تركا البيــان وفي العيان كفايـة * لو كــان ينفع صاحبيه عيان

[ قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن مالك بن أعين ، عن زيد بن وهب قال ] : (1) كان فارس أهل الكوفة الذي لا ينازع رجل كان يقال له العكبر ابن جدير الأسدي ، وكان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة الكوفي [ المرادي ] المكنى أبا أحمر ، وهو أبو الذي استنقذ الحجاج بن يوسف يوم صرع في المسجد بمكة . وكان العكبر له عبادة ولسان لا يطاق ، فقام إلى علي فقال : « يا أمير المؤمنين ، إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس ، وقد ظننا بأهل الشام الصبر وظنوه بنا فصبرنا وصبروا . وقد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة ، وصبر أهل الحق على أهل الباطل ، ورغبة أهل الدنيا ، ثم نظرت فإذا أعجب ما يعجبني جهلي بآية من كتاب الله : ( الم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) . وأثنى عليه على خيرا ، وقال خيرا .
وخرج الناس إلى مصافهم وخرج [ عوف بن مجزأة ] المرادي نادرا من الناس ، وكذلك كان يصنع . وقد كان قتل قبل ذلك نفرا [ من أهل العراق ] مبارزة ، فنادى : يا أهل العراق ، هل من رجل عصاه سيفه يبارزني ، ولا أغركم من نفسي ، فأنا فارس زوف (2) . فصاح الناس بالعكبر ، فخرج إليه منقطعا من أصحابه والناس وقوف ، ووقف المرادي وهو يقول :

بالشام أمــن ليس فيــه خوف * بالشــام عدل ليس فيــه حيف

____________
( 1 ) قبل هذا الأصل : « وذكروا أنه » ، وضعت مكان السند المتقدم .
( 2 ) زوف ، بفتح الزاي : أبو قبيلة ، وهو زوف بن زاهر ـ أو أزهر ـ بن عامر بن عويثان . انظر القاموس ( زوف ) . وفي الأصل : « دوف » تحريف .

( 451 )

بالشام جود ليس فيـــه ســوف (1) * أنــا المرادي ورهطــي زوف (2)

أنا ابن مجــزاة واسمـي عــوف * هل مـــن عراقي عصــاه سيف

* يبـــرز لي وكيف لـــي وكيف *

فبرز إليه العكبر وهو يقول :

الشام محل والعـــراق تمطــر * بهــا الإمـام والإمــام معـذر (3)

والشام فيها للإمـــام معــور (4) * أنــا العراقـي واسمـي العكبـر

ابن جدير وأبـــوه المنـــذر * ادن فإنـــي للكمى مصحــر (5)

فاطعنا فصرعه العكبر فقتله ، ومعاوية على التل في أناس من قريش (6) ونفر من الناس قليل (7) ، فوجه العكبر فرسه فملأ فروجه ركضا يضربه بالسوط ، مسرعا نحو التل ، فنظر إليه معاوية فقال : إن هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن ، فاسألوه . فأتاه رجل وهو في حمى فرسه (8) فناداه فلم يجبه ، فمضى [ مبادرا ] حتى انتهى إلى معاوية وجعل يطعن في أعراض الخيل ، ورجا العكبر أن يفردوا له معاوية ، فقتل رجالا (9) ، وقام القوم دون معاوية بالسيوف والرماح ، فلما لم يصل إلى معاوية نادى : أولى لك يا ابن هند ، أنا الغلام الأسدي . فرجع إلى علي (10) فقال له : ماذا دعاك إلى ما صنعت
____________
( 1 ) يقال فلان يقتات السوف أي يعيش بالأماني .
( 2 ) في الأصل : « روف » وانظر التحقيق فيما قبل .
( 3 ) المعذر : المنصف . ح : « بها إمام طاهر مطهر » .
( 4 ) المعور : القبيح السريرة . ح : « فيها أعور ومعور » .
( 5 ) مصحر ، أي هو من أمره على أمر واضح منكشف . ح : « فإني في البراز قسور » .
( 6 ) ح ( 2 : 297 ) : « في وجوه قريش » .
( 7 ) في الأصل : « وأناس من الناس قليل » وفي ح : « ونفر قليل من الناس » .
( 8 ) الحمى : اشتداد العدو . وفي الأصل : « حمو » والوجه ما أثبت . قال الأعشى :
كأن احتدام الجوف من حمى شده * وما بعده من شده غلى قمقم
( 9 ) ح : « فاستقبله رجال قتل منهم قوما » .
( 10 ) ح : « ورجع إلى صف العراق ولم يكلم » .

( 452 )

يا عكبر ؟ [ لا تلق نفسك إلى التهلكة ] قال : أردت غرة ابن هند .
وكان شاعرا فقال :

قتلت المرادي الذي جـــاء باغيا * ينــادي وقد ثـار العجـاج : نزال

يقول أنا عوف بن مجزاة ، والمنى * لقــاء ابن مجزاة بيـوم قتـــال

فقلت له لما علا القــوم صوتـه * منيت بمشبـــوح الذراع طــوال

فأوجرته في معظــم النقع صعدة * ملأت بهـــا رعبــا قلوب رجال

فغادرته يكبو صريعـــا لوجهه * ينـــادي مرارا في مكــر مجـال

فقدمت مهري آخذا حــد جريـه * فأضربــه في حومــة بشمالــي (1)

أريد به التل الذي فــوق رأسـه * معاويـــة الجاني لكـل خبـــال

يقول ومهري يغرف الجرى جامحا * بفارســه قد بان كـــل ضــلال (2)

فلما رأوني أصدق الطعــن فيهـم * جلا عنهـــم رجم الغيوب فعـالي

فقام رجــال دونــه بسيوفهـم * وقــال رجال دونـــه بعوالــي

فلو نلته نلت التـــي ليس بعدها * مــن الأمر شئ غير قيـل وقــال (3)

ولو مت في نيل المنى ألف ميتـة * لقلت إذا مــا مت لســت أبالــي

وانكسر أهل الشام لقتل [ عوف ] المرادي ، وهدر معاوية دم العكبر ، فقال العكبر : يد الله فوق يد معاوية ، فأين دفاع الله عن المؤمنين (4) .
وقال نصر : حيث شرك الناس عليا في الرأي .
____________
( 1 ) ح ( 2 : 299 ) : « أصرفه في جريه بشمالي » .
( 2 ) في الأصل : « يعرف الجرى » تحريف . وفي القاموس : « وخيل مغارف كأنها تغرف الجرى » .
( 3 ) ح : « وفزت بذكر صالح وفعال » .
( 4 ) في الأصل : « من المؤمنين » . وفي ح : « فأين الله جل جلاله ودفاعه عن المؤمنين » .

( 453 )

فجزع النجاشي من ذلك وقال :

كفى حزنــا أنا عصينــا إمامنــا * عليــا وأن القوم طاعــوا معاويه (1)

وإن لأهل الشــام في ذاك فضلهــم * علينــا بما قالوه فالعين باكيـــه

فسبحان من أرسـى ثبيــرا مكانــه * ومــن أمسك السبع الطباق كماهيه

أيعصــى إمــام أوجب الله حقــه * علينــا وأهل الشام طوع لطاغيـه (2)

ثم إن عليا عليه السلام دعا قيس بن سعد فأثنى عليه خيرا ، وسوده على الأنصار ، وكانت طلائع أهل الشام وأهل العراق يلتقون فيما بين ذلك ويتناشدون الأشعار ، ويفخر بعضهم على بعض ، ويحدث بعضهم بعضا على أمان ، فالتقوا يوما وفيهم النجاشي ، فتذاكر القوم رجراجة على وخضرية معاوية ، فافتخر كل بكتيبتهم فقال أهل الشام : إن الخضرية مثل الرجراجة . وكان مع علي أربعة آلاف مجفف (3) من همدان ، مع سعيد بن قيس رجراجة ، وكان عليهم البيض والسلاح والدروع ، وكان الخضرية مع عبيد الله بن عمر بن الخطاب أربعة آلاف عليهم الخضرة ، فقال فتى من جذام من أهل الشام ممن كان في طليعة معاوية :

ألا قــل لفجــار أهل العراق * وليـــن الكلام لهــم سيـه (4)

____________
( 1 ) اللسان : « الطوع نقيض الكره ـ أي بفتح الكاف ـ طاعه يطوعه وطاوعه » .
( 2 ) في الأصل وح : « طوعا لطاغيه » .
( 3 ) المجفف : لابس التجفاف ، وأصله ما يوضع على الخيل من حديد وغيره . وفي الأصل : « مجفجف » تحريف .
( 4 ) السية هي مخفف السيئة ، ثم سهلت همزتها وقلبت ياء وأدغمت في أختها ، كما أن السي مخفف السيء ، ومنه قول أفنون التغلبي ( انظر اللسان 1 : 91 والقصيدة 66 من المفضليات ) :

أني جزوا عامرا سيئا بفعلهم * أم كيف يجزونني السوأى من الحسن


( 454 )

متى مــا تجيئــوا برجراجــة * نجئكـــم بجــأواء (1) خضرية

فوارسهــا كأســود الضــراب * طــوال الرمــاح يمـانيــه

قصـار السيـــوف بأيديهـــم * يطولهــا الخطـــو والنيــه (2)

يقول ابــن هنـــد إذا أقبلــت * جــزى الله خيــرا جذاميــه

فقال اليوم للنجاشي : أنت شاعر أهل العراق وفارسهم ، فأجب الرجل فتنحى ساعة ثم أقبل يهدر مزبدا يقول :

معـــاوي إن تأتنــا مزبـــدا * بخضـــرية تلق رجراجــــه

أسنتها مــن دمـــاء الرجــال * إذا جــالت الخيــل مجاجـــه

فوارسهــا كأســـود الضـراب * إلى الله فــــي القتـل محتاجــه

وليست لـــدى المـوت وقافــة * وليســت لدى الخــوف فجفاجـه (3)

وليس بهــم غيـــر جـد اللقاء * إلى طـــول أسيافهــم حاجــه

خطــاهم مقــدم أسيـــافهــم * وأذرعهــــم غيــر خداجــه

وعنــدك مــن وقعهــم مصـدق * وقــد أخرجــت أمس إخراجـه

فشنــت عليهم ببيــض السيـوف * بهــــا فقـــــع لجاجـــه (4)

فقال أهل الشام : يا أخا بني الحارث أروناها فإنها جيدة . فأعادها عليهم حتى رووها . وكانت الطلائع تلتقي ، يستأمن بعضهم بعضا فيتحدثون .
[ قال نصر : وروى عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن ابن أبي
____________
( 1 ) الجأواء : الكتيبة التي علاها الصدأ . وفي الأصل : « بجا » فقط ، وهذه المقطوعة وتاليتها لم تردا في مظنهما من ح .
( 2 ) ينظر إلى قول الأخنس بن شهاب في المفضلية 41 :
وإن قصرت أسيافنا كان وصلها * خطانا إلى القوم الذين نضارب
( 3 ) الفجفاج : الكثير الصياح والجلبة . وفي الأصل : « فجاجة » تحريف .
( 4 ) كذا ورد هذا الشطر .

( 445 )

الكنود ] ، قال : جزع أهل الشام (1) على قتلاهم جزعا شديدا ، فقال معاوية ابن خديج :
يا أهل الشام ، قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب وذي الكلاع و [ الله ] لو ظفرنا بأهل العراق بعد قتلهما بغير مؤونة ما كان ظفرا . وقال يزيد بن أنس لمعاوية : لا خير في أمر لا يشبه أوله آخره ، لا يدمل جريح (2) ، ولا يبكي على قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة ، فإن يكن الأمر لك دملت (3) وبكيت على قرار ، وإن كان الأمر لغيرك فما أصبت فيه أعظم . فقال معاوية : " يا أهل الشام ، ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم ، فوالله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم ، ولا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم ، وما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم ، وما الرجال إلا أشباه ، وما التمحيص إلا من عند الله . فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة ، قتل عمار بن ياسر وهو كان فتاهم ، وقتل هاشما وكان جمرتهم ، وقتل ابن بديل وهو فاعل الأفاعيل ، وبقى الأشعث والأشتر وعدي ابن حاتم . فأما الأشعث فحماه مصره ، وأما الأشتر وعدي فغضبا للفتنة ، والله قاتلهما غدا إن شاء الله فقال ابن خديج : إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك . وغضب معاوية [ من ] ابن خديج . وقال الحضرمي في ذلك شعرا (4) :
____________
( 1 ) بدل ما بعد التكملة في الأصل : « ثم ذكروا أن أهل الشام جزعوا » وأثبت ما في ح .
( 2 ) يدمل : يصلح ويعالج . وفي الأصل : « لا يدمن على جريح » . ح ( 2 : 299 ) : « لا يدمى جريح » ، ووجههما ما أثبت .
( 3 ) في الأصل : « أدمنت » وفي ح : « أدميت » وانظر التحقيق السالف .
( 4 ) ح : « وقال شاعر اليمن يرثى ذا الكلاع وحوشبا » .

( 456 )

معاوي قـد نلنا ونيلت سراتنـــا * وجــدع أحياء الكلاع ويحصــب

بـذي كلـــع لا يبعــد الله داره * وكل يمـــان قد أصيب بحوشـب

هما ما هما كانا ، معاوي ، عصمـة * متـــى ما أقلـــه جهرة لا أكذب

ولو قبلت في هالك بــذل فديــة * فديناهمـــا بــالنفس والأم والأب

وقد علقت أرماحنــــا بفوارس * مني قومهـــم منا بجـدع موعـب (1)

وليس ابن قيس أو عدي بن حاتـم * والأشتــر إن ذاقوا فنــا بتحـوب (2)

ثم رجع إلى حديث عمر بن سعد .
نصر ، عن عمر ، عن عبد الرحمن بن عبد الله (3) ، أن عبد الله بن كعب (4) قتل يوم صفين ، فمر به الأسود بن قيس (5) بآخر رمق فقال : عز على والله مصرعك . أما والله لو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك ، ولو رأيت الذي أشعرك (6) لأحببت ألا يزايلني حتي [ أقتله أو ] يلحقني بك . ثم نزل إليه فقال : [ رحمك الله يا عبد الله ] ، والله إن كان جارك ليأمن بوائقك ، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا . أوصني رحمك الله . قال : « أوصيك
____________
( 1 ) في الأصل : « وقد علقت أرحامنا » والوجه ما أثبت ، والبيت لم يرو في ح . أراد أخذت أرماحنا هؤلاء الفوارس الذين يتمنى قومهم لنا الجدع الموعب . وهذا البيت ترتيبه الثالث في الأصل ، كما أن تاليه كان ترتيبه الخامس في الأصل ، ولم يرويا في ح ، وقد رددتهما إلى هذا الوضع الذي يتساوق به الشعر .
( 2 ) فنا : مقصور فناء ، قصره للشعر . وفي الأصل : « فلا » .
( 3 ) ح : « عن عبيد الرحمن بن كعب » .
( 4 ) عبد الله بن كعب المرادي قتل يوم صفين ، وكان من أعيان أصحاب علي . الإصابة 4909 . وفي ح : « عبد الله بن بديل » . وعبد الله بن بديل ، وأخوه عبد الرحمن بن بديل ، قتلا أيضا بصفين .
( 5 ) ح : « الأسود بن طهمان الخزاعي » .
( 6 ) في اللسان : « أشعره سنانا : خالطه به » . وأنشد قول أبي عازب الكلابي :

فأشعرته تحت الظلام وبيننا * من الخطر المنضود في العين واقع

قال : « يريد أشعرت الذئب بالسهم » . وفي الأصل : « ولو أعرف » وأثبت ما في ح .

( 457 )

بتقوى الله ، وأن تناصح أمير المؤمنين وأن تقاتل معه المحلين ، حتى يظهر الحق أو تلحق بالله . وأبلغه عني السلام وقل له : قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك ، فإنه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب » . ثم لم يلبث أن مات ، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره فقال : « رحمه الله ، جاهد معنا عدونا في الحياة ، ونصح لنا في الوفاة » . ثم إن عليا غلس بالناس بصلاة الفجر ، ثم زحف بهم فخرج الناس على راياتهم وأعلامهم ، وزحف إليهم أهل الشام .
قال : فحدثني عمرو بن شمر ، عن جابر عن عامر ، عن صعصعة بن صوحان والحارث بن أدهم ، أن أبرهة بن الصباح بن أبرهة الحميري قام فقال : ويلكم يا معشر أهل اليمن ، والله إني لأظن أن قد أذن بفنائكم ، ويحكم خلوا بين هذين الرجلين فليقتتلا ، فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا . وكان [ أبرهة ] من رؤساء أصحاب معاوية . فبلغ ذلك عليا فقال : صدق أبرهة بن الصباح ، والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا مني بهذه . وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله : إني لأظن أبرهة مصابا في عقله . فأقبل أهل الشام يقولون : والله إن أبرهة لأفضلنا دينا ورأيا وبأسا ، ولكن معاوية كره مبارزة علي . فقال أبرهة في ذلك :

لقد قــال ابــن أبرهــة مقالا * وخالفــــه معاوية بــــن حرب

لأن الحـــق أوضح مـن غرور * ملبســة غرائضـــه بحقـــب (1)

رمــى بالفيلقين بــــه جهارا * وأنتـــم ولــد قحطان بحـــرب

فخلوا عنهمــــا ليثي عــراك * فإن الحــــق يدفع كــل كــذب

ومـــا إن يعتصم يومـــا بقول * ذوو الأرحـــام إنهـــم لصحبـي

____________
( 1 ) كذا ورد هذا الشطر . وانظر أواخر ص 441 .
( 458 )

وكم بين المنــــادي مـــن بعيد * ومـن يغشى الحروب بكل عضــب

ومــن يرد البقاء ومــن يلاقــي * بإسمـــاح الطعان وصفح ضــرب

أيهجرنـــي معاويـــة بن حرب * ومـــا هجرانــه سخطـا لربــي

وعمـــرو إن يفارقنـــي بقـول * فإن ذراعــه بــالغــدر رحـب (1)

وإنــي إن أفارقهــــم بدينــي * لفـــي سعـــة إلى شرق وغـرب

وبرز يومئذ عروة بن داود الدمشقي (2) فقال : إن كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلم إلى . فتقدم إليه علي فقال له أصحابه : ذر هذا الكلب فإنه ليس لك بخطر (3) . فقال : والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه . دعوني وإياه . ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطة إحداهما يمنة والأخرى يسرة ، فارتج العسكران لهول الضربة ، ثم قال : اذهب يا عروة فأخبر قومك . أما والذي بعث محمدا بالحق لقد عاينت النار وأصبحت من النادمين . وقال ابن عم لعروة : واسوء صباحاه ، قبح الله البقاء بعد أبي داود . ثم أنشأ يقول في ذلك :

فقـــدت عروة الأرامـل والأيــ‍ * تــام يوم الكريهـــة الشنعــاء (4)

كـــان لا يشتم الجليس ولا يــن‍ * كـــل يوم العظيمــة النكبـــاء (5)

آمـــن الله مـن عدي ومن ابــ‍ * ن أبــــي طالـب ومـن عليـــا

يالعيني ألا بكــت عروة [ الأقــ‍ * وام ] يـــوم العجــاج والتربــاء (6)

____________
( 1 ) الذراع أنثى ، وقد تذكر . وفي البيت إقواء .
( 2 ) ح ( 2 : 300 ) : « أبو داود عروة بن داود العامري » .
( 3 ) في اللسان : « وهذا خطير لهذا وخطر له ، أي مثل له في القدر » .
( 4 ) في الأصل : « الشغباء » تحريف . والمقطوعة لم ترد في ح .
( 5 ) نكل ، كضرب ونصر وعلم ، نكولا : نكص وجبن .
( 6 ) كلمة « الأقوام » بمثلها يتم البيت ، وليست في الأصل . والترباء ، إحدى لغات التراب ، وهي إحدى عشرة لغة .

( 459 )

فليبكيه نسوة مـــن بني عــا * مـــر من يثرب وأهـل قبــاء

رحم الله عروة الخيـر ذا النجــ‍ * دة وابـــن القماقــم النجبــاء

أرهقته المنون في قــاع صفين صريعــا قــد غاب في الجـرباء (1)

غادرتـــه الكمـاة من أهل بدر * ومـــن التابعيــن والنقبــاء

وقال عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري :

عرو يـــا عرو قد لقيت حماما * إذ تقحمـــت في حمى اللهـوات

أعليـــا ، لـك الهوان ، تنادي * ضيغمــا في أياطــل الحومـات

إن لله فارســـا كأبي الشبـــ * لميـــن ما إن يهولــه المتلفات (2)

مؤمنا بالقضــاء محتسبـا بالـ * خيـــر يرجو الثواب بالسابقـات

ليس يخشى كريهـــة في لقاء * لا ولا مـــا يجي بـه الآفـــات

فلقد ذقت في الجحيـــم نـكالا * وضـــراب المقامـــع المحميات

يا ابن داود قد وقيت ابن هنــد * أن يكــــون القتيــل بالمقفـرات

قال : وحمل ابن عم أبي داود على علي فطعنه فضرب الرمح فبراه ، ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود ، ومعاوية واقف على التل يبصر ويشاهد ، فقال : تبا لهذه الرجال وقبحا ، أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة ، أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع . فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته . فقال : والله لقد دعاني إلى البراز حتى استحييت من قريش ، وإني والله لا أبرز إليه ، ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له . فقال عتبة ابن أبي سفيان : الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنه قتل حريثا وفضح عمرا ، ولا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله . فقال معاوية لبسر
____________
( 1 ) الجرباء : الأرض الممحلة المقحوطة . وفي الأصل : « قد عاين الحوباء » .
( 2 ) في الأصل : « ليس لله فارس » .

( 460 )

ابن أرطاة أتقوم لمبارزته ؟ فقال : ما أحد أحق بها منك ، وإذا أبيتموه فأنا له . فقال له معاوية : أما إنك ستلقاه في العجاجة غدا في أول الخيل . وكان عند بسر بن أرطاة ابن عم له قد قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسرا فقال له : إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا . أما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ، ثم بعده محمد أخوه ، وكل من هؤلاء قرن لعلي (1) ، فما يدعوك إلى ما أرى . قال : الحياء ، خرج مني كلام (2) فأنا أستحيي أن أرجع عنه . فضحك الغلام وقال في ذلك :

تنازله يا بسـر إن كنـت مثلــه * وإلا فـــإن الليث للضبــع آكل (3)

كأنك يا بسر بـــن أرطاة جاهـل * بآثاره في الحــرب أو متجاهــل

معاوية الوالـي وصنــواه بعــده * وليس ســـواء مستعــار وثاكل

أولئك هـم أولى بـــه منك إنـه * على فـــلا تقربه ، أمـك هابـل

متى تلقــه فالموت في رأس رمحه * وفي سيفه شغــل لنفسك شاغـل

وما بعده في آخـر الحرب عاطف * ولا قبلـــه في أول الخيل حامل (4)

فقال بسر : هل هو إلا الموت ، لابد والله من لقاء الله تعالى .
فغدا على [ عليه السلام ] منقطعا من خيله ومعه الأشتر ، وهو يريد التل وهو يقول :

إني علـي فاسألــوا لتخبــروا * ثم ابرزوا إلى الوغــى أو أدبـروا

سيفي حســام وسنــاني أزهر * منــا النبي الطيــب المطهـــر

____________
( 1 ) في الأصل : « وكل هؤلاء من قرن لعلي » صوابه في ح .
( 2 ) في الأصل : « شيء » والوجه ما أثبت من ح ( 2 : 300 ) .
( 3 ) ح : « للشاة آكل » .
( 4 ) عاطف ، أراد به الذي يحمي المنهزمين . وفي اللسان : « ورجل عطوف وعطاف ، يحمي المنهزمين » . وفي الأصل : « خاطف » موضع « عاطف » صوابه في ح .

( 461 )

وحمزة الخيـــر ومنا جعفــر * لــه جناح في الجنان أخضــر (1)

ذا أســـد الله وفيـــه مفخر * هذا وهـــذا وابن هند مجحــر

مذبــــذب مطــرد مؤخــــر

فاستقبله بسر قريبا من التل وهو مقنع في الحديد لا يعرف ، فناداه : ابرز إلى أبا حسن . فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث ، حتى إذا قار به طعنه وهو دارع ، فألقاه على الأرض ، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه ، فاتقاه بسر [ بعورته ] وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه ، فانصرف عنه علي عليه السلام مستدبرا له ، فعرفه الأشتر حين سقط فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا بسر بن أرطاة ، عدو الله وعدوك . فقال : دعه عليه لعنة الله ، أبعد أن فعلها .
فحمل ابن عم لبسر شاب على علي عليه السلام وهو يقول :

أرديت بسرا والغلام ثائــــره * أرديت شيخـــا غاب عنه ناصـره

وكلنــــا حام لبســر واتــره

فحمل عليه الأشتر وهو يقول :

أكل يوم رجــل شيــخ شاغـره * وعورة وســط العجــاج ظاهـره

تبرزها طعنـــة كــف واتـره * عمــرو وبسر رميـــا بالفاقـره (2)

فطعنه الأشتر فكسر صلبه ، وقام بسر من طعنة علي [ موليا ] وولت خيله ، وناده علي : يا بسر ، معاوية كان أحق بهذا منك (3) . فرجع بسر إلى
____________
( 1 ) هو جعفر بن أبي طالب ، أخو علي عليه السلام ، وكان جعفر أسن من علي بعشر سنين . وكان مصرعه يوم مؤتة في الثامنة من الهجرة ، وكان قد حمل لواء المسلمين زيد بن حارثة فقتل ، فحمله جعفر بيمينه فقطعت ، ثم بشماله فقطعت ، فاحتضنها بعضديه فقتل وخر شهيدا . ويسمى جعفر « ذا الجناحين » و « ذا الهجرتين » . انظر الإصابة ، وكتب المغازي ، والحيوان ( 3 : 233 ) .
( 2 ) الفاقرة : الداهية تكسر فقار الظهر . ح : « منيا بالفاقرة » .
( 3 ) ح ( 2 : 301 ) : « بها منك » .

( 462 )

معاوية ، فقال له معاوية : ارفع طرفك قد أدال الله عمرا منك . فقال في ذلك النضر بن الحارث :

أفي كل يوم فـــارس تندبونــه * له عــورة وسط العجاجة باديــه

يكف بهـــا عنه علـي سنانــه * ويضحــك منها في الخلاء معاويه

بدت أمس من عمرو فقنع رأســـه * وعورة بسر مثلها حـذو حاذيــه

فقولا لعمرو وابـــن أرطاة أبصرا * سبيلكمـــا لا تلقيا الليث ثانيــه

ولا تحمدا إلا الحيــا وخصا كمــا * همــا كانتا والله للنفس واقيـــه

فلولا هما لم تنجـوا مــن سنانــه * وتلك بمــا فيها عن العود ناهيـه

متى تلقيا الخيل المشيحــة صبحـة * وفيهــا علي فاتركا الخيل ناحيـه (1)

وكونــا بعيدا حيــث لا يبلغ القنا * وخمى الوغى إن التجــارب كافيه

وإن كــان منه بعد في النفس حاجة * فعودا إلى ما شئتمــا هي ماهيـه

فكان بسر بعد ذلك إذا لقي الخيل التي فيها علي تنحى ناحية . وتحامى فرسان أهل الشام عليا .
[ قال نصر : وحدثنا عمر بن سعد ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن أبي جحيفة قال ] : ثم إن معاوية جمع كل قرشي بالشام فقال : العجب يا معشر قريش أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول به لسانه (2) غدا ما عدا عمرا ، فما بالكم ، وأين حمية قريش ؟ ! فغضب الوليد بن عقبة
____________
( 1 ) المشيحة : المجدة ، صبحة : صبحا . وفي الأصل : « صيحة » صوابه في ح ، وفيها : « الخيل المغبرة ؟ ؟ » .
( 2 ) الفعال ، بالفتح : الفعل الحسن . وفي ح : « فعال يطول بها لسانه » وهو بالكسر : جمع فعل .

( 463 )

وقال : وأي فعال تريد ، والله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غناءنا باللسان ولا باليد . فقال معاوية : بل إن أولئك قد وقوا عليا بأنفسهم . قال الوليد : كلا بل وقاهم علي بنفسه . قال : ويحكم ، أما منكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة أو مفاخرة . فقال مروان : أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه ، ولا لابن عباس وإخوته ، ويصلي بالحرب دونهم ، فلأيهم نبارز . وأما المفاخرة فبماذا نفاخرهم أبا لإسلام أم بالجاهلية . فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة ، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن . فإن قلنا قريش قالت العرب : فأقروا لبني عبد المطلب . فغضب عتبة بن أبي سفيان فقال : الهوا عن هذا فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة . فقال معاوية : بخ بخ ، قومه بنو مخزوم ، وأمه أم هانئ بنت أبي طالب ، وأبوه هبيرة بن أبي وهب ، كفو كريم . وظهر العتاب بين عتبة والقوم حتى أغلظ لهم وأغلظوا له . فقال مروان : أما والله لولا ما كان منى يوم الدار مع عثمان ، ومشهدي بالبصرة لكان مني في علي رأي كان يكفي امرأ ذا حسب ودين ، ولكن ولعل . ونابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم ، فأغلظ له الوليد فقال معاوية : يا وليد ، إنك إنما تجترئ علي بحق عثمان (1) ، وقد ضربك حدا ، وعزلك عن الكوفة . ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا وأرضاهم معاوية من نفسه ، ووصلهم بأموال جليلة . وبعث معاوية إلى عتبة فقال : ما أنت صانع في جعدة ؟ فقال : ألقاه اليوم وأقاتله غدا . وكان لجعدة في قريش شرف عظيم ، وكان له لسان ، وكان من أحب الناس إلى علي ، فغدا عليه عتبة فنادى : أيا جعدة ، أيا جعدة . فاستأذن عليا عليه السلام في الخروج إليه ، فإذن له ، واجتمع الناس لكلامهما فقال عتبة : يا جعدة ، إنه والله ما أخرجك علينا إلا حب خالك وعمك ابن
____________
( 1 ) ح ( 2 : 301 ) « بنسبك من عثمان » .
( 464 )

أبي سلمة عامل البحرين (1) ، وإنا والله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان ، ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها ، فوالله ما بالشام رجل به طرق (2) إلا وهو أجد من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جد علي [ في الحرب ] . ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس ، حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب . فقال جعدة : أما حبي لخالي فوالله أن لو كان لك خال مثله لنسيت أباك . وأما ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره ، والجهاد أحب إلى من العمل . وأما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه [ اثنان ] . وأما رضاكم (3) اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس [ فلم نقبل ] . وأما قولك إنه ليس بالشام من رجل إلا وهو أجد من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جد علي ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعلي يقينه ، وقصر بمعاوية شكه ، وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل . وأما قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي عليه السلام ، فو الله ما نسأله إن سكت ، ولا نرد عليه إن قال . وأما قتل العرب فإن الله كتب [ القتل و ] القتال فمن قتله الحق فإلى الله . فغضب عتبة وفحش على جعدة ، فلم يجبه وأعرض عنه وانصرفا جميعا مغضبين . فلما انصرف عتبة جمع خيله فلم يستبق منها [ شيئا ] ، وجل أصحابه السكون والأزد والصدف ، وتهيأ جعدة بما استطاع فالتقيا ، وصبر القوم جميعا ، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه ، وجزع عتبة فأسلم خيله
____________
( 1 ) في الأصل : « عامل البحرين » وأثبت ما في ح .
( 2 ) الطرق ، بالكسر : القوة . وفي الحديث : « لا أرى أحدا به طرق يتخلف » . وفي الأصل : « طرف » صوابه بالقاف .
( 3 ) في الأصل : « رضاكم » وأثبت ما في ح .