241
    ـ سوف اشويك بالنار كما قلت !
    ـ اصنع ما تشاء .
    برقت في اعماقه المظلمة فكرة رهيبة في أن يجعله بين ثلاثة رماح ثم يشوى بالنار « ويشوى كما يشوى الدجاج » 221 !!
    ونفذت الفكرة على الفور وراح الجلاوزه يشوون الانسان وكان المعتضد ينظر بتلذذ الى آلام الانسان ولم يبد عليه أنه قد اكترث لرائحة شواء لحم بشري !!
    واستمر المشهد المهول الى أن تفرقع جسم الضحية ولفظ انفاسه .. وعندها أمر خليفة المسلمين أن يصلب الجسد بين الجسرين على الجانب الغربي !
    وظل اسم الرجل العلوي المجهول هاجساً مخيفاً يراود ذهن الخليفة الذي يعج بالأوهام والوساوس .
    ترى من يكون ذلك الرجل العلوي الذي يعد للثورة في بغداد ؟!! وباح الخليفة لرئيس وزرائه الذي لا يقل عنه وحشية وسفكاً للدماء .. باح له بهواجسه ..
    وبدأت كلاب السلطة مهامها في التجسس والبحث عن الرجل أو الحصول على معلومات تساعد في القبض عليه .
    ولم تمض سوى اسابيع حتى بدأت التقارير السرية ترد على القصر وتفيد بوجود مجموعة من الوكلاء مهمتهم استلام أموال تأتي الى أشخاص أو شخص له القاب عديدة .. فهو مرة « الحجة »


242
أو « صاحب الزمان » أو « الغريم » (222) ، ولا يوجد اسم صريح يمكن التعرف عليه !
    وأعدّت لرئيس الوزراء عبيد الله بن سليمان بن وهب قائمة تضم مجموعة من رجال الشيعة يقومون بمهمة الوكالة في استلام أموال ترد لرجل علوي مجهول (223) ..
    واتخذت التقارير مساراً اكثر خطورة عندما راحت تشير الى منزل الامام الراحل الحسن العسكري في سامراء ، ولم يضع المعتضد وقتاً في معالجة الموقف واتخاذ القرار باسرع وقت .
    لقد انقدحت في ذهنه المتوقد أن يكون الرجل المجهول هو المهدي !!
    واصبح من المؤكد وجود سفير له بل ووجود وكلاء يستلمون الأموال بالنيابة عنه (224 )!
    إذن سيوجه ضربته السريعة في الوقت المناسب .


243
33
    اخفق عبد الله بن سليمان في القبض على أي من وكلاء المهدي بعد فشل الجاسوس الذي دسته الحكومة في كسب ثقتهم ... لقد قابلهم جميعاً وتظاهر لهم بأنه من شيعة الامام المهدي وأن لديه أموالاً يريد تأديتها كحقوق شرعية (225) .
    وتبددت شكوك رئيس الوزراء حول وجود وكلاء للمهدي بعد فشل الجاسوس ، وتظاهر المعتضد بذلك وهو يستمع الى تقرير عبد الله بن سليمان .. انه لا يريد اثارة مسألة المهدي حتى لا يكون ذلك رأس الخيط لمن يريد البحث عن الحقيقة ..
    كما أن مهمة القبض على المهدي أو اغتياله سوف تضر بسمعة الدولة وقد تسبب له أزمة تقضي عليه هو شخصياً .
    ولذا قرر أن يواجه هذا التحدي الخطير وحده .. سوف يحيط خطته بالسرية البالغة بحيث لن يعرف أحد نواياه !
    لقد حصل على معلومات هامة .. فالمهدي ربما يعيش حالياً في منزل والده في سامراء .. في محلة « درب الحصا » .. كما أن


244
التقارير تفيد بوجود رجل زنجي يجلس عادة عند الباب كما لو أنه بوّاب (226) .. ولذا فان ارسال ثلاثة مسلحين واقتحام المنزل سوف يضع حدّاً لهواجسه وقلقه .. ان لديه رجالاً لا يفقهون سوى تنفيذ الأوامر ..
    نسائم آذار تهب من ناحية الشمال وترافق دجلة الذي ارتفع منسوب المياه في مجراه مثيراً هواجس الفيضان التي تخامر أهالي بغداد كل عام ..
    كان المعتضد يتمشى في حدائق قصر الحسني المطلة على النهر ولم يكن مكترثاً فيما يبدو لما حوله .. فيما انتشر حراس غلاظ قرب الجدران تحسباً للطوارىء .
    وفيما كانت شمس الأصيل تقرض ذرى النخيل ظهر ثلاثة رجال اشبه بالعمالقة يتقدمهم « رشيق » غلام المعتضد .. سرعان ما امتثلوا امام الخليفة الذي تموج أعماقه بهواجس جهنمية ..
    حدق المعتضد في عيني رشيق لتغوص نظراته الى الأعماق وهذه هي طريقته عندما يصدر أوامر خطيرة أو يكلف أحداً بمهمة مصيرية !
    قال الخليفة السادس عشر الذي انهى نفوذ الاتراك في شؤون الحكم :
    ـ انطلقوا فوراً الى سامراء .. ليركب كل واحد منكم فرساً ويجنب آخر .. اسألوا عن « درب الحصا » فهناك دار كبيرة يجلس


245
على بابها خادم أسود ..
    وسكت لحظات ليركز نظراته على الثلاثة معاً :
    ـ اقتحموا الدار ومن رأيتهم في الدار فأتوني برأسه !
    وأدار ظهره للثلاثة الذين تقهقروا الى الوراء اجلالاً للخليفة ..
    ثلاثة رجال وستة خيول تنهب الأرض باتجاه الشمال .
    وفي اقل من ساعتين انطوى ستون ميلاً عربياً لتلوح من بعيد المئذنة الملوية شاخصة في الافق الغائم ..
    المدينة التي كانت قبل سنوات عاصمة البلاد الكبرى آخذة في الاضمحلال .. ربطوا خيولهم المتعبة في مربط خان المسافرين ومضوا الى هدفهم ولم يجد رشيق صعوبة في العثور على محلة درب الحصا ..
    بدا الشارع الممتد حتى دجلة مقفراً باستثناء رجل زنجي كان جالساً على دكة عند عتبة الباب وفي يده تكة سروال ينسجها ..
    تقدم رشيق الى الرجل الافريقي الذي بدا غير مكترث بأحد .. سأل رشيق :
    ـ لمن هذه الدار ؟
    أجاب الرجل الجالس دون أن يرفع رأسه :
    ـ لصاحبها :
    سأل رشيق :


246
    ـ ومن فيها .
    أجاب الافريقي بلا اكتراث :
    ـ صاحبها !
    تبادل رشيق مع صاحبيه نظرات فيها بريق المؤامرة ..
    امتشقوا سيوفهم وركل رشيق الباب الخشبية بعنف ليدخل الدهليز .. فجاسوا خلال الحجرات .. ثم وجدوا غرفة سرية كانت هي الأخرى خالية ..
    ولفت نظر رشيق ستائر بهية كأنها حيكت حديثاً ... انه لم يرى ستائر أجمل منها ..
    لمسها بيده الغليظة .. ثم رفعها ليقع بصره على منظر لم يكن قد توقع رؤيته ؛ حوض واسع يزخر بالمياه .. وفي أقصى المكان كان هناك رجلاً يصلي فوق حصير تلامس حوافه المياه ..
    وظل رشيق مشدوهاً للحظات وهو يراقب الرجل الذي يرتدي ثياباً جميلة .
    لم يقطع الرجل صلاته أو بدا عليه أنه اكترث بظهور رجال مسلّحين يقتحمون الدار فجأة !
    حاول أحدهم أن يخوض في المياه وتنفيذ أوامر الخليفة ..
    كان يتصور أن ارتفاع المياه لن يعدو ذراعاً ونصف لكنه فوجىء بنفسه يغوص في لجة مالها من قرار .. فراح يضرب بجنون صفحة المياه لكن سمنته وغلظته خانتاه .. كما أن برودة المياه


247
وتعب السفر قد جعله في وضع يرثى له مد رشيق يده ليساعد صاحبه على الخروج .. وأراد الآخر أن يجرب حظه العاثر فشعر بالرعب ليغادر المياه بسرعة ووجل ..
    وظل رشيق مبهوتاً ينظر الى الرجل الذي ما انفك من صلاته وقد غمرته سكينة بعثت الرعب في قلوبهم .. هتف رشيق وقد خضع قلبه لهذا الرجل العجيب :
    ـ المعذرة الى الله واليك .. فوالله لا أعرفه قصتك .. ولا إلى من أجيء .. وأنا تائب الى الله .
    لم يلتفت الامام اليه .. شعر رشيق بأن دقات قلبه تستحيل الى طبول مجنونة .. فغادر المكان لا يلوي على شيء .
    كان المعتضد يحدق خلال ظلمة الغروب الخفيفة الى بوابة القصر ينتظر عودة رجاله .. وقد ضاعف منظر الغيوم المتراكمة في الأفق حيث ذرى النخيل من احساسه بالقلق .
    كان قد أوصى الحراس الا يعترضوا الرجال الثلاثة اذا حضروا في أي وقت حتى بعد منتصف الليل !
    أوى المعتضد الى مخدعه وألقى بنفسه فوق سرير وثير بعد أن وضع سيفه جانباً .. وصب لنفسه قدحاً من خمر قطربلي يحتفظ به لنفسه اذا ما داهمه القلق أو أراد أن يقدم على عمل خطير ..
    ان رأسه يتصدع .. مضت ساعة عندما سمع طرقاً على باب غرفته وصوت الحارس يقول :


248
ـ لقد حضروا يا مولاي !
    ـ ليدخلوا !
    كان يتوقع أنهم سيأتون اليه برأس المهدي !
    هتف :
    ـ ما الخبر ؟!
    وراح رشيق يروي له قصة لا تحدث عادة إلا في زمن المعجزات !
    ضجت الهواجس في أعماق الخليفة ؛ آه ان المهدي يتحداني ليتهم لم يعثروا على أحد .. ليته اختفى .. ان المهدي يتحدى جبروته وسلطانه .. لقد اثبت وجوده .. واثبت شجاعته أمام عدوه اللدود .. عدوه المدجج بالسلاح !
    برقت في عيني المعتضد الشرور وهو يخاطب الرجال الثلاثة :
    ـ ويحكم : لقيكم أحد قبلي .. وهل حدثتم أحداً بما حصل ؟!
    ـ كلاّ يا مولانا .
    هتف متهدداً أياهم :
    ـ لست من بني العباس إن سمعت بهذا الخبر ..
    سوف أقطع رؤوسكم اذا تحدثتم مع أحد بذلك .
    وأدار وجهه ليغادروا المكان فوراً ..
    أما هو فقد كرع كأساً أخرى .. لقد ارتكب خطأ فادحاً عندما


249
أرسل ثلاثة رجال ..
    ان المهدي مسلح بالمعجزة .. كان ينبغي ارسال قوات عسكرية لقتله .. وتوهجت عيناه حمرة سوف يوجه ضربته القادمة بجيش كبير ..


250
34
    لا أحد يدري الأوهام التي تراءت للمعتضد يوم عاد « رشيق » من مأموريته فاشلاً مبهوتاً بما رأى .. لو لم يعرف « رشيقاً » وقسوته لظن أنه ما رآه من ماء لم يكن سوى وهماً أو خداع بصر .. ثم ألم يجرب صاحباه محاولة خوض أشرفت بهما على الغرق ؟!
    قليلون جداً يعرفون ان منزل الحسن العسكري كان قد اشتراه والده الهادي من دليل بن يعقوب النصراني .. ولقد كان دليل مهندساً معروفاً في سامراء بحفر القنوات الجوفية التي تدعى آنذاك بالكهاريز (227) وهو الذي اسند اليه المتوكل مهمة شق نهر كبير شمال سامراء لتجهيز مدينته الجديدة « المتوكلية » بالمياه .
    فهل يعقل أن يترك منزله القريب من دجلة دون « كهريز » يجهزه بما يلزم من المياه ؟!
    لقد بنى دليل قصره الصغير على غرار القصورة الكبيرة ... فهو مجهز بسرداب يتوسطه حوض صغير .. وهناك « كهريز » يغذي الحوض بالمياه اضافة الى مجرى في أعلى الحوض يتجه تحت ارضية السرداب صوب الحديقة لسقي الاشجار وهو ينبع من