قاده البلاء ، وساقته العافية (1) ، وأنت رأس هذا الجمع (2) بعد علي ، فانظر فيما بقي ودع ما مضى ، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولكم حياة (3) ولا صبرا . واعلموا أن الشام لا تملك إلا بهلاك العراق ، وأن العراق لا تملك إلا بهلاك الشام ، وما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم ، وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا . ولسنا نقول ليت الحرب غارت (4) ، ولكنا نقول ليتها لم تكن ، وإن فينا من يكره القتال كما أن فيكم من يكرهه ، وإنما هو أمير مطاع أو مأمور مطيع ، أو مؤتمن مشاور ، وهو أنت . وأما الأشتر الغليظ الطبع ، القاسي [ القلب ] ، فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواص أهل النجوى » .
وكتب في أسفل الكتاب :
طال البلاء ومــا يرجـى لــه آس
بعد الإله سوى رفق ابـن عبــاس
قولا له قول مـن يرضـى بحظوته (5)
لا تنس حظك إن الخاســر الناسي
يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج لــه
أعظم بذلك مــن فخر على الناس
كل لصــاحبـــه قرن يســاوره
أسد العرين أســود بين أخياس (6)

____________
( 1 ) هذه الجملة ليست في ح .
( 2 ) في الأصل : « أهل الجمع » وأثبت ما في ح .
( 3 ) في الأصل : « حياء » .
( 4 ) في الأصل وح : « عادت » .
( 5 ) ح : « قول من يرجو مودته » .
( 6 ) يساوره : يواثبه . وفي الأصل : « يشاوره » تحريف . والبيت لم يرو في ح . والأخياس : جمع خيس ، بالكسر ، وهو الشجر الكثير الملتف .

( 412 )

لو قيس بينهم في العـــرب لا عتدلوا
العجز بالعجز ثــــم الراس بالـراس
انظر فدى لك نفسي قبـل قاصمـــة
للظهر ليــس لهـــا راق ولا آسى
إن العراق وأهل الشـــام لن يجـدوا
طعم الحياة مـــع المستغلق القاســي
بسر وأصحاب بســـر والذين هــم
داء العراق رجـــال أهــل وسواس
قوم عراة مــن الخيــرات كلهــم
فما يساوي بــه أصحـابــه كاسي
إني أرى الخير في سلــم الشآم لكـم
والله يعلم ، مـــا بالسلم مــن باس
فيها التقى وأمــور ليـس يجهلــها
إلا الجهول ومــا النوكى كأكيــاس

قال : فلما فرغ من شعره عرضه على معاوية فقال معاوية : « لا أرى كتابك على رقة شعرك » . فلما قرأ ابن عباس الكتاب أتى به عليا فأقرأه شعره فضحك وقال : « قاتل الله ابن العاص ، ما أغراه بك يا ابن العباس ، أجبه وليرد عليه شعره الفضل بن العباس ، فإنه شاعر » . فكتب ابن عباس إلى عمرو :
« أما بعد فإني لا أعلم رجلا من العرب أقل حياء منك ، إنه مال بك معاوية إلى الهوى ، وبعته دينك بالثمن اليسير ، ثم خبطت بالناس في عشوة

( 413 )

طمعا في الملك (1) ، فلما لم تر شيئا أعظمت الدنيا إعظام أهل الذنوب (2) ، وأظهرت فيها نزاهة أهل الورع (3) ، فإن كنت ترضى الله بذلك فدع مصر وارجع إلى بيتك وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي ، ابتدأها علي بالحق وانتهى فيها إلى العذر ، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف ، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام ، بايع أهل العراق عليا وهو خير منهم ، وبايع معاوية أهل الشام وهم خير منه . ولست أنا وأنت فيها بسواء ، أردت الله وأردت أنت مصر . وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني ، ولا أرى (4) الشيء الذي قربك من معاوية . فإن ترد شرا لا نسبقك به ، وإن ترد خيرا لا تسبقنا إليه . [ والسلام ] » .
ثم دعا [ أخاه ] الفضل بن العباس فقال له : يا ابن أم ، أجب عمرا . فقال الفضل :
يا عمرو حسبك مــن خدع ووسواس * فاذهب فليس لــداء الجهل من آسى

إلا تواتــر طعن فــي نحوركــم * يشجي النفوس ويشفي نخــوة الراس

هذا الدواء الذي يشفــي جماعتكــم * حتى تطيعوا عليــا وابن عبــاس

أمــا علــي فــإن الله فضلــه * بفضل ذي شرف عــال على الناس

إن تعقلوا الحرب نعقلهــا مخيســة * أو تبعثوهـــا فإنا غير أنكـــاس

قد كان منا ومنكم فـــي عجاجتهـا * ما لا يرد وكــل عرضــة البـاس

قتلى العراق بقتلى الشــام ذاهبــة * هذا بهــذا ومــا بالحق من بـاس

____________
( 1 ) ح ( 1 : 288 ) : « في الدنيا » .
( 2 ) بدل هذه العبارة في ح : « فاعظمتها إعظام أهل الذنيا » .
( 3 ) النزاهة : التباعد عن السوء كالتنزه . وفي الأصل : « النزهة » . وفي ح : « ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع » .
( 4 ) ح : « ولا أعرف » .

( 414 )

لا بارك الله في مصــر لقد جلبت * شرا وحظــك منها حسوة الكـاس

يا عمرو إنك عار مــن مغارمهـا * والراقصات ومــن يوم الجزا كاسي

ثم عرض الشعر والكتاب على علي فقال : « لا أراه يجيبك بشيء بعدها إن كان يعقل ، ولعله يعود فتعود عليه » . فلما انتهى الكتاب إلى عمرو أتى به معاوية فقال : « أنت دعوتني إلى هذا ، ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب » . فقال : « إن قلب ابن عباس وقلب علي قلب واحد ، كلاهما ولد عبد المطلب ، وإن كان قد خشن فلقد لان ، وإن كان قد تعظم أو عظم صاحبه فلقد قارب وجنح إلى السلم » . وإن معاوية كان يكاتب ابن عباس وكان يجيبه بقول لين ، وذلك قبل أن يعظم الحرب ، فلما قتل أهل الشام قال معاوية : « إن ابن عباس رجل من قريش ، وأنا كاتب إليه في عداوة بني هاشم لنا ، وأخوفه عواقب هذه الحرب لعله يكف عنا » . فكتب إليه : « أما بعد فإنكم يا معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار عثمان بن عفان ، حتى إنكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه ، واستعظامهما ما نيل منه ، فإن يكن ذلك لسلطان بني أمية فقد وليها عدي وتيم ، [ فلم تنافسوهم ] وأظهرتم لهم الطاعة . وقد وقع من الأمر ما قد ترى ، وأكلت هذه الحروب بعضها من بعض حتى استوينا فيها ، فما أطمعكم فينا أطمعنا فيكم ، وما آيسكم منا آيسنا منكم . وقد رجونا غير الذي كان ، وخشينا دون ما وقع ، ولستم بملاقينا اليوم بأحد من حد أمس ، ولا غدا بأحد من حد اليوم ، وقد قنعنا بما كان في أيدينا من ملك الشام فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا على قريش ؛ فإنما بقى من رجالها ستة ، رجلان بالشام ، ورجلان بالعراق ، ورجلان بالحجاز . فأما اللذان بالشام فأنا وعمرو ، وأما اللذان بالعراق فأنت وعلي ، وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر ، واثنان من الستة ناصبان لك ،

( 415 )

واثنان واقفان [ فيك ] ، وأنت رأس هذا الجمع اليوم . ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع منا إلى علي » في كلام كثير كتب إليه .
فلما انتهى الكتاب إلى ابن عباس أسخطه ثم قال : حتى متى يخطب [ ابن هند ] إلى عقلي ، وحتى متى أجمجم على ما في نفسي ؟ ! فكتب إليه :
« أما بعد [ فقد أتاني كتابك وقرأته ] ، فأما ما ذكرت من سرعتنا [ إليك ] بالمساءة في أنصار ابن عفان ، وكراهيتنا لسلطان بني أمية ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره ، حتى صرت إلى ما صرت إليه ، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عقبة (1) . وأما طلحة والزبير [ فإنهما أجلبا عليه ، وضيقا خناقه ، ثم خرجا ] ينقضان البيعة ويطلبان الملك (2) ، فقاتلناهما على النكث وقاتلناك على البغي . وأما قولك إنه لم يبق من قريش غير ستة ، فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها ، [ و ] قد قاتلك من خيارها من قاتلك ، لم يخذلنا إلا من خذلك .
وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم فأبو بكر وعمر خير من عثمان ، كما أن عثمان خير منك : وقد بقي لك منا يوم ينسيك (3) ما قبله ويخاف ما بعده (4) . وأما قولك إنه لو بايع الناس لي لاستقامت لي (5) ، فقد بايع الناس عليا وهو خير مني فلم يستقيموا له . وإنما الخلافة لمن كانت له في المشورة . وما أنت يا معاوية والخلافة وأنت طليق وابن طليق ، [ والخلافة للمهاجرين الأولين ، وليس الطلقاء منها في شيء . والسلام ] » .
____________
( 1 ) هو أخوه لأمه كما سبق في حواشي 247 .
( 2 ) في الأصل : « فنقضا البيعة وطلبا الملك » وأثبت ما في ح .
( 3 ) ح ( 2 : 289 ) : « ما ينسيك » .
( 4 ) ح : « وتخاف ما بعده » .
( 5 ) بدلها في ح : « لاستقاموا » .

( 416 )

فلما انتهى الكتاب إلى معاوية قال : هذا عملي بنفسي . لا والله لا أكتب إليه كتابا سنة [ كاملة ] . وقال معاوية في ذلك :
دعوت ابن عباس إلى حــد خطة * وكان امرأ أهدي إليــه رسائلـي

فأخلف ظنــي والحوادث جمــة * ولم يــك فيما قال منـي بواصل

وما كان فيما جــاء ما يستحقــه * وما زاد أن أغلى عليــه مراجلي

فقل لابن عباس تــراك مفرقــا * بقولك مــن حولي وأنــك آكلي

وقل لابن عباس تــراك مخوفـا * بجهلك حلمي إنني غيــر غافــل

فأبرق وأرعد ما استطعــت فإنني * إليك بمــا يشجيك سبــط الأنامل

فلما قرأ ابن عباس الشعر قال : « لن أشتمك بعدها » .
وقال الفضل بن عباس :
ألا يا ابن هنــد إنني غير غافل * وإنك ما تسعى لــه غيـر نائل

لأن الذي اجتبت إلى الحرب نابها * عليك وألقت بركها بالكلا كل (1)

فأصبح أهل الشام ضربين خيـرة * وفقعة قــاع أو شحيمة آكل (2)

وأيقنت أنا أهل حــق وإنمــا * دعوت لأمر كان أبطــل باطل

دعوت ابن عباس إلى السلم خدعة * وليس لها حتى تديـن بقابــل

فلا سلم حتى تشجر الخليل بالقنـا * وتضرب هامات الرجال الأماثل

وآليت : لا أهدي إليـه رسالـة * إلى أن يحول الحول من رأس قابل

أردت به قطع الجواب وإنمــا * رماك فلــم يخطئ بنـات المقاتل

وقلت له لو بايعـوك تبعتهــم * فهذا علـي خير حــاف وناعـل

وصي رسول الله من دون أهلـه * وفارسه إن قيل هــل من منازل

____________
( 1 ) كذا ورد صدر هذا البيت . والمقطوعة لم تزد في مظنها من ح .
( 2 ) انظر ص 367 .

( 417 )

فدونكه إن كنت تبغي مهاجـــرا * أشم كنصل السيف عيــر حلاحل (1)

فعرض شعره على علي فقال : « أنت أشعر قريش » . فضرب بها الناس إلى معاوية .
وذكروا أنه اجتمع عند معاوية تلك الليلة عتبة بن أبي سفيان والوليد ابن عقبة ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن عامر ، وابن طلحة الطلحات ، فقال عتبة : إن أمرنا وأمر علي لعجب ، ليس منا إلا موتور محاج . أما أنا فقتل جدي ، واشترك في دم عمومتي يوم بدر . وأما أنت يا وليد فقتل أباك يوم الجمل ، وأيتم إخوتك . وأما أنت يا مروان فكما قال الأول (2) :
وأفلتهن علبــاء جريضــا * ولــو أدركنــه صفر الوطاب (3)

قال معاوية : هذا الإقرار فأين الغير (4) ؟ قال مروان : أي غير تريد ؟ قال : أريد أن يشجر بالرماح . فقال : والله إنك لهازل ، ولقد ثقلنا عليك . فقال الوليد بن عقبة في ذلك :
يقول لنــا معاوية بــن حرب * أمــا فيكم لواتركــم طلـوب

يشــد على أبي حســن علي * بــأسمر لا تهجنــه الكعـوب

فيهتــك مجمـع اللبات منــه * ونقع القـــوم مطرد يثــوب

فقلت لـــه أتلعب يا ابـن هند * كأنك وسطنــا رجل غريــب

أتأمرنــا بحيــة بطــن واد * إذا نهشــت فليــس لها طبيب

____________
( 1 ) عير القوم : سيدهم . والحلاحل ، بفتح أوله : جمع الحلاحل بضمه ، وهو السيد في عشيرته ، الشجاع ، الركين في مجلسه . وفي الأصل : « بنعل السيف غير حلاحل » تحريف .
( 2 ) هو امرؤ القيس ، من أبيات له في ديوانه ص 160 .
( 3 ) علباء هذا هو قاتل والد امرئ القيس ، وهو علباء بن حارث الكاهلي . والجريض : الذي يأخذ بريقه . صفر وطابه : قتل .
( 4 ) الغير : جمع غيور ، والغيرة : الحمية والأنفة .

( 418 )

ومــا ضبع يدب ببطـن واد * أتيح لــه بــه أسد مهيــب

بأضعــف حيلة منا إذا مــا * لقينــــاه وذا منــا عجيب

دعـــا للقاه فـي الهيجاء لاق * فأخطــأ نفسه الأجـل القريب

سوى عمــرو وقتـه خصيتاه * نجــا ولقلبــه منهـا وجيب

كأن القــوم لمــا عاينــوه * خلال النقــع ليس لهـم قلوب

لعمر أبــي معاوية بن حرب * ومــا ظني بملقحــة العيوب (1)

لقد ناداه فـي الهيجــا علي * فأسمعـــه ولكــن لا يجيـب

فغضب عمرو وقال : إن كان الوليد صادقا فليلق عليا ، أو ليقف حيث يسمع صوته .
وقال عمرو :
يذكرني الوليــد دعــا علـي * وبطــن المرء يملؤه الوعيــد

متى يذكــر مشاهده قريــش * يطر مــن خوفه القلب الشديـد

فأمــا في اللقاء فأين منـــه * معاويــة بـن حرب والوليــد

وعيرنــي الوليد لقاء ليــث * إذا مــا زار هابتــه الأســود(2)

لقيــت ولست أجهله عليـــا * وقــد بلت مــن العلق الكبـود

فأطعنــه ويطعنني خلاســا * ومــاذا بعــد طعنته أريـــد

فرمهــا منه يابن أبي معيـط * وأنت الفــارس البطـل النجيـد

فإقســم لو سمعت ندا علــي * لطــار القلــب وانتفخ الوريد

ولـــو لاقيته شقت جيــوب * عليــك ولطمت فيك الخــدود

____________
( 1 ) كذا ورد هذا العجز .
( 2 ) زار : زأر وصاح .

( 419 )


آخر الجزء السادس ويتلوه في السابع : « ثم إنهم التقوا بصفين واقتتلوا أشد القتال حتى كادوا أن يتفانوا » : والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما يا إله العالمين آمين رب العالمين .

ــــــــــ

وجدت في الجزء العاشر من نسخة عبد الوهاب بخطه : « سمع جميعه من الشيخ أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار ، الأجل السيد الأوحد الإمام قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني وابناه القاضيان [ أبو عبد الله محمد (1) ] وأبو الحسين أحمد ، وأبو عبد الله محمد بن القاضي أبي الفتح بن البيضاوي ، والشريف أبو الفضل محمد بن علي بن أبي يعلى الحسيني ، وأبو منصور محمد بن محمد بن [ قرمي ، بقراءة (2) ] عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي . وذلك في شعبان سنة أربع وتسعين وأربعمائة » .

____________
( 1 ) ليست في الأصل ، وإكمالها مما سلف في نظائرها .
( 2 ) موضعها بياض في الأصل ، وتكملتها مما مضى في أشباهها .

( 420 )




( 421 )


الجزء السابع
من كتاب صفين
لنصر بن مزاحم

ــــــــــ
ـــــــ
ــــ

رواية أبي محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز
رواية أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عقبة بن الوليد
رواية أبي الحسن محمد بن ثابت بن عبد الله بن محمد بن ثابت
رواية أبي يعلى أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر الحريري
رواية أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي
رواية الشيخ الحافظ أبي البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي
سماع مظفر بن علي بن محمد بن زيد بن ثابت المعروف بابن المنجم ـ غفر الله له

( 422 )




( 423 )

بسم الله الرحمن الرحيم

أخبرنا الشيخ الثقة شيخ الإسلام أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي قال : أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي بقراءتي عليه قال : أخبرنا أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر قال : أبو الحسن محمد بن ثابت بن عبد الله بن محمد بن ثابت الصيرفي قال : أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة قال : أبو محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز قال : أبو الفضل نصر بن مزاحم :
ثم إنهم التقوا بصفين ، واقتتلوا أشد القتال حتى كادوا أن يتفانوا ، ثم إن عمرو بن العاص مر بالحارث بن نصر الجشمي وكان عدوا لعمرو ، وكان عمرو قلما يجلس مجلسا إلا ذكر فيه الحرب (1) . فقال الحارث في ذلك :
ليس عمــرو بتارك ذكره الحــر * ب مدى الدهــر أو يلاقي عليــا

واضــع السيف فوق منكبه الأي‍ــ * مــن لا يحسـب الفوارس شيــا

ليت عمــرا يلقاه في حمس النقـ‍ * ـع وقــد صارت السيوف عصيـا (1)

حيث يدعــو البراز حامية القــو * م إذا كــان بالبـــراز مليـــا

____________
( 1 ) في الأصل : « الحرث » أي الحارث . والشعر يقتضي ما أثبت .
( 2 ) في الأصل : « ليس عمرو » والوجه ما أثبت . والمقطوعة لم ترو في مظنها من ح . وحمس النقع : شدته . والنقع : الغبار . صارت عصيا ، جعل المقاتلة يضربون بها ضرب العصي ويأخذونها أخذها .

( 424 )

فوق شهب مثل السحوق من النخ‍ـ * ـل ينــادي المبارزيـن : إليــا (1)

ثم يا عمــرو تستريح من الفخ‍ـ * ـر وتلتقي بــه فتـى هاشميــا

فالقــه إن أردت مكرمـة الده‍ـ * ـر أو المــوت كـل ذاك عليــا

فلما سمع عمرو شعره قال : والله لو علمت أني أموت ألف موتة لبارزت عليا في أول ما ألقاه ، فلما بارزه طعنه علي فصرعه ، واتقاه عمرو بعورته ، فانصرف علي عنه .
وقال علي حين بدت له عورة عمرو فصرف وجهه عنه :
ضربي ثبي الأبطال في المشاعب (2) * ضرب الغلام البطل الملاعــب

أين الضراب فـي العجاج الثــائب * حيــن احمرار الحدق الثواقـب

بالسيــف في تهتهة الكتائــب (3) * والصبــر فيه الحمد للعواقـب

ثم إن معاوية عقد لرجال من مضر ، منهم بسر بن أرطاة ، وعبيد الله بن عمر ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، ومحمد وعتبة أبنا أبي سفيان ، قصد بذلك إكرامهم ورفع منازلهم ، وذلك في الوقعات الأولى من صفين ، فغم ذلك رجالا من أهل اليمن ، وأرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم ، فقام رجل من كندة يقال له عبد الله بن الحارث السكوني ، فقال : يا معاوية ، إني قلت شيئا فاسمعه ، وضعه مني على النصيحة . فقال : هات . قال :
____________
( 1 ) السحوق من النخل : الطويلة ، شبه بها الخيل .
( 2 ) الثبة : الجماعة ، والعصبة من الفرسان ، وثبي ، هي ثبين جمع ثبة ، مع الجمع الملحق بالسالم ، كعزين وعضين ، وحذفت النون للاضافة : وفي الأصل : « ضرب ثبا » ، والوجه ما أثبت .
( 3 ) التهتهة : مصدر قولهم تهته في الشيء ـ بالبناء للمفعول : أي ردد فيه . وقد تكون : « نهنهة » بنونين ، وهو الكف والزجر .

( 425 )

معاوي أحييت فينــا الإحـــن * وأحدثــت في الشام مــا لم يكن

عقدت لبســر وأصحابــــه * ومــا الناس حولــك إلا اليمـن

فلا تخلطـــن بنا غيرنــــا * كمــا شيب بالماء محض اللبـن (1)

وإلا فدعنــــا على مالنـــا * وإنـــا وإنا إذا لــم نهـــن

ستعلــم إن جاش بحر العـراق * وأبدى نواجــذه فــي الفتــن

ونــادى علي وأصحابــه (2) * ونفســك إذ ذاك عنــد الذقــن

بأنا شعــارك دون الدثــــار * وأنــا الرمــاح وأنا الجنــن

وأنــا السيوف وأنــا الحتوف * وأنــا الدروع وأنــا المجــن

فكبا له معاوية ، ونظر إلى وجوه أهل اليمن فقال : أعن رضاكم قال هذا ما قال : فقال القوم : لا مرحبا بما قال : الأمر إليك فاصنع ما أحببت (3) . قال معاوية : إنما خلطت بكم ثقاتي وثقاتكم (4) ، ومن كان لي فهو لكم ومن كان لكم فهو لي . فرضى القوم وسكتوا ، فلما بلغ أهل الكوفة مقالة عبد الله بن الحارث لمعاوية فيمن عقد له من رءوس أهل الشام قام [ الأعور ] الشنى إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا لا نقول لك كما قال أصحاب أهل الشام لمعاوية ، ولكنا نقول : زاد الله في هداك وسرورك (5) ، نظرت بنور الله فقدمت رجالا ، وأخرت رجالا ، فعليك أن تقول وعلينا أن نفعل ، أنت الإمام ، فإن هلكت فهذان من بعدك ـ يعني حسنا وحسينا ـ وقد قلت شيئا فاسمعه . قال : هات . فقال :
____________
( 1 ) ح ( 2 : 290 ) : « صفو اللبن » .
( 2 ) ح : « وشد علي بأصحابه » .
( 3 ) في الأصل : « بما أحببت » وأثبت ما في ح .
( 4 ) في الأصل : « أهل ثقاتي وثقاتكم » وكلمة : « أهل » مقحمة ، وفي ح : « أهل ثقتي » فقط .
( 5 ) ح : « في سرورك وهداك » .

( 426 )

أبــا حسن أنت شمـس النهــار * وهذان فــي الحادثــات القمـر

وأنــت وهذان حتــى الممـات * بمنــزلة السمــع بعد البصــر

وأنتـــم أنــاس لكم ســورة * يقصـــر عنها أكــف البشــر (1)

يخبرنــا الناس عــن فضلكـم * وفضلكــم اليوم فــوق الخبــر (2)

عقــدت لقــوم ذوي نجــدة * مــن أهل الحيــاء وأهل الخطر

مساميــح بالمـوت عنـد اللقاء * منــا وإخواننــا من مضـــر

ومــن حي ذي يمــن جلــة * يقيمــون في الحادثــات الصعر

فكــل يســـرك في قومــه * ومــن قــال لا فبفيه الحجــر

ونحــن الفوارس يــوم الزبير * وطلحــة إذ قيــل أودى غـدر

ضربناهــم قبل نصف النهــار * إلى الليــل حتى قضينــا الوطر

ولم يأخــذ الضـرب إلا الرؤوس * ولــم يأخذ الطعــن إلا الثغـر

فنحــن أولئك فــي أمسنــا * ونحــن كـذلك فيمــا غبــر (3)

فلم يبق أحد من الناس به طرق (4) أوله ميسرة إلا أهدي للشنى أو أتحفه .
قال [ نصر : وحدثنا عمر بن سعد قال ] : ولما تعاظمت الأمور على معاوية [ قبل قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب ] دعا عمرو بن العاص ، وبسر بن أرطاة وعبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فقال لهم : إنه قد غمني رجال من أصحاب علي ، منهم سعيد بن قيس في همدان والأشتر في قومه ، والمرقال وعدي بن حاتم وقيس بن سعد في الأنصار ، وقد وقتكم
____________
( 1 ) السورة ، بالضم : المنزلة الرفيعة .
( 2 ) في الأصل : « يخبر بالناس » صوابه في ح ( 2 : 290 ) .
( 3 ) غبر : بقي . والغابر من الأضداد ، يقال للماضي وللباقي . في الأصل : « فيمن غبر » وأثبت ما في ح .
( 4 ) الطرق ، بكسر الطاء : القوة والقدرة . وفي الأصل : « ظرف » تحريف .

( 427 )

يمانيتكم بأنفسها [ أياما كثيرة ] حتى لقد استحييت لكم ، وأنتم عدتهم من قريش : وقد أردت أن يعلم الناس أنكم أهل غناء ، وقد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم ، فاجعلوا ذلك إلى . فقالوا : ذلك إليك . قال : فأنا أكفيكم سعيد بن قيس وقومه غدا ، وأنت يا عمرو لأعور بني زهرة المرقال ، وأنت يا بسر لقيس بن سعد ، وأنت يا عبيد الله للأشتر النخعي ، وأنت يا عبد الرحمن بن خالد لأعور طيء ـ يعني عدي بن حاتم ـ ثم ليرد كل رجل منكم عن حماة الخيل . فجعلها نوائب في خمسة أيام ، لكل رجل منهم يوم . فأصبح معاوية [ في غده ] فلم يدع فارسا إلا حشده ، ثم قصد لهمدان [ بنفسه ] وتقدم الخيل وهو يقول :
لا عيش إلا فلــق قحف الهــام * مــن أرحــب وشاكر وشبـام

لــن تمنع الحرمة بعـد العــام * بيـــن قتيــل وجريــح دام

سأملــك العــراق بالشـــآم * انعــى ابــن عفان مدى الأيـام

فطعن في أعراض الخيل مليا . ثم إن همدان تنادت بشعارها ، وأقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية واشتد القتال ، وحجز بينهم الليل ، فذكرت همدان أن معاوية فاتها ركضا . وقال سعيد بن قيس في ذلك :
يــا لهف نفسي فاتني معاويــه * فـوق طمــر كالعقـاب هاويـه

والراقصــات لا يعود ثانيـه (1) * إلا علــى ذات خصيـل طاويـه

إن يعـــد اليوم فكفى عاليـــه

فانصرف معاوية ولم يعمل شيئا . وإن عمرو بن العاص غدا في اليوم الثاني
____________
( 1 ) يقسم بالراقصات ، وهي الإبل ترقص في سيرها ، والرقص : ضرب من الخبب . انظر أيمان العرب للنجيرمي ص 20 وأمالي القالي ( 3 : 51 ) .
( 428 )

في حماة الخيل ، فقصد المرقال ، ومع المرقال ، لواء على الأعظم ، في حماة الناس ، وكان عمرو من فرسان قريش ، فتقدم وهو يقول :
لا عيش إن لم ألق يوما هاشمــا * ذاك الـــذي أجشمني المجاشمــا

ذاك الــذي أقـام لي المآتمــا * ذاك الــذي يشتــم عرضي ظالما

ذاك الـــذي إن ينج مني سالما * يكــن شجـا حتى الممات لازمــا

فطعن في أعراض الخيل مزبدا ، فحمل هاشم وهو يقول :
لا عيش إن لم ألق يومي عمـرا * ذاك الـــذي أحدث فينـــا الغدرا

أو يحــدث الله لأمــر أمـرا * لا تجزعي يا نفس صبـرا صبــرا

ضربا هذا ذيك وطعنا شزرا (1) * يا ليت مــا تجني يكــون قبرا (2)

فطاعن عمرا حتى رجع (3) ، واشتد القتال وانصرف الفريقان [ بعد شدة القتال ] ، ولم يسر معاوية ذلك .
وإن بسر بن أرطاة غدا في اليوم الثالث في حماة الخيل فلقى قيس ابن سعد في كماة الأنصار ، فاشتدت الحرب بينهما ، وبرز قيس كأنه فنيق مقرم ، وهو يقول :
أنا ابن سعـــد زانه عبــاده * والخزرجيــون رجــال سـاده

ليس فــراري في الوغى بعاده * إن الفـــرار للفتــى قلــاده

يــا رب أنت لقنى الشهــاده * والقتــل خير من عناق غاده حتى

متـــى تثني لــــي الوســادة

____________
( 1 ) هذاذيك : أي هذا بعد هذ ، يعتي قطعا بعد قطع . وفي الأصل : « مداريك » صوابه في ح ( 2 : 291 ) .
( 2 ) في الأصل : « يا ليت ما تحيى » والوجه ما أثبت من ح .
( 3 ) في الأصل : « فطعن عمرا » صوابه في ح .

( 429 )


وطاعن خيل بسر (1) ، وبرز له بسر بعد ملى (2) ، وهو يقول :
أنـــا ابن أرطاة عظيم القــدر * مــردد في غالب بن فهـــر (3)

ليس الفرار مــن طبـاع بســر * أن يـرجـــع اليوم بغير وتـر

وقــد قضيت في عدوي نـذري * يا ليت شعري ما بقي من عمري (4)

ويطعن بسر قيسا فيضربه قيس بالسيف فرده على عقبيه ، ورجع القوم جميعا ولقيس الفضل .
وإن عبيد الله بن عمر تقدم في اليوم الرابع ولم يترك فارسا مذكورا ، وجمع من استطاع ، فقال له معاوية : إنك تلقى أفاعي أهل العراق (5) فارفق واتئد . فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا ـ وكان الأشتر إذا أراد القتال أزبد ـ وهو يقول :
في كــل يوم هامتـي مقيــره * بالضــرب أبغي منــة مؤخره

والدرع خير من برود حبـره (6) * يــا رب جنبني سبيل الكفــره

واجعل وفاتي بأكــف الفجــرة * لا تعــدل الدنيا جميعــا وبره

ولا بعوضـــا في ثــواب البــرره

وشد على الخيل خيل الشام فردها (7) ، فاستحيا عبيد الله فبرز أمام الخيل وكان فارسا [ شجاعا ] وهو يقول :
____________
( 1 ) في الأصل : « فطعن خيل بسر » والصواب في ح .
( 2 ) يقال مضى ملي من النهار ، أي ساعة طويلة .
( 3 ) في الأصل : « مراود » ووجهه من ح . وفي ح : « غالب وفهر » وغالب هو ابن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .
( 4 ) بقي ، بكسر القاف وإسكان الياء للشعر ، وفي لغة طيئ بقي يبقى بفتح القاف ، كما يقولون فني يفني ، يفعلون ذلك في كل ياء انكسر ما قبلها ، يجعلونها ألفا . انظر اللسان ( بقى ) .
( 5 ) ح ( 2 : 291 ) : « أفعى أهل العراق » .
( 6 ) ح : « فالقتل خير من ثياب الحبره » .
( 7 ) هذا ما في ح . وبدل هذه العبارة في الأصل : « فرد الخيل » .