كاليعافير (1) . فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله ، والنمر بن قاسط ، وعنزة . قالوا : فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد ، وكانت عامه قتال صفين مشيا ، فلما أتيناهم هربوا وانتشروا انتشار الجراد . قال : فذكرت قول الأشتر : « وفروا كاليعافير (2) » ، فرجعنا إلى أصحابنا وقد نشب القتال بينهم وبين أهل الشام وقد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق بعضها من ربيعة فأحاطوا بها ، فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا وأفضينا إلى أصحابنا [ فاستنقذناهم ] وعرفناهم تحت النقع بسيماهم وعلامتهم (3) .
وكانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض قد جعلوه في رؤوسهم وعلى أكتافهم . وشعارهم : « يا الله يا أحد يا صمد ، يا رب محمد ، يا رحمن يا رحيم » . وكان علامة أهل الشام خرقا صفرا (4) قد جعلوها علي روؤسهم وأكتافهم . وكان شعارهم « نحن عباد الله حقا حقا ، يا لثارات عثمان » . وكانت رايات أهل العراق سودا وحمرا ودكنا وبيضا ومعصفرة وموردة ، والألوية مضروبة دكن وسود . قال : فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد . قال : فما تحاجزوا حتى حجز بيننا سواد الليل . قال : وما نرى رجلا منا ولا منهم موليا .
نصر : عمر ، حدثني صديق أبي ، عن الإفريقي بن أنعم قال : كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية ، وإنهم لحديثو عهد بها ، فالتقوا في الإسلام وفيهم بقايا تلك الحمية ، وعند بعضهم بصيرة الدين والإسلام ، فتصابروا (5) واستحيوا من الفرار حتى كادت الحرب تبيدهم ، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء
____________
( 1 ) اليعافير : الظباء ، واحدها يعفور .
( 2 ) في الأصل : « كأنهم اليعافير » وأثبت ما في ح ( 2 : 271 ) .
( 3 ) في الأصل : « وعرفنا علامة الصوف » . وأثبت ما في ح .
( 4 ) في الأصل : « بيضا » وأثبت ما في ح .
( 5 ) ح : « فتضاربوا » .

( 333 )

عسكر هؤلاء فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم ، فلما أصبحوا ـ وذلك يوم الثلاثاء ـ خرج الناس إلى مصافهم فقال أبو نوح : فكنت في الخيل يوم صفين في خيل علي عليه السلام وهو واقف بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أفناء قحطان (1) ، وإذا أنا برجل من أهل الشام يقول : من دل على الحميري أبي نوح ؟ فقلنا : هذا الحميري فأيهم تريد ؟ قال : أريد الكلاعي أبا نوح . قال : قلت : قد وجدته فمن أنت ؟ قال : أنا ذو الكلاع ، سر إلى . فقلت له : معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة . قال ذو الكلاع : [ بلى ] فسر ، فلك ذمة الله وذمة رسوله وذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك ، فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه . فسر دون خيلك حتى أسير إليك . فسار أبو نوح وسار ذو الكلاع حتى التقيا ، فقال ذو الكلاع : إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناه عمرو بن العاص [ قديما ] في إمارة عمر بن الخطاب . قال أبو نوح : وما هو ؟ قال ذو الكلاع : حدثنا عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه قال : « يلتقى أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر » . قال أبو نوح : لعمر الله إنه لفينا . قال : أجاد هو في قتالنا ؟ قال أبو نوح : نعم ورب الكعبة ، لهو أشد علي قتالكم مني ، ولوددت أنكم خلق واحد فذبحته وبدأت بك قبلهم وأنت ابن عمي . قال ذو الكلاع : ويلك ، علام تتمنى ذلك منا ؟ ! والله ما قطعتك فيما بيني وبينك ، وإن رحمك لقريبة ، وما يسرني أن أقتلك . قال أبو نوح : إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة ، ووصل به أرحاما متباعدة ، وإني لقاتلك (2) أنت وأصحابك ، ونحن على الحق وأنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر ورؤوس الأحزاب . فقال له ذو الكلاع : [ فهل تستطيع أن تأتي معي في صف أهل
____________
( 1 ) الأفناء : الأخلاط النزاع من ها هنا وها هنا .
( 2 ) في الأصل : « وإني منا » صوابه في ح .

( 334 )

الشام ، ف‍ ] أنا جار لك من ذلك ألا تقتل ولا تسلب ولا تكره على بيعه ، ولا تحبس عن جندك ، وإنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص ، لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين ، ويضع الحرب والسلاح (1) . فقال أبو نوح : إني أخاف غدراتك وغدرات أصحابك . فقال له ذو الكلاع : أنا لك بما قلت زعيم . فقال أبو نوح : اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع وانت تعلم ما في نفسي ، فاعصمني واختر لي وانصرني وادفع عني .
ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص وهو عند معاوية وحوله الناس وعبد الله بن عمرو يحرض الناس على الحرب ، فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ، هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار بن ياسر لا يكذبك ؟ قال عمرو : ومن هو ؟ قال : ابن عمي هذا ، وهو من أهل الكوفة . فقال عمرو : إني لأرى عليك سيما أبي تراب . قال أبو نوح : على سيما محمد صلى الله عليه وأصحابه ، وعليك سيما أبي جهل وسيما فرعون . فقام أبو الأعور فسل سيفه ثم قال : لا أرى هذا الكذاب اللئيم يشاتمنا بين أظهرنا وعليه سيما أبي تراب . فقال ذو الكلاع : أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأخطمن أنفك بالسيف . ابن عمي وجاري عقدت له بذمتي ، وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتم فيه . قال له عمرو بن العاص : اذكرك بالله يا أبا نوح إلا ما صدقتنا ، ولم تكذبنا (2) ، أفيكم عمار بن ياسر ؟ فقال له أبو نوح :
____________
( 1 ) قال ابن أبي الحديد : قلت : واعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار ولا يعتريهم الشك لمكان علي عليه السلام ، ويستدلون على أن الحق مع أهل العراق يكون عمار بين أظهرهم ولا يعبثون بمكان علي عليه السلام ، ويحذرون من قول النبي صلى الله عليه وآله : تقتلك الفئة الباغية ، ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . ولا لقوله : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق . وهذا يدلك على أن عليا عليه السلام اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله " .
( 2 ) في الأصل : « إلا ما صدقت ولا تكذبنا » والوجه ما أثبت من ح ( 2 : 272 ) .

( 335 )

ما أنا بمخبرك عنه حتى تخبرني لم تسألني عنه : فإنا معنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه عدة غيره ، وكلهم جاد على قتالكم . قال عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : « إن عمارا تقتله الفئة الباغية ، وإنه ليس ينبغي لعمار أن يفارق الحق ولن تأكل النار منه شيئا » . فقال أبو نوح : لا إله إلا الله والله أكبر ، والله إنه لفينا ، جاد على قتالكم . فقال عمرو : والله إنه لجاد على قتالنا ؟ قال : نعم والله الذي لا إله إلا هو ، [ و ] لقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر عليهم ، ولقد حدثني أمس أن لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر (1) لعلمنا أنا علي حق وأنهم على باطل ، و [ ل‍ ] ـ كانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . فقال له عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه ؟ قال : نعم . فلما أراد أن يبلغه أصحابه ركب عمرو بن العاص ، وابناه ، وعتبة بن أبي سفيان ، وذو الكلاع ، وأبو الأعور السلمي ، وحوشب ، والوليد بن [ عقبة بن ] أبي معيط ، فانطلقوا حتى أتوا خيولهم .
وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع حتى انتهيا إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له ، منهم ابنا بديل وهاشم ، والأشتر ، وجارية بن المثني ، وخالد بن المعمر ، وعبد الله بن حجل ، وعبد الله بن العباس . وقال أبو نوح : إنه دعاني ذو الكلاع وهو ذو رحم فقال : أخبرني عن عمار ابن ياسر ، أفيكم هو ؟ قلت : لم تسأل ؟ قال : أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول : " يلتقي أهل الشام وأهل العراق وعمار في أهل الحق يقتله الفئة الباغية " . فقلت : إن عمارا فينا . فسألني (2) : أجاد هو على قتالنا ؟ فقلت : نعم والله ، أجد مني ، ولوددت
____________
( 1 ) انظر ما سبق ص 322 س 7 .
( 2 ) في الأصل : « قيل لي » صوابه في ح ( 2 : 272 ) .

( 336 )

أنكم خلق واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع . فضحك عمار وقال : هل يسرك ذلك ؟ قال : قلت نعم . قال أبو نوح : أخبرني [ الساعة ] عمرو ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه يقول : " عمار يقتله الفئة الباغية " . قال عمار : أقررته بذلك ؟ قال : نعم أقررته فأقر . فقال عمار : صدق ، وليضرنه ما سمع ولا ينفعه .
ثم قال أبو نوح لعمار ـ ونحن اثنا عشر رجلا ـ : فإنه يريد أن يلقاك . فقال عمار لأصحابه : اركبوا . فركبوا وساروا ثم بعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر ، فذهب حتى كان قريبا من القوم ، ثم نادى : أين عمرو ابن العاص ؟ قالوا (1) : هاهنا . فأخبره بمكان عمار وخيله . قال عمرو : قل له فليسر إلينا . قال عوف : إنه يخاف غدراتك . فقال له عمرو : ما أجرأك علي وأنت على هذه الحال ! فقال له عوف : جرأني عليك بصيرتي فيك وفي أصحابك ، فإن شئت نابذتك [ الآن ] على سواء ، وإن شئت التقيت أنت وخصماؤك ، وأنت كنت غادرا (2) . فقال له عمرو : ألا أبعث إليك بفارس يواقفك ؟ فقال له عوف : ما أنا بالمستوحش ، فابعث بأشقى أصحابك . قال عمرو : فأيكم يسير إليه ؟ فسار إليه أبو الأعور ، فلما تواقفا تعارفا فقال عوف لأبي الأعور : إني لأعرف الجسد وأنكر القلب ، إني لا أراك مؤمنا ، وإنك لمن أهل النار . فقال أبو الأعور : لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في نار جهنم . فقال عوف : كلا والله إني أتكلم أنا بالحق ، وتكلم أنت بالباطل ، وإني
____________
( 1 ) في الأصل : « قال » صوابه في ح .
( 2 ) الكلام بعد لفظة « سواء » إلى هنا لم يرد في ح .

( 337 )

أدعوك إلى الهدى وأقاتل أهل الضلالة (1) وأفر من النار ، وأنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب وتقاتل على ضلالة ، وتشتري العقاب بالمغفرة ، والضلالة بالهدي انظروا إلى وجوهنا ووجوهكم ، وسيمانا وسيماكم ، واسمعوا إلى دعوتنا ودعوتكم ، فليس أحد منا إلا [ و ] هو أولى بمحمد صلى الله عليه وأقرب إليه قرابة منكم ، قال له أبو الأعور : [ لقد ] أكثرت الكلام وذهب النهار . [ ويحك ] ادع أصحابك وأدعو أصحابي ، فأنا جار لك حتى تأتي موقفك الذي أنت فيه الساعة ، فإني لست أبدؤك بغدر ولا أجترئ على غدر حتى تأتي أنت وأصحابك ، وحتى تقفوا . فإذا علمت كم هم جئت من أصحابي بعددهم . فإن شاء أصحابك فليقلوا وإن شاءوا فليكثروا .
فسار أبو الأعور في مائة فارس حتى إذا كان حيث كنا بالمرة الأولى (2) وقفوا وسار في عشرة بعمرو ، وسار عمار في اثني عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل : خيل عمرو وخيل عمار ، ورجع عوف بن بشر في خيله وفيها الأشعث بن قيس ، ونزل عمار والذين معه فاحتبوا بحمائل سيوفهم ، فتشهد عمرو بن العاص ، فقال له عمار بن ياسر : اسكت ( بعد هذا الكلام ليس عند ابن عقبة إلى موضع العلامة (3) ) فقد تركتها في حياة محمد صلى الله عليه وبعد موته ، ونحن أحق بها منك ، فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك ، وإن (4) شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك ، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك وتكفرك قبل القيام ، وتشهد بها على نفسك ،
____________
( 1 ) ح : « وأقاتلك على الضلال » .
( 2 ) ح : « حتى إذا كانوا بالمنصف » .
( 3 ) ابن عقبة أحد رواة هذا الكتاب . ويريد بموضع العلامة ما أشار إليه بعد قوله : « فيمن قتله » الذي سيأتي في ص 339 ، وهو قوله : « من هنا عند ابن عقبة » .
( 4 ) قبل هذه العبارة في الأصل : « وإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلا » . وهذه العبارة المكررة المحرفة لم ترد في ح . وقد طرحتها من الأصل .

( 338 )

ولا تستطيع أن تكذبني [ فيها ] . قال عمرو : يا أبا اليقظان ، ليس لهذا جئت ، إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم . أذكرك الله إلا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم ، وحرضت على ذلك (1) ، فعلام تقاتلنا ؟ أو لسنا نعبد إلها واحدا ، ونصلي [ إلى ] قبلتكم ، وندعو دعوتكم ، ونقرأ كتابكم ، ونؤمن برسولكم . قال عمار : الحمد لله الذي أخرجها من فيك ، إنها لي ولأصحابي : القبلة ، والدين ، وعبادة الرحمن ، والنبي صلى الله عليه ، والكتاب من دونك ودون أصحابك . الحمد لله الذي قررك لنا بذلك ، دونك ودون أصحابك ، وجعلك ضالا مضلا ، لا تعلم هاد أنت أم ضال ؟ وجعلك أعمى . وسأخبرك علام قاتلتك عليه أنت وأصحابك . أمرني رسول الله صلى الله عليه أن أقاتل الناكثين ، وقد فعلت ، وأمرني أن أقاتل القاسطين ، فأنتم هم . وأما المارقون (2) فما أدرى أدركهم أم لا . أيها الأبتر ، ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه قال لعلي : « من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » . وأنا مولى الله ورسوله وعلي بعده ، وليس لك مولى . قال له عمرو : لم تشتمني يا أبا اليقظان ولست أشتمك ؟ قال عمار : وبم تشتمني ، أتستطيع أن تقول : إني عصيت الله ورسوله يوما قط ؟ قال له عمرو : إن فيك لمسبات (3) سوى ذلك . فقال عمار : إن الكريم من أكرمه الله ، كنت وضيعا فرفعني الله ، ومملوكا فأعتقني الله ، وضعيفا فقواني الله ، وفقيرا فأغناني الله .
وقال له عمرو . فما ترى في قتل عثمان ؟ قال : فتح لكم باب كل سوء . قال عمرو : فعلي قتله ؟ قال عمار : بل الله علي قتله وعلي معه . قال عمرو :
____________
( 1 ) ح : « وحرصت على ذلك » ومؤدى العبارتين واحد .
( 2 ) في الأصل : « المارقين » صوابه في ح ( 2 : 273 ) .
( 3 ) ح : « لمساب » .

( 339 )

أكنت فيمن قتله ؟ ( من هنا عند ابن عقبة (1) ) قال : كنت مع من قتله وأنا اليوم أقاتل معهم . قال عمرو : فلم قتلتموه ؟ قال عمار : أراد أن يغير ديننا فقتلناه . فقال عمرو : ألا تسمعون ؟ قد اعترف بقتل عثمان . قال عمار : وقد قالها فرعون قبلك لقومه : ( ألا تستمعون (2) ) . فقام أهل الشام ولهم زجل فركبوا خيولهم فرجعوا ، [ وقام عمار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا ] ، فبلغ معاوية ما كان بينهم فقال : هلكت العرب أن أخذتهم (3) خفة العبد الأسود يعني عمار بن ياسر .
[ قال نصر : فحدثنا عمرو بن شمر قال ] : وخرج إلى القتال (4) ، وصفت الخيول بعضها لبعض ، وزحف الناس ، وعلى عمار درع [ بيضاء ] وهو يقول : أيها الناس ، الرواح إلى الجنة . فاقتتل الناس قتالا شديدا لم يسمع الناس بمثله ، وكثرت القتلى حتي إن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله . فقال الأشعث : لقد رأيت أخبية فلسطين وأروقتهم وما منها خباء ولا رواق ولا بناء ولا فسطاط إلا مربوطا بيد رجل أو رجله . وجعل أبو سماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء وشفرة حديد ، فإذا رأى رجلا جريحا وبه رمق أقعده فيقول : من أمير المؤمنين ؟ فإن قال علي غسل عنه الدم وسقاه من الماء ، وإن سكت وجأه بالسكين (5) حتى يموت [ ولا يسقيه ] . قال : فكان يسمى المخضخض .
____________
( 1 ) ابن عقبة ، أحد رواة هذا الكتاب . انظر التنبيه 3 من صفحة 337 .
( 2 ) من الآية 25 في سورة الشعراء . وفي الأصل وح : « ألا تسمعون » والوجه ما أثبت .
( 3 ) ح : « حركتهم ».
( 4 ) وخرج ، أي عمار . وفي ح ( 2 : 273 ) : « فخرجت الخيول إلى القتال » .
( 5 ) في الأصل : « بسكين » وأثبت ما في ح .

( 340 )

نصر ، عن عمرو بن شمر عن جابر قال : سمعت الشعبي يقول : قال الأحنف ابن قيس : والله إني لإلى جانب عمار بن ياسر ، بيني وبينه رجل من بني الشعيراء (1) ، فتقدمنا حتى إذا دنونا من هاشم بن عتبة قال له عمار : احمل فداك أبي وأمي . ونظر عمار إلي رقة في الميمنة فقال له هاشم : رحمك الله يا عمار ، إنك رجل تأخذك خفة في الحرب ، وإني إنما أزحف باللواء زحفا ، وأرجوا أن أنال بذلك حاجتي ، وإني إن خففت لم آمن الهلكة . وقد كان قال معاوية لعمرو : ويحك ، إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة ، وقد كان من قبل يرقل به إرقالا ، وإنه إن زحف به اليوم زحفا إنه لليوم الأطول لأهل الشام ، وإن زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع . فلم يزل به عمار حتى حمل ، فبصر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه ومن يزن بالبأس (2) [ والنجدة ] منهم في ناحيته ، وكان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص ومعه [ يومئذ ] سيفان قد تقلد واحدا وهو يضرب بالآخر ، وأطافت به خيل علي ، فقال عمرو : يا الله ، يا رحمن ، ابني ابني . قال : ويقول معاوية : صبرا صبرا فإنه لا بأس عليه قال عمرو : ولو كان يزيد بن معاوية إذا لصبرت ! ولم يزل حماة أهل الشام يذبون عنه (3) حتي نجا هاربا على فرسه ومن معه ، وأصيب هاشم في المعركة .
قال [ نصر : وحدثنا عمر بن سعد قال : وفي هذا اليوم قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه أصيب في المعركة ] ، و [ قد كان ] قال عمار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص : والله إن هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن ! ثم قال عمار :
____________
( 1 ) بنو الشعيراء هم بنو بكر بن أد بن طابخة . وفي الأصل : « السفير » ولم آجده في قبائلهم . انظر القاموس واللسان ( شعر ) والمعارف 34 .
( 2 ) يقال زنه بالخير وأزنه : ظنه به .
( 3 ) ح : « تذب عن عبد الله ».

( 341 )

نحن ضربناكـــم على تنزيلــه * فاليوم نضربكــــــم على تأويلـه (1)

ضربا يزيل الهـــام عـن مقيله * ويــذهــــل الخليل عن خليلـــه

أو يرجـــع الحق إلى سبيــــله

ثم استسقى وقد اشتد ظمؤه ، فأتته امرأة طويلة اليدين والله ما أدري أعس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن (2) ، فقال حين شرب : « الجنة تحت الأسنة

اليوم ألقــى الأحبــة * محمــــدا وحزبــــه

والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل » . ثم حمل وحمل عليه ابن جون السكوني (3) ، وأبو العادية الفزاري . فأما أبو العادية فطعنه ، وأما ابن جون (4) فإنه احتز رأسه .
وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه لعمار بن ياسر : « تقتلك الفئة الباغية ، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن » فقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك ما هذا ؟ قال عمرو : إنه سيرجع إلينا [ ويفارق أبا تراب ] . وذلك قبل أن يصاب عمار . فأصيب عمار مع علي ، وأصيب ذو الكلاع مع معاوية ، فقال عمرو : والله يا معاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا . والله لو بقى ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا جندنا (5) . قال : فكان لا يزال رجل يجئ فيقول لمعاوية وعمرو : أنا قتلت عمارا . فيقول
____________
( 1 ) ح : « كما ضربناكم على تأويله » . لكن الرواية هنا تطابق ما في مروج الذهب ( 2 : 21 ) . وهذا الرجز يحتمل التقييد والإطلاق في قافيته .
( 2 ) الضياح ، بالفتح : اللبن الرقيق الكثير الماء .
( 3 ) ح ( 2 : 274 ) : « ابن حوي السكسكي » ، وفي مروج الذهب ( 2 : 21 ) . « أبو حواء السكسكي » .
( 4 ) ح : « ابن حوى » .
( 5 ) ح : « أمرنا » .

( 342 )

له عمرو : فما سمعته يقول : فيخلط (1) . حتى أقبل [ ابن ] جون (2) فقال : أنا قتلت عمارا . فقال له عمرو : فما كان آخر منطقه ؟ قال سمعته يقول :

اليـــوم ألقى الأحبـــة * محمـــدا وحــزبــــه

فقال له عمرو : صدقت ، أنت صاحبه (3) ، أما والله ما ظفرت يداك ولكن أسخطت ربك .
نصر ، عن عمرو بن شمر قال : حدثني إسماعيل السدي ، عن عبد خير الهمداني قال : نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين رمى رمية فأغمى عليه ولم يصل الظهر ، و [ لا ] العصر ، و [ لا ] المغرب ، ولا العشاء ، ولا الفجر ثم أفاق فقضاهن جميعا ، يبدأ بأول شئ فاته ، ثم بالتي تليها (4 ) .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن السدي ، عن ابن حريث (5) قال : أقبل غلام لعمار بن ياسر ، اسمه راشد ، يحمل شربة من لبن ، فقال عمار : إني سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه [ يقول ] : " إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن " .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن السدي عن يعقوب بن الأوسط قال : احتج رجلان بصفين في سلب عمار بن ياسر ، وفي قتله ، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص فقال لهما : ويحكما ، اخرجا عني فإن رسول الله صلى الله عليه قال ـ [ و ] ولعت قريش بعمار (6) ـ : « ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى
____________
( 1 ) في الأصل : « فما سمعتموه يقول فيخلطون » وأثبت ما في ح .
( 2 ) ح : « ابن حوى » .
( 3 ) أي صاحب قتله ، الذي تولى ذلك منه .
( 4 ) في الأصل : « ثم التي يليها » صوابه في ح .
( 5 ) ح ( 2 : 284 ) : « أبي حريث » .
( 6 ) هذه الجملة لم ترد في ح . والواو ليست في الأصل . ويقال ولع فلان بفلان يولع به : إذا لج في أمره وحرص على إيذائه .

( 343 )

النار ، قاتله وسالبه في النار » . قال السدي : فبلغني أن معاوية قال : « إنما قتله من أخرجه » . يخدع بذلك طغام أهل الشام .
نصر عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي الزبير قال : أتى حذيفة بن اليمان رهط من جهينة فقالوا : يا أبا عبد الله ، إن رسول الله صلى الله عليه استجار من أن تصطلم أمته (1) فأجير من ذلك ، واستجار من أن يذوق بعضها بأس بعض فمنع من ذلك . قال حذيفة : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول : « إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أرشدهما ـ يعني عمارا فالزموا ـ سمته » .
وفي حديث عمرو بن شمر قال : حمل عمار بن ياسر [ ذلك ] اليوم وهو يقول :

كلا ورب البيت لا أبــرح أجي * حتى أموت أو أرى مــا أشتهي
أنا مع الحق أحامي عــن علي (2) * صهر النبي ذي الأمانـات الوفي
نقتل أعـداه وينصــرنا العلي (3) * ونقطع الهـــام بحـد المشرفي
والله ينصرنا على مـن يبتغي (4) * ظلما علينا جــاهدا مـا يأتلي

قال : فضربوا أهل الشام حتى اضطروهم إلى الفرار (5) .
قال : ومشى عبد الله بن سويد [ الحميري ] سيد جرش إلى ذي الكلاع فقال له : لم جمعت بين الرجلين ؟ قال : لحديث سمعته من عمرو ، وذكر أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وهو يقول لعمار بن ياسر : « يقتلك الفئة
____________
( 1 ) الاصطلام : الاستئصال ، افتعال من الصلم .
( 2 ) ح : « لا أفتر الدهر أحامي » .
( 3 ) ح : « ينصرنا رب السموات » .
( 4 ) ح : « يمنحنا النصر » . وهذا الرجز كما ترى ركيك مشيأ القافية .
( 5 ) في الأصل : « الفرات » صوابه في ح ( 2 : 274 ) .

( 344 )

الباغية » . فخرج عبد الله بن عمر العنسي ، وكان من عباد أهل زمانه ، ليلا فأصبح في عسكر علي ، فحدث الناس بقول عمرو في عمار . وقال الجرشي :

ما زلت يا عمرو قبل اليــوم مبتدئا * تبغي الخصــوم جهارا غير إسرار

حتى لقيت أبــا اليقظـان منتصبا * لله در أبـــي اليقظــان عمــار

ما زال يقرع منــك العظم منتقيا * مخ العظام بنـــزع غيــر مكثـار (1)

حتى رمـى بك في بحر له حدب * تهوي بك الموج ها فاذهب إلى النار (2)

وقال العنسي :

والراقصات بركب عامديــن لــه * إن الذي جاء من عمـــرو لمأثـور (3)
قد كنت أسمـع والأنبــاء شائعــة * هذا الحديث فقلــت الكـذب والزور
حتى تلقيته عــن أهـــل عيبتـه * فاليوم أرجع والمغـــرور مغـرور
واليوم أبرأ مــن عمــرو وشيعته * ومن معاوية المحــدو بــه العيـر
لا لا أقاتل عمـارا علــى طمــع * بعد الرواية حتــى ينفـــخ الصور
تركت عمــرا وأشياعــا لـه نكدا * إني بتركهم يـا صـــاح معــذور (4)
يا ذا الكلاع فدع لـي معشرا كفـروا * أو لا فدينك عيـن فيــه تعزيــر (5)

____________
( 1 ) انتقاء المخ : استخراجه .
( 2 ) حدب الماء : ما ارتفع من أمواجه .
( 3 ) يقسم بالإبل التي ترقص ، أي تخب بركبانها القاصدين إلى الله أو البيت الحرام للحج .
( 4 ) النكد : جمع أنكد ، وهو المشؤوم العسر .
( 5 ) عين ، لعله يريد : دين عين ، كما تقول فلان صديق عين ، إذا كان يظهر لك من نفسه ما لا يفي به إذا غاب ، أي إنه دين رياء .

( 345 )

ما في مقــال رسول الله في رجل * شك ولا في مقـــال الرسل تحبير

فلما سمع معاوية بهذا القول بعث إلى عمرو فقال : أفسدت على أهل الشام ، أكل ما سمعت من رسول الله تقوله ؟ فقال عمرو : قلتها ولست والله أعلم الغيب ولا أدري أن صفين تكون . قلتها وعمار يومئذ لك ولي ، وقد رويت أنت فيه مثل الذي رويت فيه ، فاسأل أهل الشام . فغضب معاوية وتنمر لعمرو ، ومنعه خيره ، فقال عمرو : لا خير لي في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنا . وكان عمرو حمي الأنف ، فقال في ذلك :

تعاتبني أن قلت شيئــا سمعتــه * وقد قلت لو أنصفتنــي مثلـه قبلي
أنعلك فيما قلــت نعــل ثبيتــة * وتزلق بي في مثــل مـا قلته نعلي
وما كان لي علـم بصفيـن أنهــا * تكون وعمار يحـــث على قتلـي
فلو كان لي بالغيب علــم كتمتهـا * وكابدت أقوامــا مراجلهــم تغلي
أبي الله الا أن صــدرك واغـر * على بلا ذنب جنيــت ولا ذحــل
سوى أنني ، والراقصـات عشيـة ، * بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقـل
فلا وضعت عندي حصـان قناعها * ولا حملت وجناء ذعلبــة رحلــي
ولا زلت أدعي فـي لؤي بـن غالب * قليلا غنــائي لا أمــر ولا أحلـي