« الحمد لله رب العالمين ، الذي دحا تحتنا سبعا ، وسمك فوقنا سبعا (1) ، ثم خلق فيما بينهن خلقا ، وأنزل لنا منهن رزقا (2) ، ثم جعل كل شئ يبلى ويفنى غير وجهه ، الحي القيوم الذي يحيا ويبقى . ثم إن الله بعث أنبياء ورسلا فجعلهم حججا على عباده ، عذرا أو نذرا ، لا يطاع إلا بعلمه وإذنه ، يمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها ، ويعصي [ بعلم منه ] فيعفو ويغفر بحلمه ، لا يقدر قدره ، ولا يبلغ شئ مكانه ، أحصى كل شيء عددا ، وأحاط بكل شئ علما . ثم إني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه ، إمام الهدى والنبي المصطفى . وقد ساقنا قدر الله إلى ما قد ترون ، حتي كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من أمرها ، أن ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعوانا على علي بن أبي طالب ، ابن عم رسول الله وصهره ، وأول ذكر صلى معه ، بدري قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه كل مشاهده التي فيها الفضل ، ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام . واعلموا والله الذي ملك الملك وحده فبان به وكان أهله ، لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه ، وعلي يقول : صدق الله ورسوله ، ومعاوية وأبو سفيان يقولان : كذب الله ورسوله . فما معاوية في هذه بأبر ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في قتالكم . فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر ، وإنكم لعلى الحق وإن القوم لعلى الباطل . فلا يكونن أولى بالجد في باطلهم منكم في حقكم . أما والله إنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم . اللهم ربنا أعنا ولا تخذلنا ، وانصرنا على عدونا ولا تخل عنا (3) ، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين . والسلام
____________
( 1 ) سمك : رفع . ويقال سمكته فسمك ، أي رفعته فارتفع .
( 2 ) في الأصل : « وأنزل لهم فيها رزقا » وأثبت ما في ح :
( 3 ) « ولا تحل عنا » من حال يحول .

( 319 )

عليكم ورحمة الله وبركاته . أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم » .
نصر ، عن عمر قال : حدثني عبد الرحمن بن جندب ، عن جندب بن عبد الله قال : قام عمار بن ياسر بصفين فقال : " امضوا (1) [ معي ] عباد الله إلى قوم يطلبون ـ فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه ، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان . فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم [ و ] لو درس هذا الدين : لم قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه . فقالوا : إنه ما أحدث شيئا . وذلك لأنه مكنهم من الدنيا فيهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدت عليهم الجبال . والله ما أظنهم يطلبون دمه (2) إنهم ليعلمون أنه لظالم ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمروها ، وعلموا لو أن [ صاحب ] الحق لزمهم لحال بينهم وبين ما [ يأكلون و ] يرعون فيه منها . ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوما . ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا . وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ، ولولا هي (3) ما بايعهم من الناس رجلان (4) . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم .
____________
( 1 ) ح : « انهضوا » .
( 2 ) ح ( 1 : 505 ) : « بدم » .
( 3 ) هذا هو المعتمد في مثل هذا التعبير ، كما جاء في الطبري ( 6 : 22 ) بل ذهب المبرد إلى أن « لولا » لا يليها من المضمرات إلا المنفصل المرفوع ، واحتج بأنه لم يأت في القرآن غير ذلك . وفي قول الله : ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) انظر الخزانة ( 2 : 430 ـ 433 ) وشرح الرضي للكافية ( 2 : 18 ـ 19 ) . وجاء في ح ( 1 : 504 ) : « لولاها » وفي جواز هذا الوجه ـ وهو إيلاؤها الضمير المشترك بين النصب والجر ـ خلاف ، ومما سمع منه قوله :

* لولاك في ذا العام لم أحجج *

( 4 ) وكذا في الطبري ، لكن في ح : « رجل » .

( 320 )


ثم مضى ومضى معه أصحابه ، فلما دنا من عمرو بن العاص قال : يا عمرو : بعت دينك بمصر ! تبا لك ، وطالما بغيت الإسلام عوجا ! ثم حمل عمار وهو يقول :

صدق الله وهــو للصــدق أهل * وتعالى ربــي وكــان جليــلا

رب عجـــل شهادة لي بقتــل * في الذي قد أحــب قتلا جميـلا (1)

مقبلا غيــر مدبــر إن للقت‍ــ * ل علــى كــل ميتــة تفضيلا

إنهم عند ربهـــم فــي جنـان * يشربـــون الرحيـق والسلسبيلا

من شراب الأبــرار خالطـه المس‍ * ك ، وكأســا مزاجهــا زنجبيلا

ثم نادى عمار عبيد الله بن عمر ، وذلك قبل مقتله ، فقال يا ابن عمر ، صرعك الله ! بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام . قال : كلا ، ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم . قال : كلا ، أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله ، وإنك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا . فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك ؟
ثم قال عمار : اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت . اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحنى عليها حتى يخرج من ظهري لفعلت . اللهم وإني أعلم مما أعلمتني أني لا أعمل (2) اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته .
نصر ، عن يحيى بن يعلى ، عن صباح المزني (3) ، عن الحارث بن حصيرة
____________
( 1 ) في الذي ، أي مع الذين .
( 2 ) في الأصل : « لا أعلم » وأثبت ما في ح ( 1 : 505 ) .
( 3 ) هو صباح بن يحيى أبو محمد المزني ، يروى عن الحارث بن حصيرة . قال ابن عدي : هو من جملة الشيعة . انظر لسان الميزان ومنتهى المقال 164 .

( 321 )

عن زيد بن أبي رجاء ، عن أسماء بن الحكم الفزاري قال : كنا بصفين مع علي بن أبي طالب تحت راية عمار بن ياسر ، ارتفاع الضحى ـ استظللنا ببرد أحمر ، إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا فقال : أيكم عمار بن ياسر ؟ فقال عمار بن ياسر : هذا عمار . قال : أبو اليقظان ؟ قال : نعم . قال : إن لي حاجة إليك فأنطق بها علانية أو سرا ؟ قال : اختر لنفسك أي ذلك شئت . قال : لا ، بل علانية . قال : فانطق . قال : إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل ، فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى كان ليلتي هذه صباح يومنا هذا ، فتقدم منادينا فشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونادى بالصلاة ، فنادى مناديهم بمثل ذلك ، ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة ، ودعونا دعوة واحدة ، وتلونا كتابا واحدا ، ورسولنا واحد ، فأدركني الشك في ليلتي هذه ، فبت بليلة لا يعلمها إلا الله حتى أصبحت ، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له فقال : هل لقيت عمار بن ياسر ؟ قلت : لا . قال : فالقه فانظر ما يقول لك فاتبعه . فجئتك لذلك . قال له عمار : هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلتي (1 ) فإنها راية عمرو بن العاص ، قاتلتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، وهذه الرابعة ما هي بخيرهن ولا أبرهن ، بل هي شرهن وأفجرهن . أشهدت بدرا وأحدا وحنينا أو شهدها لك أب فيخبرك عنها ؟ قال : لا . قال : فإن مراكزنا على مراكز رايات رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم حنين ، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب ، هل ترى هذا العسكر ومن فيه ؟ فوالله لوددت أن جميع من أقبل مع معاوية ممن يريد قتالنا مفارقا للذي نحن عليه كانوا
____________
( 1 ) في الأصل : « لمقابلتي » تحريف . وفي ح ( 1 : 506 ) : « المقابلة لي » .
( 322 )

خلقا واحدا فقطعته وذبحته . والله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور . أفترى دم عصفور حراما ؟ قال : لا ، بل حلال . قال : فإنهم كذلك حلال دماؤهم ، أتراني بينت لك ؟ قال : قد بينت لي . قال : فاختر أي ذلك أحببت . قال : فانصرف الرجل ثم دعاه عمار بن ياسر فقال : أما إنهم سيضربوننا بأسيافهم (1) حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولون : لو لم يكونوا على حق ما ظهروا علينا . والله ما هم من الحق على ما يقذى عين ذباب . والله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر (2) لعرفت أنا على حق وهم على باطل . وأيم الله لا يكون سلما سالما أبدا حتى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين ، وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنهم على الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم . ولا ينصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن موتاهم وقتلاهم في الجنة ، وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار ، وكان أحياؤهم على الباطل .
نصر ، عن يحيى (3) ، عن علي بن حزور (4) عن الأصبغ بن نباتة قال : جاء رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، هؤلاء القوم الذين نقاتلهم : الدعوة واحدة ، والرسول واحد ، والصلاة واحدة ، والحج واحد فبم نسميهم ؟ قال : تسميهم بما سماهم الله في كتابه . قال : ما كل ما في الكتاب أعلمه . قال : أما سمعت الله قال : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) إلى قوله : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات
____________
( 1 ) ح : « سيضربونكم بأسيافهم » .
( 2 ) ذكر هذا الحديث في اللسان ( 11 : 52 ) : وقال : « وإنما خص هجر للمباعدة في المسافة ، ولأنها موصوفة بكثرة النخيل » .
( 3 ) هو يحيى بن يعلى ، كما في ح . وانظر ص 217 .
( 4 ) حزور ، بالحاء المهملة والزاي المفتوحتين والواو المشددة . ويقال له أيضا علي بن أبي فاطمة . متروك شديد التشيع . مات بعد الثلاثين والمائة . منتهى المقال 210 .

( 323 )

ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) . فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبي وبالحق . فنحن الذين آمنوا ، وهم الذين كفروا ، وشاء الله قتالهم فقاتلناهم هدى ، بمشيئة الله (1) ربنا وإرادته .
نصر ، عن سفيان الثوري وقيس بن الربيع (2) ، عن أبي إسحاق ، عن هانيء بن هانيء ، عن علي قال : جاء عمار بن ياسر يستأذن على النبي صلى الله عليه وآله فقال : « ايذنوا له . مرحبا بالطيب ابن الطيب » .
نصر عن سفيان بن سعيد (3) ، عن سلمة بن كهيل ، عن مجاهد ، عن النبي صلى الله عليه ـ يعني أنه رآهم يحملون الحجارة حجارة المسجد ـ فقال : « ما لهم ولعمار ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار . وذاك الأشقياء الفجار » .
نصر ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي عمار ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه ، قال : « لقد ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه (4) » .
نصر ، عن الحسن بن صالح ، عن أبي ربيعة الإيادي ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه قال : « إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة : علي ، وعمار ، وسلمان (5) ) .
____________
( 1 ) في الأصل : « بسنة الله » وأثبت ما في ح ( 1 : 506 ) .
( 2 ) هو قيس بن الربيع الأسدي ، أبو محمد الكوفي . قال ابن حجر : « لا يكاد يعرف ، عداده في التابعين » . انظر لسان الميزان ومنتهى المقال 247 . وفي الأصل : « بن الربيعي » تحريف . وانظر ما مضى في ص 217 ، 231 .
( 3 ) هو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبد الله الثوري الكوفي ، ثقة حافظ فقيه ، وكان ربما دلس . مات سنة 161 وله أربع وستون سنة . وهو أحد أصحاب الرأي . انظر تهذيب التهذيب والمعارف 217 . وفي الأصل : « سفيان عن سعيد » تحريف .
( 4 ) المشاش ، بالضم : رءوس العظام اللينة . انظر اللسان ( 8 : 239 س 10 ) .
( 5 ) هو سلمان الفارسي الصحابي ، كان أول مشاهده الخندق ، ثم شهد بقية المشاهد وفتوح العراق ، وولي المدائن . وهو أحد المعمرين ، يزعمون أنه عاش ثلثمائة وخمسين سنة . انظر الإصابة 335 .

( 324 )

نصر عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : لما بني المسجد جعل عمار يحمل حجرين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه : « يا أبا اليقظان ، لا تشقق على نفسك » . قال : يا رسول الله ، إني أحب أن أعمل في هذا المسجد . قال : ثم مسح ظهره ثم قال : « إنك من أهل الحنة تقتلك الفئة الباغية » .
نصر ، عن حفص بن عمران الأزرق البرجمي (1) قال : حدثني نافع بن الجمحي عن ابن أبي مليكة (2) قال : قال عبد الله بن عمرو بن العاص : لولا أن رسول الله صلى الله عليه أمر بطواعيتك ما سرت معك هذا المسير . أما سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول لعمار : « يقتلك الفئة الباغية » ؟ !
نصر ، عن حفص بن عمران البرجمي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري قال : أصيب أويس القرني (3) مع علي بصفين .
نصر ، عن محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ) قال : نزلت في رجل ، وهو صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان (4) ، أخذه المشركون في رهط من المسلمين ، فيهم خير
____________
( 1 ) هو حفص بن عمر أو ابن عمران الأزرق البرجمي الكوفي ، كان من المستورين . تقريب التهذيب .
( 2 ) اسمه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة ـ بالتصغير ـ بن عبد الله بن جدعان التيمي المدني ، أدرك ثلاثين من الأصحاب ومات سنة 117 . تقريب التهذيب .
( 3 ) هو أويس بن عامر القرني ، سيد التابعين ، روى له مسلم . والقرني ، بفتح القاف والراء : نسبة إلى قرن ، وهم بطن من بطون جعفي بن سعد العشيرة . انظر تقريب التهذيب والاشتقاق ص 245 .
( 4 ) جدعان ، بضم الجيم بعدها دال مهملة . انظر الاشتقاق 88 والإصابة 4578 . وكان عبد الله سيد قريش في الجاهلية . وفي الأصل : « بن جذعان » تحريف .

( 325 )

مولى قريش لبني الحضرمي (1) ، وخباب بن الأرت مولى ثابت بن أم أنمار (2) ، وبلال مولى أبي بكر ، وعابس (3) مولى حويطب بن عبد العزي ، وعمار بن ياسر ، وأبو عمار (4) ، وسمية أم عمار . فقتل أبو عمار وأم عمار ، وهما أول قتيلين قتلا من المسلمين ، وعذب الآخرون بعد ما خرج النبي صلى الله عليه من مكة إلى المدينة ، فأرادوهم على الكفر . فأما صهيب فكان شيخا كبيرا ذا متاع ، فقال للمشركين . هل لكم إلى خير ؟ فقالوا : ما هو ؟ قال : أنا شيخ كبير ضعيف لا يضركم منكم كنت أو من عدوكم ، وقد تكلمت بكلام أكره أن أنزل عنه ، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ، ففعلوا فنزلت هذه الآية ، فلقيه أبو بكر حين دخل المدينة فقال : ربح البيع يا صهيب . وقال : وبيعك لا يخسر . وقرأ عليه هذه الآية ففرح بها . أما بلال وخباب وعابس وعمار وأصحابهم فعذبوا حتى قالوا بعض ما أراد المشركون ، ثم أرسلوا . ففيهم نزلت هذه الآية : ( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا (5) لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) .
____________
( 1 ) خير ، ويقال أيضا « جبر » مولى عامر بن الحضرمي ، أخي العلاء بن الحضرمي الصحابي المشهور . وفي خير نزل قول الله : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) أكرهه عامر على الكفر ، ثم أسلم عامر بعد وكان في الصحابة . انظر الإصابة والسيرة 260 جوتنجن .
( 2 ) كذا . وفي الإصابة : « مولى أم أنمار الخزاعية ، وقيل غير ذلك » .
( 3 ) عابس ، بالباء الموحدة ، كما في القاموس « عبس » والإصابة 4331 . قيل : نزل فيه وفي صهيب ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) . وفي الأصل : « عائش » في هذا الموضع وتاليه ، تحريف .
( 4 ) في الأصل : « وأبي عمار » تحريف .
( 5 ) في الأصل : « فتنوا » وهو من شنيع التحريف . وهذه الآية هي الآية 41 من سورة النحل . وأما « فتنوا » فهي في الآية 110 من سوره النحل أيضا : ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) .

( 326 )

نصر ، عن أيوب بن خوط (1) ، عن الحسن ، أن رسول الله صلى الله عليه لما أخذ في بناء المسجد قال : « ابنوا لي عريشا كعريش موسى » وجعل يناول اللبن وهو يقول : « اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ، فاغفر للأنصار . والمهاجرة » . وجعل يتناول من عمار بن ياسر ويقول : « ويحك يابن سمية تقتلك الفئة الباغية » .
نصر ، عن عمر قال : حدثني مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب الجهني أن عمار بن ياسر نادي يومئذ (2) : أين من يبغي رضوان ربه ولا يؤوب إلى مال . ولا ولد ؟ قال : فأتته عصابة من الناس فقال : « أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما ، والله إن كان إلا ظالما لنفسه ، الحاكم بغير ما أنزل الله » .
ودفع علي الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وكانت عليه [ ذلك اليوم ] درعان ، فقال له علي كهيئة المازح : أيا هاشم ، أما تخشى من نفسك أن تكون أعور جبانا ؟ قال : ستعلم يا أمير المؤمنين ، والله لألفن بين جماجم القوم لف رجل ينوى الآخرة . فأخذ رمحا فهزه فانكسر ، ثم آخر فوجده جاسيا فألقاه ، ثم دعا برمح لين فشد به لواءه . ولما دفع علي الراية إلى هاشم قال له رجل من بكر بن وائل من أصحاب هاشم : أقدم هاشم ـ يكررها ـ ثم قال : مالك يا هاشم قد انتفخ سحرك ، أعورا وجبنا ؟ قال : من هذا ؟ قالوا : فلان . قال : أهلها وخير منها ، إذا رأيتني قد صرعت فخذها . ثم قال لأصحابه : شدوا شسوع نعالكم وشدوا أزركم ، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثا فاعلموا
____________
( 1 ) خوط ، بفتح الخاء المعجمة بعدها واو ساكنة . وترجمة أيوب في تقريب التهذيب ولسان الميزان . وفي الأصل : « بن حنوط » تحريف .
( 2 ) ح ( 2 : 269 ) : « نادى في صفين يوما قبل مقتله بيوم أو يومين » .

( 327 )

أن أحدا منكم لا يسبقني إليها (1) . ثم نظر هاشم إلى عسكر معاوية فرأى جمع عظيما ، فقال : من أولئك ؟ [ قيل : أصحاب ذي الكلاع . ثم نظر فرأى جندا فقال : من أولئك ] ؟ قالوا : جند أهل المدينة وقريش (2) . قال : قومي لا حاجة لي في قتالهم . قال : من عند هذه القبة البيضاء ؟ قيل : معاوية وجنده . قال : فإني أرى دونهم أسودة (3) . قالوا : ذاك عمرو بن العاص وابناه [ ومواليه ] . وأخذ الراية فهزها فقال له رجل من أصحابه : امكث قليلا ولا تعجل . فقال هاشم :

قد أكثروا لومــي ومــا أقــلا (4) * إني شريــت النفس ، لـن أعتلا
أعور يبغـي نفســـه محــلا * لا بـــد أن يفــل أو يفـــلا (5)
قـــد عالج الحيــاة حتى مـلا * أشــدهم بذي الكعــوب شــلا (6)

قال نصر : عمرو بن شمر :

* أشلهم بـــذي الكعــوب شلا *
مع ابـن عــم أحمـــد المعلي * فيــه الرسول بالهــدي استهـلا
أول مــن صدقـــه وصلــى * فجاهد الكفـــار حتـى أبلــى

قال : وقد كان علي قال له : أتخاف أن تكون أعور جبانا أيا هاشم
____________
( 1 ) ح : « إلى الحملة » .
( 2 ) ح : « قيل قريش وقوم من أهل المدينة » .
( 3 ) الأسودة : جمع سواد ، وهو الشخص .
( 4 ) ح : « قد أكثرا لومي » . مروج الذهب ( 2 : 22 ) : « قد أكثر القوم » .
( 5 ) الفل : الهزيمة . وفي الأصل : « يغل أو يغلا » صوابه في ح ومروج الذهب والطبري ( 6 : 22 ) .
( 6 ) ذو الكعوب : الرمح . والشل : الطرد . ورواية الطبري ( 6 : 24 ) :
* يتلهم بذي الكعوب تلا *
تله يتله تلا : صرعه ، فهو متلول وتليل .

( 328 )

المرقال : قال : يا أمير المؤمنين ، أما والله لتعلمني (1) ـ إن شاء الله ـ ألف اليوم بين جماجم القوم . فحمل يومئذ يرقل إرقالا .
نصر ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت قال لما كان قتال صفين والراية مع هاشم بن عتبة ـ قال ـ جعل عمار بن ياسر يتناوله بالرمح ويقول : أقدم يا أعور .

* لا خير في أعـــور لا يأتي الفـــزع *

قال : فجعل يستحيى من عمار ، وكان عالما بالحرب ، فيتقدم فيركز الراية ، فإذا تتامت (2) إليه الصفوف قال عمار : أقدم يا أعور .

* لا خير في أعـــور لا يأتي الفـــزع *

فجعل عمرو بن العاص يقول : إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا ، لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم . فاقتتلوا قتالا شديدا ، وجعل عمار يقول : صبرا عباد الله ، الجنة تحت ظلال البيض (3) " . وكان لواء الشام مع أبي الأعور السلمي .
ولم يزل عمار بهاشم ينخسه حتى أشتد القتال (4) ، وزحف هاشم بالراية يرقل بها إرقالا ، وكان يسمى المرقال . قال : وزحف الناس بعضهم إلى بعض ، والتقى الزحفان فاقتتل الناس قتالا شديدا لم يسمع الناس بمثله ، وكثرت القتلى في الفريقين كليهما .
____________
( 1 ) في الأصل : « لتعلمن » .
( 2 ) في الأصل : « شامت » .
( 3 ) البيض : السيوف .
( 4 ) في الأصل : « شبت القتال » صوابه في ح ( 2 : 270 ) .

( 329 )

قال : وقال عمر [ وبن شمر ] : عن أبي إسحاق ، عن أبي السفر (1) قال : لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم وجدناهم خمسة صفوف قد قيدوا أنفسهم بالعمائم (2) فقتلنا صفا صفا ، حتى قتلنا ثلاثة صفوف وخلصنا إلى الصف الرابع ما على الأرض شامي ولا عراقي يولي دبره . وأبو الأعور يقول (3) :

إذا ما فررنا كان أســوا فرارنا * صدود الخــدود وازورار المناكب (4)

صدود الخدود والقنــا متشاجر * ولا تبرح الأقــدام عنــد التضارب

ثم إن الأزد وبجيلة كشفوا همدان غلوة حتى ألجؤوهم إلى التل ، فصعدوا فشدت عليهم الأزد وبجيلة حتى أحدروهم منه ، ثم عطفت عليهم همدان حتى ألجؤوهم إلى أن تركوا مصافهم . وقتل من الأزد وبجيلة يومئذ ثلاثة آلاف في دفعة . ثم إن همدان عبيت لعك ، فقيل :

همدان همــدان وعــك عك * ستعلــم اليوم مـــن الأرك (5 )

وكانت على عك الدروع وليس عليهم رانات (6) ، فقالت همدان : خدموا القوم ـ أي اضربوا سوقهم ـ (7) فقالت عك : برك كبرك الكمل (8) . فبركوا كما برك الجمل (9) . ثم رموا بحجر فقالوا : لا نفر حتى يفر الحكر .
____________
( 1 ) أبو السفر ، بالتحريك ، كما في تقريب التهذيب والقاموس . واسمه سعيد بن يحمد ، بضم الياء وسكون الحاء وكسر الميم ، الهمداني الثوري الكوفي ، ثقة من الثالثة ، مات سنة 112
( 2 ) انظر ما سبق ص 228 .
( 3 ) الشعر ليس للأعور ، بل هو لقيس بن الخطيم من قصيدة له في ديوانه 10 ـ 15 ليبسك .
( 4 ) في الأصل : « صدود خدود » وأثبت ما في ح والديوان .
( 5 ) الأرك : الأضعف ، والركة : الضعف . وفي الأصل : « الأدك » صوابه في ح .
( 6 ) في القاموس : « الران كالخف إلا أنه لا قدم له ، وهو أطول من الخف » والجمع رانات . ح : « رايات » .
( 7 ) انظر ما سبق في ص 257 .
( 8 ) الكمل ، أي الجمل . وعك تقلب الجيم كافا . انظر ما مضي في ص 228 . وفي الأصل : « الجمل » صوابه في ح ( 2 : 270 ) .
( 9 ) ح : « كما يبرك الجمل » .

( 330 )

وبلغنا في حديث آخر أن عبيد الله بن عمر بعثه معاوية في أربعة آلاف وثلثمائة ـ وهي كتيبة الخضرية الرقطاء ، وكانوا قد أعلموا بالخضرة ـ ليأتوا عليا من ورائه . قال أبو صادق . فبلغ عليا أن عبيد الله بن عمر قد توجه ليأتيه من ورائه ، فبعث إليهم أعدادهم ليس منهم إلا تميمي . واقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب ، ما كانت صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة . ثم إن ميسرة العراق كشفت ميمنة أهل الشام فطاروا في سواد الليل ، وأعاد عبيد الله والتقى هو وكرب ـ رجل من عكل ـ فقتله وقتل الذين معه جميعا ، وإنما انكشف الناس لوقعة كرب ، فكشف أهل الشام أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا ألف رجل ، فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول ، وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزا وليس حوله إلا ربيعة ، وعلي عليه السلام بينها ، وهم يحيطون به ، وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم . فلما أذن مؤذن علي حين طلع الفجر قال علي :

يا مرحبا بالقائليـــن عــدلا * وبالصـــلاة مرحبـــا وأهلا

فلما صلى علي الفجر أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس ، وإذا مكانه الذي هو به ما بين الميسرة والقلب بالأمس ، فقال : من القوم ؟ قالوا : ربيعة ، وقد بت فيهم تلك الليلة (1) . قال : فخر طويل لك يا ربيعة . ثم قال لهاشم : خذ اللواء ، فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة . ثم خرج نحو القلب حتى ركز اللواء به .
[ نصر : حدثنا عمرو بن شمر ، عن الشعبي قال : عبا معاوية تلك الليلة أربعة آلاف وثلثمائة من فارس وراجل معلمين بالخضرة ، وأمرهم أن يأتوا عليا
____________
( 1 ) ح : « وإنك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة » .
( 331 )

عليه السلام من ورائه ، ففطنت لهم همدان فواجهوهم وصمدوا إليهم ، فباتوا تلك الليلة يتحارسون ، وعلي عليه السلام قد أفضى به ذهابه ومجيئه إلى رايات ربيعة ، فوقف بينها وهو لا يعلم ، ويظن أنه في عسكر الأشعث . فلما أصبح لم ير الأشعث ولا أصحابه ] وإذا سعيد بن قيس [ الهمداني ] على مركزه ، فلحقه رجل من ربيعة يقال له « نفر (1) » فقال له : ألست الزاعم لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة وهمدان همدان (2) ، فما أغنت عنك همدان (3) البارحة . فنظر إليه علي نظر منكر ، [ ونادى منادي علي عليه السلام : أن اتعدوا للقتال واغدوا عليه ، وانهدوا إلى عدوكم ] فلما أصبحوا نهدوا للقتال غير ربيعة لم تتحرك ، فبعث إليهم علي : أن انهدوا إلى عدوكم . فأبوا ، فبعث إليهم أبا ثروان فقال : إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول : يا معشر ربيعة ما يمنعكم أن تنهدوا وقد نهد الناس ؟ قالوا : كيف ننهد وهذه الخيل من وراء ظهرنا ؟ قل لأمير المؤمنين عليه السلام فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد . فرجع أبو ثروان إلى علي عليه السلام فأخبره ، فبعث إليهم الأشتر فقال : يا معشر ربيعة ، ما منعكم أن تنهدوا [ وقد نهد الناس ] ـ وكان جهير الصوت ـ وأنتم أصحاب كذا وأصحاب كذا ؟ ! فجعل يعدد أيامهم . فقالوا : لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا ، وهي أربعة آلاف . قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم ـ وراية ربيعة يومئذ مع حضين ابن المنذر ـ فقال لهم الأشتر : فإن أمير المؤمنين عليه السلام يقول لكم : اكفونيها . إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم لتركوكم في هذه الفلاة وفروا
____________
( 1 ) ح : « زفر » .
( 2 ) في الأصل : « ومضر مضر » والصواب ما أثبت من ح .
( 3 ) في الأصل : « مضر » والصواب ما أثبت من ح .