حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: 211 ـ 220
(211)
ويكتبن عليهنّ بصفائح الذهب (1) وقد كان عند الرشيد زهاء ألفي جارية ، وعند المتوكل أربعة آلاف جارية (2) وقد زار الرشيد في يوم فراغه البرامكة فلمّا أراد الانصراف خرجت جواريهم فاصطففن مثل العساكر صفّين صفّين ، وغنين وضربن بالعود ونقرن على الدفوف إلى أن طلع مقاصير القصر (3) وكان عند والدة جعفر البرمكي مائة وصيفة لباس كلّ واحدة منهنّ وحليّها غير لبوس الأخرى وحليّها (4) لقد كان اقتناء الجواري بهذه الكثرة من نتائج وفرة المال وكثرته عند هذه الطبقة الرأسمالية التي حارت في كيفيّة صرف ما عندها من الأموال.

    التفنّن في البناء :
    وتفنّن ملوك بني العباس في بناء قصورهم ، فأشادوا أضخم القصور التي لم يشيّد مثلها في البلاد وقد بنوا في بغداد قصر الخلد تشبيهاً له بجنّة الخلد التي وعد الله فيها المتقين ، وكان من أعظم الأبنية الإيوان الذي بناه الأمين ، وقد وصفه المؤرخون بأنّه جعله كالبيضة بياضاً ثمّ ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازورد ، وكان ذا أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيه مسامير الذهب التي قمعت رؤوسها بالجوهر النفيس وقد فرش بفرش كأنّه صبغ بالدم وقد نقش بتصاوير من الذهب ، وتماثيل العقيان ، ونضّد فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد (5) وقد أنفق جعفر البرمكي على بناء داره نحواً من عشرين مليون درهم (6) ، وقد تفنّن الناس في بناء القصور وقد وصفها
1 ـ حضارة الإسلام : ص 98.
2 ـ الأغاني : ج 9 ص 88.
3 ـ حضارة الإسلام في دار الإسلام : ص 96.
4 ـ الجهشياري : ص 246.
5 ـ طبقات الشعراء لابن المعتزّ : ص 209.
6 ـ تاريخ الطبري : ج 10 ص 92.


(212)
ابن الجهم بقوله :
صحون تسافر فيها العيون وقبّة ملك كأنّ النجو فوارة ثأرها في السماء إذا أوقدت نارها بالعراق ترد على المزن ما أنزلت لها شرفات كأنّ الربيع وتحسر عن بعد أقطارها م تصغي إليها بأسرارها فليست تقصر عن ثأرها أضاء الحجاز سنا نارها على الأرض من صوب أقطارها كساها الرياض بأنوارها (1)
    وبلغ البذخ والترف في ذلك العصر أنّ كثيراً من أبواب الدور في بغداد كانت من الذهب في حين أنّ الأكثرية الساحقة كانت تشكو الجوع والحرمان.

    أثاث البيوت :
    وحفلت قصور العباسيين بأنواع الأثاث وأفخرها في العالم ، ويقول المؤرخون : إنّ السيدة زبيدة قد اصطفت بساطاً من الديباج جمع صورة كلّ حيوان من جميع الأجناس ، وصورة كلّ طائر من الذهب ، وأعينها اليواقيت والجواهر يقال إنها أنفقت على صنعه مليون دينار (2) ، كما اتّخذت الآلة من الذهب المرصّع بالجوهر ، والأبنوس ، والصندل عليها الكلاليب من الذهب الملبّس بالوشي والديباج ، والسمور ، وأنواع الحرير ، كمثل اتّخاذها شمع العنبر ، واصطناعتها الخفّ مرصّعاً بالجوهر واتّخاذها الشاكرية (3).
    أما مجالس البرامكة فكانت مذهلة ، فكان الرشيد إذا حضر مجالس البرامكة
1 ـ ضحى الإسلام : ج 1 ص 127.
2 ـ حضارة الإسلام : ص 95 ، نقلاً عن المستطرف : ص 96.
3 ـ حضارة الإسلام : ص 95.


(213)
وهو بين الآنية المرصّعة والخزائن المجزعة ، والمطارح من الوشي والديباج والجواري يرفلن في الحرير والجوهر ، ويستقبلنه بالروائح التي لا يدري لطيبها ما هي ، خيّل إليه أنّه في الجنة بين الجمال والجوهر والطيب (1).

    الثياب :
    وكان من نتائج بذخ العباسيين وترفهم ما ذكره ابن خلدون أنه كانت دور في قصورهم لنسج الثياب تسمّى دور الطراز ، وكان القائم عليها ينظر في أمور الصنّاع وتسهيل آلاتهم وإجراء أرزاقهم (2).

    ألوان الطعام :
    وتعدّدت ألوان الطعام بسبب تقدّم الحضارة فقد روى طيفور عن جعفر بن محمد الأنماطي أنّه تغذّى عند المأمون فوضع على المائدة ثلاث مائة لون من الطعام (3) ونظراً لتعدّد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم ممّا اضطرّهم إلى شدّها بالذهب للعلاج (4).

    مخلفات العباسيين من الأموال :
    وخلّف ملوك بني العباس ووزرائهم من الأموال ما لا يحصى ، وفيما يلي بعض ما تركوه :
    1 ـ مخلفات المنصور :
    وترك الطاغية البخيل المنصور الدوانيقي من الأموال التي سرقها من المسلمين
1 ـ حضارة الإسلام : ص 96.
2 ـ المقدمة : ص 267.
3 ـ تاريخ بغداد لطيفور : ص 36.
4 ـ التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية لصالح أحمد : ص 177.


(214)
ما يقرب من ( 600 ستمائة مليون درهم ) و ( 14 أربعة عشر مليون دينار ) (1) وقد كدّس هذه الأموال الهائلة في خزائنه وترك الفقر والبؤس يهيمنان على جميع أنحاء البلاد الإسلامية.
    2 ـ مخلّفات الرشيد :
     من المال ما يقدّر بنحو ( 900 تسعمائة مليون درهم ) (2).
    3 ـ مخلفات الخيزران :
    وتوفيت الخيزران أمّ الرشيد ، فكانت غلّتها ألف ألف وستّين ألف درهم (3).
    4 ـ مخلّفات عمرو بن سعدة :
    وترك عمرو بن سعدة أحد وزراء المأمون ما يقرب من ثمانية ملايين دينار فأخبروا المأمون بذلك في رقعة فكتب عليها ( هذا قليل لمن اتّصل بنا ، وطالت خدمته لنا فبارك الله لولده فيه ) (4).
    ومعظم هذه الأموال قد اختلست من المسلمين ، ونهبت من الخزينة المركزية.
    وقد خالفوا بذلك ما أمر به الإسلام من الاحتياط الشديد في أموال المسلمين وعدم صرفها وإنفاقها إلاّ في صالحهم .. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الحياة الاقتصادية في عصر الإمام ( عليه السلام ).

    حياة اللهو والطرب :
    وعاش أكثر خلفاء بني العباس عيشة لهو وطرب ومجون ، ليس فيها ذكر لله ولا لليوم الآخر ، لقد قضوا أيامهم في هذه الحياة التافهة التي تمثّل السقوط والانحطاط ، يقول الشاعر في بعض خلفائهم :
1 و 2 ـ أمراء الشعر العربي : ص 45.
3 ـ الإسلام والحضارة العربية : ج 2 ص 230.
4 ـ الإسلام والحضارة العربية : ج 2 ص 231.


(215)
خليفة في قفص يقول ما قالا له بين وصيف وبغا كما تقول الببغا
    وقد روى أحمد بن صدقة قال : دخلت على المأمون في يوم السعانين (1) وبين يديه عشرون وصيفة جلباً روميات مزنرات قد تزيّنّ بالديباج الرومي وعلّقن في أعناقهنّ صلبان الذهب ، وفي أيديهنّ الخوص والزيتون ، فقال المأمون : ويلك يا أحمد قد قلت في هؤلاء أبياتاً فغنّي فيها ثمّ أنشده :
ظباء كالدنانير جلاهنّ السعانين وقد رزقن أصداغاً وأقبلن بأوساط ملاح في المقاصير علينا في الزنانير كأذناب الزرازير كأوساط الزنابير
    فغنّاه بها فلم يزل يشرب ، وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص (2). وقد حفلت كتب التاريخ والأدب بالشيء الكثير من مجونهم وطربهم وانشغالهم عن النظر في أمور المسلمين بالدعارة والفجور.
    وكان من مظاهر الحياة اللاهية لعبهم بالنرد والشطرنج ، والعناية بتربية الحمام والمغالاة في أثمانه (3) كما تهارشوا بالديوك والكلاب (4) ولعبوا بالميسر وقد انتشر ذلك حتى في حانات الفقراء (5).
1 ـ يوم السعانين : عيد للنصارى.
2 ـ الأغاني : ج 19 ص 138.
3 ـ حياة الحيوان : ج 3 ص 91.
4 ـ الأغاني : ج 6 ص 75.
5 ـ حياة الحيوان : ج 5 ص 115.


(216)
ومن المؤسف أنّ الطرب والمجون قد سرى إلى بعض المحدّثين الذين يجب أن يتّصفوا بالإيمان والاستقامة فقد ذكر الخطيب البغدادي عن المحدث محمد بن الضوء إنّه ليس بمحلّ لأن يؤخذ عنه العلم؛ لأنه كان من المتهتّكين بشرب الخمر والمجاهرة بالفجور ، وكان أبو نواس يزوره في الكوفة في بيت خمّار يقال له جابر (1).

    التقشّف والزهد :
    وبجانب حياة اللهو والطرب التي عاشها الناس في عصر الإمام أبي جعفر ( عليه السلام ) فقد كانت هناك طائفة من الناس قد اتّجهت إلى الزهد والتقشّف ونظرت إلى مباهج الحياة نظرة زهد واحتقار ، فكان من بينهم إبراهيم بن الأدهم وهو ممّن ترك الحياة الناعمة وأقبل على طاعة الله وكان يردّد هذا البيت :
اتّخذ الله صاحباً ودع الناس جانبا
    وكان يلبس في الشتاء فرواً ليس تحته قميص (2) مبالغة منه في الزهد وكان ممّن عُرِف بالتقشّف معروف الكرخي فكان يبكي وينشد في السحر :
أي شيء تريد منّي الذنوب ما يضرّ الذنوب لو اعتقتني شغفت بي فليس عنّي تغيب رحمةً بي فقد علاني المشيب (3)
    وكان من زهّاد ذلك العصر بشر بن الحارث وهو القائل :
قطع الليالي مع الأيام في خلق أحرى وأعذر لي من أن يقال غداً قالوا : قنعت بذا؟ قلت : القنوع غنى والقوم تحت رواق الهمّ والقلق إنّي التمست الغنى من كفّ مختلق ليس الغنى كثرة الأموال والورق

1 ـ الأوراق : ص 61.
2 ـ حلية الأولياء : ج 7 ص 367 ـ 373.
3 ـ حلية الأولياء : ج 2 ص 181.


(217)
رضيت بالله في عسري وفي يسري فلست أسلك إلاّ أوضح الطرق (82)
    ومن الطبيعي أنّ هذه الدعوة إلى الزهد إنّما جاءت من إفراط ملوك العباسيين والطبقة الرأسمالية في الدعارة والمجون وعدم عفافهم عمّا حرّمه الله من الملاهي. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن عصر الإمام الجواد ( عليه السلام ).
1 ـ صفة الصفوة : ج 2 ص 189.

(218)

(219)
في عصر المأمون
حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: فهرس