الجزء الثامن

من كتاب صفين


لنصر بن مزاحم
ــــــــــــ
ــــــــــ
ــــــــ

رواية أبي محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز
رواية أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عقبة بن الوليد
رواية أبي الحسن محمد بن ثابت بن عبد الله بن محمد بن ثابت الصيرفي
رواية أبي يعلى أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر الحريري
رواية أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي
رواية الشيخ الحافظ أبي البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي
سماع مظفر بن علي بن محمد بن زيد بن ثابت المعروف بابن المنجم ـ غفر الله له


( 496 )



( 497 )

بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخ الثقة شيخ الإسلام أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي قراءة عليه وأنا أسمع ، قال : أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي بقراءتي عليه ، قال أبو يعلى أحمد ابن عبد الواحد بن محمد بن جعفر الحريري : قال أبو الحسن محمد بن ثابت ابن عبد الله بن [ محمد (1) ] بن ثابت الصيرفي : قال أبو الحسن علي بن محمد بن محمد ابن عقبة : قال أبو محمد سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخزاز : قال أبو الفضل نصر بن مزاحم :

قصة الحكمين

نصر عن عمر بن سعد ، عن رجل ، عن شقيق بن سلمة قال : جاءت عصابة من القراء قد سلوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ، ما تنتظر بهؤلاء القوم أن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم بالحق . فقال لهم علي : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم ، ولا يحل قتالهم حتى ننظر بم يحكم القرآن .
قال : وكتب معاوية إلى علي : « أما بعد ، عافانا الله وإياك ، فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا ، وقد فعلت وأنا أعرف حقي ، ولكن
____________
( 1 ) ساقطة من الأصل .
( 498 )

اشتريت بالعفو صلاح الأمة ، ولا أكثر فرحا بشيء جاء ولا ذهب (1) ، وإنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحق فيما بين الباغي والمبغى عليه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فدعوت إلى كتاب الله فيما بيننا وبينك ، فإنه لا يجمعنا وإياك إلا هو ، نحيي ما أحيا القرآن ، ونميت ما أمات القرآن . والسلام » .
وكتب علي إلى عمرو بن العاص [ يعظه ويرشده ] : « أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ، ولم يصب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا يزيده فيها رغبة ، ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع . والسعيد من وعظ بغيره . فلا تحبط أبا عبد الله أجرك ، ولا تجار معاوية في باطله » .
فأجابه عمرو بن العاص : « أما بعد فإن ما فيه صلاحنا وألفتنا الإنابة إلى الحق ، وقد جعلنا القرآن حكما بيننا فأجبنا إليه . وصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن ، وعذره الناس بعد المحاجزة . [ والسلام ] » .
فكتب إليه علي : « أما بعد فإن الذي أعجبك من الدنيا مما نازعتك إليه نفسك ووثقت به منها لمنقلب عنك ، ومفارق لك . فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة . ولو اعتبرت بما مضى لحفظت ما بقى ، وانتفعت بما وعظت به . والسلام » .
فأجابه عمرو : « أما بعد فقد أنصف من جعل القرآن إماما ودعا الناس إلى أحكامه . فاصبر أبا حسن ، وأنا غير منيلك (2) إلا ما أنالك القرآن » .
وجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال : [ يا أمير المؤمنين ] ما أرى الناس إلا وقد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم
____________
( 1 ) كذا ورد في الأصل وح على الاكتفاء ، أي ولا بشيء ذهب .
( 2 ) ح ( 1 : 189 ) : « فإنا غير منيليك » .

( 499 )

القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ، ونظرت ما الذي يسأل . قال : ائته إن شئت . فأتاه فسأله فقال : يا معاوية ، لأي شئ رفعتم هذه المصاحف ؟ قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه (1) . فابعثوا منكم رجلا ترضون به ، ونبعث منا رجلا ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتبع ما أتففا عليه . فقال الأشعث : هذا هو الحق . فانصرف إلى علي فأخبره بالذي قال . وقال الناس : قد رضينا وقبلنا . فبعث على قراء من أهل العراق ، وبعث معاوية قراء من أهل الشام ، فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف ، فنظروا فيه وتدارسوه ، وأجمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن ، وأن يميتوا ما أمات القرآن . ثم رجع كل فريق إلى أصحابه ، وقال الناس : قد رضينا بحكم القرآن . فقال أهل الشام : فإنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص . وقال الأشعث والقراء الذين صاروا خوارج فيما بعد : فإنا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري . فقال لهم علي : إني لا أرضى بأبي موسى ، ولا أرى أن أوليه . فقال الأشعث ، وزيد بن حصين (1) ، ومسعر بن فدكي ، في عصابة من القراء : إنا لا نرضى إلا به ، فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه . قال علي : فإنه ليس لي برضا ، وقد فارقني وخذل الناس عني (2) ثم هرب ، حتى أمنته بعد أشهر . ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك . قالوا : والله ما نبالي ، أكنت أنت أو ابن عباس ، ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ، وليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر . قال علي : فإني أجعل الأشتر .
قال نصر : قال عمرو : فحدثني أبو جناب قال : قال الأشعث : وهل سعر
____________
( 1 ) ح : « به فيها » .
( 2 ) هو زيد بن حصين الطائي ، ذكره ابن حجر في الإصابة 2887 . وقد سبقت خطبة له في ص 99 ، وانظر أيضا ص 100 . وفي الأصل « يزيد بن حصن » والصواب مما أثبت من ح .
( 3 ) التخذيل : حمل الرجل على خذلان صاحبه ، وتثبيطه عن نصرته .

( 500 )

الأرض علينا غير الأشتر ، وهل نحن إلا في حكم الأشتر . قال له علي : وما حكمه ؟ قال : حكمه أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : لما أراد الناس عليا على أن يضع حكمين قال لهم علي : إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ، وإنه لا يصلح للقرشي إلا مثله ، فعليكم بعبد الله بن عباس فارموه به ، فإن عمرا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله ، ولا يحل عقدة إلا عقدها ، ولا يبرم أمرا إلا نقضه ، ولا ينقض أمرا إلا أبرمه . فقال الأشعث : لا والله لا يحكم فيها مضريان حتى تقوم الساعة ، ولكن أجعله رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر . فقال علي : إني أخاف أن يخدع يمنيكم ، فإن عمرا ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى (1) . فقال الأشعث : والله لأن يحكما ببعض ما نكره ، وأحدهما من أهل اليمن ، أحب إلينا من أن يكون [ بعض ] ما نحب في حكمهما وهما مضريان . وذكر الشعبي مثل ذكر الشعبي مثل ذلك .
وفي حديث عمر قال : قال علي : قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما أردتم . فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل بأرض من أرض الشام يقال لها ( عرض (2) ) واعتزل القتال ، فأتاه مولى له فقال : إن الناس قد اصطلحوا . قال : الحمد لله رب العالمين . قال : وقد جعلوك حكما . قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي ، وجاء الأشتر حتى أتى عليا فقال له : يا أمير المؤمنين الزنى بعمرو بن العاص (3) ، فوالله الذي
____________
( 1 ) في الأصل : « حتى إذا كان له في أمر هواه » صوابه في ح .
( 2 ) عرض ، بضم أوله وسكون ثانيه : بلد ببن تدمر والرصافة الشامية .
( 3 ) ألزه به : ألزمه إباه .

( 501 )

لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه . قال : وجاء الأحنف بن قيس التميمي فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك قد رميت بحجر الأرض (1) ومن حارب الله ورسوله أنف الإسلام (2) ، وإني قد عجمت هذا الرجل ـ يعني أبا موسى ـ وحلبت أشطره ، فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر . وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم ، فإن تجعلني حكما فاجعلني ، وإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا أو ثالثا (3) ، فإنه لا يعقد عقدة إلا حللتها ، ولن يحل عقدة إلا عقدتها وعقدت لك أخرى أشد منها . فعرض ذلك على الناس فأبوه وقالوا : لا يكون إلا أبا موسى .
نصر : وفي حديث عمر قال : قام الأحنف بن قيس إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، إني خيرتك يوم الجمل أن آتيك فيمن أطاعني وأكف عنك بني سعد ، فقلت كف قومك فكفى بكفك نصيرا (4) فأقمت بأمرك . وإن عبد الله بن قيس (5) رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية ، وهو رجل يمان وقومه مع معاوية . وقد رميت بحجر الأرض وبمن حارب الله ورسوله ، وإن صاحب القوم من ينأي حتى يكون مع النجم ، ويدنو حتى يكون في أكفهم . فابعثني ووالله لا يحل عقدة إلا عقدت لك أشد منها
____________
( 1 ) في اللسان : « يقال رمى فلان بحجر الأرض ، إذا رمى بداهية من الرجال » . وروى صاحب اللسان حديث الأحنف في ( 3 : 237 ) .
( 2 ) أي في أول الإسلام .
( 3 ) في الأصل : « فإن شئت أن تجعلني ثانيا أو ثالثا » ، وصوابه وتكملته من الطبري .
( 4 ) في الأصل : « نصرا » وأثبت ما في ح .
( 5 ) عبد الله بن قيس ، هو أبو موسى الأشعري . توفى سنة 42 أو 43 وهو ابن نيف وستين سنة .

( 502 )

فإن قلت : إني لست من أصحاب رسول الله صلى الله عليه ، فابعث رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه غير عبد الله بن قيس (1) ، وابعثني معه . فقال علي : إن القوم أتوني بعبد الله بن قيس مبرنسا ، فقالوا (2) : ابعث هذا ، فقد رضينا به ، والله بالغ أمره .
وذكروا أن ابن الكواء قام إلى علي فقال : هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه ، وصاحب مقاسم أبي بكر (3) ، وعامل عمر ، وقد [ رضى به القوم . و ] عرضنا على القوم عبد الله بن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك ، ظنون في أمرك (4) .
فبلغ ذلك أهل الشام فبعث أيمن بن خريم الأسدي ، وهو معتزل لمعاوية ، هذه الأبيات ، وكان هواه أن يكون هذا الأمر لأهل العراق فقال :

لو كان للقوم رأي يعصمـون بــه * مــن الضلال رموكم بابــن عباس (5)

لله در أبيــه أيمـــا رجــــل * مـــا مثله لفصال الخطب في الناس

لكن رموكم بشيخ مــن ذوي يمــن * لم يــدر مـا ضرب أخماس لأسداس

إن يخل عمرو به يقذفه فـي لجــج * يهــوى بـه النجم تيسا بين أتيــاس

أبلغ لديك عليا غيــر عاتبــه (6) * قول امرئ لا يرى بالحق مـن بــاس

ما الأشعري ، بمأمون ، أبـا حسن ، * فاعلم هديت وليس العجــز كــالراس

فاصــدم بصاحبك الأدنى زعيمهـم * إن ابـــن عمك عباس هــو الآسى

____________
( 1 ) « غير عبد الله بن قيس » ليست في ح .
( 2 ) في الأصل : « فقال » صوابه في ح .
( 3 ) صاحب المقاسم : الذي يتولى أمر قسمة المغانم ونحوها .
( 4 ) الظنون كالظنين : المتهم .
( 5 ) في الأصل : « يعظمون به * بعد الخطار » صوابه في ح .
( 6 ) في الأصل : « غير عائبه » وأثبت ما في ح ( 1 : 190 ) .

( 503 )

قال : فلما بلغ الناس قول أيمن طارت أهواء قوم من أولياء علي عليه السلام وشيعته (1) إلى عبد الله بن عباس ، وأبت القراء إلا أبا موسى .
وفي حديث عمر بن سعد قال : قال بسر بن أرطاة : لقد رضى معاوية بهذه المدة ، ولئن أطاعني لينقصن هذه المدة .
قال أيمن بن خريم بن فاتك ، وكان قد اعتزل عليا ومعاوية ثم قارب أهل الشام ولم يبسط بدا :

أما والذي أرسى ثبيــرا مكانــه * وأنزل ذا الفرقان في ليلــة القــدر

لئن عطفت خيل العـراق عليكــم * ولله لا للنــاس عاقبـــة الأمــر

تقحمها قدما عــدي بــن حاتـم * والاشتر يهدى الخيل في وضح الفجـر

وطاعنكم فيهـا شريح بــن هانئ * وزحر بـن قيس بالمثقفــة السمــر

وشمر فيها الأشعث اليــوم ذيلـه * تشبهه (2) بالحــارث بن أبي شمـر

لتعرفه يابسر يومــا عصبصبـا * يحرم أطهار النسـاء مــن الذعـر (3)

يشيب وليد الحي قبــل مشيبـه * وفي بعض ما أعطـوك راغية البكـر (4)

وعهدك يابسر بن أرطاة والقنــا * رواء من أهل الشام أظماؤهــا تجـري

وعمرو بن سفيان على شر آلــة * بمعترك حام أحــر مــن الجمـر (5)

قال : فلما سمع القوم الذين كرهوا المدة قول أيمن بن خريم كفوا عن الحرب وكان أيمن رجلا عابدا مجتهدا ، قد كان معاوية جعل له فلسطين على أن يتابعه ويشايعه على قتال علي (6) ، فبعث إليه أيمن :
____________
( 1 ) بدلها في الأصل : « طارت أهواؤهم » وما هنا من ح .
( 2 ) في الأصل : « يشبهه » والمقطوعة لم ترد في ح .
( 3 ) انظر ص 46 س 2 .
( 4 ) انظر ص 45 السطر الأخير .
( 5 ) الآلة : الحالة . قال : * قد أركب الآلة بعد الآله *
( 6 ) في الأصل : « على أن يبايعه على قتل علي » ، و أثبت ما في ح .

( 504 )

ولســت مقاتـلا رجـلا يصلـي * علــى سلطان آخر مــن قريش

له سلطانـه وعلــي إثمــــي * معــاذ الله مــن سفه وطيــش

أأقتل مسلما فـي غيــر جــرم * فليــس بنافعي مــا عشت عيشي

قال : وبعث [ بسر (1) ] إلى أهل الشام : « أما والله إن من رأيى إن دفعتم هذه الموادعة أن ألحق بأهل العراق فأكون يدا من أيديها عليكم ، وما كففت عن الجمعين إلا طلبا للسلامة » . قال معاوية : يا بسر ، أتريد أن تمن علينا بخير ؟ ! قال : فرضى أهل الشام ببعث الحكمين . فلما رضى أهل الشام بعمرو بن العاص ، ورضى أهل العراق بأبي موسى ، أخذوا في كتاب الموادعة ، ورضوا بالحكم حكم القرآن .
نصر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن زيد بن حسن قال عمرو : قال جابر : سمعت زيد بن حسن ـ وذكر كتاب الحكمين فزاد فيه شيئا على ما ذكره محمد بن علي الشعبي ، في كثرة الشهود وفي زيادة في الحروف ونقصان ، أملاها علي من كتاب عنده فقال ـ : هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه ، قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ، [ وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب ] . إنا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم ، وأن نقف عند أمره فيما أمر ، وإنه لا يجمع بيننا إلا ذلك . وإنا جعلنا كتاب الله فيما بيننا حكما فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيى ما أحيا ونميت ما أمات (2) . على ذلك تقاضيا ، وبه تراضيا . وإن عليا وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله
____________
( 1 ) تكملة يقتضيها السياق .
( 2 ) ح ( 1 : 191 ) : « نحيى ما أحيا القرآن ونميت ما أماته » .

( 505 )

ابن قيس (1) ناظرا ومحاكما ، ورضى معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظرا ومحاكما . على أنهما (2) أخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ، ليتخذان الكتاب إماما فيما بعثا له ، لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورا . وما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنة رسول الله صلى الله عليه الجامعة ، لا يتعمدان لهما خلافا ، ولا يتبعان في ذلك لهما هوى ، ولا يدخلان في شبهة . وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص علي على ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ، وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره ، وأنهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق ، رضى بذلك راض أو أنكره منكر ، وأن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل . فإن توفى أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلا ، لا يألون عن أهل المعدلة والإقساط ، على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق ، والحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله . وله مثل شرط صاحبه . وإن مات أحد الأميرين قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلا يرضون عدله . وقد وقعت القضية ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة . وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه ألا يألوا اجتهادا ، ولا يتعمدا جورا ، ولا يدخلا في شبهة ، ولا يعدوا حكم الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإن لم يفعلا برئت الأمة ( سقط من كتاب بن عقبة ) من حكمهما ، ولا عهد لهما ولا ذمة . وقد وجبت القضية على ما قد سمى في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين
____________
( 1 ) عبد الله بن قيس ، هو أبو موسى الأشعري .
( 2 ) في الأصل : « أنهم » وأثبت ما في ح .

( 506 )

والله أقرب شهيدا ، وأدنى حفيظا . والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل ، والسلاح موضوع ، والسبل مخلاة ، والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن . وللحكمين أن ينزلا منزلا عدلا بين أهل العراق وأهل الشام ولا يحضرهما فيه إلا من أحبا ، عن ملأ منهما وتراض وإن المسلمين قد أجلوا القاضيين إلى انسلاخ رمضان ، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها ، وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم فإن ذلك إليهما . فإن هما لم يحكما بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب . ولا شرط بين واحد من الفريقين . وعلى الأمة عهد الله وميثاقه على التمام ، والوفاء بما في هذا الكتاب . وهم يد على من أراد فيه إلحادا وظلما ، أو حاول له نقضا . وشهد بما في الكتاب من أصحاب علي (1) عبد الله بن عباس ، والأشعث بن قيس ، والأشتر مالك بن الحارث ، وسعيد بن قيس الهمداني ، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن المطلب ، وأبو أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري (2) ، وخباب بن الأرت ، وسهل بن حنيف ، وأبو اليسر بن عمرو الأنصاري (3) ، ورفاعة بن رافع بن مالك الأنصاري ، وعوف بن الحارث بن المطلب القرشي ،
____________
( 1 ) ح ( 1 : 192 ) : « وشهد فيه من أصحاب علي عشرة ، ومن أصحاب معاوية عشرة » . وقد فصل الطبري في ( 6 : 130 ) فذكر هؤلاء العشرة وهؤلاء العشرة . لكن ما في الأصل هنا يربى على هذا العدد كثيرا .
( 2 ) هو أبو أسيد ، بهيئة التصغير ، مالك بن ربيعة بن البدن بن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري الساعدي . وكان معه راية بني ساعدة يوم الفتح ، اختلف في وفاته ما بين سنة ثلاثين إلى ثمانين . انظر الإصابة 7622 . وفي الأصل : « ربيعة بن مالك » تحريف .
( 3 ) هو أبو اليسر ، بفتحتين ، الأنصاري ، واسمه كعب بن عمرو بن عباد . شهد بدرا والمشاهد ، وهو الذي أسر العباس . ومات بالمدينة سنة خمس وخمسين . الإصابة ( 7 : 218 ) . وفي الأصل : « أبو اليسير » تحريف .

( 507 )

وبريدة الأسلمي (1) ، وعقبة بن عامر الجهني ، ورافع بن خديج الأنصاري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، والحسن والحسين ابنا علي ، وعبد الله بن جعفر الهاشمي ، والنعمان بن عجلان الأنصاري ، وحجر بن عدي الكندي ، وورقاء بن مالك بن كعب الهمداني ، وربيعة بن شرحبيل ، وأبو صفرة ابن يزيد ، والحارث بن مالك الهمداني ، وحجر بن يزيد ، وعقبة بن حجية ، ( إلى هنا السقط ) . ومن أصحاب معاوية حبيب بن مسلمة الفهري ، وأبو الأعور بن سفيان السلمي (2) ، وبسر بن أرطاة القرشي ، ومعاوية بن خديج الكندي ، والمخارق بن الحارث الحميري ، ورعبل بن عمرو السكسكي ، وعبد الرحمن ابن خالد المخزومي ، وحمزة بن مالك الهمداني ، وسبيع بن يزيد الهمداني ، ويزيد بن الحر الثقفي ، ومسروق بن حرملة العكي (3) ، ونمير بن يزيد الحميري ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعلقمة بن يزيد الكلبي ، وخالد ابن المعرض السكسكي ، وعلقمة بن يزيد الجرمي ، وعبد الله بن عامر القرشي ، ومروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة القرشي ، وعتبة بن أبي سفيان ، ومحمد بن أبي سفيان ، ومحمد بن عمرو بن العاص ، ويزيد بن عمر الجذامي ، وعمار ابن الأحوص الكلبي ، ومسعدة بن عمرو التجيبي ، والحارث بن زياد القيني ، وعاصم بن المنتشر الجذامي ، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع الحميري ، والقباح بن جلهمة الحميري (4) ، وثمامة بن حوشب ، وعلقمة بن حكيم ، وحمزة بن مالك . وإن بيننا على ما في هذه الصحيفة عهد الله وميثاقه . وكتب عمر يوم الأربعاء
____________
( 1 ) هو بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج الأسلمي ، ينتمي إلى أسلم بن أفصي . مات سنة ثلاث وستين . الإصابة 629 . وفي الأصل : ( السلمي ) تحريف .
( 2 ) هو أبو الأعور عمرو بن سفيان بن عبد شمس ، وهو ممن قدم مصر مع مروان سنة خمس وستين . انظر الإصابة 5846 .
( 3 ) ذكره ابن حجر في الإصابة 7938 ولم يعرف اسم والده .
( 4 ) لم أعثر له على ترجمة ، والمعروف في أعلامهم مما يقاربه « القباع » .

( 508 )

لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين .
قال نصر : وفي كتاب عمر بن سعد : « هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين » . فقال معاوية : بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته . وقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه ، إنما هو أميركم ، وأما أميرنا فلا . فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه ، فقال الأحنف : لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك ، فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدا ، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا . فأبى مليا من النهار أن يمحوها ، ثم إن الأشعث بن قيس جاء فقال : امح هذا الإسم . فقال علي : لا إله إلا الله والله أكبر ، سنة بسنة ، أما والله لعلى يدي دار هذا يوم الحديبية ، حين كتبت الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه : « هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسهيل بن عمرو » ، فقال سهيل : لا أجيبك إلى كتاب تسمى [ فيه ] رسول الله صلى الله عليه ، ولو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ، إني إذا ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت الله وأنت رسول الله ، ولكن اكتب : « محمد بن عبد الله » أجبك . فقال محمد صلى الله عليه : « يا علي إني لرسول الله ، وإني لمحمد بن عبد الله ، ولن يمحو عني الرسالة كتابي إليهم من محمد بن عبد الله ، فاكتب : محمد بن عبد الله » . فراجعني المشركون في هذا (1) إلى مدة . فاليوم أكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول الله صلى الله عليه إلى آبائهم سنة ومثلا . فقال عمرو بن العاص : سبحان الله ، ومثل هذا شبهتنا بالكفار ونحن مؤمنون ؟ فقال له علي : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا ، وهل تشبه إلا أمك التي وضعت بك (2) . فقام عمرو فقال : والله لا يجمع بيني وبينك
____________
( 1 ) في الأصل : « في عهد » .
( 2 ) هذه العبارة بعينها في الطبري ( 6 : 29 ) .

( 509 )

مجلس أبدا بعد هذا اليوم . فقال علي : والله إني لأرجو أن يظهر الله عليك وعلى أصحابك . قال : وجاءت عصابة قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم فقالوا : يا أمير المؤمنين مرنا بما شئت . فقال لهم ابن حنيف : أيها الناس اتهموا رأيكم فوالله لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا . وذلك في الصلح الذي صالح عليه النبي صلى الله عليه .
نصر ، عن عمر بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن بريدة الأسلمي (1) ـ يعني ابن سفيان ـ عن محمد بن كعب القرظي ، عن علقمة بن قيس النخعي قال : لما كتب علي الصلح يوم صالح معاوية فدعا الأشتر ليكتب ، قال قائل : أكتب بينك وبين معاوية . فقال (2) : إني والله لأنا كتبت الكتاب بيدي يوم الحديبية ، وكتبت « بسم الله الرحمن الرحيم » ، فقال سهيل : لا أرضى ، اكتب « باسمك اللهم » فكتب : « هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو » ، فقال . لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك . قال علي : فغضبت فقلت : بلى والله إنه لرسول الله وإن رغم أنفك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « اكتب ما يأمرك ، إن لك مثلها ، ستعطيها وأنت مضطهد » .
نصر ، عن عمر بن سعد قال : حدثني أبو إسحاق الشيباني قال : قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي بردة ، في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم من أسفلها وخاتم من أعلاها . في خاتم علي : « محمد رسول الله » وفي خاتم معاوية : « محمد رسول الله » . فقيل لعلي حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام : أتقر أنهم مؤمنون مسلمون ؟ فقال علي : ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب
____________
( 1 ) هذا غير بريدة الأسلمي ، المترجم في ص 507 . وقد ترجم لبريدة بن سفيان . في تهذيب التهذيب .
( 2 ) أي علي عليه السلام .

( 510 )

معاوية ما شاء ، ويقر بما شاء لنفسه وأصحابه ، ويسمى نفسه وأصحابه ما شاء . فكتبوا : « بسم الله الرحمن الرحيم » . هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان . قاضى علي بن أبي طالب على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين : إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ، والا يجمع بيننا إلا إياه ، وأن كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته : نحيى ما أحيا القرآن ، ونميت ما أمات القرآن . فما وجد الحكمان في كتاب الله بيننا وبينكم فإنهما يتبعانه ، وما لم يجداه في كتاب الله أخذا بالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة ، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص . وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه ليقضيا بما وجدا في كتاب الله ، فإن لم يجدا في كتاب الله فالسنة الجامعة غير المفرقة . وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين ـ مما هما عليه من أمر الناس بما يرضيان به من العهد والميثاق والثقة من الناس ـ أنهما آمنان على أموالهما وأهليهما . والأمة لهما أنصار على الذي يقضيان به عليهما (1) . وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيها عهد الله أنا على ما في هذه الصحيفة ، ولنقومن عليه ، وإنا عليه لأنصار . وإنها قد وجبت القضية بين المؤمنين بالأمن والإستقامة ووضع السلاح ، أينما ساروا ، على أنفسهم وأموالهم وأهليهم وأرضيهم ، وشاهدهم وغائبهم وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه ليحكمان بين الأمة بالحق ، ولا يردانها في فرقة ولا بحرب حتى يقضيا . وأجل القضية إلى شهر رمضان فإن أحبا أن يعجلا عجلا . وإن توفى واحد من الحكمين فإن أمير شيعته يختار مكانه رجلا لا يألو عن المعدلة والقسط ، وإن ميعاد قضائهما الذي
____________
( 1 ) في الأصل : « عليه » .
( 511 )

يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الشام وأهل الكوفة ، فإن رضيا مكانا غيره فحيث رضيا لا يحضرهما فيه إلا من أرادا . وأن يأخذ الحكمان من شاءا من الشهود ثم يكتبوا شهادتهم على ما في الصحيفة . ونحن براء من حكم بغير ما أنزل الله . اللهم إنا نستعينك على من ترك ما في هذه الصحيفة ، وأراد فيها إلحادا وظلما . وشهد علي ما في الصحيفة عبد الله بن عباس ، والأشعث ابن قيس ، وسعيد بن قيس ، و ورقاء بن سمى (1) ، وعبد الله بن الطفيل ، وحجر ابن يزيد ، وعبد الله بن جمل ، وعقبة بن جارية ، ويزيد بن حجية ، وأبو الأعور السلمي ، وحبيب بن مسلمة ، والمخارق بن الحارث ، وزمل بن عمرو (2) ، وحمزة ابن مالك ، وعبد الرحمن بن خالد ، وسبيع بن يزيد (3) وعلقمة بن مرثد ، وعتبة ابن أبي سفيان ، ويزيد بن الحر . وكتب عميرة يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين .
واتعد الحكمان أذرح (4) ، وأن يجيء على بأربعمائة من أصحابه ، ويجيء معاوية بأربعمائة من أصحابه فيشهدون الحكومة .
نصر ، عن عمر بن سعد ، قال أبو جناب (5) ، عن عمارة بن ربيعة الجرمي قال : لما كتبت الصحيفة دعى لها الأشتر فقال : لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة . أو لست على بينة من ربي ، ويقين من ضلالة عدوي ؟ ! أو لستم قد رأيتم
____________
( 1 ) الطبري ( 6 : 30 ) : « ووفاء بن سمى » .
( 2 ) زمل ، بالكسر ، بن عمرو بن عنز العذري ، عقد له النبي صلى الله عليه لواء ، وشهد بهذا اللواء صفين مع معاوية ، وقتل بمرج راهط مع مروان سنة أربع وستين . انظر الإصابة 2810 . وفي الأصل : « زامل » تحريف ، صوابه في الإصابة والطبري .
( 3 ) في الأصل : « سمع بن زيد » وأثبت ما في الطبري ( 6 : 30 ) .
( 4 ) أذرح ، بضم الراء : بلد في أطراف الشام مجاور لأرض الحجاز .
( 5 ) هو أبو جناب الكلبي ، كما في الطبري ( 6 : 30 ) وفي الأصل « أبو خباب » .