حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: 231 ـ 240
(231)
علي قد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنه ، والأعجوبة فيه بذلك ، وأنا أرجو أن
يظهر للناس ما قد عرفته منه ، فيعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه .. ).
وندّد المأمون بالعباسيين فهم الذين قطعوا أواصر الرحم والقربى بينهم وبين العلويين ، ولو أنصفوا نفوسهم ، ورجعوا إلى حوازب أفكارهم لرأوا أنّ العلويين أولى بمقام النبي ( صلى
الله عليه وآله ) ومركزه منهم لأنّهم ذرّيته وأبناؤه ، ولأنّ هذا الدين قد بني
بتضحياتهم وجهادهم ، وأمّا العباسيون قديماً وحديثاً فليست لهم أيّة خدمة للإسلام
ولا للمسلمين ، وإنّما صنعوا ما أضرّ بالإسلام والمسلمين.
وعرض
المأمون في حديثه إلى الإمام أبي جعفر ( عليه السلام ) فأبدى إعجابه البالغ به فهو
الأعجوبة الكبرى الذي بزّ جميع أهل العلم والفضل ، وتفوّق عليهم مع صغر سنه.
وانبرى
العباسيون فطلبوا منه أن يؤجّل زواج الإمام حتى يكبر ويتفقّه في الدين قائلين :
( إنّ هذا
الفتى وإن راقك منه هديه فإنّه صبي لا معرفة له ، ولا فقه ، فأمهله ليتأدّب ، ويتفقّه
في الدين ، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك .. ).
وردّ عليهم المأمون بما عرفه من واقع أهل البيت ( عليهم السلام ) قائلاً :
( ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم ، وإنّ هذا من أهل بيت علمهم من الله ، ومواده وإلهامه ، لم يزل آباؤه أغنياءً في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال ، فإن شئتم
فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم ما وصفت من حاله .. ).
إن المأمون لعلى بيّنة بأئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين آتاهم الله من العلم والحكمة ما لم يؤت أحداً من العالمين.
واتّفق المأمون مع العباسيين على امتحان الإمام الجواد ( عليه السلام ) لعلّه يعجز عن
(232)
الجواب فيفسد بذلك مصاهرته للمأمون بالإضافة إلى أنّهم سيتّخذون من ذلك وسيلة لبطلان ما
تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره وأفضلهم وانبرى العباسيون قائلين :
( قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه ، فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة فإنّ أصاب الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره ،
وظهر للخاصّة والعامة سداد رأي أمير المؤمنين ، وإن عجز عن ذلك ، فقد كفينا الخطب في
معناه .. ) (1).
وانصرف العباسيون ، وهم يفتّشون عن شخصيّة علمية تتمكنّ من امتحان الإمام وتعجيزه.
انتداب يحيى لامتحان الإمام : وأجمع رأي العباسيّين على اختيار يحيى بن أكثم قاضي قضاة بغداد ، وأحد أعلام الفقه في ذلك العصر ، لامتحان الإمام أبي جعفر ( عليه السلام ) ، وعرضوا عليه الأمر ، ومنّوه بالأموال
الطائلة إن امتحن الإمام وعجز عن جوابه ، فإنّ يحقّق لهم أعظم الانتصارات ، وأجابهم
يحيى إلى ذلك ، وانصرف إلى منزله ، وراح يفتّش في كتب الفقه والحديث عن أعقد المسائل
وأهمّها ليمتحن بها الإمام ( عليه السلام ) وانطلق العباسيّون إلى المأمون فعرّفوه
باستجابة يحيى لهم ، وطلبوا منه تعيين يوم لامتحان الإمام ، فعيّن لهم يوماً خاصاً.
أسئلة يحيى : ولمّا حضر اليوم المقرّر لامتحان الإمام ( عليه السلام ) هرع العباسيون إلى بلاط المأمون
1 ـ الإرشاد : ص 359 ـ 360.
(233)
وحضر الاجتماع أهل الفضل وأعلام الفكر وسائر طبقات الناس وكان يوماً مشهوداً ، وقد
غصّت قاعة الاجتماع على سعتها بالناس ، وأمر المأمون أن يفرش للإمام أبي جعفر ( عليه
السلام ) دست ، ويجعل له فيه مسورتان فصنع له ذلك ، وجلس فيه الإمام ( عليه السلام )
وكان له من العمر تسع سنين وأشهر ، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، وجلس المأمون في دست
متّصل بدست الإمام ( عليه السلام ).
واستحال الجمع إلى آذان صاغية ، وانبرى يحيى إلى المأمون فطلب منه أن يأذن له في امتحان الإمام فإذِن له في ذلك ، واتّجه يحيى صوب الإمام وقال له :
( أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ .. ).
وقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً :
( سل إن شئت .. ).
ووجّه يحيى مسألته إلى الإمام قائلاً :
( ما تقول جعلني الله فداك في مُحرم قتل صيداً؟ .. ).
وحلّل الإمام ( عليه السلام ) هذه المسألة إلى عدّة مسائل ، وشقّقها إلى مجموعة من الفروع وسأل يحيى أي فروع منها أراد قائلاً :
( قتله في حلّ أو حرم ، عالماً كان المحرم أم جاهلاً ، قتله عمداً أو خطأً ، حرّاً كان المحرم أم عبداً ، صغيراً كان أم كبيراً ، مبتدءاً بالقتل أم معيداً ، من ذوات الطير كان الصيد
أم من غيره ، من صغار الصيد أم من كبارها ، مصرّاً كان أو نادماً ، في الليل كان قتله
للصيد أم نهاراً ، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً .. ).
وذهل يحيى ، وتحيّر ، وبان عليه العجز إذ لم يتصوّر هذه الفروع المترتّبة على مسألته ، وعلت في القاعة أصوات التكبير والتهليل ، فقد استبان للجميع أنّ أئمة أهل البيت ( عليهم
السلام ) هم معدن العلم والحكمة وإنّ الله منح كبارهم وصغارهم بما منح به أنبياءه
(234)
من الكمال والعلم.
لقد شقّق الإمام ( عليه السلام ) هذه المسألة إلى هذه الفروع وإن كان بعضها لا يختلف فيه الحكم كما إذا كان القتل للصيد في الليل أم في النهار فإنّ الحكم فيهما واحد ، وإنّما ذكر
الإمام ( عليه السلام ) ذلك لتبكيت الخصم الذي سأل الإمام للامتحان لا للفهم.
وعلى أي حال فإنّ المأمون لما رأى العجز قد استبان على يحيى فلم يطق جواباً أقبل على بني العباس فقال لهم :
( الحمد لله على هذه النعمة ، والتوفيق لي في الرأي .. أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه .. ) (1).
واستبان لبني العباس فضل الإمام ، وإنّه من عمالقة الفكر والعلم في الإسلام.
كما ظهر لهم صحّة ما قاله المأمون : إنّهم لا يعرفون أهل البيت ( عليهم السلام ).
مع ابن تيميّة : وأنكر ابن تيميّة هذه الرواية ، واعتبرها من الموضوعات ـ بغير أدب في التعبير ـ فقد علّق عليها بما نصّه :
( إنّ هذه
الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلاّ الجاهل ،
ويحيى بن أكثم أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيداً ،
فإن صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة ، فليست من دقائق العلم وغرائبه ، ولا ما
يختصّ به المبرّزون في العلم ، ثمّ مجرّد ما ذكره ليس فيه إلاّ تقسيم أحوال القاتل
ليس فيه بيان حكم هذه الأقسام ، ومجرّد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام الأقسام ،
وإنّما يدلّ إن دلّ على حسن السؤال ، وليس كلّ من
1 ـ الإرشاد : ص 361. الوسائل : ج 9 ص 187.
(235)
سُئل أحسن أن يجيب.
ثمّ إن كان ذكر الأقسام الممكنة واجباً فلِمَ يستوف الأقسام ، وإن لم يكن واجباً فلا حاجة إلى ذكر بعضها ، فإنّ من جملة الأقسام أن يقال : متعمّداً كان أو مخطئاً ، وهذا
التقسيم أحقّ بالذكر من قوله : عالماً كان أو جاهلاً ، فإنّ الفرق بين المتعمّد
والمخطئ ثابت بالإثم باتّفاق الناس ، وفي لزوم الجزاء في الخطأ نزاع مشهور ، فقد ذهب
طائفة من السلف والخلف إلى أنّ المخطئ لا جزاء عليه ، وهو أحد الروايتين عن أحمد ،
قالوا : إنّ الله قال : ( ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النعم ) فخصّ
المتعمّد بوجوب الجزاء ، وهذا يقتضي أنّ المخطئ لا جزاء عليه ، لأنّ الأصل براءة
ذمّته ، والنصّ إنّما وجب على المتعمّد ، فبقي المخطئ على الأصل ، ولأنّ تخصيص الحكم
بالمتعمّد يقتضي انتفاءه عن المخطئ فإنّ هذا مفهوم صفة في سياق الشرط ، وقد ذكر
الخاصّ بعد العامّ ، فإنّه إذا كان الحكم يعمّ النوعين كان قوله : ( وَمَن قَتَلَهُ
مِنكُم مُتَعَمِّداً ) فزاد اللفظ ، ونقص المعنى ، وكان هذا ممّا يصان عنه كلام أدنى
الناس حكمة فكيف كلام الله الذي هو خير الكلام وأفضله ، وفضله على سائر الكلام كفضل
الله على خلقه ، والجمهور القائلون : بوجوب الجزاء على المخطئ يثبتون ذلك بعموم
السنّة والآثار ، وبالقياس على قتل الخطأ في الآدمي ، ويقولون : إنّما خصّ المتعمّد
بالذكر لأنّه ذكر من الأحكام ما يخصّ به المتعمّد وهو الوعيد لقوله : ( لِيَذُوقَ
وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ
مِنْهُ ) فلمّا ذكر الجزاء والانتقام كان المجموع مختصاً بالمتعمّد ولم يلزم أن يثبت
بعضه مع عدم العمد ، ومثل هذا قوله : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خَفْتُمْ أن يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ ) فإنّه أراد بالقصر قصر العدد وقصر الأركان ، وهذا القصر الجامع
للنوعين متعلّق بالسفر والخوف ، ولا يلزم من الاختصاص بمجموع
(236)
الأمرين أن لا يثبت أحدهما مع أحد الأمرين ، ولهذا نظائر ، ولذلك كان ينبغي أن يسأله أقتله وهو ذاكر
لإحرامه ، أو ناس ، فإنّ في الناسي نزاعاً أعظم ممّا في الجاهل ، ويسأل هل قتله لكونه
صال عليه ، أو لكونه اضطر إلى مخمصة أو قتله عبثاً ظلماً بلا سبب ، وأيضاً فإنّ في
هذه التقاسيم ما يبيّن جهل السائل ، وقد نزّه الله من يكون إماماً معصوماً عن هذا
الجهل ، وهو قوله : ( أفي حلّ قتل أم في حرم ) فإنّ المحرم إذا قتل الصيد وجب عليه
الجزاء سواءً كان في الحلّ أم في الحرم فاتّفاق المسلمين ، والصيد الحرمي يحرم قتله
على المحلّ والمحرم ، فإذا كان محرماً وقتل صيداً حرمياً توكّدت الحرمة ولكن الجزاء واحد.
وأمّا قوله : ( مبتدئاً أو عائداً ) فإنّ هذا فرق ضعيف لم يذهب إليه إنسان من أهل العلم ، وأمّا الجماهير فعلى أنّ الجزاء يجب على المبتدئ وعلى العائد وقوله في القرآن :
( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) قيل : إنّ المراد من عاد إلى ذلك في
الإسلام بعدما عفا الله عنه في الجاهلية ، وقيل : نزول هذه الآية كما قال : ( ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) وقوله : ( وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ
الأُخْتَيْنِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ ) وقوله : ( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إن يَنتَهُواْ
يُغْفَرْ لَهُم مَا قَدْ سَلَفَ ) يدلّ على ذلك ، إنّه لو كان المراد غفر الله في
أوّل مرّة لما أوجب عليه جزاءً ، ولا انتقم منه وقد أوجب عليه الجزاء أوّل مرة.
وقال : ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ) فمن أذاقه الله وبال أمره كيف يكون قد عفي عنه ، وأيضاً قوله : ( عمّا سلف ) لفظ عامّ واللفظ العامّ المجرّد عن قرائن التخصيص لا يراد مرّة واحدة ، فإنّ هذا ليس من لغة العرب ، ولو قدر أنّ المراد بالآية عفا الله عن
أوّل مرّة ، وإنّ قوله : ( ومن عاد ) يراد به العود إلى القتل فإنّ انتقام الله منه إذا
عاد لا يسقط الجزاء عنه فإنّ تغليظ الذنب لا يسقط الواجب كمن قتل نفساً بعد نفس لا
(237)
يسقط عنه قود ولا ديّة ولا كفّارة .. ) (1).
وحفل كلام ابن تيميّة بالمغالطات التي هي أبعد ما تكون عن الحقّ وألصق ما تكون بالباطل ، والتي كان منها ما يلي :
أولاً : إنّه برّأ يحيى ونزّهه من الإقدام على امتحان الإمام ( عليه السلام ) فهو ـ على حد تعبيره ـ أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص ، والذي نراه ـ حسب التحقيق العلمي ـ أنّه لا مانع من إقدام يحيى على ذلك بعد ما طلب منه العباسيون ، ومنّوه بالأموال ،
وقد كان القضاء في العصر العباسي أداة بيد السلطة ، فكانوا يسايرون رغبة الخلفاء
ويقضون ويفتون على حسب ميولهم ، وكان ممّا رواه المؤرّخون في ذلك ، إنّ هارون الرشيد
قد شغف بجارية لأبيه المهدي ، كان قد دخل بها فامتنعت عليه ، وقالت له : ( لا أصلح لك
إنّ أباك قد طاف بي .. ).
فلم يمتنع عنها وازداد شغفه وغرامه بها ، فأرسل خلف القاضي أبي يوسف فقال له : ( أعندك شيء في هذا .. ).
فأفتى أبو يوسف بما وافق هوى هارون وخالف كتاب الله وسنّة نبيّه قائلاً : ( يا أمير
المؤمنين أوَ كلمّا ادّعت أمَة شيئاً ينبغي أن تصدّق لا تصدّقها ، فإنّها ليست
بمأمونة .. ).
وقد خالف بفتواه ما حكم به الإسلام صراحة من أنّ النساء مصدقات على فروجهن ، وعلّق ابن المبارك على هذه الفتوى بقوله :
( لم أدرِ ممّن أعجب من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم لا يتحرّج عن حرمة أبيه ، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين ، أو
1 ـ منهاج السنّة : ج 2 ص 127 ـ 128.
(238)
من هذا فقيه الأرض وقاضيها!! قال : اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك ، وصيّره في رقبتي .. ) (1).
وهناك فتاوى كثيرة لأبي يوسف شذّت عن القواعد الفقهيّة ، واتّفقت مع رغبات السلطة
الحاكمة .. إنّ القضاء لم يكن مستقلاً في العصر العباسي وإنما كان خاضعاً لرغبات
الخليفة وميوله.
ثانياً : إن هذه المسألة التي سأل يحيى عنها الإمام ( عليه السلام ) ليست من المسائل البسيطة ـ كما يقول ابن تيميّة ـ وإنّما هي من دقائق علم الفقه باعتبار ما يتفرّع عليها من الفروع وما يتشعّب عليها من المسائل ، وأكبر الظنّ أن يحيى إنّما سأل الإمام عنها
باعتبار ذلك إذ ليس من السذاجة ، وعدم الدراية بشؤون الفقه حتى يسأل الإمام عن مسألة
بسيطة.
ثالثاً : إنّ ابن تيمية ذكر أن الإمام ( عليه السلام ) لم يعرض إلى بيان حكم هذه الأقسام التي فرّعها على المسألة ، وهذا يدلّ على عدم تتبّعه ، ونظرته للأمور بصورة سطحية فإنّ الإمام ( عليه السلام ) قد تعرض بالتفصيل لأحكام هذه الأقسام ـ كما سيأتي ـ .
رابعاً : أنكر ابن تيميّة أن يكون الإمام ( عليه السلام ) عالماً بأحكام هذه الأقسام فقد قال : ( ومجرّد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام هذه الأقسام ) إنّ الإمام الذي استمدّ علومه من آبائه العظام الذين هم ورثة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) قد عرض بصورة
شاملة لبيان أحكام الأقسام ، ولكن ابن تيميّة قد وضع حجاباً على عينيه فلم يبصر ما
ذكره الإمام ( عليه السلام ).
خامساً : ذكر ابن تيمية أنّ ذكر الأقسام الممكنة إن كان واجباً فلم يستوفِ
1 ـ حياة الإمام موسى بن جعفر : ج 2 ص 44.
(239)
ـ أي الإمام ـ الأقسام ، وإن لم يكن واجباً فلا حاجة إلى ذكر بعضها ، إنّي لا أعرف كلاماً حافلاً بالمغالطات مثل هذا الكلام إذ أي علاقة أو ربط بين الحكم التكليفي الإلزامي وهو
الوجوب وبين ذكر الأقسام التي أدلى بها الإمام ، لقد فرّع الإمام على سؤال يحيى تلك
الفروع ومن الطبيعي أنّ ذكرها غير مرتبط أصلاً بأي حكم من الأحكام.
سادساً : من مؤاخذات ابن تيمية على كلام الإمام أنّه لم يذكر المتعمّد والمخطئ ، وهو أحقّ بالذكر من غيره ، وهذا من الغرابة بمكان لقد أدلى الإمام ( عليه السلام ) بذلك ، ولم يهمله ، ولكن ابن تيمية قد أخفاه للتشهير بالإمام ، والنيل منه.
سابعاً : من مؤاخذات ابن تيمية على الإمام ( عليه السلام ) إنّه لم يستوفِ ذكر الأقسام ، وقد عدّ ابن تيميّة جملة منها ، وهذا من المغالطات لأنّ الإمام ( عليه السلام ) ليس في مقام بيان استيعاب جميع صور المسألة حتى يشكل عليه بذلك ، وإنّما ذكر بعض صورها
لإفحام يحيى.
هذه بعض المؤاخذات التي تواجه كلام ابن تيمية الذي خلا من كلّ صيغة علمية ..
ولنعد بعد هذا إلى ما جرى للإمام ( عليه السلام ) بعد فشل يحيى في مسألته.
خطبة العقد : وبعد ما
أفحم يحيى بن أكثم ، وظهر عليه العجز ، وبان لحضّار الحفل فضل الإمام أبي جعفر ( عليه
السلام ) وتقدّمه في العلم على غيره ـ مع صغر سنّه ـ التفت إليه المأمون فقال له :
( أتخطب يا أبا جعفر؟ .. ).
وأظهر الإمام ( عليه السلام ) الرضا بذلك ، فأسرع المأمون قائلاً :
( اخطب ـ جعلت فداك ـ لنفسك فقد رضيتك ، وأنا مزوّجك أمّ الفضل ابنتي ،
(240)
وإن رغم قوم لذلك .. ).
وانبرى
الإمام فأنشأ خطبة العقد قائلاً :
( الحمد
لله إقراراً بنعمته ، ولا إله إلا الله إخلاصاً لوحدانيته ، وصلى الله على سيد بريته ،
والأصفياء من عترته ، أما بعد : فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن
الحرام ، فقال سبحانه : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا
فقراء يغنم الله من فضله والله واسع عليم ).
ثمّ إنّ
محمد بن علي بن موسى يخطب أمّ الفضل بنت عبد الله المأمون وقد بذل لها من الصداق
مهر جدّته فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) خمسمائة درهم جياداً فهل زوّجتني يا
أمير المؤمنين على هذا الصداق؟ .. ).
وانبرى
المأمون بحسب وكالته عن ابنته أو ولايته عليها فيما إذا كانت صغيرة ، فقال : ( نعم قد
زوجتك يا أبا جعفر على هذا الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح؟ ).
قال
الإمام ( عليه السلام ) : قد قبلت ذلك ورضيت به (1) وأمر المأمون الناس على اختلاف
مراتبهم بالجلوس وعدم التفرّق من المجلس ، قال الريّان : ولم نلبث أن سمعنا أصوات
الملاحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرّون سفينة قد صنعت من الفضّة قد شدّت بحبال
من الإبريسم ، وهي مملوءة من الغالية ، فأمر المأمون ـ أولاً ـ بأن تخضّب لحاء
الخاصة ، وبعدهم العامة وتطيّب الجميع ، ثمّ وضعت الموائد فأكل الناس منها (2).
1 ـ الإرشاد : ص 361 ـ 362. وسائل الشيعة : ج 9 ص 115.
2 ـ الإرشاد : ص 362.
حَيَاةُ الامامِ مُحمَّد الجَواد ( عليه السَّلام ) ::: فهرس