(401)
الجمهور المستهلك ، فيعم الكساد البلاد.
    وبعد هذه المشاكل والمفاسد جاءت المفسدة الكبرى ، إذ أصبح النقد أداة لتنمية المال من طريق الفائدة « الكسب من دون عمل » ، فأخذ المكتنز يقرض ماله للأفراد بفائدة أو يودعه البنك فيحصل على الفائدة ، وبهذا أصبح النقد بعيداً عن دائرة الإنتاج لأنّ البنك أيضاً يقرض أمواله بفائدة ، وأصبح التاجر أو البنك لا يقدم على عمل تجاري أو صناعي إلاّ إذا اطمأنّ بأنّ ربحه أكثر من الفائدة التي يحصل عليها من دون عمل.
    ثمّ إنّ مجموع هذه المشاكل التي نتجت ( من دور النقد وظلم الإنسان ) جعلت زمام الاُمور بيد الرأسمالي ( صاحب الأموال ) وطبيعي أنّ الرأسمالي الظالم إذا سيطر على زمام الاُمور يجرّ المجتمع إلى ويلات كبيرة ذكرها علماء الإقتصاد ، وقد جاء في الحديث عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : « الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم » (1).

حلول الإسلام لمفاسد الدور الطاريء للنقد :
    على عكس الرأسماليّة التي تشجّع على الإدّخار والإكتناز والقرض بفائدة بتشريعها ، فيكون النقد أداة للتنمية من دون عمل ومن دون إستهلاك فيه ، فإنّ الإسلام يحارب أشدّ المحاربة أن يكون النقد أداة لتنمية المال ، فحرّم الفائدة تحريماً قاطعاً لا هوادة فيه ، وجعل ضريبة الزكاة على النقد الذهبي والفضّي المكتنز ، وحثّ على الإنفاق في مجال الإستهلاك والإنتاج ، فقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « إنّما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله ، ولم يعطكموها لتكنزوها » (2) ، وبهذا يكون الإسلام قد قضى على مشكلة
     (1) الكافي : ج 2 ، باب حبّ الدنيا والحرص عليها ، ح 6 ، ص 316.
     (2) الكافي للكليني : ج 4 ، باب وضع المعروف موضعه ، ح 5 ، ص 32.

(402)
من أهم مشاكل الإنتاج.
    وقد يقال : إذا لم يشجّع الإسلام على الإدّخار فسوف لن يتمكن المسلمون من إقامة وإدارة المشاريع الكبيرة في الإنتاج كما هي الحال في المجتمع الرأسمالي الذي يدير هذه المشاريع بواسطة تشجيعه على الإدّخار.
    والجواب : إنّ المجتمع الإسلامي يختلف عن المجتمع الرأسمالي حيث أنّ الثاني لم يقرّ إلاّ الملكيّة الخاصّة ، أمّا المجتمع الإسلامي فإنّه يقرّ بالإضافة إلى الملكيّة الخاصّة ، الملكيّة العامّة وملكيّة الدولة ، فيتمكّن أن يوضّف هذه الملكيّة العامّة ( كملكيّة المسلمين للأرض المفتوحة عنوة وكانت عامرة وقت الفتح ) ، وملكيّة الدولة ( كملكيّة الأنفال وغيرها ) في مشاريع الإنتاج الكبرى ، وتبقى للملكيّات الخاصّة المجالات التي تتسع لها ، وبهذا تكون المشاريع الكبرى ملكاً للمسلمين ككل أو ملكاً للمنصب ( منصب ولي الأمر ) ، وهاتان الملكيّتان الكبيرتان تعملان على إصلاح اُمور المسلمين.
    والآن وبعد هذه الإلمامة المختصرة في دور النقد الأصيل والطاريء ، والمفاسد التي تنجم عن الدور الطاريء للنقد ، وعلاج الإسلام لهذا الدور الطاريء ، نرجع إلى موضوعنا الذي نحن بصدده لنرى هل من المعقول مذهبيّاً أن يجيز الإسلام تنمية المال من غير طريق العمل ؟ وبعبارة اُخرى أنّ الذي يقرض غيره كميّة من النقد الذهبي أو الورقي إلى ستّة أشهر هل يحقّ له أن يأخذ منه أكثر ممّا دفع بحجّة أنّ القيمة الشرائيّة للمال المقترض سوف تنزل أو قد نزلت ؟
    والجواب : إنّ هذا حرام لا يجوز ، وذلك :
    1 ـ إنّ هذه الحجّة ( أنّ القيمة الشرائيّة قد تدهورت ) هي الحجّة التي يقولها مريدوا الربا من الرأسماليّين ، لأجل أن يصحّحوا أخذ الفائدة ، فإنّ أقوى مبرّرات الفائدة عند الرأسمالي أنّ الفائدة هي الفارق بين قيمة سلع الحاضر وقيمة سلع المستقبل ، حيث تعتقد الرأسماليّة أنّ للزمن دوراً إيجابيّاً في تكوين القيمة ، فالقيمة التبادلية للدينار اليوم أكبر من القيمة التبادليّة لدينار المستقبل ، وبهذا يكون القائل


(403)
بصحّة أخذ مقدار من المال زيادة على المال المقترض قبل ستّة أشهر بهذه الحجّة يكون قد قال بحليّة الربا الذي قد وقف منه القرآن وقفة صريحة وبارعة.
    2 ـ إنّ ضمن هذه الحجّة ( أنّ سلع الحاضر أكبر قيمة من سلع المستقبل ) أنّ الذي يشتري سيّارة مثلاً قبل سنة يتمكّن أن يبيعها بعد السنة أكثر ممّا اشتراها بالإضافة إلى فائدته التي استفادها منها ، وهذا الربح قد أقرّه الإسلام باعتبار أنّ ملكيّة السيّارة عبارة عن ملكيّة لعمل مختزن في السيّارة ، فزيادة المال عن طريق العمل المختزن شيء قد أقرّه الإسلام ، ونحتمل أيضاً أنّ إستهلاك السيّارة في ضمن السنة قد ينزل من قيمة السيّارة في مقابل ما استفاده منها ، أمّا بالنسبة للكسب الذي لم يقف على عمل مباشر أو مختزن فهذا لا يقرّه الإسلام من الناحية المذهبيّة ، والفائدة على النقد من هذا القبيل لأنّها ـ كما قالوا ـ نتيجة عامل الزمن من دون عمل منفق ، فإنّ المقرض للمال إذا أخذ نفس ماله الذي قد أقرضه وزيادة فيكون قد كسب من دون عمل مباشر أو مختزن ، وهذا لا يقرّه الإسلام.
    3 ـ يلزم أن يقول ـ القائل بصحّة أخذ مقدار أكثر من المال المقترض نتيجة تدهور القوّة الشرائيّة للمال المقترض ـ بأنّ على المقرض أن يقبل أقل ممّا أقرض إذا زادت القوّة الشرائيّة للمال المقترض في بعض الحالات ، وهذا لم يقله أي فقيه حسب علمنا.
    4 ـ إنّ تدهور القيمة الشرائيّة للنقد ليس شيئاً حتميّاً وقياساً ثابتاً حتى نتمكّن أن نقول من أوّل الأمر وحين العقد بأنّ المائة دينار تكون قيمتها الشرائيّة بعد ستّة أشهر مثلاً مائة وعشرين ديناراً ، بل إنّ الأمر قد يكون واحداً في هذه الستة أشهر بالنسبة للمائة دينار ، وقد يتحسّن النقد في ضمن الستة أشهر كما قد يتدهور ، إذن احتمال النقيصة يقابله احتمال الزيادة ، فهل يجوز لنا ان نقول حين العقد للمقترض بأنّه يجب عليك أن تسدّد مائة وعشرين ديناراً بعد ستّة أشهر بحجّة أنّ القوّة الشرائيّة للمائة دينار قد انخفضت ؟ ! مع أنّنا نحتمل الإنخفاص ليس إلاّ ،


(404)
أليس يكون هذا قول بلا علم ؟ ! وقد نهانا الله سبحانه وتعالى من القول بلا علم.
    5 ـ إذا أقرضت كميّة من القرض ( كيلو من البطيخ ) وكان هذا القرض يساوي كلّ كيلوات منه خمسة كليوات من الحنطة ، فعند السداد إذا كان كلّ كيلو منه يساوي كيلوواحدمن الحنطة فحينئذ ـ إذاقلناأنّ القيمة الشرائيّة قدتدهورت للبطيخ والمقترض مسؤول عن أداء القيمة الشرائيّة حين القرض ـ يجب على المقترض أن يدفع خمس كليوات من البطيخ إلى المقرِض ، وهذا لم يقل به أحد حسب علمنا.
    وإذا أردنا أن نسيرهذا السيرفسوف يوجد عندنا فقه لم يقله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ثمّ إننا نرى وجوب أن تعالج المسألة علاجاً أساسيّاً ، بمعنى أننا لا يصح لنا أن نقبل حقيقة هبوط النقد من دون معالجة ، ونريد أن نصحّح العقود القائمة حين تحقّق هذه الحقيقة ، بل اللازم علينا أن نتنبّه إلى العوامل التي تؤدّي إلى هبوط النقد بصورة مستمرّة فنعالجها ، وحينئذ نقضي على أساس المشكلة التي تعاني منها العقود القرضيّة والبيع المؤجّل الثمن القائم مع تحقّق هذه الحقيقة ، فنقول :

لماذا تتدهور قيمة النقد ( الورقي والذهبي ) ؟
    الجواب : إنّ تدهور قيمة النقد هو ما يسمّى في عرف الإقتصاديّين بالتضخّم ، ومعناه هو إرتفاع متواصل في الأسعار ، بينما تكون السلع هي السلع من دون تغيير.
    وإذا بحثنا كثيراً عن سبب التضخّم فلا نقع إلاّ على هذا السبب وهو « قلّة الإنتاج وزيادة الإنفاق » ، فعندما يكون الإنفاق كثيراً معنى ذلك وجوب طلب كثير على السلع وحينئذ إذا لم يكن الإنتاج بقدر الطلب ترتفع الأسعار للسلع ، وهذا معنى تدهور النقد « انخفاض متواصل في قيمة النقد » (1).
     (1) إنّ السبب التضخم العادي هو ما قلناه ، وهو السبب أيضاً في حالات طارئة كما إذا وجدت حرب في بلد معيّن ، وكان الإنفاق بقدر الإنتاج أو أقل ، ولكن مع هذا قد يحصل التضخّم بتقريب أنّ أكثر ما تنتجه الدولة من سلع وتحوّلها بعد ذلك إلى نقد يحترق في ساحات القتال ، وبهذا يكون الطلب مع وجود الحرب أكثر من الإنتاج ، وبهذا رجع السبب الأصيل للتضخّم هو انَّ الإنفاق أكثر من الإنتاج.
(405)
ثمّ إذا بحثنا كثيراً عن سبب قلّة الإنتاج ، فالسبب الواضح هو ( الفائدة ) التي شرّعها النظام الرأسمالي ، فجعلت الإنسان يسحب أمواله من مجال الإنتاج ويجعله في مجال الفائدة ليدرّ عليه النقد ربّما من دون خسارة ولا أي جهد من العمل ، وحينئذ يكون الإنتاج قد انخفض ، بينما الإنفاق على حسب قوّته أو أكثر فيحصل التضخّم.
    وفي خصوص النقد الورقي قد تعمد الدولة إلى طبع كميّة من الأوراق النقديّة لتخفّف الديون الداخليّة المتراكمة عليها ، وهذا بدوره يؤدّي إلى زيادة طلب الإنفاق مع أنّ الإنتاج على حاله من القلّة ، فيحصل التضخّم أيضاً.

المعالجة :
    ولأجل أن نبقي النقد على حالة من الثبات ، فما علينا إلاّ أن نحرّم الربا ، وحينئذ سوف تتجّه الأموال تلقائيّاً إلى الإنتاج ، فيكثر حتّى يصير بقدر الطلب ، وبهذا سوف لا تنحط قيمة النقد الورقي ، بل قد تتحسّن كما في صورة زيادة الإنتاج على الطلب ، وبهذا لا تكون عندنا أي مشكلة من ناحية انحطاط قيمة النقد ، ولا أدري هل في هذه الصورة تثار مشكلة زيادة قيمة النقد من ناحية المقترض أم لا ؟
    ثمّ إذا كان المجتمع يعمل بنظام الفائدة ، فسوف يكون الإنتاج بطبيعة الحال قليلاً ، فيحصل التضخّم ، ومع هذا فإن تقدّم إنسان بالقرض لصاحبه ، فهو يكون قد خاطر بماله ( أي كمن أقرض حنطة مثليّة مثلاً ، أو خياراً مثليّاً في أول نضوجه على أن يستلمه حين كثرة الحنطة أو الخيار ) هل يجوز لهذا المخاطر بحاله أن يطلب منفعة لقاء مخاطرته هذه ، فيطلب من المقترض أن يدفع إليه نتيجة هذه المخاطرة أكثر ممّا دفع ؟
    وللإجابة على هذا التساؤل لابدّ لنا من معرفة معنى المخاطرة أوّلاً ، وهل


(406)
يجوز للإنسان أن يطلب تعويضاً على أساسها ثانياً ؟
    فنقول : المخاطرة هي حالة شعوريّة خاصّة تغمر الإنسان وهو يحاول الإقدام على أمر يخاف عواقبه ، فإمّا أن يتراجع انسياقاً مع خوفه ، وإمّا أن يتغلّب على دوافع الخوف ويواصل تصميمه ، فيكون هو الذي رسم لنفسه الطريق ، واختار بملأ إرادته تحمّل مشاكل الخوف بالإقدام على مشروع يحتمل خسارته مثلاً.
    وعلى هذا فلا تكون المخاطرة سلعة يقدمها المخاطر إلى غيره حتّى يطلب ثمنها.
    ولا تكون عملاً ينفقه المخاطر على مادّة ليكون من حقّه تملّكها أو المطالبة بأجر على ذلك من مالكها ، وحينئذ لا يحقّ للمخاطر أن يطالب تعويضاً ماديّاً على خوفه مادام خوفه شعوراً ذاتيّاً.

المخاطرة تقييم خلقي :
    إنّ المخاطرة قد تكون ذا أهميّة كبيرة من الناحية النفسيّة والخلقيّة ، ولكن كلامنا نحن ليس كلاماً نفسيّاً أو خلقيّاً ، وإنّما هو كلام فقهي اقتصادي ، فالمخاطرة من الناحيّة الإقتصاديّة لا تستحق ثمناً ، نعم من الناحية الخلقيّة تكون ذا أهميّة كبيرة قد تستدعي أخلاقيّاً أن يكون المخاطر مستحقّاً للثناء والمال ، وهذا شيء لا نتكلّم عنه الآن مادام البحث اقتصاديّاً.

تصحيح أخطاء :
    لقد وقع كثير من المفكّرين المتأثرين بالتفكرين الرأسمالي المذهبي في خطأ حيث زعموا أنّ الربح في عقد المضاربة لصاحب المال إنّما يقوم على أساس المخاطرة ، حيث إنّ صاحب المال قد عرّض نفسه للخسارة بدفعه المال إلى العامل ليتجر به ، فكان على العامل أن يكافئه على مخاطرته بنسبة مئويّة من الربح يتفقان عليها حين العقد ، وقد يقال أيضاً أنّ الربح الذي يحصل عليه صاحب المال هو عبارة عن ربح لم يكن في مقابل عمل مباشر ولا مختزن ، لأنّ المال الذي دفعه


(407)
يرجع إليه في آخر الأمر من دون نقيصة في كميّته وصفته بخلاف الدار التي آجرها وهي عبارة عن عمل مختزن ، إذ ترجع إليه مع إستهلاك لها بعد عقد الإجارة ، وما هذا الربح الذي يحصل عليه صاحب المال إلاّ ربحاً في مقابل مخاطرته بماله.
    والجواب : إنّ الربح الذي يحصل عليه صاحب المال ليس قائماً على أساس المخاطرة ، وإنّما يستمد مبرّره من ملكيّة صاحب المال للسلعة التي اتّجر بها العامل ، فإنّ السلعة التي اشتراها العامل وزاد في قيمتها نتيجة نقلها وجعلها بين يدي المستهلك ، تبقى هي ملكاً لصاحب المال ، وبهذا يكون حق لصاحب المال في الربح نتيجة ملكه السلعة التي اشتراها العامل وزاد في قيمتها بعمله ، كحقّ مالك الألواح إذا جعلها آخر سريراً ، فإنّ الربح يكون لهما معاً ، ويوجد عندنا شاهد لما نقول وهو التشريع القائل : أنّ الخسارة إذا حصلت في هذا العقد فهي إنّما تكون على صاحب المال ، وما ذاك إلاّ لأنّ السلعة أصبحت له فخسارتها عليه.
    ثمّ ماذا يقول المتأثّرون بالتفكير الرأسمالي في صورة ما إذا لم يمارس صاحب المال أي لون من ألوان المخاطرة ، كما إذا اتّجر شخص بأموال أخيه من دون علمه ، وربح في تجارته ، فهنا من الناحية الشرعيّة بإمكان صاحب المال أن يوافق على هذا العمل الفضولي ويقرّه ويستولي على الأرباح ، كما أنّ من حقّه أن يعترض ويستحصل على ماله أو ما يساويه من العامل في صورة الربح أو في صورة الخسارة من قبل الأخ ، لأنّ ماله مضمون على العامل ، وحينئذ يكون المخاطر هنا هو العامل ، لإقدامه على ضمان المال عند الخسارة.
    إذن ليس حقّ صاحب المال في الربح ناتجاً عن المخاطرة ولا تعويضاً عنها.

حالات مخاطرة ألغى الشارع الكسب بها :
    1 ـ الربا : فقد اعتاد الكثير من الباحثين على تفسير القرض بفائدة على أساس المخاطرة ، لأنَّ المقرض عندما يقرض ماله يكون قد أقدم على نوع من المغامرة التي قد تفقده ماله إذا عجز المدين في المستقبل عن الوفاء ، وحينئذ كان من


(408)
حق الدائن أن يحصل على أجر ومكافأة له على مغامرته بماله وهذه المكافأة هي الفائدة.
    والحق والإنصاف أنّ هذا العمل من قبل الدائن يعد مخاطرة في هذه الصورة (1) ، إلاّ أنّ الشارع المقدّس لم يقرّ هذا اللون من التفكير في نمو المال ، ولهذا حرّم الفائدة تحريماً قاطعاً.
    2 ـ القمار : كما أنّ الإسلام حرّم القمار وحرّم الكسب القائم على أساسه ، وهذا جانب آخر يبرهن على الموقف السلبي للشريعة الإسلاميّة من عنصر المخاطرة ، حيث أنّ الكسب في القمار لا يقوم على أساس عمل من أعمال الإنتفاع والإستثمار ، وليس هو عمل مختزن بحيث يقل عند إستعماله كما في صورة إجارة البيت ، وإنّما القمار مغامرة بمال الإنسان لتقديمه لصاحبه إذا خسر الصفقة.
    3 ـ شركة الأبدان : كما الغى بعض الفقهاء « الشركة في الأبدان » من الإعتبار الشرعي ، والمراد بالشركة في الأبدان : أن يتفق اثنان أو أكثر على ممارسة كلّ واحد منهم عمله الخاص على أن يشتركان فيما يحصلان عليه من مكاسب.
    والغاء هذه الشركة يتفق مع الموقف السلبي العام للشريعة الإسلاميّة من عنصر المخاطرة ، حيث أنّ الكسب فيها يقوم على أساس المخاطرة لا العمل ، فإنّ كلّ واحد من العاملين يحتمل أنّ اُجور صاحبه سوف تزيد على اُجوره ، فيقدم على الشركة موطناً نفسه عن التنازل عن شيء من اُجوره إذا زادت على اُجور صاحبه ، في سبيل أن يحصل على شيء من اُجور صاحبه في حالة تفوّق شريكه عليه ، وحينئذ يكون من حقّ الأقل دخلاً أن يحصل على جزء من كسب الأكثر دخلاً لأنّه غامر وأقدم على دفع شيء من كسبه إذا كان أكثر من صاحبه ، إذن كسب الأقل دخلاً يقوم على أساس المخاطرة ولا يرتكز على عمل.
     (1) يتمكّن الدائن أن يرفع هذه المخاطرة من أوّل العقد كأن يأخذ رهناً على ماله ، أو يطلب ضامناً متمولاً.
(409)
الإسلام لا يقرّ كسباً غير مرتبط بعمل مباشر أو مختزن :
    ومن الفتاوى المتقدّمة وغيرها المماثلة لها يرى الإسلام أن العمل هو سبب لملكيّة العامل نتيجة العمل. وهذا تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملّك نتائج عمله ، ومردّ هذا الميل إلى شعور كلّ فرد بالسيطرة على عمله ، وبالنتيجة إلى نتائج عمله ومكاسبه ، وبهذا يصحّ لنا أن نقول من وجهة نظر إسلاميّة « أنّ العمل سبب الملكيّة » ، هذا ما نقوله في العمل المباشر.
    أمّا العمل المختزن : كما في صورة البيت الذي أملكه ، وكذا السيّارة وبقيّة السلع ، فإنّها عمل قد اختزن بصورة سلعة ، حيث أنني عندما اشتريت السيّارة أو البيت أكون قد حوّلت عملي المباشر الذي حصلت منه على المال إلى عمل مختزن ، وبهذا يصحّ لي أن أكسب بواسطة إجارة البيت أو السيّارة ، فإنّ الكسب هنا كسب قائم على العمل المختزن ، وفي مقابل كسبي من هذا العمل المختزن فإنّ السيّارة تستهلك وكذا البيت.
    وأمّا الكسب من دون عمل مباشر أو مختزن فهو محرّم في الشريعة الإسلاميّة. خذ إليك هذا المثال : إذا استأجرتُ بيتاً بمائة دينار ، ثمّ أجرت نصفاً منه بمائة دينار إلى شخص آخر ، فأكون أنا قد انتفعت من دون عمل مباشر ولا مختزن ، إذ قد حصلت على سكنى البيت مجّاناً ( مع أنّ صاحب البيت لم يقدّم لي المنفعة بالمجّان ) ، ومادمنا نتكلّم في مجال الإقتصاد والكسب ، فإنّ هذا الكسب لا يجوز وقد حرّمه علماء الإسلام.
    ومن هذه النظريّة المذهبيّة نفهم أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ انّ المقرض لأخيه شيئاً إلى ستّة أشهر ، إذا أردنا أن يأخذ أكثر ممّا أقرض بحجّة أنّ القيمة الشرائيّة قد انخفضت ، فإنّ هذا الإنسان لو لم يقرض مبلغه هذا إلى غيره ، والمفروض أنّه لم يقحمه في عمل مختزن ، فالمفروض أن مبلغه قد انخفض نتيجة لإنخفاض جميع العملة ، فإذا أراد أن يأخذ شيئاً من المقترض حتّى يحافظ على عدم


(410)
تدهور نقده بالخصوص ، فيكون قد كسب ( أخذ أكثر ممّا يجب أن يأخذ ) من دون عمل مباشر أو مختزن.
    ثمّ إنّ كلّ ما قلناه في القرض ، نقوله في البيع المؤجّل ثمنه ، بالإضافة إلى أنّ هذا البائع له خيار أن يبيع بأكثر من الثمن الحالي تحسّباً لنزول النقد ، كما أنّ المشتري له حقّ أن يشتري بأقلّ من ثمن المثل تحسّباً لإرتفاع النقد ، وهذا هو المتعارف عند البيع نسيئة ، فتنتفي المشكلة من الأساس ، بخلاف القرض ، فإنّ المقرِض لا يتمكّن من الزيادة على ما أقرض.

تنبيه :
    يتمكّن المقرض إذا كان شخصاً أو جهة ـ كالبنك ـ أن يمتنع من أن يقرض نقده الورقي وله أن يقرض ذهباً أو عرضاً كالسكّر والحنطة ، وحينئذ إذا نقصت قيمة النقد الورقي فهو لا يمسّه أي ضرر لأنّه يأخذ مثل ما أعطى ، ولكن قد تنشأ نفس المشكلة حينما ينخفض سعر الذهب نتيجة عوامل معيّنة ، فيقول المقرِض أنا أقرضتك ذهباً تساوي قيمته كذا مقداراً من الدينار ، والآن ترجع لي ذهباً تكون قيمته الشرائيّة أقل ، فهل يتمكّن المقرض من الزام المقترض بأكثر ممّا أعطى من الذهب ؟ ! والجواب هو عدم الجواز هنا ، فكذا بالنسبة للنقد الورقي لأنّه مال مثلي ؟ والمقترض مسؤول عن إعطاء مثل ما أخذ منه.
    إذا كان المقرِض لا يدفع ما اقترض مع تموّله وعناده : وافترضنا أنّ القيمة النقديّة قد تدهورت نتيجة فعل السماء أو الإنسان ، ففي هذه الحالة يكون الفرد قد فعل حراماً لعد وفائه في هذه الحالة ، ولكن هل يضمن تنزل قيمة النقد ؟
    الجواب : لا يجب الضمان لأنّ المقترض أقدم على ضمان المال ، وهو بعد ذلك يدفع المال كاملاً من دون نقيصة في كميّته أو صفته ، فلماذا يكون ضامناً لضرر المقترِض ؟
    وإذا لاحظنا أنّ سبب الضمان في الشريعة الإسلاميّة يكون بأحد حالين :