فإن نـال ما يرجو بنا كان ملكنا * هنيئا له ، والحرب قاصمة الظهر
فلا تــبغين حرب العراق فإنها * تحــرم أطهار النساء من الذعر
وإن عليا خير من وطئ الحصى * من الهاشميين المداريك للوتر (1)
له فـي رقاب الناس عهد وذمة * كعهد أبـي حفص وعهد أبي بكر
فبايع ولا ترجع على العقب كافرا * أعيذك بالله العزيز من الكفر (2)
ولا تسمـعن قـول الطغام فإنما * يريـدون أن يلقوك في لجة البحر
وماذا عليهـم أن تطـاعن دونهم * عليـا بأطراف المثـقفة الســمر
فإن غلبوا كانـوا علينــا أئمة * وكنا بحمد الله من ولد الظهر (3)
وإن غلبوا لم يصل بالحرب غيرنا * وكان على حـــربنا آخر الدهر
يهون على عليـا لؤي بن غالب * دماء بني قحطان في ملكهم تجري
فدع عنك عثمان بن عفان إننا ، * لك الخير ، لا ندري وإنك لا تدري
على أي حال كان مصرع جنبه * فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو

نصر بن مزاحم ، في حديث محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه ، ودخل على معاوية فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شرحبيل ، إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة علي ، وعلى خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان ، و [ قد ] حبست نفسي
____________
( 1 ) المداريك : المدركون ، جمع مدراك . والوتر ، بالكسر : الثأر والذحل .
( 2 ) على العقب ، فيه إشارة إلى قول الله : ( يردوكم على أعقابكم ) . وفي الأصل : « العقد » بالدال ، صوابه في ح .
( 3 ) يقال فلان من ولد الظهر ، بالفتح : أي ليس منها . وقيل معناه أنه لا يلتفت إليه ، قال أرطاة بن سهية :

فمن مـبلغ أبناء مـرة أننا * وجدنا بني البرصاء من ولد الظهر


( 47 )

عليك ، وإنما أنا رجل من أهل الشام ، أرضى ما رضوا ، وأكره ما كرهوا . فقال شرحبيل : أخرج فانظر . فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطؤون له ، فكلهم يخبره بأن عليا قتل عثمان بن عفان . فخرج مغضبا إلى معاوية فقال : يا معاوية ، أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان ، ووالله لئن بايعت له لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك . قال معاوية : ما كنت لأخالف عليكم ، وما أنا إلا رجل من أهل الشام . قال : فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذا . قال : فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق ، وأن الشام كله مع شرحبيل (1) . فخرج شرحبيل فأتى حصين بن نمير فقال : ابعث إلى جرير [ فليأتنا ] . فبعث إليه حصين : أن زرنا ، فإن عندنا شرحبيل بن السمط . فاجتمعا عنده ، فتكلم شرحبيل فقال : يا جرير ، أتيتنا بأمر ملفف (2) لنلقينا في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطرأت عليا (3) وهو قاتل عثمان ، والله سائلك عما قلت يوم القيامة . فأقبل عليه جرير فقال : يا شرحبيل ، أما قولك إني جئت بأمر ملفف فكيف يكون أمرا ملففا (4) وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، وقوتل على رده طلحة والزبير . وأما قولك إني ألقيتك في لهوات الأسد ففي لهواتها ألقيت نفسك . وأما خلط العراق بالشام فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل . وأما قولك إن عليا قتل عثمان فوالله ما في يديك من ذلك إلا القذف
____________
( 1 ) إلى هنا ينتهي اقتباس ح في ( 1 : 140 ) وينتقل إلى ( 1 : 249 ) .
( 2 ) في اللسان : « اللفف : ما لففوا من ها هنا وها هنا ، كما يلفف الرجل شهادة الزور » . وفي اللسان أيضا : « أحاديث ملففة : أي أكاذيب مزخرفة » . ح : « ملفق » بالقاف في آخره ، وهما وجهان صالحان كما رأيت .
( 3 ) قال ابن منظور : « أطرأ القوم : مدحهم ، نادرة ، والأعرف بالياء » ، ح : « أطريت » بالياء .
( 4 ) ح : « ملفقا » بقاف بعد الفاء ، وانظر الحاشية الثانية من هذه الصفحة .

( 48 )

بالغيب من مكان بعيد (1 ) ، ولكنك ملت إلي الدنيا ، وشئ كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص .
فبلغ معاوية قول الرجلين ، فبعث إلى جرير فزجره (2) ولم يدر ما أجابه أهل الشام ، وكتب جرير إلى شرحبيل (3 ) :

شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى * فمـا لك في الدنيا من الدين من بدل
وقل لابـ ن حرب مالك اليوم حرمة * تروم بها ما رمت ، فاقطع له الأمل (4)
شرحبــيل إن الحق قد جد جــده * وإنك مأمــون الأديم من النغــل
فأرود ولا تـفرط بشــئ نخـافه * عليك ، ولا تعجل فلا خير في العجل (5)
ولا تك كالمجرى إلى شــر غاية * فقد خـرق السربال واستنوق الجمل
وقال ابن هند في علي عضــيهة * ولله فـي صدر ابن أبي طالب أجل
وما لعلي في ابن عفان سـقــطة * بــأمر ، ولا جلب عليه ، ولا قتل (6)

____________
( 1 ) انظر الآية 53 من سورة سبأ وأقوال أصحاب التفسير فيها .
( 2 ) في الأصل : « فزجوه » صوابه في ح .
( 3 ) ح : « وكتب كتاب لا يعرف كاتبه إلى شرحبيل يقول » .
( 4 ) ح : « مالك اليوم . . . فاقطع » .
( 5 ) الإرواد : الإمهال . والفرط : السبق .
( 6 ) خ : « ولا مالا عليه ولا قتل » . والممالاة : المساعدة والمعاونة .

( 49 )

وما كـان إلا لازما قــعـر بيتــه * إلى أن أتــى عثمان فـي بيتـه الأجل
فمــن قال قــولا غير هذا فحسبه * من الزور والبهتان قول الذي احتمل (1)
وصي رسـول الله مــن دون أهله * وفارســه الأولى به يضرب المثل (2)

فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر ، وقال : هذه نصيحة لي في ديني ودنياي . [ و ] لا والله لا أعجل في هذا الأمر بشئ وفي نفسي منه حاجة . فاستتر له القوم ، ولفف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ، ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليا ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة ، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه ، وبلغ ذلك قومه فبعث ابن أخت له من بارق ـ وكان يرأى رأي علي بن أبي طالب فبايعه بعد ، وكان ممن لحق من أهل الشام ، وكان ناسكا ـ فقال :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى * شرحبيل بالسـهم الذي هـو قاتله
ولفف قوما يسحـبون ذيولــهم * جميعا وأولى النـاس بالذنب فاعله
فألفى يمانيا ضعيفــا نـخاعـه * إلى كل ما يهوون تحدي رواحـله
فطاطا لها لمـا رمـوه بثقــلها * ولا يرزق التقــوى من الله خاذله
ليأكل دنيا لابن هنــد بدينه(3) * ألا وابن هـند قـبل ذلـك آكلـه

____________
( 1 ) أي الذي احتمله . ح : « بعض الذي احتمل » .
( 2 ) ح : « ومن باسمه في فضله يضرب المثل » .
( 3 ) في الأصل : « ليأكل به دنيا ابن هند » .

( 50 )

وقالوا علي في ابن عفان ، خدعة * ودبت إليه بالشنان غوائله (1)
ولا والذي أرسى ثبيرا مكانه * لقد كف عنه كفه ووسائله
وما كان إلا من صحاب محمد * وكلهم تغلي عليه مراجله

فلما بلغ شرحبيل هذا القول قال : هذا بعيث الشيطان ، الآن امتحن الله قلبي . والله لأسيرن صاحب هذا الشعر أو ليفوتنني . فهرب الفتى إلى الكوفة وكان ـ أصله منها ـ وكاد أهل الشام أن يرتابوا .
نصر : محمد بن عبيد الله ، وعمر بن سعد بإسناده قال : وبعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط فقال : « إنه كان من إجابتك الحق ، وما وقع فيه أجرك على الله وقبله عنك صلحاء الناس ، ما علمت ، وإن هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتم إلا برضا العامة ، فسر في مدائن الشام ، وناد فيهم بأن عليا قتل عثمان ، وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه » . فسار فبدأ بأهل حمص فقام خطيبا ، وكان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها ، فقال : « يا أيها الناس ، إن عليا قتل عثمان بن عفان ، وقد غضب له قوم فقتلهم ، وهزم الجميع وغلب على الأرض فلم يبق إلا الشام . وهو واضع سيفه على عاتقه ثم خائض به غمار الموت (2) حتى يأتيكم (3) أو يحدث الله أمرا ، ولا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية ، فجدوا [ وانهضوا ] » . فأجابه الناس إلا نساك أهل حمص (4) ، فإنهم قاموا إليه فقالوا : بيوتنا قبورنا ومساجدنا ، وأنت أعلم بما ترى . وجعل
____________
( 1 ) الشنان ، كسحاب : لغة في الشنآن ، وهو البغض . وأنشد للأحوص :

وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي * وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

( 2 ) ح : « غمرات الموت » .
( 3 ) في الأصل : « بيكم » وإعجامه وإكماله من ح .
( 4 ) ح : « إلا نساكا من أهل حمص » .

( 51 )

شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به ، فبعث إليه النجاشي بن الحارث (1) ، وكان صديقا له :

شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا * ولكن لبغض المالكي جـريـر
وشحناء دبت بين سعـد وبينه * فأصبحت كالحادي بغير بعيـر
وما أنت ، إذ كانت بجيلة عاتبت * قريشــا فيــالله بعد نصيـر
أتفصل أمرا غبت عنـه بشبهة * وقد حار فيها عقل كل بصيـر
بقول رجال لم يكونوا أئــمة * ولا للتي لقوكها بحضـــور (2)
وما قــول قوم غائبين تقاذفوا * من الغيــب ما دلاهم بـغرور
وتترك أن الناس أعطوا عهودهم * عليا على أنس به وســـرور
إذا قيل هاتوا واحــدا تقتدونه * نظيرا له لم يفصحوا بنظيـر (3)
لعلك أن تشقى الغــداة بحربه * شرحبيل ما ما جئته بصغيـر (4)

نصر : عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن عامر الشعبي ، أن شرحبيل ابن السمط بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال : أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ، ونحن المؤمنون ، فإن كنت رجلا تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك بثأرنا أو تفنى أرواحنا استعملناك علينا ، وإلا عزلناك واستعملنا غيرك
____________
( 1 ) وكذا ورد في ح . والمعروف في شعرائهم النجاشي الحارثي ، واسمه قيس بن عمرو ابن مالك ، من بني الحارث بن كعب . وهو ممن حده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لشربه الخمر . انظر الشعراء 68 والخزانة ( 4 : 368 ) .
( 2 ) في الأصل : « ولا بالتي لقوكها » ، والصواب من ح ( 1 : 250 ) .
( 3 ) تقتدونه ، المعروف تعديته بالباء ، فقد عداه بتضمينه معنى تتبعونه ، وفي ح : « يقتدي به » .
( 4 ) أي ليس الذي جئته بصغير . وفي ح : « فليس الذي قد جئته بصغير » .

( 52 )

ممن نريد ، ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك . فقال جرير : يا شرحبيل ، مهلا فإن الله قد حقن الدماء ، ولم الشعث ، وجمع أمر الأمة ، ودنا من هذه الأمة سكون ، فإياك أن تفسد بين الناس ، وأمسك عن هذا القول قبل أن يظهر منك قول لا تستطيع رده . قال : لا والله لا أسره أبدا . ثم قام فتكلم ، فقال الناس : صدق صدق ، القول ما قال ، والرأي ما رأى . فأيس جرير عند ذلك عن معاوية وعن عوام أهل الشام .
نصر ، عن محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : كان معاوية أتى جريرا في منزله فقال : يا جرير ، إني قد رأيت رأيا . قال : هاته . قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي ، وأسلم له هذا الأمر ، وأكتب إليه بالخلافة . فقال جرير : اكتب بما أردت ، وأكتب معك . فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب علي إلى جرير :
« أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام ، وإن المغيرة بن شعبة قد كان أشار على أن أستعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك عليه ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا . فإن بايعك الرجل ، وإلا فأقبل » .
وفشا كتاب معاوية في العرب فبعث إليه الوليد بن عقبة :

معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
وحام عليها بالقنابل والقنــا * ولا تك محشوش الذراعين وانيا (1)

____________
( 1 ) حام : أمر من المحاماة . والقنابل : الجماعة من الناس ، الواحدة قنبلة وقنبل بفتح =
( 53 )

وإن عليـا ناظــر مـا تجيبه * فأهد له حربا تشيـــب النواصيــا
وإلا فسلم إن في السلــم راحة * لمن لا يريد الحــرب فاختر معاويـا
وإن كتابا يا ابن حــرب كتبته * على طمع ، يزجى إليــك الدواهيــا
سألت عليا فيــه ما لن تناله * ولو نلته لـــم يبــق إلا لياليــا
وسوف ترى منه الذي ليس بعده * بقاء فلا تكثر عليــك الأمانيــــا
أمثل علي تعتريـه بخدعــة * وقد كان ما جربت مـــن قبل كافيا
ولو نشبت أظفاره فيــك مرة * حذاك ، ابن هند ، منه ما كنت حاذيا (1)

قال : وكتب إليه أيضا :
معاوي إن الملك قد جب غاربـه * وأنت بما في كفك اليوم صاحبـه
أتاك كتاب مــن علي بخطـة * هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه
ولا ترج عنــد الواترين مـودة * ولا تأمن اليوم الذي أنت راهبـه
فحاربه إن حاربت حرب ابن حرة * وإلا فسلم لا تـدب عقــاربه (2)
فإن عليا غير ساحــب ذيلــه * على خدعة ما سوغ الماء شاربه (3)
ولا قابــل ما لا يريد وهــذه * يقوم بها يوما عليــك نوادبـه

____________
= القاف والباء فيهما . ح : « بالصوارم » . محشوش ، في اللسان : « حشت اليد وأحشت وهي محش : يبست ، وأكثر ذلك في الشلل . وحكى عن يونس حشت على صيغة ما لم يسم فاعله » . وفي ح : « موهون الذراعين » .
( 1 ) حذاه حذوا : أعطاه . والبيت لم يرو في ح . وفي الأصل : « حداك » و « حاديا » بالدال المهملة ، تحريف .
( 2 ) في الأصل وح : « حربن حرة » .
( 3 ) يقال ساغ الطعام والشراب وأساغه : إذا ألفاه سائغا سهل المدخل في الحلق . ولم أجد هذه الصيغة من التضعيف في المعاجم .

( 54 )

ولا تدعن الملك والأمـر مقبل * وتطلب ما أعيت عليك مذاهبه
فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه * فقبــــح ممليه وقبح كاتبه
فألق إلى الحي اليمانين كلمـة * تنال بها الأمر الذي أنت طالبه
تقول : أمير المؤمنين أصابـه * عدو ومالاهم عليــه أقاربه (1)
أفانين منهم قاتل ومحضـض * بـلا ترة كانت وآخر سالبه
وكنت أميرا قبل بالشام فيكم * فحسبي وإياكم من الحق واجبه (2)
فجيئوا ، ومن أرسى ثبيرا مكانه * ندافع بحرا لا تردد غواربه (3)
فأقلل وأكثر مالها اليوم صاحب * سواك فصرح لست ممن تواربه

قال : فخرج جرير يتجسس الأخبار ، فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له
وهو يقول :
حكيم وعمار الشجا ومحمد * وأشترو المكشوح جروا الدواهيا (4)
وقد كان فيها للزبير عجاجة * وصاحبه الأدنى أشاب النواصيا (5)

____________
( 1 ) الممالاة : المعاونة والمساعدة . ويعني بأمير المؤمنين عثمان .
( 2 ) في الأصل : « فحبلي » صوابه في ح .
( 3 ) في الأصل وح : « تجيبوا » تحريف . والغوارب : أعالي الموج . يستحلفهم بمن أرسى جبل ثبير في مكانه أن ينهضوا لمعاونته على عدوه لكثير العدد .
( 4 ) حكيم ، بهيئة التصغير ، هو ابن جبلة بن حصن العبدي ، وكان من عمال عثمان على السند ثم البصرة . انظر مروج الذهب ( 1 : 440 ) والإصابة 1991 . وعمار ، هو عمار ابن ياسر الصحابي . ومحمد ، هو ان أبي بكر الصديق . انظر مروج الذهب ( 1 : 440 ـ 442 ) . والأشتر : لقب مالك بن الحارث الشاعر التابعي ، وكان قد قدم في نفر من أهل الكوفة . انظر المعارف 84 . والمكشوح ، هو المرادي . وقد اختلف في اسمه . انظر الإصابة 7307 .
( 5 ) يعني بصاحبه الأدنى « الزبير بن العوام » . وقد قتل طلحة والزبير يوم الجمل .

( 55 )

فأمــا علي فاستغاث ببيتـــه * فلا آمــر فيها ولم يك نــاهيا
وقل في جميع الناس ما شئت بعده * وإن قلت أخطا الناس لم تك خاطيا
وإن قلت عم القوم فيـه بفتنــة * فحسبك من ذاك الذي كـان كافيا
فقولا لأصحاب النبي محمـــد * وخصا الرجال الأقربين المواليـا
أيقتل عثمان بن عفان وسطكـم * على غير شيء ليس إلا تماديا (1)
فلا نوم حتى نستبيح حريمكـم * ونخضب من أهل الشنان العواليا (2)

قال جرير : يا ابن أخي ، من أنت ؟ قال : أنا غلام من قريش وأصلى من ثقيف ، أنا ابن المغيرة بن الأخنس [ بن شريق ] ، قتل أبي مع عثمان يوم الدار . فعجب جرير من قوله وكتب بشعره إلى علي (3) ، فقال علي : والله ما أخطأ الغلام شيئا .
وفي حديث صالح بن صدقة قال : أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس وقال علي : وقت لرسولي وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا ! وأبطأ على علي حتى أيس منه .
وفي حديث محمد وصالح بن صدقة قالا : وكتب علي إلى جرير بعد ذلك : « أما بعد فإذا أتاك ـ كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل ، وخذه بالأمر الجزم ، ثم خيره بين حرب مجلية ، أو سلم محظية (4) . فإن اختار الحرب فانبذ له (5) ، وإن اختار السلم فخذ بيعته » .
____________
( 2 ) الشان لغة في الشنآن وهو البغض . انظر ما سبق في ص 50 . والعوالي : عوالي الرماح .
( 3 ) ح : « من شعره وقوله وكتب بذلك إلى على عليه السلام » .
( 4 ) ح : « مخزبة » .
( 5 ) انظر التنبيه الثالث من ص 28 .

( 56 )

فلما انته الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب ، فقال : [ له ] يا معاوية ، إنه لا يطبع علي قلب إلا بذنب ، ولا يشرح [ صدر ] إلا بتوبة (1) ، ولا أظن قلبك إلا مطبوعا . أراك قد وقفت بين الحق والباطل كأنك تنتظر شيئا في يدي غيرك » . فقال معاوية : « ألقاك بالفيصل أول مجلس إن شاء الله » . فلما بايع معاوية أهل الشام وذاقهم قال : « يا جرير الحق بصاحبك » . وكتب إليه بالحرب (2) ، وكتب في أسفل كتابه بقول كعب بن جعيل :
أرى الشام تكره ملك العراق * وأهل العراق لها كارهونا (3)
وكل لصاحبـه مبغــض * يرى كل ما كان من ذاك دينا

____________
( 1 ) في الأصل : « ولا ينشرح إلا بتوبة » وأثبت ما في ح .
( 2 ) لم يذكر لنا نصر نص رسالة معاوية ، وهي كما جاءت في كامل المبرد 184 : « بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب . أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين ، ولكن أغريت بعثمان المهاجرين ، وخذلت عنه الأنصار ، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف . وقد أبي أهل الشام إلا قتالك حت تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين . ولعمري ما حجتك على كحجتك على طلحة والزبير ، لأنهما بايعاك ولم أبايعك . وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ، لأن أهل البصرة أطاعوك ولم يطعك أهل الشام . وأما شرفك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعك من قريش فلست أدفعه » . وقد روى هذه الرسالة صاحب الإمامة والسياسة ( 1 : 87 ) وزاد بعد قوله : « كانت شورى بين المسلمين » هذا الكلام : « وقد كان أهل الحجاز أعلى الناس وفي أيديهم الحق ، فلما تركوه صار الحق في أيدى أهل الشام » . وهذه العبارة الأخيرة توضح لنا السر في ارتياب ابن أبي الحديد في آخر الصفحة 252 من الجزء الأول ، في تمام الرواية التي رواها المبرد . وقال في أول 253 : « وما وجدنا هذا الكلام في كتابه » . وما هو ذا الكلام بتمامه بين يدي القارئ .
( 3 ) ح ( 1 : 158 ) : « تكره أهل العراق * وأهل العراق لهم » . وفي كامل المبرد 184 : « تكره ملك العراق * وأهل العراق لهم » .

( 57 )

إذا مــا رمونــا رمينــــاهم * ودناهم مثـل مـــا يقرضونــا (1)
وقالــوا علــي إمــام لنــا * فقلنــا رضينا ابن هنــد رضينـا
وقلنـــا نري أن تدينـوا لنــا * فقالــــوا لنــــا لا نــري (2)
أن ندينا ومن دون ذلك خرط القتاد * وضرب وطعـــن يقر العيونــا (3)
وكل يســـر بمــا عنـــده * يرى غث ما في يديـه سمينــــا
ومـــا في علــــي لمستعتب * مقال سوى ضمــــه المحدثينــا
وإيثاره اليـــوم أهل الذنـــوب * ورفع القصــاص عـــن القاتلينا
إذا سيل عنه حــــدا شبهـــة * وعمى الجــــواب على السائلينـا (4)
فليس بــــراض ولا ساخـــط * ولا في النهــــاة ولا الآمرينــا
ولا هو ســـــاء ولا ســـره * ولا بد مــن بعض ذا أن يكونـــا

قال : فكتب إليه :
« من علي إلى معاوية بن صخر . أما بعد فقد أتاني كتاب امرئ ليس له نظر يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده فاتبعه . زعمت أنه أفسد عليك بيعة خطيئتي في عثمان . ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا . وما كان الله ليجمعهم
____________
( 1 ) دناهم ، من الدين ، وهو القرض ، وفي قول الحماسي : « دناهم كما دانوا » . يقرضونا ، من الإقراض . وقد حذف نون الرفع ، وهو وجه جائز في العربية . انظر التنبيه رقم 2 ص 4 . وفي الأصل : « يعرضونا » صوابه في ح والكامل .
( 2 ) ح : « ألا لا نرى » .
( 3 ) قال المبرد : « وأحسن الروايتين : يفض الشؤونا . وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أمكنا عن ذكره » .
( 4 ) سيل : سئل . حدا شبهة : ساقها في الأصل : « عن السائلينا » صوابه في ح .

( 58 )

على ضلالة ، ولا ليضربهم بالعمى ، وما أمرت (1) فيلزمني خطيئة الآمر ، ولا قتلت فيجب على القصاص . وأما قولك أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز فهات رجلا من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة . فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار ، وإلا أتيتك به من قريش الحجاز . وأما قولك : ادفع إلينا قتلة عثمان ، فما أنت وعثمان ؟ إنما أنت رجل من بني أمية ، وبنو عثمان أولى بذلك منك . فإن زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم فادخل في طاعتي ثم حاكم القوم إلى أحملك وإياهم على المحجة . وأما تمييزك بين الشام والبصرة وبين طلحة والزبير فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا واحد (2) ؛ لأنها بيعة عامة لا يثني فيها النظر ، ولا يستأنف فيها الخيار (3) . وأما ولوعك بي في أمر عثمان فما قلت ذلك عن حق العيان ، ولا يقين الخبر (4) . وأما فضلى في الإسلام وقرابتي من النبي صلى الله عليه وسلم وشرفي في قريش فلعمري لو استطعت دفع ذلك لدفعته » .
وأمر النجاشي فاجابه في الشعر فقال (5) :

دعن يا معاوى ما لن يكونا * فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي بأهل الحجـاز * وأهل العراق فما تصنعونا (6)

____________
( 1 ) ح : « وما ألبت » . والتأليب : التحريض .
( 2 ) ح والكامل : « إلا سواء » . وما في ح هنا نقل عن الكامل لا عن كتاب نصر .
( 3 ) ح والكامل : « لأنها بيعة شاملة لا يستثني فيها الخيار ولا يستأنف فيها النظر » .
( 4 ) الخبر : العلم ، والاختبار . وفي الأصل : « ولا بعين الخير » والصواب من ح .
( 5 ) ح والكامل : « ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له : إن ابن جعيل شاعر أهل الشام ، وأنت شاعر أهل العراق ، فأجب الرجل . فقال : يا أمير المؤمنين ، أسمعني قوله . قال : إذا أسمعك شعر شاعر . فقال النجاشي يجيبه » .
( 6 ) روي المبرد هذين البيتين ، وقال في إثرهما : « وبعد هذا ما نمسك عنه » .

( 59 )

علي كل جـــرداء خيفانــــة * وأشعث نهـــد يسر العيونـــا (1)
عليهــا فــوارس مخشيـــة (2) * كأسد العرين حميــن العرينـــا
يرون الطعــان خلال العجـــاج * وضرب الفوارس في النقع دينــا
هم هزموا الجمع جمـــع الزبيـر * وطلحة والمعــشر النـاكثينـــا
وقالوا يمينــا علـــي حلفــة * لنهـدي إلى الشام حربا زبونــا (3)
تشيب النواصي قبــل المشيــب * وتلقى الحوامـل منهـا الجنينــا (4)
فإن تكرهوا المـلك ملك العــراق * فقـد رضي القوم ما تكرهــونـا
فقل للمضلــل مــن وائـــل * ومـــن جعل الغث يوما سمينــا
جعلتـم عليــــا وأشياعـــه * نظيــــر ابن هند ألا تستحونـا
إلى أول النــاس بعــد الرسول * وصنو الرســـول من العالمينــا
وصهـــر الرسول ومــن مثله * إذا كـــان يوم يشيــب القرونا (5)

نصر : صالح بن صدقة بإسناده قال : لما رجع جرير إلي على كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية ، فاجتمع جرير والأشتر عند علي فقال الأشتر : أما والله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخى من خناقه ، وأقام [ عنده ] ، حتى لم يدع بابا يرجو
____________
( 1 ) الجرداء : الفرس القصيرة الشعر . والخيفانة : الخفيفة الوثابة . والنهد ، من الخيل : الجسيم المشرف .
( 2 ) مخشية : مخوفة . وفي الأصل : « تحسبهم » ، صوابه في ح ( 1 : 252 ) .
( 3 ) ح : « آلوا » ، أي حلفوا .
( 4 ) ح : « تشيب النواهد » .
( 5 ) قال ابن أبي الحديد : « أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات ، وأخبث مقصدا وأدمى وأحسن » .

( 60 )

روحه إلا فتحه (1) ، أو يخاف غمه إلا سده . فقال جرير : « والله لو أتيتهم لقتلوك ـ وخوفه بعمرو ، وذي الكلاع ، وحوشب ذي ظليم (2) ـ وقد زعموا أنك من قتلة عثمان » . فقال الأشتر : « لو أتيته والله يا جرير لم يعيني جوابها ، ولم يثقل على محملها ، ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر » . قال : فائتهم إذا . قال : الآن وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر ؟ نصر : عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة ، عن عامر الشعبي قال : اجتمع جرير والأشتر عند علي فقال الأشتر : أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا ، وأخبرتك بعداوته وغشه ؟ وأقبل الأشتر يشتمه ويقول : يا أخا بجيلة ، إن عثمان اشتري منك دينك بهمدان . والله ما أنت بأهل أن تمشي فوق الأرض حيا (3) . إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدا بمسيرك إليهم ، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم . وأنت والله منهم ، ولا أري سعيك إلا لهم ، ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه ، ، حتى تستبين هذه الأمور ويهلك الله الظالمين . قال جرير : وددت والله أنك كنت مكاني بعثت ، إذا والله لم ترجع . قال : فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا ، ولحق به أناس من قسر من قومه (4) ، ولم يشهد صفين من قسر (5) غير تسعة عشر ، ولكن
____________
( 1 ) روحه ، أي ما فيه من روح . والروح ، بالفتح : الراحة . وفي ح ( 1 : 260 ) : « يرجو فتحه » .
( 2 ) ظليم ، بهيئة التصغير ، كما في القاموس . وهو حوشب بن طخمة .
( 3 ) ح : « بأهل أن تترك تمشى فوق الأرض » .
( 4 ) قسر ، بفتح القاف ، هم بنو بجيلة رهط جرير بن عبد الله البجلي . وفي الأصل : « ولحق به أناس من قيس فسر من قومه » ، صوابه في ح .
( 5 ) في الأصل : « قيس » والكلام يقتضي ما أثبت من ح .