حتى أناخوا بالمحامي الخـــط * جند يمـــان ليس هم بخلط

فأجابه الأشعث بن قيس :

إني أنا الأشعث ابــــن قيـس * فارس هيجــــاء قبيل دوس
لســت بشكاك ولا ممســوس (1) * كنــدة رمحــي وعلى قوسي

وقال حوشب ذو ظليم (2) :

يا أيها الفــارس ادن لا تـــرع * أنا أبو مر وهـــذا ذو كلـــع (3)
مسود بالشام ما شــاء صنـــع * أبلغ عني أشترا أخــا النخــع (4)
والأشعث الغيث إذا المـاء امتنع (5) * قد كثر الغدر لديكم لــو نفــع

فأجابه الأشعث :

أبلغ عنــي حوشبــا وذا كلــع * وشرحبيـــل ذاك أهلك الطمــع (6)
قــوم جفـاة لا حيـــا ولا ورع * يقودهـــم ذاك الشقــي المبتدع
إني إذا القرن لقـــرن يختضـع وأبرقوهــــا في عجاج قد سطع (7)
أحمي ذمـــاري منهـــم وأمتنع

وقال الأشتر أيضا فجال :

يا حوشب الجلـــف ويا شيخ كلع * أيكمـــا أراد أشتــر النخع

____________
( 1 ) الممسوس : الذي به مس من الجنون . وفي هذا البيت سناد الحذو ، وهو اختلاف حركة ما قبل الردف . وفي الأصل : « مملوس » ولا وجه له .
( 2 ) سبقت ترجمته في ص 66 .
( 3 ) ذو كلع ، هو ذو الكلاع . انظر ص 60 ، 61 .
( 4 ) أبلغ : أي أبلغا ، بنون التوكيد الخفيفة ، حذفها وأبقي الحركة قبلها . انظر ما مضى ص 177 .
( 5 ) في الأصل : « منع » .
( 6 ) أي أهلكه الطمع . وقد غير ضبط شرحبيل للشعر .
( 7 ) العجاج ، كسحاب : الغبار . أبرقوها : أي أبرقوا السيوف . وفي اللسان : « وأبرق بسيفه يبرق : إذا لمع به » .

( 183 )

ها أنا ذا وقـــد يهولك الفـــزع * في حومة وســـط قرار قد شـرع
ثم تلاقي بطلا غيـــر جـــزع * سائل بنا طلحة وأصحاب البـــدع
وسل بنا ذات البعير المضطجــع (1) * كيف رأوا وقع الليوث في النقــع (2)
تلقى أمرأ كذاك ما فيــــه خلع * وخالف الحق بديـــــن وابتدع (3)

نصر : عمر بن سعد ، عن رجل قد سماه (4) عن أبيه ، عن عمه محمد بن مخنف (5) قال : كنت مع أبي يومئذ وأنا ابن سبع عشرة سنة ، ولست في عطاء ( 6) ، فلما منع الناس الماء قال لي : لا تبرح . فلما رأيت الناس يذهبون نحو الماء لم أصبر ، فأخذت سيفي فقاتلت ، فإذا أنا بغلام مملوك لبعض أهل العراق ، ومعه قربة له ، فلما رأى أهل الشام قد أفرجوا عن الماء شد (7) فملأ قربته ثم أقبل بها ، وشد عليه رجل من أهل الشام (8) فضربه فصرعه ، ووقعت القربة منه ، وشددت على الشامي فضربته وصرعته ، وعدا أصحابه فاستنقذوه . قال : وسمعتهم يقولون : لا بأس عليك . ورجعت إلى المملوك فأجلسته (9) فإذا هو يكلمني وبه جرح رحيب (10) ، فلم يكن أسرع من أن
____________
( 1 ) ذات البعير ، يعني بها عائشة رضي الله عنها . وقد عرقب بعيرها يوم الجمل وأخذته السيوف حتى سقط واضطجع .
( 2 ) النقع ، بالفتح : الغبار ، وحركه للشعر .
( 3 ) أي وما خالف الحق .
( 4 ) هو أبو مخنف . وقد سبق نظير هذا الصنيع في ص 135 .
( 5 ) ذكره في لسان الميزان ( 5 : 375 ) وقال : « روى يحيى بن سعيد عنه أنه قال : دخلت مع أبي على علي رضي الله عنه عام بلغت الحلم » . وهذا يضم إلى أولاد مخنف . انظر ص 135 .
( 6 ) العطاء : اسم لما يعطي . يقول : لم أكن في الجند فيفرض لي عطاء . وفي الأصل : « في غطاء » بالمعجمة ، تحريف .
( 7 ) شد : أسرع في عدوه ، كاشتد .
( 8 ) شد عليه ، هنا ، بمعنى حمل عليه .
( 9 ) في الطبري ( 5 : 241 ) : « فاحتملته » أي حملته .
( 10 ) في الطبري . « رغيب » وهو الأكثر في كلامهم . انظر المفضليات ( 2 : 55 ) .

( 184 )

جاء مولاه فذهب به ، وأخذت قربته وهي مملوءة ماء ، فجئت بها إلى أبي ، فقال : من أين جئت بها ؟ فقلت : اشتريتها . وكرهت أن أخبره الخبر فيجد علي ، فقال : اسق القوم . فسقيتهم وشربت آخرهم ، ونازعتني نفسي والله القتال ، فانطلقت أتقدم فيمن يقاتل . قال : فقاتلتهم ساعة ، ثم أشهد أنهم خلوا لنا عن الماء . قال : فما أمسيت حتى رأيت سقاتهم وسقاتنا يزدحمون على الماء ، فما يؤذي إنسان إنسانا . قال : وأقبلت راجعا فإذا أنا بمولى صاحب القربة فقلت : هذه قربتك فخذها ، أو ابعث معي من يأخذها ، أو أعلمني مكانك . فقال : رحمك الله ، عندنا ما يكتفي به . فانصرفت وذهب ، فلما كان من الغد مر على أبي ، فوقف فسلم ، ورأني إلى جنبه فقال : من هذا الفتى منك ؟ قال : ابني . قال : أراك الله فيه السرور ، استنقذ والله غلامي أمس ، وحدثني شباب الحي أنه كان من أشجع الناس . قال : فنظر إلى أبي نظرة عرفت [ منها (1) ] الغضب في وجهه ، ثم سكت حتى مضى الرجل ثم قال : هذا ما تقدمت إليك فيه (2) ؟ قال : فحلفني ألا أخرج إلى قتال إلا بإذنه . فما شهدت لهم قتالا حتى كان آخر يوم من أيامهم ، إلا ذلك اليوم .
نصر ، عن يونس بن [ أبي (3) ] إسحاق السبيعي ، عن مهران مولى يزيد ابن هانئ السبيعي قال : والله إن مولاي ليقاتل على الماء ، وإن القربة لفي يدي ، فلما انكشف أهل الشام عن الماء شددت حتى أستقي ، وإني فيما بين ذلك لأرمي وأقاتل .
____________
( 1 ) التكمله من الطيري ( 5 : 241 ) ، وحذف العائد على الموصوف قليل في كلامهم . انظر حواشي الحيوان ( 6 : 241 ) .
( 2 ) تقدم إليه في كذا : أمره وأوصاه به . وفي الأصل : « قدمت » صوابه من الطبري .
( 3 ) التكملة من الطبري . وانظر منتهى المقال 336 .

( 185 )

نصر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أبي عمرة (1) عن أبيه سليمان الحضرمي (2) ، قال : لما خرج علي من المدينة خرج معه أبو عمرة بن عمرو بن محصن (3) قال : فشهدنا مع علي الجمل ثم انصرفنا إلى الكوفة ، ثم سرنا إلى أهل الشام ، حتى إذا كان بيننا وبين صفين ليلة دخلني الشك فقلت : والله ما أدري علام أقاتل ؟ وما أدري ما أنا فيه . قال : واشتكى رجل منا بطنه من حوت أكله ، فظن أصحابه أنه طعين (4) فقالوا : نتخلف على هذا الرجل . فقلت : أنا أتخلف عليه . والله ما أقول ذلك إلا مما دخلني من الشك . فأصبح الرجل ليس به بأس ، وأصبحت قد ذهب عني ما كنت أجد ، ونفذت لي بصيرتي ، حتى إذا أدركنا أصحابنا ومضينا مع علي إذا أهل الشام قد سبقونا إلى الماء ، فلما أردناه منعونا ، فصلتنا لهم بالسيف فخلونا وإياه ، وأرسل أبو عمرة إلى أصحابه : قد والله جزناهم فهم يقاتلونا ، وهم في أيدينا ، ونحن دونه إليهم كما كان في أيديهم قبل أن نقاتلهم . فأرسل معاوية إلى أصحابه : لا تقاتلوهم وخلوا بينهم وبينه . فشربوا فقلنا لهم : قد كنا عرضنا عليكم هذا أول مرة فأبيتم حتى أعطانا الله وأنتم غير محمودين . قال : فانصرفوا عنا وانصرفنا عنهم ، ولقد رأيت روايانا ورواياهم بعد ، وخيلنا وخيلهم ترد ذلك الماء جميعا ، حتى ارتووا وارتوينا .
نصر : محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني ، أن عمرو بن العاص قال :
____________
( 1 ) في التقريب 603 : « أبو عمرة عن أبيه ، في سهم الفارس . مجهول من السادسة » . وفي الأصل : « عن أبيه عمرة » تحريف .
( 2 ) في التقريب : « سليمان بن زياد الحضرمي المصري ، ثقة من الخامسة » .
( 3 ) هو أبو عمرة الأنصاري ، قيل اسمه بشر وقيل بشير ، وكان زوج بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم المقوم بن عبد المطلب . انظر قسم الكني من الإصابة 805 ، 801 . وفي الاشتقاق 269 : « وأبو عمرة بشير بن عمرو ، قتل بصفين » .
( 4 ) الطعين ، هنا : الذي أصابه الطاعون .

( 186 )

يا معاوية ما ظنك بالقوم إن منعوك الماء اليوم كما منعتهم أمس ، أتراك تضاربهم عليه (1) كما ضاربوك عليه . وما أغني عنك أن تكشف لهم السوءة . قال : دع عنك ما مضى منه ، ما ظنك بعلي ؟ قال : ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت منه ، وأن الذي جاء له غير الماء . فقال له معاوية قولا أغضبه . فأنشأ عمرو يقول :

أمـرتك أمـــرا فسخفتــــه * وخالفنــي ابـن أبـي سرحــه (2)
فأغمضت في الــرأي إغماضـة * ولم تر فـي الحــرب كالفسحـه
فكيف رأيت كبــاش العــراق * ألم ينطحوا جمعنــا نطـحـــه
أظن لهــا اليوم مــا بعدهــا * وميعاد مــا بيننــا صبـحــه
فإن ينطحونا غـــدا مثلهـــا * نكن (3) كالزبيــري أو طلحــه
وإن أخروهــــا لما بعدهــا * فقد قدموا الخبــط والنفحـــة (4)
وقد شرب القــوم مـاء الفرات * وقلـدك الأشتــر الفضحـــه

قال : ومكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه من قبل معاوية أحد ، وجاء عبيد الله بن عمر فدخل على علي في عسكره فقال : أنت قاتل الهرمزان ، وقد كان أبوك فرض له في الديوان وأدخله في الإسلام ؟ فقال له ابن عمر : الحمد لله الذي جعلك تطلبني بدم الهرمزان وأطلبك بدم عثمان بن عفان . فقال له علي : لا عليك ، سيجمعني وإياك الحرب غدا . ثم مكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية ولا يرسل إليه معاوية (5) .
____________
( 1 ) في الأصل : « ضاربهم عليه » صوابه من ح ( 1 : 331 ) .
( 2 ) يريد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح . وقد تصرف في الاسم للشعر . انظر ما سبق في ص 161 .
( 3 ) ح : « فكن » .
( 4 ) الخبط : الضرب الشديد . والنفحة : الدفعة من العذاب . ح : « الخيط » تحريف .
( 5 ) انظر أول هذا الكلام .

( 187 )

ثم إن عليا دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري (1) ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي فقال : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز وجل وإلى الطاعة والجماعة ، وإلى اتباع أمر الله تعالى . فقال له شبث : ألا نطمعه (2) في سلطان توليه إياه ومنزلة تكون به له أثرة عندك إن هو بايعك ؟ قال علي : ائتوه الآن فالقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه ـ وهذا في شهر ربيع الآخر ـ فأتوه فدخلوا عليه ، فحمد أبو عمرة بن محصن الله وأثنى عليه وقال : " يا معاوية ، إن الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله عز وجل مجازيك بعملك ، ومحاسبك بما قدمت يداك ، وإني أنشدك بالله أن تفرق جماعة هذه الأمة ، وأن تسفك دماءها بينها " . فقطع معاوية عليه الكلام ، فقال : هلا أوصيت صاحبك ؟ فقال : سبحان الله ، إن صاحبي ليس مثلك ، إن صاحبي أحق البرية في هذا الأمر في الفضل والدين والسابقة والإسلام ، والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال معاوية : فتقول ماذا ؟ قال : أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق ، فإنه أسلم لك في دينك ، وخير لك في عاقبة أمرك . قال : ويطل دم عثمان ؟ لا والرحمن لا أفعل ذلك أبدا . قال : فذهب سعيد يتكلم ، فبدره شبث فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
يا معاوية ، قد فهمت ما رددت على ابن محصن ، إنه لا يخفى علينا ما تقرب وما تطلب ، إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم قتل إمامكم مظلوما فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال ؛ وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر ،
____________
( 1 ) هو أبو عمرة بن عمرو بن محصن ، وقد سبقت ترجمته في ص 185 .
( 2 ) في الأصل : « لا نطعمه » .

( 188 )

وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب . ورب مبتغ أمرا وطالبه يحول الله دونه . وربما أوتي المتمنى أمنيته ، وربما لم يؤتها . ووالله مالك في واحدة منها خير . والله لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالا ، ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار . فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الأمر أهله .
قال : فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال :
« أما بعد فإن أول (1) ما عرفت به سفهك وخفة حلمك ـ قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به . ولقد كذبت ولويت (2) أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت . انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف » . قال : وغضب فخرج القوم وشبث يقول : أفعلينا تهول بالسيف ، أما والله لنعجلنه إليك . فأتوا عليا عليه السلام فأخبروه بالذي كان من قوله ـ وذلك في شهر ربيع الآخر ـ قال : وخرج قراء أهل العراق وقراء أهل الشام ، فعسكروا ناحية صفين في ثلاثين ألفا ، وعسكر علي على الماء ، وعسكر معاوية فوق ذلك ، ومشت القراء فيما بين معاوية وعلي ، فيهم عبيدة السلماني (3) ، وعلقمة بن قيس النخعي ، وعبد الله بن عتبة ، وعامر بن عبد القيس ـ وقد كان في بعض تلك السواحل ـ قال : فانصرفوا من عسكر علي (4) فدخلوا على معاوية فقالوا :
____________
( 1 ) في الأصل : « فإني أول » تحريف .
( 2 ) وردت هذه الكلمة في الأصل غير واضحة هكذا : « و ـ وت » .
( 3 ) هو عبيدة ـ بفتح أوله ـ بن عمرو ، ويقال ابن قيس بن عمرو السلماني ، بفتح المهملة وسكون اللام ، وفتحها بعضهم . قال ابن الكلبي : أسلم قبل وفاة النبي بسنتين ولم يلقه . وكان شريح إذا أشكل عليه شيء كتب إلى عبيدة . والسلماني نسبة إلى سلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد . انظر مختلف القبائل ومؤتلفها لمحمد بن حبيب ص 30 جوتنجن والإصابة 6401 والمعارف 188 وتهذيب التهذيب والتقريب .
( 4 ) في الأصل : « إلى عسكر علي » .

( 189 )

يا معاوية ، ما الذي تطلب ؟ قال : أطلب بدم عثمان . قالوا : ممن تطلب بدم عثمان . قال : من علي « عليه السلام » . قالوا : وعلي عليه السلام قتله ؟ قال : نعم ، هو قتله وآوى قاتليه . فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي فقالوا : إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان . قال : اللهم لكذب فيما قال ، لم أقتله . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال لهم معاوية : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالا . فرجعوا إلى علي عليه السلام فقالوا : إن معاوية يزعم أنك إن لم تكن فتلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان . فقال : اللهم كذب فيما قال . فرجعوا إلى معاوية فقالوا : إن عليا عليه السلام يزعم أنه لم يفعل . فقال معاوية : إن كان صادقا فليمكنا من قتلة عثمان ، فإنهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده . فرجعوا إلى علي عليه السلام فقالوا : إن معاوية يقول لك إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو أمكنا منهم . قال لهم علي : تأول القوم عليه القرآن ووقعت الفرقة ، وقتلوه في سلطانه وليس على ضربهم قود . فخصم على معاوية (1) . فقال معاوية : إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا . فقال علي عليه السلام : إنما الناس تبع المهاجرين والأنصار ، وهم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم ، فرضوا بي وبايعوني ، ولست أستحل أن أدع ضرب معاوية (2) يحكم على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال : ليس كما يقول ، فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه (3) . فانصرفوا إلى علي عليه السلام فقالوا له ذلك وأخبروه . فقال علي عليه السلام : ويحكم ، هذا للبدريين دون الصحابة ، ليس في الأرض
____________
( 1 ) خصمه : غلبه في الخصومة بالحجة .
( 2 ) أي مثل معاوية . والضرب : المثل والشبيه .
( 3 ) المؤامرة : المشاورة .

( 190 )

بدري إلا قد بايعني وهو معي ، أو قد أقام ورضي ، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم . فتراسلوا ثلاثة أشهر ، ربيعا الآخر وجماديين ، فيفزعون الفزعة (1) فيما بين ذلك ، فيزحف بعضهم إلى بعض ، وتحجز القراء بينهم . ففزعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين فزعة ، كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض ويحجز القراء بينهم ، ولا يكون بينهم قتال .
قال : وخرج أبو أمامة الباهلي ، وأبو الدرداء ؛ فدخلا على معاوية وكانا معه ، فقالا : يا معاوية : علام تقاتل هذا الرجل ، فوالله لهو أقدم منك سلما (2) ، وأحق بهذا الأمر منك ، وأقرب من النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلام تقاتله ؟ فقال : أقاتله على دم عثمان ، وأنه آوى قتلته ؛ فقولوا له فليقدنا من قتلته ، فأنا أول من بايعه من أهل الشام . فانطلقوا إلى علي فأخبروه بقول معاوية ، فقال : هم الذين ترون . فخرج عشرون ألفا أو أكثر مسر بلين في الحديد ، لا يرى منهم إلا الحدق ، فقالوا : كلنا قتله ، فإن شاءوا فليروموا ذلك منا . فرجع أبو أمامة ، وأبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال حتى إذا كان رجب وخشى معاوية أن يبايع القراء عليا على القتال أخذ في المكر ، وأخذ يحتال للقراء لكيما يحجموا عنه (3) ويكفوا حتى ينظروا . قال : وإن معاوية كتب في سهم : « من عبد الله الناصح ، فإني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم . فخذوا حذركم » . ثم رمى معاوية بالسهم في عسكر علي عليه السلام ، فوقع السهم في يدي رجل من أهل الكوفة ، فقرأه ثم اقرأه صاحبه ، فلما قرأه وأقرأه الناس ـ أقرأه من أقبل وأدبر ـ قالوا : هذا أخر ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية . فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع
____________
( 1 ) في الأصل : « فيقرعون القرعة » وبنى سائر العبارة على ذلك ، تحريف .
( 2 ) السلم : الإسلام .
( 3 ) في الأصل : « عليه » .

( 191 )

حتى رفع (1) إلى أمير المؤمنين ، وقد بعث معاوية مائتي رجل من الفعلة إلى عاقول من النهر (2) ، بأيديهم المرور والزبل (3) يحفرون فيها بحيال عسكر علي ابن أبي طالب ، فقال علي عليه السلام : ويحكم ، إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوم عليه (4) ، وإنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم ، فالهوا عن ذلك ودعوه . فقالوا له : لا ندعهم (5) والله يحفرون الساعة . فقال علي : يا أهل العراق لا تكونوا ضعفي (6) ، ويحكم لا تغلبوني على رأيي . فقالوا : والله لنرتحلن ، فإن شئت فارتحل ، وإن شئت فأقم . فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم مليا (7) ، وارتحل علي في أخريات الناس ، وهو يقول :

ولو أني أطعت عصبــت قومــي * إلى ركــن اليمامــة أو شمــام (8)
ولكني إذا أبرمـــت أمـــــرا * منـيــت بخلــف آراء الطغــام

وارتحل معاوية حتى نزل على معسكر علي الذي كان فيه ، فدعا على الأشتر ، فقال : ألم تغلبني على رائي (9) أنت والأشعث ؟ فدونكما . فقال الأشعث : أنا أكفيك يا أمير المؤمنين ، سأداوي ما أفسدت اليوم من ذلك . فجمع بني كندة ، وقال : يا معشر كندة ، لا تفضحوني اليوم ولا تخزوني ،
____________
( 1 ) في الأصل : « دفع » بالدال ، وأثبت ما في ح ( 1 : 343 ) .
( 2 ) عاقول النهر والوادي والرمل : ما اعوج منه .
( 3 ) المرور : جمع مر ، بالفتح ، وهو المسحاة . والزبل ، بضمتين : جمع زبيل ، وهو الجراب والقفة . في الأصل : « الزبيل » والوجه الجمع . وفي ح : « المزور والرمل » تحريف .
( 4 ) ح : « ولا يقوى عليه » .
( 5 ) في الأصل : « هم » بدل : « لا ندعهم » صوابه في ح .
( 6 ) كذا في الأصل . ولعلها : « خلفي » وهو بالكسر : المخالف .
( 7 ) مليا : طويلا . ومنه : « واهجرني مليا » وفي الأصل : « عليا » صوابه في ح .
( 8 ) ح : « عصمت قومي » . وشمام : جبل لباهلة . وفي الأصل : « شآم » وجهه في ح .
( 9 ) الراء : الرأي . وفي ح : « رأيي » .

( 192 )

إنما أقارع بكم أهل الشام . فخرجوا معه رجلا يمشون (1) وبيد الأشعث رمح له يلقيه على الأرض ، ويقول : امشوا قيس رمحي [ هذا ] . فيمشون ، فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ذلك ويمشون معه رجالة قد كسروا جفون سيوفهم حتى لقوا معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء ، وقد جاءه أداني عسكره ، فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة ، وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا ، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق ، فحمل على معاوية حملة ، والأشعث يحارب في ناحية [ أخرى ] ، فانحاز معاوية في بني سليم فردوا وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ . ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم ، والأشعث يهدر ويقول : أرضيتك يا أمير المؤمنين ! ثم تمثل [ بقول طرفة بن العبد ] :

ففداء لبنـــي سعـــد علــى * ما أصاب النـاس مــن خير وشـر (2)
ما أقلت قدمـــاي ، إنهــــم * نعم الساعون فـي الحي الشطـــر (3)
ولقد كنت عـليكـــم عاتبـــا * فعقبتم بذنـوب غيـــر مـــر (4)
كنت فيكـــم كالمغطى رأســه * فانجلى اليـــوم قناعي وخمــر
سادرا أحسب غيــي رشـــدا * فتناهيت وقـد صابــت بقـــر (5)

____________
( 1 ) ح : « رجالة » والرجالة والرجل والراجلون بمعنى .
( 2 ) رواية « فداء » بالرفع ، أي نفسي فداء أو أنا فداء . وفي ديوان طرفة 82 والخزانة ( 4 : 101 بولاق ) : « لبني قيس » وفي الديوان والخزانة : « من سر وضر » وهما بضم أولهما السراء والضراء .
( 3 ) أقلت : حملت أي ما أقلتني قدماي ، أي طول الحياة . ونعم ، بكسرتين ففتح : لغة في نعم . والشطر بضمتين : جمع شطير ، وهو الغريب البعيد ويروى : « خالتي والنفس قدما » على أن تكون « خالتي » مبتدأ خبره « فداء » في البيت السابق .
( 4 ) عقبتم : أي وجدتم عقب ذلك . والذنوب ، بالفتح : النصيب والحظ . وفي الكتاب : « فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم » . والمر : نقيض الحلو .
( 5 ) تناهيت أي انتهيت من سفهي . ويقال للأمر إذا وقع في مستقره : « صابت بقر » بضم القاف ، أي نزل الأمر في مستقره فلا يستطاع له تحويل . وفي الأصل : وقد كادت ثفر ، صوابه في ح والديوان .

( 193 )

قال : وقال الأشعث : يا أمير المؤمنين ، قد غلب الله لك على الماء . قال علي : أنت كما قال الشاعر :

تلاقيــن قيســا وأتبــاعــه * فيشعــل للحــرب نــارا فنـارا
أخو الحرب إن لقحــت بــازلا * سمـــا للعلي وأجــل الخطــارا (1)

فلما غلب علي علي الماء فطرد عنه أهل الشام بعث إلي معاوية : « إنا لا نكافيك بصنعك ، هم إلي الماء فنحن وأنتم فيه سواء » . فأخذ كل واحد منهما بالشريعة مما يليه ، وقال علي عليه السلام لأصحابه : أيها الناس ، إن الخطب أعظم من منع الماء . وقال معاوية : لله در عمرو ، ما عصيته في أمر قط إلا أخطأت الرأي فيه . قال : فمكث معاوية أياما لا يكلم عمرا ، ثم بعث إليه ، فقال : يا عمرو ، كان فلتة من رأي أعقبتني بخطائها (2) وأمت ما كان قبلها من الصواب ، أما والله لو تقايس [ صوابك (3) ] بخطائك لقل صوابك . فقال عمرو : قد كان كذا فرأيت احتجت إلى رأيك ، وما خطاؤك اليوم حين أعذرت إليك أمس ، وكذلك أنالك غدا إن عصيتني اليوم . فعطف عليه معاوية ، ورضي عنه ، وبات على مشق الحيل (4) حتى أصبح ، ثم غاداهم على القتال ، وعلى رايته يومئذ هاشم بن عتبة المرقال . قال : ومعه الحدل التي يقول فيها الأشتر :

إنا إذا ما احتسبنـــا الوغــى * أدرنــا الرحى بصنــوف الحـدل (5)

____________
( 1 ) أي إن لقحت الحرب وهي بازل . والبزول : أقصى أسنان البعير إذا طعن في التاسعة . يقول : إذ تجددت الحرب بعد ما طال عهدها وقوتل فيها مرات دخل في غمارها ولم يتهيب . أجل : أعظم . والخطار : مصدر كالمخاطرة ، يقال خاطر بنفسه : أشفى بها على خطر هلك أو نيل ملك . وفي الأصل : « لحقت بازلا » ، صوابه في ح .
( 2 ) الخطاء : الخطأ . وفي الأصل : « يخطاؤها » تحريف .
( 3 ) تكملة يقتضيها السياق .
( 4 ) كذا في الأصل .
( 5 ) الحدل : جمع حدلاء ، وهي القوس قد حدرت إحدى سيتيها ورفعت الأخرى . وفي الأصل : « الجدل » في هذا الموضع وسابقه ، جمع جدلاء للدرع المجدولة . ولا وجه لها هنا .

( 194 )

وضربا لهامــاتهــم بالسيــوف * وطعنا لهم بالقنـــا والاســــل
عرانين من مذحــج وسطهــــا * يخوضــون أغمارهــا بالهبــل (1)
ووائــل تسعــر نيرانهـــــا * ينادونهــــم أمرنــا قد كمــل
أبو حسن صــوت خيشومهــــا * بأسيافـــه كل حـــام بطــل (2)
على الحق فينـــا لــه منهـج * علي واضح القصـــد لا بالميــل

قال : وبرز يومئذ عوف من أصحاب معاوية وهو يقول :

إني أنا عوف أخـــو الحروب * عند هياج الحـــرب والكروب
صاحــب لا الوقاف والهيـوب (3) * عند اشتعال الحـــرب باللهيب
ولست بالناجي مـــن الخطوب * ومن رديني مــــارن الكعوب
إذ جئت تبغي نصــرة الكـذوب * ولست بالعــف ولا النجيـــب

فبرز إليه علقمة بن عمرو ، من أصحاب علي ، وهو يقول :

يا عجبــا للعجــب العجيـــب * قد كنــت يا عـوف أخا الحـروب
وليس فيها لــك مـــن نصيـب * إنك ، فاعلم ، ظـــاهر العيــوب
في طاعـــة كطاعة الصليـــب * في يوم بــــدر عصبة القليــب (4)
فدونك الطعنــة فــي المنخـوب (5) * قلبك ذو كفـــر مــن القلـوب

فطعنه علقمة فقتله ، فقال علقمه في ذلك :
____________
( 1 ) الهبل : الثكل ، هبلته أمه ثكلته .
( 2 ) في الأصل : « أبا حسن د .
( 3 ) أي أنا صاحب من ليس بوقاف ولا هيوب . والوقوف : المحجم عن القتال . والهيوب : الجبان . وفي الأصل : « صاحبها الوقاف لا الهيوب » محرف .
( 4 ) القليب : قليب بدر .
( 5 ) المنخوب : الجبان ، أراد به قلبه . وفي الأصل : « النخوب » ولا وجه له .

( 195 )

يا عوف لو كنــت امــرأ حازما * لم تبــرز الدهــر إلى علقمــه
لاقيــت ليثــا أســـدا باسـلا * يأخذ بالأنفــــاس والغلصمـــه
لاقيته قرنــــا لــه سطـــوة * يفترس الأقـــران فــي الملحمـه
ما كان في نصـــر امرئ ظــالم * ما يـــدرك الجنـــة والمرحمـه
ما لابن صخــر حرمــة ترتجـى * لها ثــواب الله بــــل مندمــه
لاقيت مـــا لاقى غــداة الوغـى * من أدرك الأبطــال يا ابــن الأمه
ضيعت حـــق الله فـي نصــرة * للظالم المعــــروف بالمظلمــة
إن أبا سفيـــان مــن قبلـــه * لم يك مثـل العصبــة المسلمــه
لكنـــه نافــق فـي ديـــنه * من خشية القتل علــى المــرغمة
بعدا لصخــر مــع أشياعــه * في جاحـــم النار لدى المضرمه (1)

فمكثوا على ذلك حتى كان ذو الحجة ، فجعل علي يأمر هذا الرجل الشريف فيخرج معه جماعة فيقاتل ، ويخرج إليه من أصحاب معاوية رجل معه آخر ، فيقتتلان في خيلها ورجلهما ثم ينصرفان ، وأخذوا يكرهون أن يتراجعوا بجميع الفيلق من العراق وأهل الشام ، مخافة الاستئصال والهلاك . وكان علي عليه السلام يخرج الأشتر مرة في خيله ، وحجر بن عدي مرة ، وشبث بن ربعي التميمي مرة ، ومرة خالد بن المعمر السدوسي ، ومرة زياد بن النضر الحارثي ، ومرة زياد بن جعفر الكندي ، ومرة سعد بن قيس الهمداني ، ومرة معقل بن قيس الرياحي ومرة قيس بن سعد بن عبادة . وكان أكثر القوم حروبا الأشتر .
وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ،
____________
( 1 ) جاحم النار : معظمها وموضع الشدة فيها . والمضرمة : مصدر ميمي من الضرم ، وهو اشتعال النار والتهابها .
( 196 )

ومرة أبا الأعور السلمي ، ومرة حبيب بن مسلمة الفهري ، ومرة ابن ذي الكلاع ، ومرة عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، ومرة شرحبيل بن السمط ، ومرة حمزة بن مالك الهمداني . فاقتتلوا ذا الحجة ، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين : أوله وآخره .
نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، عن عبد الله بن عاصم قال : حدثني رجل من قومي ، أن الأشتر خرج يوما فقاتل بصفين في رجال من القراء ، ورجال من فرسان العرب ، فاشتد قتالهم ، فخرج علينا رجل لقل والله ما رأيت رجلا قط هو أطول ولا أعظم منه ، فدعا إلى المبارزة فلم يخرج إليه إنسان ، وخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين ، وضربه الأشتر فقتله . وايم الله لقد كنا أشفقنا عليه ، وسألناه ألا يخرج إليه . فلما قتله نادى مناد من أصحابه :
يا سهـــم سهم بــن أبي العيزار * يا خيـــر من نعلمه مــن زار (1)

وجاء رجل من الأزد فقال : أقسم بالله لأقتلن قاتلك . فحمل على الأشتر [ وعطف عليه الأشتر (2) ] فضربه فإذا هو بين يدي فرسه ، وحمل أصحابه فاستنقذوه جريحا ، فقال أبو رقيقة السهمي (3) : « كان هذا نارا فصادفت إعصارا » .
فاقتتل الناس ذا الحجة كله ، فلما مضى ذو الحجة تداعى الناس أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم ، لعل الله أن يجري صلحا واجتماعا . فكف الناس بعضهم عن بعض .
____________
( 1 ) زار : مرخم زارة ، وهم بطن من الأزد . انظر الاشتقاق 288 . وقد أنشد الطبري الرجز في ( 5 : 243 ) وعقب عليه بقوله : « وزارة حي من الأزد » . وفي الأصل « من نعلم من نزار » ، صوابه من الطبري .
( 2 ) التكملة من الطبري ( 5 : 243 )
( 3 ) في الطبري : « أبو رفيقة الفهمي » .

( 197 )

نصر : عمر بن سعد ، عن أبي المجاهد ، عن المحل بن خليفة قال : لما توادع علي عليه السلام ومعاوية بصفين اختلفت الرسل فيما بينهما رجاء الصلح ، فأرسل علي بن أبي طالب إلى معاوية عدي بن حاتم ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن قيس ، وزياد بن خصفة ، فدخلوا على معاوية ، فحمد الله عدي بن حاتم وأثنى عليه ثم قال :
أما بعد فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ، ويحقن الله به دماء المسلمين (1) ، وندعوك إلى أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام آثارا (2) ، وقد اجتمع له الناس (3) ، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فأتوا ، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل .
فقال له معاوية : كأنك إنما جئت متهددا ولم تأت مصلحا . هيهات يا عدي . كلا والله إني لابن حرب ، ما يقعقع لي بالشنان (4) . أما والله إنك لمن المجلبين علي ابن عفان ، وإنت لمن قتلته ، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله (5) . هيهات يا عدي ، قد حلبت بالساعد الأشد (6) .
وقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة ـ وتنازعا كلاما واحدا (7) ـ :
____________
( 1 ) زاد الطبري في ( 6 : 2 ) : « ويأمن به السبل ويصلح به البين » .
( 2 ) أفضلها : أي أفضل الناس . وفي تاريخ الطبري : « إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام آثارا » . وفي ح ( 1 : 344 ) : « ندعوك إلى أفضل الناس سابقة وأحسنهم في الإسلام آثارا » .
( 3 ) ح : « إليه الناس » ، الطبري : « استجمع له الناس » .
( 4 ) الشنان : جمع شن ، وهو القربة الخلق . وهم يحركون القربة البالية إذا أرادوا حث الإبل على السير لتفزع فتسرع . انظر الميداني ( 2 : 191 ) . ( 5 ) الطبري : « ممن يقتل الله عز وجل به » .
( 6 ) في الميداني ( 1 : 176 ) : « حلبتها بالساعد الأشد . أي أخذتها بالقوة إذا لم يتأت الرفق » . وفي الأصل : « قد جئت » ، والصواب من الطبري ( 6 : 3 ) . وهذه العبارة لم ترد في ح .
( 7 ) الطبري : « جوابا واحدا » .

( 198 )

أتيناك فيما يصلحنا وإياك ، فأقبلت تضرب الأمثال لنا . دع مالا ينفع من القول والفعل ، وأجبنا فيما يعمنا (1) وإياك نفعه .
وتكلم يزيد بن قيس الأرحبي فقال : إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك ، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك ، لن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننا أن لنا به عليك حجة ، أو أنه راجع بك إلى الألفة والجماعة . إن صاحبنا لمن قد عرفت وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنه يخفى عليك : أن أهل الدين والفضل لن يعدلوك بعلي عليه السلام ، ولن يميلوا بينك وبينه (2) . فاتق الله يا معاوية ، ولا تخالف عليا ، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ، ولا أزهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه .
فحمد الله معاوية وأثنى عليه وقال : أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة . فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعما هي . وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها . إن صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرق جماعتنا ، وآوى ثأرنا وقتلتنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله ، فنحن لا نرد ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا ؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم ؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة .
فقال له شبث بن ربعي : أيسرك بالله يا معاوية أن أمكنت (3) من عمار ين ياسر فقتلته ؟ قال : وما يمنعني من ذلك ؟ والله لو أمكنني صاحبكم
____________
( 1 ) في الأصل : « يصيبنا » وكتب فوقه : « خ : يعمنا » وهو ما في ح والطبري .
( 2 ) التمييل بين الشيئين : الترجيح بينهما . تقول العرب : إني لأميل بين ذينك الأمرين وأمايل بينهما أيهما آتي . وفي الأصل : « يمثلوا » تحريف . وفي ح : « ولا يميلون » .
( 3 ) في الأصل : « أنك إن أمكنت » صوابه في ح . وفي الطبزي : « أنك أمكنت » .