قال : وقد كان حريث بن جابر نازلا بين العسكرين في قبة له حمراء ، وكان إذا التقى الناس للقتال أمدهم بالشراب من اللبن والسويق والماء ، [ ويطعمهم اللحم والثريد ] ، فمن شاء أكل أو شرب (1) . وفي ذلك يقول الشاعر :

لو كان بالدهنا حريث بن جابر * لأصبح بحرا بالمفازة جاريا (2)

نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر قال : سمعت الشعبي يذكر [ أن (3) ] صعصعة قال : عبأ لمذحج ولبكر بن وائل ذو الكلاع وعبيد الله ، فأصابوا ذا الكلاع وعبيد الله ، فاقتتلوا قتالا شديدا . قال : وشدت عك ولخم وجذام والأشعرون من أهل الشام ، على مذحج وبكر بن وائل . فقال العكي في ذلك :

ويل لام مذحــج مــن عــك * لنتــركــن أمهــم تبكــي
نقتلهــم بالطعن ثــم الصــك * فلا رجــال كرجــال عـك
لكــل قــرن باســل مصــك

قال : ونادى منادي مذحج : يال مذحج ، خدموا (4) . فاعترضت مذحج لسوق القوم فكان بوار عامة القوم . وذلك أن مذحج حميت من قول العكي . وقال العكي حين طحنت رحى القوم ، وخاضت الخيل والرجال في الدماء . قال : فنادى : « يال مذحج : الله الله : في عك وجذام ،
____________
( 1 ) ح ( 1 : 500 ) : « فمن شاء أكل ومن شاء شرب » .
( 2 ) قال ابن أبي الحديد : « قلت : هذا حريث الذي كتب معاوية إلى زياد في أمره بعد عام الجماعة ـ وحريث عامل لزياد على همدان ـ : أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله فما ذكرت مواقفه بصفين إلا كانت حزازة في صدري . وكتب إليه زياد : خفض عليك يا أمير المؤمنين ، فإن حريثا قد بلغ من الشرف مبلغا لا تزيده الولاية ولا ينقصه العزل » .
( 3 ) ليست في الأصل .
( 4 ) انظر ما سبق ص 257 .

( 302 )

ألا تذكرون الأرحام ، أفنيتم لخم الكرام ، والأشعرين وآل ذي حمام (1) ، أين النهى والأحلام ، هذه النساء تبكي الأعلام » .
وقال العكي (2) : « يا عك أين المفر ، اليوم تعلم ما الخبر ، إنكم قوم صبر ، كونوا كمجتمع المدر (3) ، لا تشمتن بكم مضر ، حتى يحول الحكر (4) ، فيرى عدوكم الغير » .
وقال الأشعري (5) : « يال مذحج من للنساء غدا إذا أفناكم الردى ، الله الله في الحرمات ، أما تذكرون نساءكم والبنات ، أما تذكرون أهل فارس والروم والأتراك ، لقد أذن الله فيكم بالهلاك » : والقوم ينحر بعضهم بعضا ، ويتكادمون بالأفواه . وقال : نادى أبو شجاع الحميري وكان من ذوي البصائر مع علي فقال : يا معشر حمير [ تبت أيديكم ] ، أترون معاوية خيرا من علي ؟ أضل الله سعيكم . ثم أنت يا ذا الكلاع فوالله إن كنا نرى أن لك نية في الدين . فقال ذو الكلاع : إيها يا أبا شجاع ، والله فاعلمن ما معاوية بأفضل من علي ، ولكن إنما أقاتل على دم عثمان . قال : وأصيب ذو الكلاع بعده (6) ، قتله خندف [ بن بكر ] البكري في المعركة .
نصر : عمر ، عن الحارث بن حصيرة ، أن ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث بن قيس رسولا ، فقال له : « إن ابن عمك ذي الكلاع (7) يقرئك
____________
( 1 ) في القاموس : « وذو الحمام بن مالك حميري » .
( 2 ) ح : « ونادى منادي عك » .
( 3 ) في الأصل : « كمفترق المدر » صوابه في ح ( 1 : 500 ) .
( 4 ) الحكر في لغة أهل عك هو « الحجر » بقلب الجيم كافا . انظر ما سبق ص 228 . ح : « حتى يحول ذا الخبر » تحريف .
( 5 ) في الأصل : « الأشعرون » وفي ح : « ونادى منادي الأشعريين » .
( 6 ) ح : « حينئذ » .
( 7 ) في الأصل : « ذا الكلاع » تحريف .

( 303 )

السلام ورحمة الله ، وإن كان ذو الكلاع قد أصيب وهو في الميسرة فتأذن لنا فيه » . فقال له الأشعث : أقرئ صاحبك السلام ورحمة الله وقل له : إني أخاف أن يتهمني علي ، فاطلبه (1 ) إلى سعيد بن قيس فإنه في الميمنة . فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم ، وكانوا في اليوم والأيام يتراسلون ، فقال له معاوية : فما عسيت أن أصنع ؟ وذلك لأنهم منعوا أهل الشام أن يدخلوا عسكر علي لشيء ، خافوا أن يفسدوا أهل العسكر (2) . وقال (3) معاوية : لأنا أشد فرحا بقتل ذي الكلاع منى بفتح مصر لو فتحتها . لأن ذا الكلاع كان يحجر على معاوية في أشياء كان يأمر بها . فخرج ابن ذي الكلاع إلى سعيد بن قيس فاستأذنه في ذلك فإذن له ؛ فقال سعد الإسكاف (4) والحارث بن حصيرة قالا : قال سعيد بن قيس لابن ذي الكلاع . كذبت أن يمنعوك ، إن أمير المؤمنين لا يبالي من دخل بهذا الأمر ، ولا يمنع أحدا من ذلك فادخل . فدخل من قبل الميمنة فطاف في العسكر فلم يجده ، ثم أتى الميسرة فطاف في العسكر فوجده قد ربط رجله بطنب من أطناب بعض فساطيط العسكر ، فوقف على باب الفسطاط ؛ فقال : السلام عليكم يا أهل البيت . فقيل له : وعليك السلام . وكان معه عبد له أسود لم يكن معه غيره ، فقال : تأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم ؟ قالوا : قد أذنا لكم . ثم قالوا : معذرة إلى ربنا عز وجل وإليكم ، أما إنه لو لا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترون . فنزل ابنه إليه ـ وكان من أعظم الناس خلقا وقد انتفخ شيئا ـ فلم يستطيعا
____________
( 1 ) في الأصل : « فاطلبوا » وأثبت ما في ح .
( 2 ) ح : « فقال له إن عليا عليه السلام قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره ، يخاف أن يفسد عليه جنده » .
( 3 ) في الأصل : « فقال » .
( 4 ) هو سعد بن طريف الحنظلي ، مولاهم ، الإسكاف الكوفي ، ويقال له أيضا سعد الخفاف . روى عن الأصبغ بن نباتة وأبي جعفر وأبي عبد الله . قال ابن حجر : متروك ، ورماه ابن حبان بالوضع . انظر تهذيب التهذيب ومنتهى المقال 144 .

( 304 )

احتماله ، فقال ابنه . هل من فتى معوان ؟ فخرج إليه خندف البكري فقال : تنحوا [ عنه ] . فقال له ابن ذي الكلاع : ومن يحمله إذا تنحينا ؟ قال : يحمله الذي قتله . فاحتمله خندف ثم رمى به على ظهر البغل ، ثم شده بالحبال فانطلقوا به .
ثم تمادى الناس في القتال فاضطربوا بالسيوف حتى تعطفت (1) وصارت كالمناجل ، وتطاعنوا بالرماح حتى تكسرت [ وتناثرت أسنتها ] ، ثم جثوا على الركبات فتحاثوا بالتراب ، يحثو بعضهم في وجوه بعض التراب ، ثم تعانقوا وتكادموا [ بالأفواه ] ، وتراموا بالصخر والحجارة ، ثم تحاجزوا فجعل الرجل من أهل العراق يمر على أهل الشام فيقول : من أين آخذ (2) إلى رايات بني فلان ؟ فيقولون : هاهنا لا هداك الله . ويمر الرجل من أهل الشام على أهل العراق فيقول : كيف آخذ إلى رايات بني فلان ؟ فيقولون : هاهنا لا حفظك الله ولا عافاك .
وكان من أمراء النمر بن قاسط عبد الله بن عمرو ، من بني تميم . وقتل يومئذ فلان بن مرة بن شرحبيل ، والحارث بن عمرو بن شرحبيل .
نصر ، عن عمر بن سعد ، عن البراء بن حيان الذهلي أن أبا عرفاء جبلة بن عطية الذهلي قال للحضين (3) يوم صفين : هل لك أن تعطيني رايتك أحملها فيكون لك ذكرها ويكون لي أجرها ، فقال له الحضين (4) : وما غناي [ يا عم ] عن أجرها مع ذكرها ؟ قال له : لا غنى بك عن ذلك ، أعرها عمك ساعة (5)
____________
( 1 ) تعطفت : تثنت وتلوت . وفي الأصل وح : « تقطعت » والوجه ما أثبت .
( 2 ) ح ( 1 : 501 ) : « كيف آخذ » .
( 3 ) في الأصل : « للحصين » وانظر ما سبق ص 287 .
( 4 ) في الأصل : « الحصين » بالصاد المهملة ، تحريف .
( 5 ) في الأصل : « أعيرها عنك ساعة » صوابه في ح ( 1 : 500 ) .

( 305 )

فما أسرع ما ترجع إليك . فعلم أنه يريد أن يستقتل ، قال : فما شئت . فأخذ الراية أبو عرفاء فقال : يا أهل هذه الراية ، إن عمل الجنة كره كله [ وثقيل ] ، وإن عمل النار خف كله [ وحبيب (1) ] ، وإن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون ، الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله وأمره ، وليس شيء مما افترض الله على العباد أشد من الجهاد ، هو أفضل الأعمال ثوابا . فإذا رأيتموني قد شددت فشدوا . ويحكم ، أما تشتاقون إلى الجنة ، أما تحبون أن يغفر الله لكم . فشد وشدوا معه فاقتتلوا اقتتالا شديدا ، وأخذ الحضين (2) يقول :

شدوا إذا مــا شد باللــواء * ذاك الرقــاشي أبو عرفــاء

فقاتل أبو عرفاء حتى قتل ، [ وشدت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضتها ] . وفي ذلك قال مجزأة بن ثور (2) :

أضربهـــم ولا أرى معاويــه * الأبرج العيــن العظيم الحاويــه (3)
هوت به في النـــار أم هاويــه * جاوره فيهـــا كلاب عاويــه
أغوى طغامــا لا هدتــه هادبــه

قال : وقال معاوية لعمرو : أما ترى يا أبا عبد الله ما قد دفعنا فيه ؟ كيف ترى أهل العراق غدا صانعين ؟ إنا لبمعرض خطر عظيم . فقال له عمرو : إن أصبحت ربيعة متعطفين حول على تعطف الإبل حول فحلها لقيت منهم جلادا
____________
( 1 ) هذه التكملة التي أثبت من ح هي في أصلها : « وخبيث » ، والمقابلة تقتضي ما أثبت .
( 2 ) هو مجزأة بن ثور بن عفير بن زهير بن عمرو بن كعب بن سدوس السدوسي ، أحد الصحابة ، وكان رئيسا . انظر الإصابة 7724 . وفي ح : « محرز بن ثور » تحريف . والرجز يروي لبديل بن ورقاء كما في مروج الذهب ( 2 : 25 ) ولعلي رضي الله عنه كما في اللسان ( 18 : 229 ) ومروج الذهب . وللأخنس ، كما في الاشتقاق 148 .
( 3 ) البرج : سعة العين . والحاوية : واحدة الحوايا ، وهي الأمعاء .

( 306 )

صادقا وبأسا شديدا ، [ وكانت التي لا يتعزى لها ] . فقال له معاوية : أبخؤولتك تخوفني يا أبا عبد الله ؟ قال : إنك سألتني فأجبتك . فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا وربيعة محدقة بعلي عليه السلام إحداق بياض العين بسوادها ، وقام خالد بن المعمر فنادى : من يبايع نفسه على الموت ويشرى نفسه لله ؟ فبايعه سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يرد سرادق معاوية . فاقتتلوا قتالا شديدا وقد كسروا جفون سيوفهم .
نصر ، قال عمر : حدثني ابن أخي عتاب بن لقيط البكري من بني قيس ابن ثعلبة أن عليا حيث انتهى إلى رايات ربيعة قال ابن لقيط : إن أصيب على فيكم افتضحتم ، وقد لجأ إلى راياتكم . وقال لهم شقيق بن ثور : يا معشر ربيعة ، ليس لكم عذر في العرب إن أصيب على (1) فيكم ومنكم رجل حي ، إن منعتموه فحمد الحياة ألبستموه . فقاتلوا قتالا شديدا لم يكن قبله [ مثله ] حين جاءهم علي . ففي ذلك تعاقدوا وتواصوا ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يرد سرادق معاوية . فلما نظر إليهم معاوية قد أقبلوا قال :

إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت * كتائب منهم كالجبال تجالد

ثم قال معاوية لعمرو : ماذا ترى ؟ قال : أرى ألا تحنث أخوالي اليوم . فخلى معاوية عنهم وعن سرادقه وخرج فارا عنه لائذا إلى بعض مضارب العسكر ، فدخل فيه . وبعث معاوية إلى خالد بن المعمر : إنك قد ظفرت ولك إمرة خراسان إن لم تتم . فطمع خالد في ذلك ولم يتم (2) ، فأمره معاوية ـ حين بايعه الناس ـ على خراسان ، فمات قبل أن يصل إليها .
____________
( 1 ) ح ( 1 : 501 ) « إن وصل إلى علي » .
( 2 ) ح : « فقطع خالد القتال ولم يتمه » .

( 307 )


وفي ذلك قال النجاشي :

لو شهدت هند لعمــري مقامنــا * بصفين فدتنا بكعــب بن عامــر
فياليت أن الأرض تنشـــر عنهم * فيخبرهم أنباءنـا كــل خابـــر
بصفيـن إذ قمنا كأنــا سحابــة * سحـاب ولى صـوبــه متبــادر
فأقسم لو لاقيت عمـرو بــن وائل * بصفين الفانـــي بعهــدة غـادر
فولوا سراعا موجفيــن كأنهــم * نعام تلاقي خلفهـــن زواجـــر
وفر ابن حرب عفـــر الله وجهه * وأراده خزيا ، إن ربـي قـــادر
معاوي لولا أن فقدنـــاك فيهــم * لغودرت مطروحا بها مــع معاشر
معاشر قــوم ضلل الله سعيهــم * وأخزاهم ربــي كخزي السواحـر

قال : وقال مرة بن جنادة العليمي ، من بني عليم من كلب (1) :

ألا سألت بنـــا غداة تبعثــرت * بكر العــراق بكل عضب مقصــل (2)

برزوا إلينا بالرمــاح تهزهـــا * بيــن الخنادق مثل هــز الصيقـل

والخيل تضبر في الحديـد كأنهــا * أســد أصابتهــا بليــل شمــأل (3)

وفي حديث عمر بن سعد قال : ثم إن عليا صلى الغداة ثم زحف إليهم ، فلما أبصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب على ألف رجل أو أكثر ، فأحاطوا بهم وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلم يروهم ، فنادى علي
____________
( 1 ) هم بنو عليم بن جناب بن هبل ، إحدى قبائل كلب بن وبرة ، من قضاعة . انظر الاشتقاق 316 ثم 314 .
( 2 ) مقصل ، بالقاف : قطاع . وفي الأصل : « مفصل » .
( 3 ) تضبر : تثب . وفي الأصل : « تصبر » تحريف . والحديد ، هنا : السلاح . والبليل : الريح الندية . وفي هذا البيت إقواء .

( 308 )

يومئذ : ألا رجل يشري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته ؟ فأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحارث ، على فرس أدهم كأنه غراب ، مقنعا في الحديد ، لا يرى منه إلا عيناه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، مرني بأمر ، فوالله ما تأمرني بشئ إلا صنعته . فقال علي :

سمحت بأمر لا يطــاق حفيظــة * وصدقــا ، وإخوان الحفاظ قليــل (1)
جزاك إله الناس خيرا فقـــد وفت * يداك بفضل مــا هناك جزيـــل (2)

أبا الحارث ، شد الله ركنك ، احمل لي أهل الشام حتى تأتي أصحابك فتقول لهم : أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم : هللوا وكبروا من ناحيتكم ، ونهلل نحن ونكبر من هاهنا ، واحملوا من جانبكم ونحمل من جانبنا على أهل الشام . فضرب الجعفي فرسه حتى إذا قام على السنابك (3) ، حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي فطاعنهم ساعة وقاتلهم فانفرجوا له حتى أتى أصحابه ، فلما رأوا استبشروا به وفرحوا وقالوا : ما فعل أمير المؤمنين ؟ قال : صالح يقرئكم السلام ويقول لكم : هللوا وكبروا واحملوا حملة رجل واحد من ذلك الجانب . وحملوا على أهل الشام من ثم ، وحمل على من هاهنا في أصحابه ، فانفرج أهل الشام عنهم فخرجوا وما أصيب منهم رجل واحد . ولقد قتل من فرسان أهل الشام يومئذ زهاء سبعمائة رجل . قال : وقال علي : من أعظم الناس غناء ؟ فقالوا : أنت يا أمير المؤمنين ، قال : كلا ، ولكنه الجعفي .
وذكروا أن عليا كان لا يعدل بربيعة أحدا من الناس ، فشق ذلك على
____________
( 1 ) ح ( 1 . 501 ) : « وإخوان الصفاء » .
( 2 ) في البيت إقواء . وفي ح : « خيرا فإنه * لعمرك فضل » .
( 3 ) ح : « على أطراف سنابكه » .

( 309 )

مضر وأظهروا لهم القبيح ، وأبدوا ذات أنفسهم ، فقال حضين بن المنذر [ الرقاشي ] شعرا أغضبهم ، فيه :

رأت مضر صارت ربيعــة دونهم * شعار أمير المؤمنين ، وذا الفضــل
فأبدوا إلينا ما تجــن صدورهــم * علينا من البغضــا وذاك له أصـل (1)
فقلت لهم لما رأيــت رجالهـــم * بدت بهم قطو كــأن بهم ثقـــل
إليكم أهيبــوا لا أبــا لأبيكــم * فإن لكم شكــلا وإن لنــا شكـل
ونحن أناس خصنــا الله بالتــي * رآنا لها أهلا وأنتــم لهـــا أهل
فأبلوا بلانا أو أقــروا بفضلنــا * ولن تلحقونا الدهر مــا حنت الإبل

فغضبوا من شعر حضين ، فقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني (2) ، وعمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي ، ووجوه بني تميم ، وقبيصة ابن جابر الأسدي في وجوه بني أسد ، وعبد الله بن الطفيل العامري (3) في وجوه هوازن ، فأتوا عليا فتكلم أبو الطفيل فقال يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما نحسد قوما خصهم الله منك بخير إن أحمدوه وشكروه ، وإن هذا الحي من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منا ، وأنك لهم دوننا ، فأعفهم عن القتال أياما ، واجعل لكل امرئ منا يوما يقاتل فيه ، فإنا إذا اجتمعنا (4) اشتبه عليك بلاؤنا . فقال علي : أعطيتم ما طلبتم يوم الأربعاء (5) ، وأمر
____________
( 1 ) ح : فأبدوا لنا مما تجن صدورهم * هو السوء والبغضاء والحقد والغل »
( 2 ) هو عامر بن واثلة ـ بالثاء المثلثة ـ بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي . ولد عام أحد ، ورأى الرسول ، وروى عن أبي بكر فمن بعده ، وعمر إلى أن مات سنة عشر ومائة . وهو آخر من مات من الصحابة . انظر الإصابة 670 من باب الكني ، وتهذيب التهذيب . ح : « بن وائلة » تحريف .
( 3 ) هو عبد الله بن الطفيل بن ثور بن معاوية العامري ثم البكائي . انظر ما سبق ص 206 والإصابة 6328 . وفي الأصل : « عبيد الله بن عامر » صوابه في ح ( 1 : 502 ) . وسيأتي على الصواب أيضا ص 311 .
( 4 ) في الأصل : « إن اجتمعنا » وأثبت ما في ح .
( 5 ) يوم الأربعاء ، ليست في ح .

( 310 )

ربيعة أن تكف عن القتال ، وكانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام .
فغدا [ أبو الطفيل ] عامر بن واثلة في قومه من كنانة وهم جماعة عظيمة ، فتقدم أمام الخيل وهو يقول : طاعنوا وضاربوا . ثم حمل وهو يقول :
قد صابرت في حربهـــا كنانـه (1) * والله يجزيهــا بهــــا جنانه
من أفرغ الصبر عليـــه زانـه * أو غلــــب الجبـن عليــه شانه
أو كفـــر الله فقــد أهانــه * غــدا يعـض مــن عصى بنانـه

فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، إنك نبأتنا أن أشرف القتل الشهادة ، وأحظى الأمر الصبر ، وقد والله صبرنا حتى أصبنا ، فقتيلنا شهيد ، وحينا ثائر (2) ، فاطلب بمن بقى ثأر من مضى ، فإنا وإن كان قد ذهب صفونا (3) وبقى كدرنا فإن لنا دينا لا يميل به الهوى ، ويقينا لا يزحمه الشبهة " .
فأثنى علي عليه خيرا ، ثم غدا يوم الجمعة عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم ، وهو يومئذ سيد مضر من أهل الكوفة ، فقال : يا قوم ، إني أتبع آثار أبي الطفيل وتتبعون آثار كنانة . فتقدم برايته وهو يقول :

قد ضاربــت في حربها تميــم * إن تميمــا خطبهــا عظيــم
لهـا حديــث ولهــا قديــم * إن الكريـــــم نسلــه كريم
إن لم تزرهــم رايتي فلومـوا (4) * دين قويــم وهوى سليـــم

فطعن برايته حتى خضبها دما ، وقاتل أصحابه قتالا شديدا حتى أمسوا ،
____________
( 1 ) ح : « ضاربت » .
( 2 ) ثائر ، من الثأر . ح : « سعيد » .
( 3 ) في الأصل : « عفونا » صوابه في ح .
( 4 ) في الأصل : « إن لم تزدهم » تحريف . وفي ح : « إن لم تردهم » .

( 311 )

وانصرف عمير إلى علي وعليه سلاحه فقال : يا أمير المؤمنين ، قد كان ظني بالناس حسنا ، وقد رأيت منهم فوق ظني بهم ، قاتلوا من كل جهة ، وبلغوا من عفوهم جهد عدوهم (1) ، وهم لهم إن شاء الله .
ثم غدا يوم السبت قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد ، وهم حي الكوفة بعد همدان ، فقال : « يا معشر بني أسد ، أما أنا فلا أقصر دون صاحبي ، وأما أنتم فذاك إليكم » ثم تقدم برايته وهو يقول :

قد حافظت في حربهــا بنو أســد * ما مثلهـــا تحت العجاج مــن أحد
أقرب من يمـــن وأنأي من نكـد * كأننــا ركنا ثبيـــر أو أحـــد (2)
لسنا بأوبــــاش ولا بيـض البلد (3) * لكننا المحــة من ولـــد معد (4)
كنت ترانا فـي العجـــاج كالأسد * ياليت روحــي قد نأي عـــن الجسد

فقاتل القوم ولم يكونوا على ما يريد (5) في الجهد ، فعذلهم علي ما يجب فظفر ، ثم أتى عليا فقال : « يا أمير المؤمنين ، إن استهانة النفوس في الحرب أبقى لها (6) ، والقتل خير لها في الآخرة » .
ثم غدا يوم الأحد عبد الله بن الطفيل العامري (7) ـ وكان سيد بني عامر ، فغدا بجماعة هوازن وهو يقول :
____________
( 1 ) العفو : ما جاء في يسر لا كلفة معه .
( 2 ) في الأصل : « ركن ثبير » وأثبت ما في ح .
( 3 ) بيضة البلد ، مثل في الذلة والقلة ، وهي بيضة النعام التي يتركها .
( 4 ) الولد ، بالضم : جمع ولد ، كأسد وأسد . وفي الأصل : « من ولد سعد » صوابه في ح ( 1 : 502 ) . وكأنه ينظر إلى قول عبد الله بن الزبعري :

كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمح خالصة لعبد مناف

( 5 ) في الأصل : « يزيد » .
( 6 ) ينظر إلى قول الحنساء :

نهين النفوس وهون النفو * س يوم الكريهة أبقى لها

( 7 ) سبقت ترجمته في ص 309 .

( 312 )

قد ضاربــت في حربهــا هوازن * أولاك قــــوم لهـــم محاسن
حبي لهـــم حزم وجأشي ساكـن * طعن مداريـك وضـــرب واهن (1)
هذا وهذا كــل يــــوم كائــن * لم يخبـــروا عنا ولكـن عاينوا

واشتد القتال بينهم حتي الليل ، ثم انصرف عبد الله بن الطفيل فقال : يا أمير المؤمنين ، أبشر ، فإن الناس نقمة ، لقيت والله بقومي أعدادهم من عدوهم ، فما ثنوا أعنتهم حتى طعنوا في عدوهم ، ثم رجعوا إلى فاستكرهوني على الرجوع إليهم ، واستكرهتهم على الانصراف إليك ، فأبوا ثم عادوا فاقتتلوا . فأثنى على عليهم خيرا ، وفخرت المصرية بما كان منهم على الربعية ، وانتصفوا من الربعية . وقال عامر بن واثلة :

حامت كنانـــة فـي حربهـــا * وحامت تميـم وحامـــت أســد
وحامـت هوازن يــوم اللقـــا * فما خـام منـــا ومنهــم أحـد
لقينـــا قبائـــل أنسابهـــم * إلى حضــر موت وأهـل الجند (2)
لقينـا الفـــوارس يـوم الخميـ * س والعيـد والسبــت ثـم الأحد (3)
وأمدادهم خلــــف آذانهــم * وليس لنـا مـن سوانــا مــدد (4)
فلمــا تنــــادوا بـآبائهـم * دعونـا معــدا ونعــم المعــد
فظلنــا نفلـــق هاماتهــــم * ولم نــك فيهــا ببيض البلــد
ونعم الفــوارس يــــوم اللقاء * فقل في عديـــد وقل في عـدد
وقل في طعـــان كفرغ الدلاء * وضرب عظيم كنـــار الوقـد (5)

____________
( 1 ) الضرب الواهن : الموهن . يقال وهنه وأوهنه ، أي أضعفه .
( 2 ) الجند ، بالتحريك : قسم من أقسام اليمن ، وهي من أرض السكاسك ، بينها وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخا . وفي الأصل : « جند » صوابه في ح ( 1 : 503 ) .
( 3 ) يعني بيوم العيد يوم الجمعة .
( 4 ) خلف آذانهم ، أي هم من القرب إليهم بذلك المكان . وفي الأصل : « أذنابهم » والوجه ما أثبت من ح .
( 5 ) فرغ بضم الراء : جمع فراغ ككتاب ، وهو مصب الدلو . وسكن الراء للشعر .

( 313 )

ولكن عصفنــا بهم عصفــة * وفي الحرب يمـــن وفيهــا نكد
طحنا الفوارس وســط العجاج * وسقنا الزعانــف سوق النقـــد
وقلنـا ، علي لنـــا والــد * ونحن لــه طاعـــة كالولــد

قال : وبلغ أبا الطفيل أن مروان وعمرو بن العاص يشتمون أبا الطفيل ، فقال أبو الطفيل الكناني :

أيشتمني عمرو ومـــروان ضلـة * بحكم ابن هنــد والشقـي سعيــد
وحول ابن هند شائعــون كأنهــم * إذا ما استقامــوا في الحديـث قرود
يعضون مــن غيظ علي أكفهــم * وذلك غــم لا أجــب شديـــد
وما سبني إلا ابـن هنـــد وإنني * لتلك التي يشجــى بهــا لرصود
وما بلغت أيام صفيـــن نفسـه * تراقيــه والشــامتــون شهـود
وطارت لعمرو في الفجـاج شظيـة * ومروان من وقــع الرمــاح يحيد

نصر عن عمرو ، عن الأشعث بن سويد ، عن كردوس قال : كتب عقبة ـ وهو ابن مسعود ، عامل علي على الكوفة ـ إلى سليمان بن صرد [ الخزاعي ] ، وهو مع علي بصفين : « أما بعد فإنهم ( إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ) . فعليك بالجهاد والصبر مع أمير المؤمنين . والسلام عليك » .
نصر ، عن عمر [ بن سعد ] وعمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : قام علي فخطب الناس بصفين يومئذ فقال :
« الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر ، وعلى حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم ومن عصاه . إن رحم فبفضله ومنه ، وإن عذب فبما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد . أحمده على حسن


( 314 )

البلاء ، وتظاهر النعماء ، وأستعينه على ما نابنا من أمر دنيا أو آخرة ، وأومن به وأتوكل عليه وكفى بالله وكيلا . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ارتضاه لذلك ، وكان أهله ، [ و ] اصطفاه على جميع العباد لتبليغ رسالته ، وجعله رحمة منه على خلقه ، فكان كعلمه فيه رؤوفا رحيما ، أكرم خلق الله حسبا (1) ، وأجمله (2) منظرا وأسخاه نفسا ، وأبره بوالد ، وأوصله لرحم ، وأفضله علما ، وأثقله حلما ، وأوفاه بعهد ، وآمنه علي عقد ، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط ، بل كان يظلم فيغفر ، ويقدر (3) فيصفح ويعفو ، حتى مضى صلى الله عليه مطيعا لله صابرا على ما أصابه ، مجاهدا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، صلى الله عليه [ وآله ] فكان ذهابه أعظم المصيبة على جميع أهل الأرض والبر والفاجر . ثم ترك كتاب الله فيكم يأمر بطاعة الله وينهى عن معصيته . وقد عهد إلى رسول الله صلى الله عليه عهدا فلست أحيد عنه ، وقد حضرتم عدوكم وقد علمتم من رئيسهم ، منافق ابن منافق يدعوهم إلى النار ، وابن عم نبيكم معكم بين أظهركم يدعوكم إلى [ الجنة وإلى ] طاعة ربكم ، ويعمل بسنة نبيكم صلى الله عليه . فلا سواء من صلى قبل كل ذكر . لم يسبقني بصلاتي مع رسول الله صلى الله عليه حد ، وأنا من أهل بدر ، ومعاوية طليق ابن طليق . والله إنكم لعلى حق وإنهم لعلى باطل ، فلا يكونن القوم على باطلهم اجتمعوا عليه وتفرقون عن حقكم حتى يغلب باطلهم حقكم . ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) . فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم » .
____________
( 1 ) في الأصل : « حسنا » وأثبت ما في ح .
( 2 ) في ح : « وأجملهم » وكذا سائر ضمائر العبارة إلى قوله : « وآمنه على عقد » أي بضمير الجمع .
( 3 ) في الأصل : « ويغدر » صوابه في ح .

( 315 )

فأجابه أصحابه فقالوا : يا أمير المؤمنين ، انهض بنا إلى عدونا وعدوك إذا شئت ، فوالله ما نريد بك بدلا ، نموت معك ونحيا معك . فقام لهم علي مجيبا لهم : والذي نفسي بيده لنظر إلى رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] أضرب قدامه بسيفي فقال : « لا سيف إلا ذو الفقار (1) ، ولا فتى إلا علي » . وقال : « يا علي ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، وموتك وحياتك يا علي معي » . والله ما كذبت ولا كذبت ، ولا ضللت ولا ضل بي ، وما نسيت ما عهد إلى ، وإني لعلى بينة من ربي ، وإني لعلى الطريق الواضح . ألفظه لفظا .
ثم نهض إلى القوم ، فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق ، وما كانت صلاة القوم إلا تكبيرا .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن صعصعة بن صوحان ذكر أن علي بن أبي طالب صاف أهل الشام ، حتى برز رجل من حمير من آل ذي يزن ، اسمه كريب بن الصباح ، ليس في أهل الشام يومئذ رجل أشهر شدة بالبأس منه . ثم نادى : من يبارز ؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي ، فقتل المرتفع . ثم نادى : من يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاح (2) فقتل ؟ ثم نادى : من يبارز ؟ فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني (3) فقتل عائذا ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثم قام عليها بغيا واعتداء ، ثم نادى : هل بقي من مبارز ؟ فبرز إليه على ثم ناداه : ويحك يا كريب ، إني أحذرك [ الله وبأسه ونقمته ] ، وأدعوك إلى سنة الله وسنة رسوله ، ويحك لا يدخلنك
____________
( 1 ) ذو الفقار : اسم سيف النبي صلى الله عليه ، سمى بذلك لحفر صغار حسان كانت به . وكان للعاص بن منبه ، ثم صار إلى الرسول ، ثم صار إلى علي . انظر اللسان ، وما يعول عليه .
( 2 ) ح : « بن اللجلاج » .
( 3 ) ح : « عابد » بالباء الموحدة .

( 316 )

ابن آكلة الأكباد النار . فكان جوابه أن قال : ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك ، فلا حاجة لنا فيها . أقدم إذا شئت . من يشتري سيفي وهذا أثره ؟ فقال عليه عليه السلام : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خر منها قتيلا يتشحط في دمه .
ثم نادى : من يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتل الحارث . ثم نادى : من يبارز ؟ فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني (1) ، فقتل مطاعا ثم نادى : من يبرز ؟ فلم يبرز إليه أحد .
ثم إن عليا نادى : يا معشر المسلمين ، ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (2) ) . ويحك يا معاوية هلم إلى فبارزني ولا يقتلن الناس فيما بيننا . فقال عمرو : اغتنمه منتهزا ، قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإني أطمع أن يظفرك الله به . فقال معاوية : ويحك يا عمرو ، والله إن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي ، اذهب إليك ، فليس مثلي يخدع .
وقال المخارق بن الصباح الحميري في ذلك ، وقد قتل إخوة له ثلاثة وقتل أبوه وكان من أعلام العرب . فقال وهو يبكي على العرب :

أعوذ بالله الـذي قـــد احتجـب * بالنــور والسبـع الطبـاق والحجب
أمن ذوات الديــن منـا والحسب * لا تبكيــن عيــن على من قد ذهب
ليس كمثــل الله شيء يرتهــب * يـا رب لا تهلــك أعلام العــرب (3)

____________
( 1 ) ح ( 1 : 504 ) : « العبسي » .
( 2 ) في الأصل : « مع الصابرين » تحريف . والآية هي ال‍ 194 من البقرة .
( 3 ) أراد لا تهلكن ، فحذف نون التوكيد الحقيقة ، وأبقى الفتحة قبلها تدل عليها . انظر ما سبق ص 177 في التنبيه الثالث .

( 317 )

القائليــن الفاعلين في التعــب * والمطعميـــن الصالحين في السغــب
أفناهم يـــوم الخميس المعتصـــب (1)

قال : فأرسل إليه معاوية بألف درهم .
نصر ، قال عمر : حدثني خالد بن عبد الواحد الجزري (2) قال : حدثني من سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين ، وهو يحرض أصحابه بصفين ، فقام محنيا على قوس فقال :
الحمد لله العظيم [ في ] شأنه ، القوى في سلطانه ، العلي في مكانه ، الواضح [ في ] برهانه . أحمده على حسن البلاء ، وتظاهر النعماء ، وفي كل لزبة من بلاء (3) أو شدة أو رخاء . وأشهد ألا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله . ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين ما أصبح في أمة محمد صلى الله عليه من اشتعال نيرانها ، وظلام جنباتها ، واضطراب حبلها ، ووقوع بأسها بينها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين . أولا تعلمون أن صلاتنا وصلاتهم ، وصيامنا وصيامهم ، وحجنا وحجهم ، وقبلتنا وقبلتهم ، وديننا ودينهم واحد ، ولكن الأهواء متشتتة (4) . اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها ، واحفظ فيها بنيها (5) . مع أن القوم قد وضئوا بلادكم ، وبغوا عليكم فجدوا في قتال عدوكم ، واستعينوا بالله ربكم ، وحافظوا على حرماتكم » .
ثم إنه جلس ، ثم قام عبد الله بن العباس خطيبا فقال :
____________
( 1 ) المعتصب ، وصف من قولهم يوم عصيب أي شديد . وفي الأصل : « المغتصب » .
( 2 ) ح : « الجريري » .
( 3 ) اللزبة : الشدة . ح : « رزية » .
( 4 ) ح : « مختلفة » .
( 5 ) ح : « واحفظ فيما بيننا » .