وأسرع هاربا إلى معاوية ، فقال له : فضحك جعدة ، وهزمتك (1) لا تغسل رأسك منها أبدا . قال عتبة : لا والله لا أعود إلى مثلها أبدا ، ولقد أعذرت ، وما كان على أصحابي من عتب ، ولكن الله أبي أن يديلنا منهم فما أصنع . فخطى بها جعدة عند علي . فقال النجاشي فيما كان من شتم عتبة لجعدة شعرا :

إن شتم الكريم يــا عتب خطـب * فاعلمنــه مــن الخطوب عظيم

أمــــه ام هانـــئ وأبــوه * مـــن معد ومن لؤى صميــم

ذاك منهـــا هبيرة بـن أبي وه‍ * ب أقـــرت بفضلــه مخـزوم

كان في حربكـــم يعــد بألف * حيــن تلقى بهـــا القروم القروم

وابنه جعـــدة الخليفة منـــه * هكـذا يخلــف الفــروع الأروم

كـــل شيء تريده فهــو فيـه * حسب ثـــاقب وديــن قويــم

وخطيـــب إذا تمعــرت الأو * جـــه يشجى به الألد الخصيــم

وحليم إذا الحبــى حلها الجهــ‍ * ل وخفــت مـن الرجال الحلـوم (2)

وشكيــم الحروب قـد علم النا * س إذا حـــل في الحروب الشكيـم

وصحيـــح الأديم من نغل العي‍ * ب إذا كــــان لا يصح الأديــم

حامــل للعظيم في طلب الحمـ‍ * د إذا أعظـــم الصغيـر اللئيــم

ما عسى أن تقــول للذهب الأح‍ * مر عيبــا ، هيهات منك النجــوم

كل هــذا بحمد ربـك فيـــه * وسوى ذاك كــان وهـو فطيــم

وقال الشنى في ذلك لعتبة :

مازلت تنظــــر في عطفيك أبهة
لا يرفع الطرف منك التيه والصلف (3)

____________
( 1 ) في الأصل : « بهزمك » والوجه ما أثبت من ح .
( 2 ) الحبى ، تقال بضم الحاء جمع حبوة بضم الحاء ، وبكسر الحاء جمع حبوة بكسرها ، وهي أن يجمع ظهره وساقيه بعمامة . ح : « إذا الجبال جللها الجهل » .
( 3 ) في الأصل : « وظلت تنظر » وأثبت ما في ح ( 1 : 302 ) .

( 466 )

لا تحسب القوم إلا فقـــع قرقـرة * أو شحمــة بزها شاو لها نطــف (1)

حتى لقيت ابــن مخزوم وأي فتـى * أحيـــا مآثر آباء لــه سلفــوا

إن كــان رهط أبي وهب جحاجحة * في الأوليــن فهذا منهــم خلــف

أشجــاك جعدة إذ نادى فوارســه * حامــوا عن الدين والدنيا فما وقفـوا

حتى رمــوك بخيل غيــر راجعة * إلا وسمــر العوالي منكــم تكـف

قد عاهــدوا الله لن يثنوا أعنتهــا * عنــد الطعان ولا في قولهم خلــف

لمـــا رأيتهم صبحــا حسبتهـم * أســد العرين حمى أشبالهـا الغرف (2)

ناديت خيلك إذ عض الثقاف بهـم : * خيـلي إلي ، فمـا عاجوا ولا عطفوا (3)

هلا عطفت على قتلــى مصرعـة * منهــا السكون ومنها الأزد والصدف

قد كنت في منظر مــن ذا ومستمع * يا عتب لولا سفاه الرأي والســـرف

فاليوم يقــرع منك السن عن نـدم * مــا للمبارز إلا العجــز والنصـف

نصر ، عن عمر في إسناده قال : وكان من أهل الشام بصفين رجل يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي ، وكان يكون طليعة ومسلحة لمعاوية ، فندب علي له الأشتر فأخذه أسيرا من غير أن يقاتل . وكان علي ينهي عن قتل الأسير الكاف فجاء به ليلا وشد وثاقه وألقاه عند أصحابه (4) ينتظر به الصباح ، وكان الأصبغ شاعرا مفوها ، ونام أصحابه ، فرفع صوته فأسمع الأشتر فقال :
____________
( 1 ) في الأصل : « لم يصبح القوم » وأثبت ما في ح . وفي الأصل أيضا : « شحمة يشوها » صوابه من ح ، وانظر ما سبق في ص 367 س 13 .
( 2 ) الغرف : جمع غريف ، وهو الشجر الملتف . وفي الأصل : « العرف » تحريف . وهذا البيت والثلاثة قبله والبيت الذي بعده ليس في ح .
( 3 ) خيلك : أي فوارسك . عض الثقاف بهم : دخلوا في مأزق الحرب . وأصل الثقاف خشبة تسوى بها الرماح والقسى ، بها خرق يتسع لهما ، ثم يغمز منهما حيث ينبغي أن يغمز ، وهما مدهونان مملولان أو مضهوبان على النار ، حتى يصيرا إلى ما يراد منهما . وفي الأصل : « إذا غض النقاف » تحريف .
( 4 ) في الأصل : « مع أضيافه » وأثبت ما في ح ( 2 : 302 ) .

( 467 )

ألا ليت هــذا الليل طبق سرمــدا * على النــاس لا يأتيهم بنهـــار (1)

يكــون كذا حتـى القيامة إننــي * أحـــاذر في الإصباح ضرمة نار (2)

فيــاليل طبق إن في الليل راحـة * وفي الصبــح قتلى أو فكاك إساري

ولو كنت تحت الأرض ستين واديـا * لمـــا رد عني مـا أخاف حذاري

فيـــا نفس مهلا إن للموت غايـة * فصبرا علــى ما ناب يا ابن ضرار

أأخشــى ولي في القوم رحم قريبة * أبى الله أن أخشــى والاشتر جاري (3)

ولو أنه كـــان الأسيــر ببلـدة * أطـــاع بها شمـرت ذيل إزاري

ولو كنت جار الأشعث الخير فكنـى * وقـــل من الأمر المخوف فراري

وجار سعيد أو عـدي بــن حاتـم * وجــار شريح الخير قــر قراري

وجار المـــرادي العظيم وهانـئ * وزحر بن قيس ما كرهت نهــاري (4)

ولو أنني كنت الأسيــر لبعضهـم * دعــوت رئيس القوم عند عثـاري

أولئــك قومي لا عدمـت حياتهـم * وعفوهــم عني وستــر عواري (5)

فغذا به الأشتر على علي فقال : يا أمير المؤمنين ، هذا رجل من المسلحة لقيته بالأمس ، فوالله لو علمت أن قتله الحق قتلته ، وقد بات عندنا الليلة وحركنا [ بشعره ] ، فإن كان فيه القتل فاقتله وإن غضبنا فيه ، وإن ساغ لك العفو عنه (6) فهبه لنا . قال : هو لك يا مالك ، فإذا أصبت [ منهم ] أسيرا فلا تقتله ، فإن أسير أهل القبلة لا يفادي ولا يقتل . فرجع به الأشتر إلى منزله وقال : لك ما أخذنا منك ، ليس لك عندنا غيره
____________
( 1 ) ح : « أصبح سرمدا » .
( 2 ) ح : « يوم بوار » . والبوار : الهلاك .
( 3 ) ح ( 2 : 303 ) : « ومالك جاري » ، ومالك هو الأشتر .
( 4 ) ح : « المرادي الكريم » .
( 5 ) العوار ، مثلثة : العيب .
( 6 ) في الأصل : « وإن كنت فيه بالخيار » وأثبت ما في ح .

( 468 )

وذكروا أن عليا أظهر أنه مصبح غدا معاوية ومناجزه ، فبلغ ذلك معاوية ، وفزع أهل الشام لذلك وانكسروا لقوله . وكان معاوية بن الضحاك ابن سفيان صاحب راية بني سليم مع معاوية ، وكان مبغضا لمعاوية [ وأهل الشام ، وله هوى مع أهل العراق وعلي بن أبي طالب عليه السلام ] ، وكان يكتب بالأخبار (1) إلى عبد الله بن الطفيل العامري ويبعث بها إلى علي عليه السلام (2) فبعث إلى عبد الله بن الطفيل : إني قائل شعرا أذعر به أهل الشام وأرغم به معاوية (3) . وكان معاوية لا يتهمه ، وكان له فضل ونجدة ولسان ، فقال ليلا ليسمع أصحابه :

ألا ليت هذا الليل أطبـق سرمــدا * علينا وأنـــا لا نرى بعده غــدا

ويا ليتــه إن جاءنــا بصباحـه * وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعــدا

حـذار على إنــه غيــر مخلف * مدى الدهر ، ما لبي الملبون ، موعدا

فأما قراري فـي البلاد فليس لــي * مقام ولو جاوزت جـابلق مصعــدا

كأني به في الناس كاشف رأســـه * على ظهــر خوار الرحالة أجـردا

يخوض غمار الموت في مرجحنــة * ينادون في نقع العجــاج محمــدا

فوارس بدر والنضيــر وخيبــر * وأحــد يروون الصفيـح المهنــدا

ويوم حنين جالدوا عــن نبيهــم * فريقــا مــن الأحزاب حتـى تبددا

هنالك لا تلوى عجوز على ابنهــا * وإن أكثرت في القول نفسي لك الفــدا

فقل لابن حرب ما الذي أنت صانع * أتثبت أم ندعوك فــي الحرب قعددا (4)

وظني بأن لا يصبر القــوم موقفـا * يقفه وإن لــم يجر في الدهر للمدى

____________
( 1 ) ح ( 3 : 423 ) : « بأخبار معاوية » .
( 2 ) ح : « فيخبر بها عليا عليه السلام » .
( 3 ) في الأصل : « وأذعر به معاوية » وأثبت ما في ح .
( 4 ) القعدد ، بضم القاف والدال ، وبفتح الدال أيضا : الجبان اللئيم القاعد عن الحرب والمكارم .

( 469 )

فلا رأي إلا تركنــا الشام جهــرة * وإن أبرق الفجفــاج فيهـا وأرعدا (1)

فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية فهم بقتله ، ثم راقب فيه قومه وطرده عن الشام فلحق بمصر ، وندم معاوية على تسييره إياه . وقال معاوية : والله لقول السلمي أشد على أهل الشام من لقاء علي ، ماله ـ قاتله الله ـ لو أصاب خلف جابلق مصعدا نفذه (2) .
وجابلق : مدينة بالمشرق . وجابلص : مدينة بالمغرب ليس بعدهما شيء (3) .
وقال الأشتر حين قال علي : « إنني مناجز القوم إذا أصبحت » :
قد دنا الفصل في الصباح وللسلم رجال وللحروب رجال

فرجال الحروب كــل خــدب * مقحــم لا تهــده الأهــوال

يضرب الفارس المدجج بالسيــ‍ * ف إذا فـل في الوغى الأكفال (4)

يا ابن هند شد الحيازيـم للمــو * ت ولا يذهبــن بك الآمــال

إن في الصبح إن بقيت لأمــرا * تتفادى مــن هوله الأبطــال

فيه عز العراق أو ظفر الشـــا * م بأهــل العراق والزلــزال

فاصبروا للطعان بالأسل الســم‍ * ر وضــرب تجري به الأمثال

إن تكونوا قتلتم النفــر البي‍ـــ * ض وغــالت أولئك الآجـال

____________
( 1 ) الفجفاج : الكثير الكلام والفخر بما ليس عنده .
( 2 ) نفذه : جازه . ح : « لو صار خلف جابلق مصعدا لم يأمن عليا » .
( 3 ) ذكر ياقوت أن جابلق بأقصى المغرب ، ومدينة أخرى من رستاق أصبهان لها ذكر في التواريخ . ولم يرسم لجابلص . وفي ح ( 3 : 423 ) : « ألا تعلمون ما جابلق ؟ يقول لأهل الشام . قالوا : لا . قال : مدينة في أقصى المشرق ليس بعدها شيء » .
( 4 ) فل : هزم . ح ( 3 : 424 ) : « فر » . والأكفال : جمع كفل ، بالكسر ، هو من الرجال الذي يكون في مؤخر الحرب ، إنما همته في الفرار والتأخر .

( 670 )

فلنا مثلهم وإن عظــم الخــط * ب ، قليـــل أمثالهم أبــدال (1)

يخضبون الوشيج طعنـــا إذا جرت مــن الموت بينهم أذيــال (2)

طلب الفوز في المعاد وفــي ذا * تستهــان النفوس والأمــوال
ــــــــــــ
آخر الجزء الحادي عشر من نسخة أجزاء عبد الوهاب
ــــــــــــ

فلما انتهى إلى معاوية شعر الأشتر قال : شعر منكر من شاعر منكر ، رأس أهل العراق وعظيمهم ومسعر حربهم ، وأول الفتنة وآخرها . وقد رأيت أن أكتب إلى علي كتابا أسأله الشام ـ وهو الشيء الأول الذي ردني عنه ـ وألقى في نفسه الشك والريبة . فضحك عمرو بن العاص ، ثم قال : أين أنت يا معاوية من خدعة علي ؟ ! فقال : ألسنا بني عبد مناف ؟ قال : بلى ، ولكن لهم النبوة دونك ، وإن شئت أن تكتب فاكتب فكتب معاوية إلى علي مع رجل من السكاسك ، يقال له عبد الله بن عقبة ، وكان من ناقلة أهل العراق ، فكتب :
« أما بعد ، فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمنا ، لم يجنها بعضنا على بعض ؛ وإنا وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقى لنا منها ما نندم به على ما مضى ، ونصلح به ما بقى . وقد كنت سألتك الشام على ألا يلزمني لك طاعة ولا بيعة ، فأبيت ذلك علي ، فأعطاني الله
____________
( 1 ) ح : « فلنا مثلهم غداة التلاقي » .
( 2 ) في الأصل : « جرت للموت » صوابه من ح .

( 471 )

ما منعت ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ، فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو ، ولا أخاف من الموت إلا ما تخاف . وقد والله رقت الأجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز ، ولا يسترق حربه . والسلام »
فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي قرأه ، ثم قال : العجب لمعاوية وكتابه . ثم دعا علي عبيد الله بن أبي رافع كاتبه ، فقال : اكتب إلى معاوية : « أما بعد فقد جاءني كتابك ، تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض . فإنا وإياك منها في غاية لم تبلغها . وإني لو قتلت في ذات الله وحييت ، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة ، لم أرجع عن الشدة في ذات الله ، والجهاد لأعداء الله . وأما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى ، فإني ما نقصت عقلي ، ولا ندمت على فعلي . فأما طلبك الشام ، فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك [ منها ] أمس . وأما استواؤنا في الخوف والرجاء ، فإنك لست أمضى على الشك مني على اليقين ، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة . وأما قولك إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل ؛ فلعمري إنا بنو أب واحد ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا المحق كالمبطل . وفي أيدينا [ بعد ] فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز ، وأعززنا بها الذليل . والسلام » .
نصر ، عن عمر بن سعد ، عن نمير بن وعلة قال : فلما أتى معاوية كتاب علي كتمه عن عمرو بن العاص أياما ، ثم دعاه بعد ذلك فأقرأه الكتاب ، فشمت به عمرو . ولم يكن أحد من قريش أشد تعظيما لعلي من عمرو منذ يوم


( 472 )

لقيه وصفح عنه . فقال عمرو بن العاص فيما كان أشار به على معاوية :

ألا لله درك يــا ابن هنـــد * ودر الآمـــرين لك الشهـــود

أتطمع لا أبالــك في علــي * وقـــد قرع الحديد على الحديـد

وترجو أن تحيـــره بشــك * وترجــو أن يهابــك بالوعيـد (1)

وقد كشف القناع وجـر حربـا * يشيب لهولهـــا رأس الوليــد

له جأواء مظلمــة طحــون * فوارسهـــا تلهـب كالأســود (2)

يقول لها إذا دلفــت إليــه * وقد ملت طعـــان القوم عـودي (3)

فـإن وردت فأولهــا ورودا * وإن صدت فليــس بذي صــدود (4)

وما هي من أبي حسـن بنكر * وما هي مـــن مسائك بالبعيـــد

وقلت له مقالـــة مستكيـن * ضعيف الركـــن منقطع الوريـد

دعن الشـام حسبك يا ابن هند * مـن السوءات والـرأي الــزهيد

ولو أعطاكـها ما أزددت عزا * ولا لك لو أجــابك مـن مــزيد

ولم تكسر بذاك الرأي عـودا * لـركـتـه ولا مـــا دون عــود

فلما بلغ معاوية قول عمرو دعاه ، فقال : يا عمرو ، إنني قد أعلم ما أردت بهذا . قال : ما أردت ؟ قال : أردت تفييل رأيي وإعظام علي ، وقد فضحك . قال : أما تفييلي رأيك فقد كان . وأما إعظامي عليا فإنك بإعظامه أشد معرفة مني ، ولكنك تطويه وأنا أنشره . وأما فضيحتي ، فلم يفتضح امرؤ لقي أبا حسن .
____________
( 1 ) في الأصل : « أن تخبره » صوابه في ح ( 3 : 424 ) . وفي ح أيضا : « وتأمل أن يهابك » .
( 2 ) الجأواء : الكتيبة يعلوها لون السواد لكثرة الدروع .
( 3 ) ح : « إذا رجعت إليه » .
( 4 ) في الأصل : « وإن صدرت » وأثبت ما في ح .

( 473 )

وقد كان معاوية شمت بعمرو ، حيث لقي من علي عليه السلام ما لقي ، فقال عمرو في شماتة معاوية :

معاوي لا تشمت بفــارس بهمــة * لقى فارســـا لا تعتريـه الفوارس

معاوي إن أبصرت في الخيل مقبـلا * أبا حســن يهوى دهتك الوســاوس

وأيقنت أن المـــوت حــق وأنه * لنفسك إن لم تمض في الركض حابس

فإنك لـو لاقيته كنــت بومـــة * أتيح لهــــا صقر من الجـو آنس

وماذا بقاء القوم بعـــد اختباطـه * وإن امـــرأ يلقى عليـــا لآيـس

دعاك فصمت دونــه الأذن هاربـا * بنفسك قد ضاقت عليـــك الأمـالس

وأيقنت أن الموت أقـــرب موعد * وأن التي نـــاداك فيها الدهــارس

وتشمت بي أن نالني حــد رمحه * وعضضني ناب مــن الحرب ناهس (1)

أبي الله إلا أنــه ليــث غابــة * أبو أشبل تهــدي إليــه الفرائـس

وأني امرؤ باق فلـــم يلف شلـوه * بمعترك تسفى عليــه الروامـــس

فإن كنت في شك فأرهج عجاجـــة * وإلا فتلك الترهـــات البســابس

نصر : حدثنا عمرو بن شمر قال : حدثنا أبو ضرار قال : حدثني عمار ابن ربيعة قال : غلس علي بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين ، وقيل عاشر شهر صفر ، ثم زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق والناس عل راياتهم ، وزحف إليهم أهل الشام ، وقد كانت الحرب أكلت الفريقين ولكنها في أهل الشام أشد نكاية وأعظم وقعا ، فقد ملوا الحرب وكرهوا القتال ، وتضعضعت أركانهم . قال : فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب ، عليه السلاح ، لا يرى منه إلا عيناه ،
____________
( 1 ) في الأصل : « عضعضني » والوجه ما أثبت . والمطوعة لم ترد في مظنها من ح .
( 474 )

وبيده الرمح ، فجعل يضرب رءوس أصحاب علي بالقناة ويقول : سووا صفوفكم [ رحمكم الله ] . حتى إذا عدل الصفوف والرايات استقبلهم بوجهه وولى أهل الشام ظهره ، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال :
الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه (1) ، أقدمهم هجرة ، وأولهم إسلاما ، سيف من سيوف لله صبه على أعدائه . فانظروا (2) . إذا حمى الوطيس وثار القتام وتكسر المران ، وجالت الخيل بالأبطال ، فلا أسمع إلا غمغمة أو همهمة ، [ فاتبعوني وكونوا في إثري ] . قال : ثم حمل على أهل الشام وكسر فيهم رمحه ثم رجع ، فإذا هو الأشتر .
قال وخرج رجل من أهل الشام ينادي بين الصفين : يا أبا الحسن ، يا علي ، ابرز إلي . قال : فخرج إليه علي حتى إذا اختلف أعناق دابتيهما بين الصفين فقال : يا علي ، إن لك قدما في الإسلام وهجرة (3) ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء ، وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك ؟ فقال له علي : وما ذاك ؟ قال : « ترجع إلى عراقك فنخلي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلي بيننا وبين شامنا » . فقال له علي : لقد عرفت ، إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة . ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه . إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في جهنم » .
____________
( 1 ) في الأصل : « فيكم ابن عم نبيكم » وأثبت ما في ح ( 1 : 183 ) .
( 2 ) في الأصل : « فانظروا إلى » . وكلمة « إلى » ليست في ح .
( 3 ) ح : « والهجرة » .

( 475 )

فرجع الشامي وهو يسترجع .
قال : وزحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل [ والحجارة ] حتى فنيت ، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت ، ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيف وعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلا وقع الحديد بعضه على بعض ، لهو أشد هولا في صدور الرجال من الصواعق ، ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضا . قال : وانكشفت الشمس [ بالنقع ] وثار القتام ، وضلت الألوية والرايات . قال : و [ أخذ ] الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها . قال : فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل ، لم يصلوا لله صلاة . فلم يزل يفعل ذلك الأشتر بالناس حتى أصبح والمعركة خلف ظهره ، وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة ، وهي « ليلة الهرير » . و [ كان ] الأشتر في ميمنة الناس ، وابن عباس في الميسرة ، وعلي في القلب ، والناس يقتتلون .
ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى ، والأشتر يقول لأصحابه وهو يزحف بهم نحو أهل الشام : ازحفوا قيد رمحي هذا . وإذا فعلوا قال : ازحفوا قاب هذا القوس (1) . فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام (2) . فلما رأى ذلك قال : أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم . ثم دعا بفرسه وركز رايته ، وكانت مع حيان بن هوذة النخعي ، وخرج يسير في الكتائب ويقول : ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى
____________
( 1 ) وكذلك في ح . والقوس يذكر ويؤنث .
) في الأصل : « حتى بل » صوابه من ح .

( 476 )

يظهر أو يلحق بالله (1) » . فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه ويقاتل معه .
نصر ، عن عمر بن سعد قال : حدثني أبو ضرار ، عن عمار (2) بن ربيعة قال : مر بي والله الأشتر وأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به ، فقام في أصحابه فقال : شدوا ، فدى لكم عمي وخالي ، شدة ترضون بها الله وتعزون بها الدين ، فإذا شددت فشدوا . قال : ثم نزل وضرب وجه دابته ثم قال لصاحب رايته : أقدم . فأقدم بها ثم شد على القوم ، وشد معه أصحابه يضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى عسكرهم . ثم إنهم قاتلوا عند العسكر قتالا شديدا فقتل صاحب رايته . وأخذ علي ـ لما رأى الظفر قد جاء من قبله ـ يمده بالرجال .
قال : وإن عليا قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أيها الناس قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم ، ولم يبق منهم إلا آخر نفس ، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها ، وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا ، وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عز وجل » .
فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص فقال : يا عمرو ، إنما هي الليلة حتى يغدو علي علينا بالفيصل (3) فما ترى ؟ قال : إن رجالك لا يقومون لرجاله ، ولست مثله . هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره . أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء . وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام
____________
( 1 ) في الأصل : « ويلحق بالله » صوابه في ح .
( 2 ) في الأصل : « عمارة » وأثبت ما في ح ( 1 : 184 ) مطابقا ما سلف في ص 473 .
( 3 ) ح : « بالفصل » .

( 477 )

لا يخافون عليا إن ظفر بهم . ولكن ألق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا . ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم ، فإنك بالغ به حاجتك في القوم ، فإني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه (1) . فعرف ذلك معاوية فقال : صدقت .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر بن عمير الأنصاري (2) قال : والله لكأني أسمع عليا يوم الهرير حين سار أهل الشام ، وذلك بعد ما طحنت رحى مذحج فيما بينها (3) وبين عك ولخم وجذام والأشعريين ، بأمر عظيم تشيب منه النواصي من حين استقلت الشمس (4) حتى قام قائم الظهيرة . ثم إن عليا قال : حتى متى نخلي بين هذين الحيين ؟ قد فنيا وأنتم وقوف تنظرون إليهم . أما تخافون مقت الله . ثم انفتل إلى القبلة ورفع يديه إلى الله ثم نادى : « يا الله ، يا رحمن [ يا رحيم ] يا واحد [ يا أحد ] ، يا صمد ، يا الله يا إله محمد . اللهم إليك نقلت الأقدام ، وأفضت القلوب ، ورفعت الأيدي ، وامتدت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، وطلبت الحوائج . [ اللهم ] إنا نشكو إليك غيبة نبينا صلى الله عليه ، وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا . ( ربنا افتح بينا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) . سيروا على بركة الله » . ثم نادى : لا إله إلا الله والله أكبر كلمة التقوى . ثم قال (5) : لا والله الذي بعث محمدا صلى الله عليه بالحق نبيا ، ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق الله السموات والأرض أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب . إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب ،
____________
( 1 ) في الأصل : « لحاجتك إليه » وأثبت ما في ح .
( 2 ) في الأصل : « بن نمير » تحريف . انظر الإصابة 1030 .
( 3 ) في الأصل : « بيننا » والوجه ما أثبت من ح .
( 4 ) استقلت الشمس : ارتفعت في السماء . وفي الأصل : « استقبلت » صوابه في ح .
( 5 ) القائل هو الراوي ، جابر بن عمير الأنصاري .

( 478 )

يخرج بسيفه منحنيا فيقول : معذرة إلى الله عزوجل وإليكم من هذا ، لقد هممت أن أصقله (1) ولكن حجزني عنه أني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول كثيرا : « لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي » . وأنا أقاتل به دونه . قال : فكنا نأخذه فنقومه ثم يتناوله من أيدينا فيتقحم به في عرض الصف ، فلا والله ما ليث بأشد نكاية في عدوه منه . رحمة الله عليه رحمة واسعة .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر (2) قال : سمعت تميم بن حذيم (3) يقول : لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا ، فإذا أشباه الرايات أمام صف أهل الشام وسط الفيلق من حيال موقف معاوية ، فلما أسفرنا إذا هي المصاحف قد ربطت على أطراف الرماح ، وهي عظام مصاحف العسكر ، وقد شدوا ثلاثة أرماح جميعا وقد ربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط . وقال أبو جعفر وأبو الطفيل : استقبلوا عليا بمائة مصحف ، ووضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف (4) ، وكان جميعها خمسمائة مصحف . قال أبو جعفر : ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي ، وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة ، وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة ، ثم نادوا : يا معشر العرب ، الله الله في نسائكم وبناتكم ، فمن للروم (5) والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم . الله الله في دينكم . هذا كتاب الله بيننا وبينكم . فقال علي : اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون ، فاحكم بيننا وبينهم ، إنك أنت الحكم الحق المبين . فاختلف أصحاب علي في الرأي ، فطائفة قالت القتال ، وطائفة قالت المحاكمة
____________
( 1 ) إنما يريد أن يصقله ليزيل ما به من الفقار ، وهي الحفر الصغار . وفي الأصل : « أفلقه » .
( 2 ) جابر هذا هو جابر بن يزيد الجعفي المترجم في ص 245 .
( 3 ) سبقت ترجمته في ص 169 .
( 4 ) المجنبة ، بكسر النون المشددة : ميمنة الجيش وميسرته ، وبفتحها : مقدمة الجيش .
( 5 ) ح : « من الروم » .

( 479 )

إلى الكتاب ، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب . فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها . فقال محمد بن علي : فعند ذلك حكم الحكمان .
قال نصر : وفي حديث عمرو بن شمر بإسناده قال : فلما أن كان اليوم الأعظم قال أصحاب معاوية ، والله ما نحن لنبرح اليوم العرصة حتى يفتح الله لنا أو نموت . فبادروا القتال غدوة في يوم من أيام الشعري طويل شديد الحر (1) فتراموا حتى فنيت النبل ، ثم تطاعنوا حتى تقصفت رماحهم ، ثم نزل القوم عن خيولهم فمشى بعضهم إلى بعض بالسيوف حتى كسرت جفونها وقامت الفرسان في الركب ، ثم اضطربوا بالسيوف وبعمد الحديد ، فلم يسمع السامع إلا تغمغم القوم وصليل الحديد في الهام ، وتكادم الأفواه ، وكسفت الشمس ، وثار القتام ، وضلت الألوية والرايات (2) ، ومرت مواقيت أربع صلوات لم يسجد لله فيهن إلا تكبيرا ، ونادت المشيخة في تلك الغمرات : يا معشر العرب ، الله الله في الحرمات ، من النساء والبنات .
قال جابر : فبكى أبو جعفر وهو يحدثنا بهذا الحديث (3) .
قال : وأقبل الأشتر على فرس كميت محذوف ، قد وضع مغفره على قربوس السرج ، وهو يقول : « اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمى الوطيس » . ورجعت الشمس من الكسوف ، واشتد القتال ، وأخذت السباع بعضها بعضا ، فهم
____________
( 1 ) في الأصل : « فباكروا القتال غدا يوما من أيام الشعري طويلا شديد الحر » . وأثبت ما في ح .
( 2 ) في الأصل : « في الرايات » وجهه من ح ( 1 : 185 ) .
( 3 ) في الأصل : « وهو يحدثني » وأثبت ما في ح .