(391)
أسئلة الرواة وأجوبة الأئمّة أو النبي ( عليهم السلام ) ، فعدم انعكاس هذا في الروايات ولو على مستوى رواية واحدة يكون دليلاً كاشفاً عن أنّ إرجاع نفس المال المقترض سواء زادت قيمته السوقيّة أو نقصت هو المعتبر في عقد القرض.
    بل الروايات الكثيرة المتواترة من الطرفين تؤكّد أنّ أي زيادة على المال المقترض بالنسبة إلى المقرِض ( سواء كانت الزيادة عينيّة أم حكميّة ) هي ربا إذا كانت على وجه الإلزام من قبل المقرِض بواسطة الشرط.
    وإليك نموذج من الروايات :
    1 ـ موثّقة موسى بن بكر ، قال : قال لي أبو الحسن ( عليه السلام ) : « من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله ، فإن غلب عليه فليستدن على الله وعلى رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يقوت به عياله ، فإن مات ولم يقضه كان على الإمام ( عليه السلام ) قضاؤه ... » (1).
    فلم تقل الرواية كان على الإمام قضاء قيمته أو قضاء ما يمكن أن يشترى به ، بل قال : كان على الإمام ( عليه السلام ) قضاء نفس الدين وهو ما اقترضه بمكيّته وصفاته.
    2 ـ رواية إبراهيم بن محمّد الأشعري في كتابه بإسناده عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : « قبض علي ( عليه السلام ) وعليه دين ثمانمائة ألف درهم ، فباع الحسن ( عليه السلام ) ضيعة له بخمسمائة ألف فقضاها عنه ، وباع ضيعة له بثلاثمائة ألف فقضاها عنه ... » (2).
    وهذه الرواية قدصرّحت بوجوب وفاءنفس المال المقترض مع أنّ المال الفضّي قد تنزل قيمته وقد ترتفع ، إلاّ أنّ الواجب هو وفاء المثل لأنّه هو المال المقترض.
    3 ـ صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « إذا أقرضت الدراهم ثمّ
     (1) وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 90 من أبواب الدين ، ح 2.
     (2) وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 2 من أبواب الدين ، ح 11.

(392)
أتاك بخير منها فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط » (1).
    4 ـ وصحيحة عبدالرحمان بن الحجّاج ، قال : « سألت الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن الرجل يقترض من الرجل الدراهم فيردّ عليه المثقال أو يستقرض المثقال فيردّ عليه الدراهم ، فقال ( عليه السلام ) : إذا لم يكن شرط فلا بأس وذلك هو الفضل إنّ أبي ( عليه السلام ) كان يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد الجلال ، فيقول : يا بني ردّها على الذي استقرضتها منه ، فأقول : يا أبه إنّ دراهمه كانت فسولة ، وهذه خيرمنها ، فيقول : يا بني إنّ هذا هو الفضل فأعطه إيّاها » (2).
    وواضح من هذه الرواية أنّ رد الأجود والأكثر يجوز إذا لم يكن بشرط ، وأمّا إذا كان بشرط فهو الربا ، وما نحن فيه أيضاً من قبيل الربا ، لأنّنا نعطي مائة دينار ونلزم المقترض بأن يرجع منها بحجّة أنّ القيمة الشرائيّة للمائة دينار قد نزلت ، بينما هذه الروايات مطلقة ، فيما إذا تنزلت القيمة الشرائية أوْ لا فإنّها تقول بعدم جواز ردّ أكثر ممّا اقترض.
    الثاني : « شرع الله القرض للمحتاجين ، وجعل فيه ثواباً كثيراً ».
    لا يخفى أنّ المسلم ينبغي أن يلتفت إلى الروايات الواردة في الإهتمام بهذا العقد وإستحبابه ، ومن خلال هذه الروايات يتكلّم في أنّ المقرِض هل استفاد في عقده هذا أو خسر شيئاً ، حتّى إذا نقصت القيمة الشرائيّة للنقد او العرض ؟ ولا يجوز لنا أن نبحث هذه المسألة « كالرأسماليّين والإشتراكيّين » ، بعيدين عن فضل هذا العقد عند الله سبحانه وتعالى كما ذكرت ذلك الروايات ، لأنّنا نكون بهذا العمل قد فصلنا بين المذهب الذي يرتكز عليه تشريع القرض وبين نفس التشريع.
    فقد ورد في الروايات أنّ في القرض أجراً عظيماً ينشأ من معونة المحتاج
     (1) وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 12 من أبواب الصرف ، ح 3.
     (2) وسائل الشيعة : ج 12 ، ب 12 من أبواب الصرف ، ح 7.

(393)
تطوّعاً ، وكشف كربة المسلم حتّى روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « القرض الواحد بثمانية عشر وإن مات حسبتها من الزكاة » (1) ، بينما نحن نعلم أنّ درهم الصدقة بعشرة.
    وقد روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « لئن أقرض قرضاً أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثله » ، وكان يقول : « من أقرض مؤمناً وضرب له أجلاً فلم يؤت به عند ذلك الأجل كان له من الثوب في كلّ يوم يتأخّر عن ذلك الأجل بمثل صدقة دينار واحد في كلّ يوم » (2).
    وقد أكدت الروايات فضل هذا العقد بالنسبة للمؤمن حتّى قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « من أقرض مؤمناً قرضاً ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة ، وكان هو في صلاة من الملائكة حتّى يؤدّيه » (3). وقال أيضاً ( صلى الله عليه وآله ) : « من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوى وطور سيناء حسنات ، وإن رفق به في طلبه تُعدّي به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب ، ومن شكا إليه أخوه المسلم فلم يقرضه حرّم الله عزّوجلّ عليه الجنّة يوم يجزي المحسنين » (4). وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « وما من مسلم أقرض مسلماً قرضاً حسناً يريد به وجه الله إلاّ حُسب له أجره كأجر الصدقة حتّى يرجع إليه » (5).
    ومع النظر إلى هذه الروايات وما يكسبه الإنسان من الثواب الكثير على حسب عقيدته في أنّ هذه الدنيا طريق إلى الآخرة فهل يعدّ متضرّراً إذا نزلت قيمة
     (1) وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 6 من أبواب الدين ، ح 4.
     (2) المصدر السابق ح 1.
     (3) المصدر السابق ح 3.
     (4) وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 6 من أبواب الدين ، ح 5.
     (5) وسائل الشيعة : ج 13 ، ب 6 من أبواب الدين ، ح 1.

(394)
ما أقرضه ؟ على أنّ النزول أمر احتمالي في بعض الأوقات وبعض البلدان ، كما أنّ احتمال زيادة القيمة الشرائيّة أيضاً وارد إذا توّفرت أسبابه السماويّة أو الأرضيّة.
    إذن الواقع الفاسد الذي نعيشه نحن المسلمون ( من تطبيق النظم الرأسماليّة أو الإشتراكيّة ) في مجتمعنا يجب أن لا يجعلنا نغض النظر عن النصوص الشرعيّة ونأوّلها حتّى تنسجم مع الواقع الفاسد ( وهذا هو أوّل خطر نبّهنا عليه في المقدّمة ) فإذا كان الرأسمالي لا يعتقد بما يعتقد به المسلم من الجزاء والثواب في يوم القيامة على هذا العمل الذي شرّع للمحتاجين ، وكان الرأسمالي يبحث المسألة من ناحية نفعيّة ماديّة فقط ، فيجب أن لا ينساق المسلم ورائه في هذا المنهج العقيم ، إذ رسالتنا التي خطّها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تحتم علينا أن نربط بين أساس التشريع والتشريع لا أن نفصل بينهما ، على أنّ ما يقوله الرأسمالي هو نظر إلى شق واحد من المسألة وهي مسألة تنزل قيمة النقد ، أمّا الشقّ الآخر الذي هو أيضاً أمر متوقّع فلا ينظر إليه.
    الثالث : « الإقتراض لغير حاجة مكروه في الشريعة الإسلاميّة ».
    لا يخفى أنّ القرض لغير المحتاجين يكون ممّا نهى عنه الشارع المقدّس ، وحينئذ لا ينبغي للمسلم أن يقدم على قرض إذا لم يكن محتاجاً إليه ، وبهذا لا يكون للمقرِض في هذا القرض أي فضل يذكر ، فمن الروايات ما عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : « أعوذ بالله من الكفر والدَيْن قيل يا رسول الله أتعدل الدَين بالكفر ؟ قال : نعم » (1). وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً ، قال : « ما الوجع إلاّ وجع العين ، وما الجهد إلاّ جهد الدَين » (2). وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ أيضاً ـ قال : « إيّاكم والدَيْن ، فإنّه شين الدِين » (3). وقال علي ( عليه السلام ) : « إيّاكم والدَين فإنّه مذلّة بالنهار ومهمّة بالليل وقضاء في الدنيا
     (1) وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 1 من أبواب الدين ، ح 7.
     (2) المصدر السابق ح 9.
     (3) المصدر السابق ح 2.

(395)
وقضاء في الآخرة » (1). وقال علي ( عليه السلام ) : « إيّاكم والدين فإنّه همّ بالليل وذلّ بالنهار » (2). وهذه الروايات وإن كانت مطلقة لكلّ دين ، إلاّ أنّ الروايات السابقة في فضل الدين إذا كان لحاجة تخصّص هذه الروايات في صورة القرض لا لحاجة.
    إذن ، القرض الذي يستحصله التجّار لزيادة تجارتهم وأرباحهم ليس هو القرض الذي قالت عنه الروايات أنّه زكاة ، وأنّ الدرهم بثمانية عشر ، وهو القرض الذي يعود به الإنسان لرفع حاجته وحاجة عياله ، وإذا كان هذا القرض الذي لا لحاجة ليس فيه ثواب فلا حاجة للبنوك أن تفتح لها سجلاًّ وتطالب بالزيادة على ما تقرض بالحجّة المتقدّمة ، فإنّ هذا القرض ممّا نهي عنه شرعاً فلا حاجة إلى سلوكه وإن كان النهي كراهيّتاً.

المشكلة الثانية : (3)
    فهنا ـ أيضاً ـ لا نرى أي مشكلة تذكر حيث أنّ البائع عندما باع ورضي أن يكون الثمن مؤجلاً إلى سنة مثلاً ، فهو يحتمل على أقل تقدير أن تنخفض قيمة النقد أو العرض ، كما يحتمل أن ترتفع ، ومع هذا هو راض بأن تكون له في ذمّة المشتري هذه الكميّة من النقود أو العروض المثليّة أو القيميّة ، وحينئذ يكون احتمال انخفاضها وارتفاعها غير مضرٍّ بالعقد وصحّته ، ولا يضمن المشتري هذه القلّة المحتملة إن حدثت.
    ثمّ إنّ التاجر الذي يبيع شيئاً من التمر بكميّة من النقد الورقي بعد سنة مثلاً أو ستة أشهر ، فهو قد حسب حساب المدّة التي تكون فاصلة بين دفع التمر وبين إستلام النقد ، وبما أنّ للأجل قسطاً من الثمن فإنّ التاجر سوف يبيع تمره « الّذي
     (1) المصدر السابق ح 4.
     (2) وسائل الشيعة : ج 13 ، باب 1 من أبواب الدين ، ح 3.
     (3) « وهي كيفيّة الوفاء للثمن المؤجّل إذا تغيّرت قيمة النقد ».

(396)
يساوي خمسين ديناراً » بسبعين ديناراً يستلمها بعد ستّة أشهر مثلاً ، وبعد هذه العمليّة من قبل التاجر ، لماذا نقول يجب تدارك الضرر الذي وقع على البائع نتيجة نقصان الثمن بسبب التضخّم ؟ ! على أنّ التضخّم الذي نجده في بعض البلدان لا نقطع باستمراره على مدى السنين والأيّام ، إذ من الممكن أن يتحسّن اقتصاد الدولة ويكثر انتاجها فيقف التضّخم ، أو يتحسّن نقدها كما حدث لبعض بلدان العالم.
    وكما قلنا سابقاً ـ أيضاً ـ إنّ ازدياد قيمة النقد الذهبي أو الفضّي أو الورقي أو إزدياد قيمة القرض هو محتمل أيضاً نتيجة لفعل السماء أو فعل الإنسان ، فكما في صورة تحسّن قيمة النقد لا يكون المشتري مسؤولاً عن قيمة النقد سابقاً وإنّما هو مسؤول عن نفس النقد ، كذلك في صورة نقيصة قيمة النقد أو القرض يكون المشتري مسؤولاً عمّا في ذمّته من النقد أو القرض.
    ثمّ إنّ المشتري عندما يشتري شيئاً على أن يكون ثمنه مؤجلاً إلى ستّة أشهر ، ففي الحقيقة أنّ البائع يملك في ذمّة المشتري هذه الكميّة من النقود حين حلول الأجل ، ومعنى ذلك أنّه لا يملكها حين العقد ملكيّة مطلقة حتّى يستوجب أن يقول : إنّ قيمة هذه النقود حين العقد كان أكبر من القيمة الشرائيّة حين الأجل فيطالب بالزيادة على حسب القيمة الشرائيّة حين العقد ، إذ أنّه يملكها ملكيّة مقيّدة بالأجل « بعد ستة أشهر » فهو كأنّه يملك قيمة النقود حين الأجل ، لا حين العقد ، وبهذاتبطل المشكلة المتصوّرة هنابالكليّة ، وعلى فرض وجود تصوّر المشكلة نقول :
    إنّ البائع والمشتري أقدما على أن يكون المشتري ضامناً لكميّة النقد أو القرض ، وقد أقرّ الشارع هذه المعاملة ، ولا يوجد أي نص يقول إنّ على المشتري أن يدفع القيمة الشرائيّة للنقد أو للقرض فيتحمل النقص إذا نقصت القيمة الشرائيّة ، على أنّ لازم هذا القول أن نقول بأنّ القيمة الشرائيّة للنقد إذا تحسّنت فيجوز للمشتري أن يدفع أقل ممّا اتفقا عليه وإن لم يرض البائع ، وهذا ممّا لم يقل به أحد من الفقهاء.


(397)
إذن عدم وجود أي نص على وجوب أن يدفع المشتري القيمة الشرائيّة للثمن حين العقد ، ووجود الإمضاء الشرعي على وجوب رد نفس الثمن المتفق عليه بين الطرفين حين الأجل ، دليل على أنّ الواجب هو الأداء بنفس كميّة الثمن ( سواء كان نقداً أو عروضاً ) سواء نزلت القيمة الشرائيّة أو ارتفعت أو بقيت كذلك من دون زيادة أو نقصان.

الإستدلال بالأولويّة :
    ويمكن أن يستدلّ لما قلناه بالأولويّة المستخرجة من مسألة في الغصب أو الجحود وهي :
    مسألة : إذا غصب أحد من آخر مالاً أو جحده عليه ، ثمّ وقع بيد المجحود أو المغصوب مال الآخر فما هو الحكم ؟
    الروايات هنا كثيرة تقول بجواز أخذ مقدار المال المغصوب أو المجحود لا أكثر ، ومن هذه الروايات نفهم الحكم في القرض والبيع نسيئة ، إذ أنّ الصورة الاُولى وهي الصورة الغصبيّة والإعتدائيّة المحرّمة لم يُجِز الشارع إلاّ أخذ مقدار المال المغصوب أو المجحود لا أكثر ، فكيف بصورة القرض الذي حدث برضا المقرِض ولم يكن هناك اعتداء من المقترض ، وكذا الأمر في البيع الذي يكون فيه الثمن مؤجلاً ، إذن بالأولويّة يكون الحكم هو ردّ مثل المال المقترض أو قيمته وقت القرض. واليك الروايات :
    1 ـ صحيحة أبي العبّاس البقباق : « إنّ شهاباً ماراه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العبّاس فقلت له : خذها مكان الألف التي أخذ منك ، فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبدالله ( عليه السلام ) فذكر له ذلك ، فقال : أمّا أنا فأحب أن تأخذ وتحلف » (1).
    2 ـ صحيحة ابن مسكان عن أبي بكر الحضرمي ، قال : « قلت له ( للإمام
     (1) وسائل الشيعة : ج 2 ، باب 82 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.
(398)
الصادق ( عليه السلام ) ) رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي ؟ قال : فقال : نعم ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو ؟ قال : تقول اللّهمّ إنّي لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً » (1).
    3 ـ صحيحة محمّد بن عيسى ، عن علي بن سليمان ، قال : « كتبت إليه ( الإمام الكاظم ( عليه السلام ) أو الرضا ( عليه السلام ) ) رجل غصب مالاً أو جارية ، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه أيحلّ له حبسه عليه أم لا ؟ فكتب : نعم يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه ، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلّم الباقي إليه إن شاء الله » (2). وبما أنّ النقد الورقي في هذا الزمان هو مال فلا يفترق حكمه عن حكم أي عرض آخر سواء كان ذهباً أو غيره.

بحث اقتصادي ( تاريخ النقد )
    ثمّ إننّا لا بأس لنا أن نبحث المسألة بحثاً اقتصاديّاً فنقول :
    كان الإنسان في بداية حياته هو الذي يوفّر جميع ما يحتاج إليه من حاجات ، ولكن حين تنوعّت حاجات الفرد وتعدّدت السلع لم يكن ممكناً للإنسان الواحد أن ينتجها بكاملها ، ولذا اضطرّ المجتمع إلى تقسيم العمل بين الأفراد ، فأخذ كلّ فرد أو فئة بانتاج سلعة ما ، وبدأ الإنسان يعطي ما أنتجه ويأخذ ما أنتجه غيره إذا كان محتاجاً إليه. وهكذا وجدت المبادلة كوسيط بين الإنتاج والإستهلاك ، ولكن لهذه الحالة تعقيداتها ، إذ من الصعب تبادل المنتوجات مباشرة إذ أنّ صاحب الجمل إذا احتاج في حياته إلى صوف مثلاً فهو لا يستطيع الحصول عليه من منتج الصوف في
     (1) المصدر السابق ح 4.
     (2) المصدر السابق ح 9.

(399)
مقابل الجمل إلاّ إن كان صاحب الصوف بدوره محتاجاً إلى جمل وكان الصوف كثيراً بحيث يقابل قيمة الجمل ، وهكذا بقيّة الاُمور التي هي مورد حاجة الإنسان ، وحينئذ كان اختراع النقد الذهبي والفضّي علاجاً لهذه المشاكل ، فكان للنقد دوره الأصيل وهو :
    1 ـ القيام بدور المقياس العام للقيمة ، وأصبح من الميسور تقدير قيم السلع بسهولة.
    2 ـ أصبح أداة للمبادلة.
    وبهذا العلاج أصبح عندنا مبادلتان بدل المبادلة الواحدة ، فصاحب الجمل يبيع جمله بمائة دينار ، ثمّ يشتري بعشرة دنانير الصوف الذي يحتاجه. وبهذا زالت جميع صعوبات المقايضة ، وهذا هو الدور الأصيل للنقد.
    ولا بأس بالتنبيه إلى أنّ اختراع النقد كان بواسطة الإنسان ، والله سبحانه وتعالى خلق معدن الذهب والفضّة كبقيّة المعادن وبقيّة الأعراض ، ففيهما فائدة في نفسهما كبقيّة المعادن ، وحينئذ يكون الذهب والفضّة عرضاً من الأعراض ونقداً ، وبهذا يختلفان عن الأوراق النقديّة ، حيث أنّها تحمل صفة النقد ولا تحمل صفة العَرَضيّة ، ثمّ إنّ كلّ من قال بأنّ الذهب والفضّة خلقهما الله ثمناً وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ، لادليل له يقدّمه على كلامه بل الوجدان يقضي بخلاف ذلك ، إذ أنّهما زينة ويستعملان كعرض من الأعراض في حياة الإنسان المترفة كتزيين السقوف وصنع الأواني وأدوات الحلاقة وغير ذلك ممّا يحتاجه الإنسان من بقيّة المعادن.

خروج النقد عن دوره الأصيل :
    وقد خرج النقد الذهبي والفضّي عن دوره الأصيل الذي وجد لأجله وهو دور « المقياس العام للقيمة وأداة المبادلة » نتيجة ظلم الإنسان ، فحدثت مفاسد من هذا الأمر ، وتوضيح ذلك :


(400)
لقد استخدم النقد للقيام بدور طاريء لم يوجد لأجله وهو دور ( الإدخار والإكتناز ) فقد أخذ الإنسان يبيع سلعته لا لحاجة له بسلعة اُخرى يشتريها ، بل لأجل أن يحوّل سلعته إلى نقد يختزنه لوقت الحاجة ( إذ أصبح النقد هو الوكيل العام عن السلع ) ، وهذا معناه أنّ البيع لم يوجد لأجل الشراء المحتاج إليه في الإنتاج أو الإستهلاك ، وإنّما وجد البيع لأجل أن يمتص النقود فيختزنها ( إذ هي قابلة للإختزان من دون نقص في قيمتها ، ولا يحتاج إدخارها إلى نفقات بعكس إدخار السلع ) ، وهذاهوالدورالطاريءللنقدحيث أصبح النقدوسيطاًبين الإنتاج والإدّخار.
    ومعنى هذا الدور أن المشتري ـ الذي اشترى سلعة ودفع نقداً فادخره البائع ـ لم يتمكّن أن يبيع منتوجه ، لأنّ البائع قد اكتنز النقد وسُحِبَ من مجال التداول فظهر الإختلال في توازن العرض والطلب الذي كانا متساويين في عصر المبادلة.
    ثمّ إنّ الإختلال في توازن العرض والطلب يؤدّي إلى الكساد وعدم تصريف السلعة ، وهذا بدوره سوف يؤدّي إلى الإستغناء عن بعض العمّال وسدّ بعض المعامل فتحدث البطالة التي تعاني منها السوق الرأسماليّة.
    ثمّ لم تقف المفاسد عند هذا الحدّ ، إذ قد يأتي المحتكر الذي اكتنز النقد ، ويخلق طلباً كاذباً فيشتري كلّ أفراد السلعة من السوق لا لحاجة إليها بل ليرفع ثمنها ، أو يعرض السلعة بأثمان دون كلفتها بقصد إلجاء المنتجين والبائعين الآخرين إلى الإنسحاب من ميدان التنافس وإعلان الإفلاس ، وبهذا تصبح الأثمان غير حقيقيّة وتكون السوق تحت رحمة المحتكرين ، ويسقط آلاف المنتجين والبائعين الصغار فريسة المحتكرين الكبار.
    ثمّ يبقى المكتنز والمحتكر يبيع لأجل الإكتناز ، وبهذا يسحب النقد من مجال التداول وبهذا يقل الإستهلاك أو يتوقّف لإنخفاض المستوى الإقتصادي للجمهور ، وبهذا تقل أو تتعطّل حركة الإنتاج لعدم وجود القدرة الشرائيّة عند