141
18
    نظرت نرجس الى ابنها الغافي في المهد .. وجهه الأسمر يتألق بأنوار عجيبة .. وخيل اليها أنها تسمع همهمة وأصواتاً ملائكية ... وشذى الحجرة يفوح بعطر لا تعرف كنهه ..
    كم كانت تود أن تضع وليمة كبرى تشبع بطون الفقراء وتعلن للعالم ميلاد الصبي الموعود ؟!
    كم كانت تود أن تكون كفاطمة الزهراء التي قدمت ولدها البكر الحسن ثم الحسين .. ان تكون كمريم وقد جاءت تحمل المسيح عيسى يكلم الناس في المهد صبياً ؟!
    ولكن هذا الصبي الذي وعدت السماء بميلاده يجب أن يبقى سراً في حرز حريز في صدور المؤمنين الذين يترقبون هذه اللحظة الخضراء ..
    إنها تدرك تماماً معاناة زوجها الكريم .. فهذا الأب المحاصر يحمل هموم الدنيا ... إن عليه أن يثبت ميلاد ابنه الذي بشر به آباؤه وأجداده .. إن عليه أن يعلن أن تحقق نبوءة جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « يكون بعدي اثنا عشر خليفة » ، فكيف يخفي


142
ميلاده ويطمس اسمه ويخفي وجوده ؟
    وعليه أيضاً أن يحمي ابنه الأمل من السيف العباسي المشهور .. ومن عيون الجواسيس .. عيون زجاجية لا يطرق لها جفن ..
    ما الذي سيفعله الامام في هذه الظروف الخطيرة ؟!
    مرت ايام عندما قام الامام بختان ابنه فقالت الأم :
    ـ ولكنه ولد مختوناً مطهراً !!
    قال الامام :
    ـ أجل انه كآبائه ولكنها سنة لا نتخلف عنها .. وامرار الموسى عليه يجزي ذلك (135) .
    وفي الصباح الباكر غادر كافور الخادم المنزل صوب تاجر الزيوت عثمان ..
    أمر الامام تاجر السمن أن يعق عن المولود المبارك عدداً من الشياه وأن يشتري عشرة آلاف رطل من الخبز وعشرة آلاف رطل من اللحم ويوزعه على الفقراء (136) .
    وفي ذلك اليوم شبع الفقراء والبؤساء خبزاً ولحماً .. انهم لا يعرفون من أين جاءتهم هذه الموائد الطيبة فولوا وجوهم شطر السماء الزرقاء يحمدون الله الذي أشبعهم بعد سغب طويل .
    وأرسل الإمام الى ابراهيم بن مهزيار بأربعة أكبش مع رسالة جاء فيها :


143
    « بسم الله الرحمن الرحيم ..
    عق هذه عن ابني محمد المهدي .. وكل ..
    هنأك الله .. واطعم من وجدت من شيعتنا » (137) .
    كما بعث الامام برسالة الى الشيخ احمدبن اسحاق الاشعري يبشّره فيها بميلاد ولده المهدي جاء فيها :
    ـ « ولد لنا مولود .. فليكن عندك مستوراً , وعن جميع الناس مكتوماً ... فإنّا لم نظهر عليه الاّ الأقرب لقرابته .. و الولي لولايته .. احببنا اعلامك ليسرّك الله به أسرّنا .. والسلام »(138) .
    هزّت الكلمات الموجزة وجدان الرجل الأشعري الذي قرّر أن يشدّ الرحال الى سامراء .. الأمل يحدوه برؤية الصبي الذي بشّرت به النبوّات .
    عندما وصل سامراء كانت رياح تشرين قد بدأت هبوبها.. تجوس الأزقة و الشوارع , و كانت المدينة شبه مقفرة باستثناء السوق الكبرى فقد كانت تزخر بالنشاط .
    ولم يكن هم الأشعري سوى الوصول الى منزل الإمام و لكنه تماهل متعمداً ليتأكد من عدم وجود من يراقبه , فهو يعرف حساسية الحكومة من أهل قم و علاقاتهم الوطيدة بأهل البيت ..
    و عندما ولج درب الحصا حَثّ الخطى متوجساً متوكّلاً على علّام الغيوب .
    طرق الباب فألفى بواباً من أهل فارس يفتحه و كأنه كان


144
مترقباً حضوره في هذه اللحظة !
    كان الأشعري قد هيأ مقدمة مناسبة لطرق الموضوع الذي تجشم عناء السفر من أجله ، وهو السؤال عن الذي ينهض بالامامة ؟
    وفوجئ الرجل بالامام يبتدأ الكلام قائلاً :
    ـ يا أحمد بن اسحاق ان الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض خلق آدم ولا يخليها الى أن تقوم الساعة من حجة على خلقه ، به يدفع البلاء عن أهل الأرض وبه ينزل الغيث ، وبه تخرج بركات الأرض ...
    وجد الاشعري الفرصة مناسبة فقال :
    ـ يا ابن رسول الله ! فمن الامام والخليفة بعدك ؟
    ابتسم الامام ونادى :
    ـ ماريا !
    وجائت جارية تحمل شيئاً مغطى قال الامام وقد طفحت فرحة أمل على وجهه :
    ـ اكشفي عن وجهه !
    ازاحت الفتاة منديلاً ناصع البياض أسفر وجه بهي لصبي بدا في الثانية من عمره ... عينان تتألقان بنور شفيف وملامح عربية أصيلة وما زاده جمالاً استقرار خال على خده الايمن قريباً من الفم .


145
    كان الأشعري مبهوراً بما يرى وقد اعتملت في اعماقه مشاعر استفهام فهذا الصبي يبدو عليه أنه قد تعدى العامين من العمر وكان يتصور أنه ولد قبل شهرين أو ثلاثة !
    أدرك الامام ما يموج في أعماقه فقال :
    ـ « ان أولاد الانبياء والاوصياء اذا كانوا ائمة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم ، وأن الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة » (139) .
    ظل الاشعري مأخوذاً بمنظر صبي وجهه يتلألأ كقمر بهي تحيطه هالة شفافة من النور ، قال الامام :
    ـ يا أحمد بن اسحاق لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا ..
    اسمه اسم رسول الله .. وكنيته كنية رسول الله .. وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ..
    سكت الامام لحظات واستطرد قائلاً :
    ـ يا احمد بن اسحاق مثله في هذه الامة مثل الخضر ومثله مثل ذي القرنين .. والله ليغيبن غيبة لا ينجو فيها من الهلكة الا من ثبته الله عز وجل على القول بإمامته ووفقه الله للدعاء بتعجيل فرجه .
    قال الاشعري :
    ـ يا مولاي فهل من علامة يطمئن بها قلبي نظر الامام الى


146
وليده الحبيب .. الى وجهه الذي يتلألأ كالقمر ..
    فوجيء الاشعري بالذي نطق في المهد صبياً ، يقول :
    ـ أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من اعدائه .. لا تطلب أثراً بعد عين .. يا أحمد بن اسحاق !!
    شعر الرجل الاشعري بحالة من الخشوع تغمر قلبه ووجوده انه الآن أمام الانسان الذي قُدّر له أن يولد في الزمن المرير .. أمام صبي يحمل ملامح من الانبياء أضاءوا التاريخ .. أمام صبي في قصته شيء من موسى وقد ولد في زمن الفرعون .. ومن عيسى المسيح وقد نطق في المهد صبيا .. ومن جده محمد اسمه وكنيته ورسالته الأخيرة .. ولكن ما الذي يحمله من الخضر يا ترى .. تساءل الأشعري فقال الذي عنده علم الرسالات القديمة :
    ـ طول الغيبة يا احمد !
    ـ وان غيبته لتطول يا بن الرسول ؟!!
    قال الامام وهو يغمر الصبي بنظرات دافئة :
    ـ أي وربي حتى يتراجع عن الايمان به اكثر القائلين به ، فلا يبقى الا من أخذ الله عهده بولايتنا وكتب في قلبه الايمان وأيده بروح منه ..
    وسكت لحظات ثم قال وهو يصوب نظراته الى الرجل المؤمن :
    ـ يا أحمد بن اسحاق هذا أمر من أمر الله وسر من سر الله


147
وغيب من غيب الله .. فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين .. تكن معنا في عليين ..
    وأحس الامام بوجود البواب في الرواق فناداه وسرعان ما امتثل أمامه .. قال الإمام للفتاة اكشفي الغطاء عن وجه ابني ، والتفت الى البواب قائلاً :
    ـ هذا صاحبكم !
    وقال للفتاة :
    ـ احمليه الى امه (140) .
    وظل البواب مذهولاً للحظات .. لقد مضى على استخدامه شهور طويلة في هذا المنزل ولكنه لم يشعر أبداً بميلاد هذا الصبي المبارك ولا بوجوده .. وها هو يراه للمرة الأولى وربما الأخيرة (141) .


148
19
    العالم الاسلامي المترامي ، الأطراف يعيش نهايات سنة 256 هـ وقد بدأت الاستعدادات لموسم الحج في المدن والحواضر البعيدة .
    اما سامراء فقد كانت تشهد مراسم توديع الخليفة للقائد موسى بن بغا الذي ترأس الحملة الكبرى لقهر الحسن بن زيد العلوي بعد أن تفاقم خطره خاصة اثر سقوط مدينة الري في قبضته ..
    وكانت المؤشرات السياسية داخل العاصمة تؤكد أن مقاليد الحكم قد باتت في يد طلحة بن المتوكل الذي عرف بالموفق ، وأن المعتمد بشخصيته الضعيفة لا يستطيع الحد من نفوذ أخيه المتنامي فالاتراك يميلون اليه منذ نجاحه في حصار بغداد سنة 251 هـ وارغامه المستعين على التنازل .
    ولو كان حاضراً أبان الحوادث التي أدت الى سقوط المهتدي ومصرعه لسمي خليفة ، ولكنه كان منفياً في مكة ، ولهذا الحّ الاتراك فور تسمية المعتمد خليفة على استدعائه من مكة


149
وتفويضه القيادة العليا للجيش والقوات المسلحة (142) .
    ولم يبق للمعتمد من الخلافة سوى قدراً تافهاً من النفوذ بينما تركزت القدرة في يد أخيه الذي بدأ استعداداته للزحف صوب البصرة للقضاء على الزنوج الثائرين ..
    برز عبيد الله بن يحيى الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء منذ أكثر من ثلاثة شهور شخصية ادارية لها دورها الكبير في تمشية شؤون الدولة واصبح مجلسه مهيباً كشخصية لها نفوذها الواسع ... وهو بالرغم من ولائه المطلق للعباسيين الاّ انه بدأ يكن الاحترام للعلويين منذ مصرع المتوكل فقد شهد بنفسه كرامات أهل البيت ..
    ولكي يخفف الامام من محنة العلويين والشيعة خاصة بعد تفاقم الخطر العلوي في ايران ومصر والحؤول دون موجة جديدة من الاضطهاد يقوم الامام بزيارة الوزير في مقر عمله الرسمي .
    جاء توقيت الزيارة دقيقاً وحكيماً فهو أولاً نوع من التأييد لسياسة رئيس الوزراء الذي استهدف تثبيت دعائم الأمن في البلاد .. وأيضاً ادانة صريحة لثورة الزنج خاصة بعد الفظائع التي ارتكبها الثوار في البصرة وانتهاكهم الأعراض وقيام زعيم الثورة باعلان انتسابه الى أهل البيت !!
    كما أن رئيس الوزراء قد بات يعتقد بقداسة أهل البيت وهو يحترم من صميم قلبه الامام الراحل علي الهادي وولده الذي


150
يشبهه خلقاً وخلقاً .
    كان مجلس رئيس الوزراء ذلك الصباح حافلاً ومهيباً .. وكان عبيد الله بن يحيى جالساً وقد هيمن صمت مهيب هو انعكاس لسطوة الرجل وهيبته .. وما اضفى الرهبة في المكان انتصاب حرسه شديد كتماثيل منحوتة من صخور قاسية .. حتى نجل رئيس الوزراء أحمد هو الآخر كان واقفاً خلف والده بإجلال ..
    ولج الحاجب ليقول بعد أن انحنى أمام الرجل المهيب :
    ـ أبو محمد ابن الرضا بالباب ينتظر الإذن ؟!
    هتف ابن يحيى بصوت يسمعه الضيف الكريم .
    ـ إئذنوا له !
    وظهر الامام الحسن بقامته الأخاذة ووجهه الأسمر وبالرغم من أن سنه كان في الرابعة والعشرين الاّ ان ما ينوء بحمله قد أشعل بعض الشيب في ذقنه مما أضفى عليه وقاراً ..
    وهب رئيس الوزراء لاستقباله وقطع بعض الخطى مبالغاً في احترامه وصافحه بحرارة ثم عانقه وقبل جبينه وأخذ بيده ليقوده الى مصلاه .
    فغر أحمد فاه من الدهشة وهو يرى سلوك والده الذي لم يبدر منه حتى مع « الموفق » رجل الدولة القوي ، والقائد العام للجيوش العباسية .
    لم يكن قد مضى وقت على اللقاء عندما أعلن الحاجب عن