
المقدمة
قبل البدء في البحث لابدّ من التنبيه إلى خطرين يقفان في طريق المجتهد عليه أن يتجاوزهما :
    الخطر الأوّل : « تبرير الواقع الفاسد على حساب تطوير النص ».
    ويحدث هذا الخطر عند مَنْ استسلم للواقع الإجتماعي أو الإقتصادي الفاسد الذي يعيشه كما حدث لبعض المفكرين المسلمين حيث تأوّل حرمة الربا ، وخرج بنتيجة تواكب الواقع الفاسد وهي : أنّ الإسلام يسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفة وإنّما ينهى عنها إذا بلغت مبلغاً فاحشاً كما في آية : ( يأ أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلّكم تفلحون ) (1).
    وقد منع هذا الواقع الفاسد هؤلاء المفكّرين من إدراك غرض الآية التي كانت تريد لفت نظر المرابين إليه ، وهي النتائج الفضيعة التي يسفر عنها الربا ، ولذا نرى القرآن الكريم يقول : ( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) (2).
     (1) آل عمران : 130.
     (2) البقرة : 279

(384)
إذن المسألة ليست مسألة حرب مع نوع خاص من الربا ، وإنّما هي مسألة عدم جواز نموّ رأس المال من دون مبرّرات شرعيّة لنموّه.
    النتيجة : هو عدم جواز اتّباع الواقع الفاسد الذي يعيشه المسلمون اليوم ، وهو الواقع الرأسمالي الذي تعيشه بعض البلدان الإسلاميّة ، أو الواقع الإشتراكي الذي تعيشه بعض البلدان الاُخرى ، وإنّما يجب أن تكون الشريعة الإسلاميّة هي المتّبعة ويكون مذهبها الإقتصادي هو المتبع أيضاً حتّى وإن خالف الواقع المعاش ، فعلى علماء الإسلام أن يغيّروا الواقع إذا لم يكن منسجماً مع الشريعة الإسلاميّة حتّى تكون شريعة الإسلام هي المتّبعة.
    الخطر الثاني : « اتخاذ موقف معين مسبق اتجاه المسألة ».
    كما إذا كان العالم الذي يبحث المسألة له اتجاه نفسي ، فإنّ هذا الإتجاه النفسي سوف يؤثر عليه إلى حدّ كبير في عمليّة الإستنباط أو فهم النص الشرعي ، وقد تصل المرحلة إلى إغوائه وخداعه بحيث تنطمس أمام عينيه جوانب واضحة من النص الشرعي الذي لم ينسجم معه نفسيّاً.
    ومثال ذلك : ما ينهجه علماء العقائد في سبيل ترسيخ عقائدهم المنسجمين معها نفسيّاً ، فيحاولون تفسير وتأويل النصوص الشرعيّة بما ينسجم مع هذه العقيدة ، وقد تصل هذه الطريقة إلى حدّ الإغواء والخداع ، فأيُّ موضوعيّة في مثل هذا البحث ؟ ! !
    وكمثال فقهي من الشريعة الإسلاميّة ما نراه من نهي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن « ذبح الحمر الأهليّة يوم خيبر » ، فإنّ بعض العلماء يتخذون موقفاً نفسيّاً مسبقاً تجاه النص ، وهو الموقف القائل : بــ « أنّ كلّ نص هو حكم شرعي عام » ، وأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هو « مبلّغ الأحكام دائماً ». إذن هؤلاء العلماء سوف يفسّرون النص المسبق بأنّه حكم شرعي عام ، بينما هذا الموقف الخاص من تفسير النص لم ينبع من


(385)
النص نفسه وإنّما نتج عن اتجاه نفسي خاص عند العالِم ، ويمكن أن يكون نهي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو إجراء معيّن اتخذه في تلك الحالة والفترة بما أنّه ولي الأمر المسؤول عن رعاية مصالح المسلمين ، وحينئذ يكون النهي نهياً ولائيّاً بما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو حاكم المسلمين.
    وقد نبّه الإمام الباقر ( عليه السلام ) في صحيحة محمّد بن مسلم وزرارة حيث سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهليّة فقال : « نهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أكلها يوم خيبر ، وإنّما نهى عن أكلها في ذلك الوقت لأنّها كانت حمولة الناس ، وإنّما الحرام ما حرّم الله في القرآن » (1). وفي صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « نهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أكل لحوم الحمير ، وإنّما نهى عنها من أجل ظهورها مخافة أن يفنوها وليست الحمير بحرام ، ثمّ قرأ هذه الآية : قل لا أجد فيما اُوحي إلي محرّماً على طاعم يطعمه ... » (2).
    إذن موضوعيّة البحث في النصوص الشرعيّة تفرض على الباحث إستيعاب كلا هذين التقديرين ، وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النص الظاهرة.
    فالنتيجة : لا يجوز أن يكون عند الباحث في مسألتنا موقفاً مسبقاً معيّناً يقول بوجوب أن يعوّض الضرر الذي حدث لهذا الفرد نتيجة معاملة قد قام بها بكل اختياره وإرادته مادام لا يوجد دليل ظاهر من الشريعة الإسلاميّة على تعويضه ، بل ربمّا يكون الحكم بتعويضه مخالفاً لمباديء الشريعة الحقّة ، فالنظر الموضوعي في بحثنا الذي نريد أن نبحثه يدعونا إلى فحص الأدلّة الشرعيّة للحكم بتعويض الضرر أو عدم الحكم به.
    وبعد هذه المقدّمة نقول :
     (1) وسائل الشيعة : ج 16 ، باب 4 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح 1.
     (2) المصدر السابق ، ح 6.

(386)
المشاكل المتعلقة بتغيير قيمة العملة :
    والجواب : هناك مشكلتان تتعلّقان بكيفيّة الوفاء.
    الاُولى : كيفيّة الوفاء في عقد القرض إذا تغيّرت القيمة ؟
    الثانية : كيفيّة الوفاء للثمن المؤجّل في البيع إذا تغيّرت القيمة ؟
    وسوف نبحث كل واحدة من المشكلتين على حدة لنرى الحكم الشرعي في الشريعة الإسلاميّة ( الإماميّة ). وتوجد مشكلة ثالثة لا تتعلق بالقرض أو البيع ، نتعرض لهافي آخرالبحثوهي مشكلة مهر الزوجة الذي كان عبارة عن مائة تومان إيراني قبل ثلاثين سنة ، فكيف توفّى هذه الزوجة مهرها ؟ وأمثال هذه المسائل.

المشكلة الاُولى :
    فهي جزء من بحث مهم في الشريعة الإسلاميّة وهو « كيفيّة الوفاء في عقد القرض » سواء كان المال المقترض من المثليّات ( كالحنطة والشعير ، والأوراق النقديّة ، والدنانير الذهبيّة والدراهيم الفضيّة ، أو كان من القيميّات كقرض خاتم عقيق أو زمرّد ).
    وهنا لابدّ لنا من معرفة معنى القرض في الشريعة الإسلاميّة أولاً ، ثمّ نرى كيف يؤدّى المال المقترض ثانياً.
    أولا : معنى القرض : لا يخفى أنّ معنى القرض معروف وهو : « تملّك كميّة من المال مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً ». وقد أثبته الله سبحانه وتعالى للمحتاجين.
    ثانياً : المال المقترض : ثمّ إنّ المال المقترض إمّا أن يكون من المثليّات أو من القيميّات.


(387)
    والمثلي : ما تساوت أجزاؤه في القيمة والمنفعة وتقاربت صفاته كالسكر والحنطة والدهن النباتي وأمثالها.
    والقيمي : وهو ما كانت أجزاؤه مختلفة في القيمة والمنفعة مثل الخيار والعقيق والزمرّد وأمثالها.
    فإن اقترض الإنسان شيئاً مثليّاً : فقد يكون أحد أقسام ثلاثة :
    1 ـ أن يقترض مثليّاً ، وهو عرض من الأعراض كالثوب المثلي ، والحنطة ، والرز ...
    2 ـ أن يقترض نقداً مثليّاً « ذهباً أو فضّة ».
    3 ـ أن يقترض نقداً ورقيّاً تكون ماليّته إعتباريّة وإلزامية من قبل الدولة.
    والمشكلة المطروحة هنا من قبل الباحثين هي فقط في النقد الورقي إذا تغيّرت قيمته إلى النقيصة ، بينما ينبغي أن تبحث المسألة بصورة أوسع ، لأنّ الذهب والفضّة الذي كان هو النقد المتعارف قبل سنة 1914 م ، أي قبل الحرب العالميّة الاُولى أيضاً تتغيّر قيمته بالنقيصة والزيادة ، ولا يلتفت إلى من يقول بأنّ قيمة الذهب والفضّة لم تتغيّر وثابتة مادامت النصوص الكثيرة في زمان الإمام الصادق ( عليه السلام ) تخبرنا عن نزول قيمة الذهب مرّة ونزول قيمة الفضّة مرّة اُخرى. وإليك رواية واحدة من الروايات الكثيرة ليتضّح لك الأمر.
    فقد روى عبدالملك بن عتبة الهاشمي قال : « سألت أبا الحسن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) عن رجل يكون عنده دنانير لبعض خلطائه ، فيأخذ مكانه ورِقاً في حوائجه ، وهو يوم قبضت سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلب صاحب المال بعض الورِق وليست بحاضرة فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر ونحوه ، ثم يتغيّر السعر قبل أن يحتسبا حتّى صارت الورِق اثنى عشر بدينار ، هل يصحّ ذلك له ؟ وإنّما هي بالسعر الأوّل حين قبض كان سبعة وسبعة ونصف


(388)
بدينار ؟ ... الخ » (1).
    وكذلك ينبغي أن تبحث المسألة في صورة ما إذا كان المال المقترض من العَرَض كالحنطةوالسكّر ، حيث أنّ قيمتهاتنخفض مرّة وترتفع اُخرى كما هو واضح.
    ثمّ إنّ ارتفاع القرض أو إنخفاضه وكذلك ارتفاع الذهب أو الفضّة أو انخفاضهما قد يكون سببه ظلم الإنسان لإخيه الإنسان في سلوكه الإقتصادي من احتكار أو غيره ، وقد يكون سببه من السماء ، كما إذا تحسّن المطر في سنة من السنين فكان الناتج جيّداً أو وافراً ، وقد يسوء المطر أو ينقطع في سنة اُخرى فيكون الناتج رديئاً أو قليلاً ، كما يمكن أن يكون ارتفاع سعر الذهب نتيجة قلّته في بعض البلدان ، ورخصه في مكان آخر نتيجة عثور تلك الدولة على مناجم له في أرضها.
    وكذلك نقول نفس الكلام في الأوراق النقديّة ، فقد ترتفع قيمتها نتيجة تحسّن الأوضاع الإقتصاديّة ، وقد تنزل قيمتها نتيجة تردّي الأوضاع الإقتصاديّة لأنّها اصبحت الآن بنفسها قيمة سوقيّة ، ويُقصد النقد بنفسه لأنّه مال ، وإن كان هذا المال اعتباريّاً ، وتدلّ عليه السيرة من قبل الناس والإعتبار في قياس قيمة كلّ شيء بالأوراق النقديّة ، ومعنى هذا أنّ النقد الورقي أصبح الآن عرضاً مطلوباً بنفسه وهو مال اعتباري.
    إذن المشكلة التي يجب أن تبحث ليست مقتصرة على النقد الورقي ، وليست مختصّة بتدهور القيمة إلى النزول ، بل يجب أن تبحث المسألة في كلّ نقد سواء كان ورقياً أو معدنيّاً ، كما يجب أن تبحث في حالة تدهورها أو تحسّنها ، لأننا نرى إمكان تحسّن قيمة النقد الذهبي أو الفضّي أو الورقي أمراً متصوّراً وواقعاً حتّى في هذا الزمان بالنسبة للأوراق النقديّة للدول المتقدّمة من الناحية الإقتصاديّة ، كاليابان وأمريكا وأمثالهما ... كما يجب أن تبحث المسألة في اقتراض القرض الذي قد تنزل قيمته ، وقد ترتفع للأسباب المتقدّمة.

     (1) وسائل الشيعة : ج 12 ، باب 9 من أبواب الصرف ، ح 1.
(389)
جواب المشكلة :
    إذا اقترض الفرد شيئاً من المثليّات المتقدّمة بأقسامها الثلاثة ، فبما أنّ القرض معناه : « تملّك الشيء مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً » أي حسب المدّة المتفقة بين الطرفين إن كانت. فهنا يكون المقترض قد أقدم على ضمان ما في ذمّته من هذا المثلي ، فلنفرض أن المقترض قد اقترض خمسة كيلوات من الحنطة لمدّة شهر واحد ، فهو مسؤول عن ضمان هذا المقدار المثلي بعد الشهر الواحد ، سواء كانت قيمة الحنطة قد ارتفعت نتيجة تدهور حالة الطقس وهجوم الجراد على المزارع ، أو كانت الدولة قد جمعت الحنطة لأجل تصديرها إلى دولة اُخرى ، أو قد جمعها المحتكر يترقّب بها الغلاء ، وقد تكون الحنطة قد تدهورت قيمتها نتيجة تحسّن الطقس وهبوط الأمطار الملائمة للزراعة ، أو استوردت الدولة كميّات كبيرة من الحنطة ، أو منعت وعاقبت المحتكرين فنزلت الحنطة من مستودعات المحتكرين إلى السوق. وكلّ الروايات الواردة في اقتراض المثليّات تؤكّد على وجوب ارجاع المثل ( بصفاته وقدره ) ، ولا توجد أي رواية تقول بوجوب ردّ عوض ما يمكن أن يشترى بالقرض في زمن القرض ، بل كلّ الروايات تقول بوجوب ردّ عوض القرض ( بصفاته وكميّته ). ونفس هذا الكلام نقوله بالنسبة للذهب والفضّة أو الأوراق النقديّة إذا كان أحدها هو المال المقتَرض. بل لا يخفى على علماء الإسلام أنّ وجوب ردّ أكثر ممّا اقترض من الناحية الكميّة أو من الناحية الوصفيّة هو الربا الذي نهانا عنه القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة ، فأنّى تذهبون ؟ !
    وقد يقال : إنّ الأوراق النقديّة أو الحنطة والسكر قد تنخفض قيمتها بعد شهر فيتضرّر المقرِض نتيجة معاملته هذه.
    والجواب : إنّ هذا الضرر على فرض تحقّقه ، هو الذي أقدم عليه فلا يكون مضموناً على المقترض ، كما إنّ العكس قد يكون صحيحاً ، إذ قد ترتفع قيمة الأوراق النقديّة أو الحنطة أو السكّر ، فهل يصح في هذه الصورة أن يقال


(390)
بوجوب أن يردّ المقترض أقلّ ممّا استقرض بحجّة إنّ القيمة الشرائيّة للمال المقترض قد ارتفعت ؟ !! (1).
    وعدم صحّة هذا القول : لأنّ القرض كما قلنا معناه « ردّ العوض » ، فإذا أخذ الفرد شيئاً ولم يردّ عوضه بل ردّ أكثر منه ، فهو قد ردّ « عوض ما يمكن أن يشتري به » ، وهذا ليس هو معنى القرض ، لأنّ القرض هو ردّ العوض المثلي ، لا رد ما يمكن أن يشترى به من أشياء.
    نعم في صورة عدم وجود المثل عند الأداء لسبب من الأسباب ، فهنا يجب على المقترض أن يردّ الأقرب للمثل ، وحينئذ يجب عليه أن يردّ القيمة وقت الأداء لأنّها أقرب إلى المثل.
    وأمّا إذا كان الشيء المقترض من القيميّات : فالقاعدة تقول بوجوب ردّ قيمة يوم قبضه ، لأنّ المقترض أقدم على ضمانه وردّه ، وبما أنّه ليس له مثل كما هو الفرض ، فهو مسؤول عن ردّ قيمته يوم تملّكه وهو يوم القبض.

تنبيهات :
    الأوّل : « كلّ الروايات توجب إرجاع نفس المال المقترَض ».
    عند مراجعتنا للروايات الواردة في القرض رأينا أنّها تشير إشارة عهديّة إلى وجوب رد المال المقترَض ، ومعنى ذلك أنّ كلّ الروايات تقول بأنّ المقترِض مسؤول عن ردّ ما أخذه من المقرِض ، والذي أخذه هو عبارة عن الشيء المثلي ( بكميّته وكيفيّته ) ، ولا توجد أي إشارة إلى وجوب رد قيمة ما يمكن أن يشترى به ، فلو كان وجوب ردّ ما يمكن أن يشترى به هو الحكم الشرعي لظهر ذلك في
     (1) حينما كنت أكتب هذا الموضوع كان سعر الذهب في إيران للمثقال الواحد ( 6700 ) تومان ، وعلى حين غفلة من الناس أصدرت الحكومة موافقتها على قبول إتفاقيه ( 598 ) الصادرة من منظمة الاُمم المتحدة ، وفجأة نزل الذهب فصار المثقال الواحد ( 4500 ) تومان ، ومعنى هذا تحسّن النقد الإيراني ، فهل نقول للمقترض قبل الإعلان بإرجاع أقل ممّا أخذ ؟ ! !