كما قال الشاعر (1) :
مضت واستأخر القرعــاء عنها * وخلى بينهــم إلا الوريــع (2)

قال : يقول واحد [ لصاحبه ] في تلك الحال : أي رجل هذا لو كانت له نية . فيقول له صاحبه : وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبلتك . إن رجلا فيما قد ترى قد سبح في الدماء وما أضجرته الحرب ، وقد غلت هام الكماة الحر ، وبلغت القلوب الحناجر ، وهو كما تراه جذعا يقول هذه المقالة ! اللهم لا تبقنا بعد هذا (3) .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن صعصعة قال : قام الأشعث بن قيس الكندي ليلة الهرير في أصحابه من كندة فقال : " الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستنصره وأستغفره ، وأستخيره وأستهديه ، [ وأستشيره وأستشهد به ] ، فإنه من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه « . ثم قال : " قد رأيتم يا معشر المسلمين
____________
( 1 ) في الأصل : « فأنتم » ووجهه من ح . والشاعر هو عمرو بن معد يكرب ، من قصيدة في خزانة الأدب ( 3 : 462 ـ 463 ) والأصمعيات 43 ـ 45 . وقبل البيت :
وزحف كتيبة دلفت لأخرى * كأن زهاءها رأس صليع

( 2 ) القرعاء : جمع قريع ، وهو المغلوب المهزوم . وفي الأصل وح : « الفرعاء » تحريف . وفي الخزانة والأصمعيات : « الأوغال » جمع وغل ، وهو النذل من الرجال . والوريع ، الكاف ، وفي الخزانة : « والوريع ، بالراء المهملة ، وكذلك الورع بفتحتين ، وهو الصغير الضعيف الذي لا غناء عنده » . وفي الأصل وح : « الوزيع » ولا وجه له .
( 3 ) كتب ابن أبي الحديد بعد هذا في ( 1 : 185 ) : « قلت : لله أم قامت عن الأشتر . لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه عليه السلام لما خشيت عليه الإثم . ولله در القائل وقد سئل عن الأشتر : ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام ، وهزم موته أهل العراق . وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام : كان الأشتر كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله » .

( 481 )

ما قد كان في يومكم هذا الماضي ، وما قد فنى فيه من العرب ، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط . ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، أنا إن نحن تواقفنا غدا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات (1) . أما والله ما أقول هذه المقالة جزعا من الحتف ، ولكني رجل مسن أخاف على [ النساء و ] الذراري غدا إذا فنينا . اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والرأي يخطئ ويصيب ، وإذا قضى الله أمرا أمضاه على ما أحب العباد أو كرهوا . أقول قولي هذا وأستغفر الله [ العظيم ] لي ولكم »
. قال صعصعة : فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال : أصاب ورب الكعبة ، لئن نحن التقينا غدا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا ، ولتميلن (2) أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم . وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى . اربطوا المصاحف على أطراف القنا .
قال صعصعة : فثار (3) أهل الشام فنادوا في سواد الليل : يا أهل العراق ، من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم ؟ الله الله في البقية . فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل ، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه ، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح ، ونادوا : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم . وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض وقد وضع المصحف على رأسه ينادي : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم
____________
( 1 ) في الأصل : « الحرمان » صوابه في ح .
( 2 ) في الأصل : « لتمكن » في هذا الموضع وسابقه ، ووجههما ما أثبت من ح .
( 3 ) في الأصل : « فأمر » وصوابه في ح .

( 482 )

وأقبل عدي بن حاتم فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا إلا وقد أصيب مثلها منهم ، وكل مقروح ، ولكنا أمثل بقية منهم . وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما تحب (1) ، فناجز القوم ، فقام الأشتر النخعي فقال : يا أمير المؤمنين ، إن معاوية لا خلف له من رجاله ، ولك بحمد الله الخلف ، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك ، فاقرع الحديد بالحديد ، واستعن بالله الحميد .
ثم قام عمرو بن الحمق فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما أجبناك (2) ولا نصرناك عصبية على الباطل ولا أجبنا إلا الله عز وجل ، ولا طلبنا إلا الحق ، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لا ستشري فيه اللجاج (3) وطالت فيه النجوى ، وقد بلغ الحق مقطعه ، وليس لنا معك رأي .
فقام الأشعث بن قيس مغضبا فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس ، وليس آخر أمرنا كأوله ، وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني ، فأجب القوم إلى كتاب الله فإنك أحق به منهم . وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال .
فقال علي عليه السلام : إن هذا أمر ينظر فيه .
وذكروا أن أهل الشام جزعوا فقالوا : يا معاوية ، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه ، فأعدها جذعة (4) ، فإنك قد غمرت بدعائك القوم وأطمعتهم فيك .
____________
( 1 ) ح ( 1 : 185 ) : « نحب » بالنون .
( 2 ) في الأصل : « ما اخترناك » والوجه ما أثبت من ح .
( 3 ) استشري : اشتد وقوي . وفي الأصل : « لكان فيه اللجاج » وأثبت ما في ح .
( 4 ) أي ابدأها مرة أخرى . وفي اللسان : « وإذا طفئت حرب بين قوم فقال بعضهم إن شئتم أعدناها جذعة ، أي أول ما يبتدأ فيها » . ح ( 1 : 188 ) : « فأعدوها خدعة » تحريف .

( 483 )

فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأمره أن يكلم أهل العراق . فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى : يا أهل العراق ، أنا عبد الله بن عمرو ابن العاص ، إنها قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا ، فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم ، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم . وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم ، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من الله . فاغتنموا هذه الفرجة لعله أن يعيش فيها المحترف (1) وينسى فيها القتيل . فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل . فخرج سعيد بن قيس فقال : يا أهل الشام ، إنه قد كان بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا ، سميتموها غدرا وسرفا ، وقد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه بالأمس ، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ، ولا أهل الشام إلى شامهم ، بأمر أجمل من أن يحكم بما أنزل الله . فالأمر في أيدينا دونكم ، وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم
. وقام الناس إلى علي فقالوا : أجب القوم إلى ما دعوك إليه فإنا قد فنينا . ونادى إنسان من أهل الشام في سواد الليل بشعر سمعه الناس ، وهو :

رءوس العـــراق أجيبوا الدعــاء * فقـــد بلغت غــاية الشـــده

وقــد أودت الحـــرب بالعالميـن * وأهـــل الحفائــظ والنجــده

فلسنا ولستـــم مــن المشركيــن * ولا المجمعيـــن على الـــرده

ولكن أنـــاس لقـــوا مثلهـــم * لنــا عــدة ولهـــم عـــده

فقاتــــل كل علـــى وجهــه * يقحمــه الجـــــد والحــده

فــــإن تقبلوها ففيهـــا البقـاء * وأمـــن الفريقيـــن والبلــده

وإن تدفعوهــــا ففيها الفنـــاء * وكـــــل بـــلاء إلى مــده

____________
( 1 ) ح : " المحترق " .
( 484 )

وحتى متى مخض هــذا السقـــاء * ولا بــد أن يخرج الزبـــده

ثلاثة رهــــط هـــم أهلهـــا * وإن يسكتـــوا تخمـد الواقده

سعيد بــن قيس وكبــش العـراق * وذاك المســــود من كنــده

نصر (1) : هؤلاء النفر المسمون في الصلح . قال : فأما المسود من كندة وهو الأشعث ، فإنه لم يرض بالسكوت ، بل كان من أعظم الناس قولا في إطفاء الحرب والركون إلى الموادعة . وأما كبش العراق ، وهو الأشتر ، فلم يكن يرى إلا الحرب ، ولكنه سكت على مضض . وأما سعيد بن قيس ، فتارة هكذا وتارة هكذا .
قال : ذكروا أن الناس ماجوا وقالوا : أكلتنا الحرب وقتلت الرجال . وقال قوم : نقاتل القوم على ما قاتلناهم عليه أمس . ولم يقل هذا إلا قليل من الناس . ثم رجعوا عن قولهم مع الجماعة ، وثارت الجماعة بالموادعة .
فقام علي أمير المؤمنين فقال : « إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوكم فلم تترك ، وإنها فيهم أنكى وأنهك . ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا ، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا . وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون » .
ثم قعد ، ثم تكلم رؤساء القبائل ، فأما من ربيعة وهي الجبهة العظمى فقام كردوس بن هانئ البكري فقال : أيها الناس ، إنا والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه ، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه . وإن قتلانا لشهداء ، وإن أحياءنا لأبرار ، وإن عليا لعلى بينة من ربه ، ما أحدث إلا الإنصاف ، وكل محق منصف ، فمن سلم له نجا ، ومن خالفه هلك .
____________
( 1 ) في الأصل : « فمحمد » .
( 485 )

ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال : أيها الناس ، إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه علينا فقاتلناهم عليه ، وإنهم دعونا إلى كتاب الله فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل لنا منهم . ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ولا رسوله . وإن عليا ليس بالراجع الناكص ، ولا الشاك الواقف ، وهو اليوم على ما كان عليه أمس . وقد أكلتنا هذه الحرب ، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة .
ثم قام حريث بن جابر البكري ، فقال : أيها الناس ، إن عليا لو كان خلفا من هذا الأمر لكان المفزع إليه ، فكيف وهو قائده وسائقه . وإنه والله ما قبل من القوم اليوم إلا ما دعاهم إليه أمس ، ولو رده عليهم كنتم له أعنت . ولا يلحد في هذا الأمر إلا راجع على عقبيه أو مستدرج بغرور . فما بيننا وبين من طغى علينا إلا السيف .
ثم قام خالد بن المعمر فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا والله ما اخترنا هذا المقام أن يكون أحد هو أولى به منا ، غير أنا جعلناه ذخرا ، وقلنا : أحب الأمور إلينا ما كفينا مؤنته (1) . فأما إذ سبقنا في المقام فإنا لا نرى البقاء إلا فيما دعاك إليه القوم ، إن رأيت ذلك ، فإن لم تره فرأيك أفضل .
ثم إن الحضين الربعي ، وهو أصغر القوم سنا قام فقال : أيها الناس ، إنما بني هذا الدين على التسليم فلا توفروه بالقياس ولا تهدموه بالشفقة ، فإنا والله لو لا أنا لا نقبل إلا ما نعرف لأصبح الحق في أيدينا قليلا ، ولو تركنا ما نهوى لكان الباطل في أيدينا كثيرا ، وإن لنا داعيا قد حمدنا ورده
____________
( 1 ) المؤنة ، بالضم وسكون الهمزة : لغة في المؤونة ، بفتح الميم وضم الهمزة . واستشهد صاحب
المصباح لها بقوله :
* أميرنا مؤنته خفيفه *


( 486 )

وصدره ، وهو المصدق على ما قال ، المأمون على ما فعل . فإن قال لا قلنا لا ، وإن قال نعم قلنا نعم .
فبلغ ذلك معاوية فبعث إلى مصقلة بن هبيرة فقال : يا مصقلة ، ما لقيت من أحد ما لقيت من ربيعة . قال : ما هم منك بأبعد من غيرهم ، وأنا باعث إليهم فيما صنعوا . فبعث مصقلة إلى الربعيين فقال :

لن يهلك القوم أن تبدى نصيحتهــم * إلا شقيــق أخو ذهــل وكـردوس

وابن المعمر لا تنفــك خطبتـــه * فيها البيان وأمر القــوم ملبــوس

أمـا حريث فـــان الله ضللــه * إذ قــام معترضا ، والمرء كـردوس

طاطا حضين هنا في فتنة جمحـت * إن ابــن وعلة فيها ، كان ، محسوس

منوا علينا ومناهم وقــال لهــم * قولا يهيــج لــه البزل القناعيــس

كل القبائل قـــد أدى نصيحتـه * إلا ربيعة زعـــم القــوم محبـوس

وقال النجاشي :

إن الأراقم لا يغشــاهم بـوس * ما دافع الله عن حــوباء كـردوس (1)

نمته من تغلب الغلبا فوارسهـا * تلك الرؤوس وأبنــاء المرائيــس (2)

ما بال كل أمير يستراب بـــه * دين صحيح ورأي غيـر ملبــوس

وإلى عليا بغدر بــذ منــه إذا * ما صرح الغدر عـن رد الضغابيس

نعم النصير لأهل الحق ، قد علمت * عليا معـــد ، على أنصار إبليس

____________
( 1 ) الأراقم ، هم جشم ومالك وعمرو وثعلبة والحت ومعاوية ، بنو بكر بن حبيب ابن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط . والحوباء : النفس . وفي الأصل : « من حوباء » .
( 2 ) الغلباء لقب لتغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار . انظر القاموس ( غلب ) رالمعارف 41 ـ 42 . وفي الأصل : « العليا » . والمرائيس : جمع مرآس ، وهو المتقدم السابق .

( 487 )

قل للذين تـــرقوا في تعنتــه * إن البكارة ليســـت كالقناعيس (1)

لن تدركوا الدهر كردوسا وأسرته * أبناء ثعلبة الحادي وذو العيــس (2)

وقال فيما قال خالد بن المعمر :

وفت لعلي مــن ربيعة عصبــة * بصم العوالي والصفيــح المذكــر

شقيق وكردوس ابن سيـــد تغلب * وقــد قام فيها خالد بــن المعمـر

وقارع بالشورى حريث بــن جابر * وفاز بهــا لولا حضين بن منـذر (3)

لأن حضينا قــام فينـــا بخطبة * من الحق فيهــا ميتــة المتجبر (4)

أمرنا بمر الحق حتــى كأننـــا * خشاش تفادى مــن قطام بقرقـر (5)

وكان أبوه خير بكــر بــن وائل * إذا خيف مــن يوم أغر مشهــر

نماه إلى عليـا عكابــة عصبــة * وآب أبــي للدنيــة أزهــر (6)

وقال الصلتان :

شقيق بن ثور قام فينــا بخطبــة * يحدثهــا الركبان أهــل المشاعر

بما لم يقف فينا خطيــب بمثلهــا * جزى الله خيرا من خطيب وناصـر

وقد قام فينا خالـد بـــن معمــر * وكردوس الحامي ذمــار العشائـر

بمثل الذي جاءا بــه حــذو نعلـه * وقد بين الشورى حريث بن جابـر

____________
( 1 ) البكارة بالكسر : جمع البكر ، بالفتح ، وهو الفتى من الإبل . والقناعيس : جمع قنعاس ، وهو الجمل الضخم العظيم .
( 2 ) هم بنو ثعلبة بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم . انظر ما سبق في التنبيه الأول من الصفحة السابقة . وفي الأصل : « بني ثعلبة » ولا يستقيم به الشعر .
( 3 ) سبقت ترجمة حضين في ص 287 . وفي الأصل : « حصين » تحريف .
( 4 ) في الأصل : « حصينا » صوابه بالضاد المعجمة . وفي الأصل أيضا : « منية المتجبر » .
( 5 ) في الأصل : « حتى كأنها » . والخشاش : ضعاف الطير . والقطام كالقطامي : الصقر . والقرقر : الأرض المطمئنة اللينة .
( 6 ) في هذا البيت إقواء .

( 488 )

فلا يبعدنك الدهر ما هبت الصبــا * ولا زلت مسقيــا بأسحم ماطــر

ولا زلت تدعي فــي ربيعـة أولا * باسمـك في أخرى الليالي الغوابـر (1)

وقال حريث بن جابر :

أتى نبأ مـــن الأنبـاء ينمــي * وقــد يشفي مــن الخبر الخبير

قال : فلما ظهر قول حضين رمته بكر بن وائل بالعداوة ، ثم إن عليا أصلح بينهم .
وقال رفاعة بن شداد البجلي : « أيها الناس ، إنه لا يفوتنا شئ من حقنا ، وقد دعونا في آخر أمرنا إلى ما دعوناهم إليه في أوله . وقد قبلوه من حيث لا يعقلون . فإن يتم الأمر على ما نريد فبعد بلاء وقتل ، وإلا أثرناها جذعة ، وقد رجع إليه جدنا » .
وقال في ذلك :

تطاول ليلي للهمــوم الحواضــر * وقتلي أصيبــت من رءوس المعاشر

بصفين أمسـت والحوادث جمـــة * يهيل عليها الترب ذيـل الأعاصــر

فإنهم في ملتقى الخيــل بكـــرة * وقــد جالت الأبطال دون المساعـر (2)

فإن يك أهل الشــام نالوا سراتنـا * فقد نيــل منهم مثل جـزرة جــازر

وقام سجال الدمـــع منا ومنهــم * يبكين قتلي غيــر ذات مقــابــر

فلن يستقيل القوم مـــا كان بيننـا * وبينهم أخرى الليـــالى الغوابــر (3)

____________
( 1 ) الغوابر : الباقيات . والغابر من الأضداد ، يقال للماضي وللباقي .
( 2 ) دونهم : أي قريبا منهم . والمساعر : جمع مسعر ، بكسر الميم ، يقال رجل مسعر حرب إذا كان يؤرثها ، أي تحمي به . وفي الأصل : « المشاعر » تحريف . والمقطوعة لم ترد في مظنها من ح .
( 3 ) أخرى الليالي : آخرها . وفي الأصل « إحدى » تحريف ، ونحوه قول الشنفري :

هنا لك لا أرجو حياة تسرني * سجيس الليالي مبسلا بالجرائر

وسجيس الليالي : آخرها ، أي أبدا .

( 489 )

وماذا علينا أن تريـــح نفوسنـا * إلى سنــة من بيضنا والمغافــر (1)

ومن نصبنا وسط العجاج جباهنـا * لوقع السيوف المرهفـات البواتـــر

وطعن إذا نادى المنادي أن اركبوا * صــدور المذاكي بالرماح الشواجـر

أثرنا التي كانت بصفين بكـــرة * ولم نـــك في تسعيرها بعواثــر

فإن حكما بالحق كانــت سلامـة * ورأي وقانــا منه من شؤم ثائــر (2)

وفي حديث عمر بن سعد قال : لما رفع أهل الشام المصاحف على الرماح يدعون إلى حكم القرآن قال علي عليه السلام : « عباد الله ، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب ابن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال (3) . إنها كلمة حق يراد بها باطل . إنهم والله ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها (4) ، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة (5) . أعيروني سواعد كم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق ، مقطعه ، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا » . فجاءه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد شاكي السلاح ، سيوفهم على عواتقهم ، وقد اسودت جباههم من السجود ، يتقدمهم مسعر بن فدكى ، وزيد بن حصين ، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد ، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين : يا علي ، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه ،
____________
( 1 ) في الأصل : « من بيننا » .
( 2 ) الثائر : الذي يطلب الثأر . في الأصل : « في شؤم » .
( 3 ) ح ( : 186 ) : « صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر رجال » . وما أثبت من الأصل يوافق ما في الطبري ( 6 : 27 ) .
( 4 ) في الأصل : « ولا يعلمون بها » وتصح هذه القراءة على الاستئناف . وأثبت ما في ح .
( 5 ) في الأصل : « وما رفعوها لكم إلا خديعة ومكيدة » وأثبت ما في ح .

( 490 )

وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فو الله لنفعلنها إن لم تجبهم . فقال لهم : ويحكم ، أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب إليه ، وليس يحل لي ولا يسعني في ديني أن أدعي إلى كتاب الله فلا أقبله ، إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه ، ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون . قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتيك . وقد كان الأشتر صبيحة ليل الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله .
نصر : فحدثني فضيل بن خديج ، عن رجل من النخع قال : رأيت إبراهيم ابن الأشتر دخل على مصعب بن الزبير فسأله عن الحال كيف كانت (1) . فقال : كنت عند علي حين بعث إلى الأشتر أن يأتيه ، وقد [ كان الأشتر ] أشرف على معسكر معاوية ليدخله ، فأرسل [ إليه ] علي يزيد بن هانئ : أن ائتني . فأتاه فبلغه فقال الأشتر : ائته فقل له : ليس هذه بالساعة [ التي ] ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي . إني قد رجوت الله أن يفتح لي فلا تعجلني . فرجع يزيد بن هانئ إلى علي فأخبره ، فما هو إلا أن انتهى إلينا حتى ارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر ، وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام ، فقال له القوم : والله ما نراك إلا أمرته بقتال القوم . قال : أرأيتموني ساررت رسولي [ إليه ] ؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وأنتم تسمعون . قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلا فوالله اعتزلناك . قال : ويحك يا يزيد ، قل له أقبل إلي ، فإن الفتنة قد وقعت . فأتاه فأخبره فقال له الأشتر : الرفع هذه المصاحف (2) ؟ قال : نعم . قال :
____________
( 1 ) السائل ، هو مصعب بن الزبير . وفي ح : « قال : سألت مصعب بن إبراهيم بن الأشتر عن الحال كيف كانت » ، تحريف .
( 2 ) ح : « أبرفع هذه المصاحف » . وما في الأصل يوافق الطبري ( 6 : 27 ) .

( 491 )

أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة ، إنها من مشورة ابن النابغة ـ يعني عمرو بن العاص ـ قال : ثم قال ليزيد : [ ويحك ] ألا ترى إلى ما يلقون ، ألا ترى إلي الذي يصنع الله لنا ، أيتبغي أن ندع هذا وننصرف عنه ؟ ! فقال له يزيد : أتحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم إلى عدوه ؟ ! قال : سبحان الله ، [ لا ] والله ما أحب ذلك . قال : فإنهم قالوا : لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك [ بأسيافنا ] كما قتلنا عثمان ، أو لنسلمنك إلى عدوك . قال : فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح فقال : يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون ورفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ؟ ! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم . أمهلوني فواقا (1) ، فإني قد أحسست بالفتح . قالوا : لا . قال : فأمهلوني عدوة الفرس (2) ، فإني قد طمعت في النصر . قالوا : إذن ندخل معك في خطيئتك . قال : فحدثوني عنكم ـ وقد قتل أماثلكم وبقى أراذلكم ـ متى كنتم محقين ، أحين كنتم تقتلون أهل الشام (3) ، فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم [ أنتم ] الآن [ في إمساككم عن القتال ] محقون ؟ فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم ، في النار . قالوا : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله . إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا . قال : خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود ، كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء الله ، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت . ألا فقبحا يا أشباه النيب الجلالة ، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا ، فابعدوا
____________
( 1 ) الفواق ، بالضم وبالفتح : ما بين الحلبتين . يقال : أنظرني فواق ناقة .
( 2 ) في الأصل : « عدو الفرس » وأثبت ما في ح .
( 3 ) في الأصل : « حيث كنتم » صوابه في ح ( 1 : 186 ) .

( 492 )

كما بعد القوم الظالمون . فسبوه وسبهم ، وضربوا بسياطهم وجه دابته ، وضرب بسوطه وجوه دوابهم ، فصاح بهم علي فكفوا . وقال الأشتر : يا أمير المؤمنين ، احمل الصف على الصف يصرع القوم . فتصايحوا (1) : إن عليا أمير المؤمنين قد قبل الحكومة ورضى بحكم القرآن ولم يسعه إلا ذلك . قال الأشتر : إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضى بحكم القرآن ، فقد رضيت بما رضي أمير المؤمنين . فأقبل الناس يقولون : قد رضي أمير المؤمنين ، قد قبل أمير المؤمنين . وهو ساكت لا يبض بكلمة (2) ، مطرق إلى الأرض . وقال أبو محمد نافع بن الأسود التميمي (3) :

ألا أبلغا عني عليـــا تحيــة * فقد قبـــل الصماء لمـــا استقلت

بني قبة الإسلام بعد انهدامهـــا * وقامــت عليه قصـرة فاستقــرت (4)

كأن نبيا جاءنا حيــن هدمهــا * بمــا سن فيها بعــد ما قد أبـرت (5)

قال : ولما صدر على من صفين أنشأ يقول :

وكم قد تركنا في دمشق وأرضهـا * من أشمط موتور وشمطاء ثاكــل

وعانية صاد الرمــاح حليلهــا * فأضحت تعد اليوم إحدى الأرامـل

____________
( 1 ) بدلها في الأصل : « فقالوا له » وأثبت ما في ح ( 1 : 187 ) .
( 2 ) لا يبض بكلمة ، أي ما يتكلم . وفي حديث طهفة : « ماتبض ببلال » أي ما يقطر منها لبن . وفي الأصل : « لا يفيض » صوابه في ح .
( 3 ) هو أبو محمد نافع بن الأسود بن قطبة بن مالك التميمي ثم الأسيدي بتشديد الياء ، من بني أسيد بن عمرو بن تميم . قال المرزباني : شاعر مخضرم يكنى أبا محمد . وقال الدارقطني في المؤتلف : أبو محمد نافع بن الأسود شهد فتوح العراق . انظر الإصابة 8849 . وفي الأصل : « أبو مجيد » تحريف .
( 4 ) قصرة ، أي دون الناس . وفي اللسان : « أبلغ هذا الكلام بني فلان قصرة ومقصورة ، أي دون الناس » .
( 5 ) أبرت : غلبت . والمقطوعة لم ترد في ح .

( 493 )

تبكي على بعل لها راح غاديــا * فليس إلى يــوم الحسـاب بقافـل (1)

وإنا أناس ما تصيب رماحنـــا * إذا ما طعنا القوم غيــر المقاتـل

قال : وقال الناس : قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما . وبعث معاوية أبا الأعور السلمي على برذون أبيض ، فسار بين الصفين صف أهل العراق وصف أهل الشام ، والمصحف على رأسه وهو يقول : كتاب الله بيننا وبينكم . فأرسل معاوية إلى علي : « إن الأمر قد طال بيننا وبينك ، وكل واحد منا يرى أنه على الحق فيما يطلب من صاحبه ، ولن يعطي واحد منا الطاعة للآخر ، وقد قتل فيما بيننا بشر كثير ، وأنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى ، وإنا [ سوف ] نسأل عن ذلك الموطن ، ولا يحاسب به غيري وغيرك ، فهل لك في أمر لنا ولك فيه حياة وعذر وبراءة ، وصلاح للأمة ، وحقن للدماء ، وألفة للدين ، وذهاب للضغائن والفتن : أن يحكم بيننا وبينك حكمان رضيان ، أحدهما من أصحابي والآخر من أصحابك ، فيحكمان بما في كتاب الله بيننا ، فإنه خير لي ولك ، وأقطع لهذه الفتن . فاتق الله فيما دعيت له ، وارض بحكم القرآن إن كنت من أهله . والسلام » .
فكتب إليه علي بن أبي طالب : « من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان . أما بعد فإن أفضل ما شغل به المرء نفسه اتباع ما يحسن به فعله ، ويستوجب فضله ، ويسلم من عيبه . وإن البغي والزور يزريان بالمرء في دينه ودنياه ، ويبديان من خلله عند من يغنيه ما استرعاه الله ما لا يغني عنه تدبيره . فاحذر الدنيا فإنه لا فرح في شئ وصلت إليه منها . ولقد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته . وقد رام قوم أمرا بغير الحق
____________
( 1 ) قافل : راجع ، قفل يقفل قفولا . وفي الأصل : « بغافل » والوجه ما أثبت .
( 494 )

فتأولوا على الله تعالى (1) ، فأكذبهم ومتعهم قليلا ثم اضطرهم إلى عذاب غليظ . فاحذر يوما يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم فيه من أمكن الشيطان من قياده ولم يحاده ، فغرته الدنيا واطمأن إليها . ثم إنك قد دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت انك لست من أهل القرآن ، ولست حكمه تريد . والله المستعان . وقد أجبنا القرآن إلى حكمه ، ولسنا إياك أجبنا . ومن لم يرض بحكم فقد ضل ضلالا بعيدا » .
ــــــــــ

آخر الجزء . يتلوه في الذي يتلوه قصة الحكمين . والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله والطاهرين . والسلام .
ــــــــــ

وجدت في الجزء الثاني عشر (2) من أجزاء عبد الوهاب بخطه : « سمع علي الشيخ أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي الأجل السيد الإمام قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني وابناه القاضيان أبو عبد الله محمد وأبو الحسين أحمد ، وأبو عبد الله محمد بن القاضي أبي الفتح بن البيضاوي ، والشريف أبو الفضل محمد بن علي بن أبي يعلى الحسيني ، وأبو منصور محمد بن محمد بن قرمي ، بقراءة عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي . في شعبان سنة أربع وتسعين وأربعمائة » .
____________
( 1 ) ح ( 1 : 188 ) : « وتأولوه على الله عز وجل » .
( 2 ) في الأصل : « الثامن » وصوابه ما أثبت .