251
وسطها ..
    يكفي فقط التحكم في سداد حديدي لتنظيم نسبة تدفق الماء ..
    على أن هذه القنوات الجوفية تجف في موسم الصيف عندما ينخفض منسوب المياه في دجلة .. وقد يستحيل بعضها الى نفق أو مخبأ سري !
    أما لغز الحصير فلا أحمد يعرف سره هل أعد المهدي اسطوانة من الصخور على قدر الحصير بحيث يبدو الحصير طافياً على الماء !؟
    أم كان ذلك معجزة له يتحدى بها طاغية عصره ؟!
    ان للمهدي سنة من سنن الانبياء ولقد كان المسيح عيسى بن مريم يمشي على الماء .. عيسى الذي سيهبط من السماء ويصلي خلفه (228) .
    ولكن الطغاة يرون انفسهم هم الأقوى .. ولو كان رشيق وصاحباه مجهزين بالسهام إذن لا صبح المهدي في خبر كان .. بهذه الطريقة من التفكير كان المعتضد يخطط لضربته القادمة في فصل الصيف ..
    سوف يبعث بقوات عسكرية مجهزة بمختلف أنواع الأسلحة .. لقد قضى على خصوم كثيرين كانوا يشكلون خطراً على حكمه ، ولكن الخطر الحقيقي يكمن هنا في مكان ما في


252
سامراء أو بغداد .. الخطر يكمن في عقر داره لن يقر له قرار حتى يلقي القبض على المهدي أو يقتله !
    أنه امام خصم عجيب لا يعرفه أبداً لقد اختفى عن الأنظار منذ ولادته .
    نحن الآن في تموز سنة 893 م ربيع الثاني سنة 280 هـ وقوة عسكرية تصل سامراء وهدفها محاصرة منزل ابن الرضا والقبض على صاحبه .. كان رشيق يرافق الحملة العسكرية فقط محتفظاً بسره الذي لا يستطيع البوح به :
    فالحفاظ على رأسه يتطلب منه الاحتفاظ بالسر مدى حياة المعتضد (229) ..
    وانتشر الجنود في درب الحصا بطريقة تفضح رعب الدولة من وجود المهدي .. إنها لا تعرف هويته ولا تعرف مدى امكاناته ؟!
    وأُقتحم المنزل ليدلف القائد العسكري المدجج بالسلاح ويلقي نظرة على المكان .. وخيل اليه أنه يسمع صوتاً شجياً فأرهف سمعه وأشار الى الجنود بالتزام الصمت ..
    أجل أن هناك من يقرأ القرآن .. ان تلاوة القرآن تنبعث من السرداب كينبوع من ماء زلال .
    أشار القائد الى بعض الجنود باتخاذ مواقعهم قرب باب السرداب وفرض ما يشبه الحصار حتى تصل التعزيزات المتفق على وصولها ؛ ووقف الجنود كالتماثيل ينتظرون إشارة القائد .


253
    كان واقفاً في حالة من الشرود الذهني ، بعد أن توهجت في ذاكرته تفاصيل لقائه بالخليفة الذي أكد عليه خطورة مهمته وخطورة الرجل الذي سيواجهه !
    كان القائد مستغرقاً في أفكاره حتى انه لم ينتبه الى الشخص الذي غادر السرداب ..
    ورأى الجنود شاباً أسمر على خده الايمن خال .. ربعة تملأ هيبته القلوب ودهشوا لأن القائد لم يصدر أمره .
    ظلوا يراقبونه الى أن توارى عن الانظار ، وفي تلك اللحظات انتبه القائد الى نفسه بعد أن توقف صوت التلاوة ..
    وعندما استبطأ وصول التعزيزات المزمع ارسالها وحتى لا يفقد عنصر المفاجأة في الهجوم أشار الى جنوده باقتحام السرداب والقاء القبض على الرجل ..
    ودهش الجنود مرة أخرى لأن القائد يأمر بالهجوم بعدما غادر الرجل السرداب فقالوا :
    ـ أولم يمر أمامك أيها القائد ؟!
    قال القائد وقد اتسعت عيناه دهشة :
    ـ ما رأيت أحداً ..
    وأردف مستنكراً موقفهم :
    ـ ولم تركتموه يخرج ؟!
    أجاب جندي قريب منه :


254
    ـ ظننا أنك تراه ولم تأمر بالقبض عليه (230) !!
    وعض المعتضد على نواجذه وهو يستمع الى تقرير قائد الحملة .. ان المهدي يتحداهم مرة أخرى .. ويخرج من السرداب في لحظة مصيرية اختارها بدقة فالتعزيزات العسكرية لم تصل بعد والقائد ذاهل عن نفسه ، والجنود ينتظرون أوامر قائدهم ..
    زرع المعتضد جواسيس سريين لمراقبة المكان الذي تعذر العيش فيه بعد مداهمته مرتين في غضون أشهر معدودة ..
    سوف يغادر المهدي منزله سائحاً في بلاد الله العريضة لن يرتبط بمكان ما أو زمان ما .. انه يظهر في المكان الذي يريد وفي اللحظة التي يشاء .
    ولعله الآن يقطع الفلوات في طريقه الى مكة المكرمة لحضور موسم الحج الأكبر .


255
35
    في عام 281 هـ شهدت الحدود مع الروم اشتباكات محدودة ، فيما كان الخليفة المعتضد منهمكاً في فرض سطوته على اقليم الجزيرة بما في ذلك الموصل عاصمة الاقليم .
    وفي الوقت الذي شهد الحجاز فيه برد شديد وانهمار الامطار بغزارة كانت ارجاء « طبرستان » في شمال ايران تعيش تحت وطأة جفاف شديد تسبب في قحط فارتفعت اسعار المواد الغذائية بشكل جنوني (231) .
    وفي مكة التي بدأت تستقبل قوافل الحجيج توقفت أعمال الهدم في دار الندوة ريثما ينتهي الموسم (232) :
    ووصلت مكة قافلة من اصفهان فيها رجل اسمه يعقوب يبحث عن ضالته (213) ..
    وفي زقاق قريب من « سوق الليل » اكتروا منزلاً تسكنه امرأة سمراء عجوز واكتشف يعقوب ان الدار التي اكتراها رفاقه هي دار « خديجة » وتدعى الآن دار الرضا ، وأراد أن يتأكد من ذلك فانتظر مغادرة رفاقه المنزل فقال للمرأة العجوز :


256
    ـ ما تكونين من اصحاب الدار ؟ ولم سميت دار الرضا .
    قالت المرأة :
    ـ أنا من مواليهم وهذه دار الرضا علي بن موسى .. أسكننيها الحسن بن علي ، فاني كنت من خدمه ..
    وغادر يعقوب المكان موليا شطره صوب المسجد الحرام .
    وفي المساء عندما عاد رفاقه أووا جميعاً الى الرواق ودحرجوا خلف الباب حجراً كبيراً فقد يطمع لص بمتاعهم .
    كانت رياح شباط (234) تولول في الأزقة الغارقة في الظلام ، والبرد القارس يطرق النوافذ والكوى والأبواب .. والغيوم المتراكمة في السماوات تبشر بماء منهمر وبرد (235) .
    وفي منتصف الليل انتبه يعقوب الى ضوء سراج شبيه بالمشعل ، والباب تنفتح ليظهر رجل اسمر ربعة يرتدي قميصين وإزار وقد لاحت في جبينه آثار السجود ..
    إنه آخذ سمته الى الغرفة في الطابق العلوي ..
    تبادل بعضهم نظرات مشككة فقال يعقوب :
    ـ لعله رجل مثلنا اكترى الغرفة !
    رد أحدهم :
    ـ لكن العجوز أخبرتنا ان لها ابنة تقطن هذه الغرفة ، وحذرتنا من الصعود اليها !
    علق آخر :


257
    ـ العلوية يرون حلية المتعة .. ولعله قد تمتع ابنة العجوز !!
    رد آخر دون روية .
    يرتكب الحرام في البلد الحرام في الشهر الحرام !!
    أراد يعقوب أن يرد بأن المتعة ليست حرام لأن الحرام حرام محمد الى يوم القيامة والحلال حلاله وأن الذي حرم المتعة هو عمر وعمر لا يمثل شريعة الله لكنه التزم يعقوب الصمت فهو لا يريد أن يختلف مع رفاقه .. فلا جدال في الحج !
    ولكن ما أثار دهشته ان الحجر لم يكن يتزحزح عن مكانه والرجل يدخل ويخرج والحجر خلف الباب حتى مطلع الفجر !
    ساورته ظنون في أن لهذا الرجل شأن فقرر أن يستلطف العجوز ويسألها عنه ..
    في الصباح عندما غادر رفاقه المنزل تعلل في البقاء ليستكمل شد رباط حذائه ..
    قال للمرأة وكانت قد نزلت من درجات تؤدي الى الطابق العلوي من المنزل :
    ـ أحب أن أسألك من غير حضور رفاقي .. لأني لا استطيع ذلك في حضورهم .
    قالت على الفور :
    ـ وأنا أريد أن اسر اليك شيئاً فلم يتهيأ لي ذلك بسبب من معك .


258
    قال وقد فوجىء بما يسمع :
    ـ ما أردت أن تقولي ؟!
    ـ يقول لك لا تخاشن أصحابك وشركاءك فإنهم أعداؤك .. ودارهم .
    ازدادت دهشته وقال بلهجة فيها استغراب :
    ـ من يقول ؟!
    قالت العجوز وكأنها تستدرك .
    ـ أنا أقول !
    ـ أي اصحابي تعنين ؟ .. رفاقي في الحج ؟.
    ـ شركاءك الذين في بلدك وفي الدار معك .
    أدرك بأن هذه المرأة تتحدث عن أشياء عجيبة فقال لها مكرراً سؤاله :
    ـ ما تكونين أنت من الرضا ؟
    قالت المرأة :
    ـ كنت خادمة للحسن بن علي .
    آه انه يقترب من الحقيقة قرر أن يسألها عن الغائب فقال بلهجة فيها تضرع :
    ـ بالله عليك رأيته بعينك ؟ أعني الغائب !
    قالت بعد لحظات صمت :
    ـ يا أخي لم أره ولكن الحسن بن علي بشرني بإني سوف


259
أراه في آخر عمري .. وقال لي ستكونين له كما كنت لي .
    وأيقن يعقوب انه قد عثر على ضالته .. انه على قاب قوسين منه وأن الله قد من عليه في لقاء الرجل الذي غاب عن الانظار منذ اكثر من عشرين سنة .
    وكانت معه نسخة من توقيع المهدي خرج الى القاسم بن العلاء باذربيجان فقال للمرأة وهو يريها الرقعة :
    ـ تعرضين هذه النسخة على انسان قد رأى توقيعات الغائب ؟
    قالت المرأة :
    ناولني فإني اعرفها !
    قدم يعقوب نسخة التوقيع وقد ظن أنها تحسن القراءة فقالت :
    ـ لا يمكنني أن اقرأها في هذا المكان .
    فصعدت الى الغرفة في الطابق العلوي ثم عادت وهي تقول :
    ـ صحيح .
    وأردفت وهي تعيد له النسخة :
    ـ يقول لك إذا صليت على نبيك كيف تصلي ؟
    ـ أقول : اللهم صل على محمد وآل محمد وبارك على محمد وآل محمد كأفضل ما صليت وباركت وترحمت على ابراهيم وآل ابراهيم انك حميد مجيد .


260
    ـ انه يقول : اذا صليت عليهم فصل عليهم كلهم وسمهم .
    ـ سأفعل ذلك .
    وفي اليوم التالي نزلت المرأة ومعها دفتر صغير ناولته ليعقوب قائلة :
    يقول لك اذا صليت على النبي فصل عليه وعلى أوصيائه على هذه النسخة ..
    راح يعقوب يتصفح الدفتر الصغير وتوقف عند مقاطع ثائرة تندد بالظلم والفساد والانحراف :
    وراح يردد بحماس مقطعاً مؤثراً :
    ـ « اللهم صل على وليك المحيي سنتك ، القائم بأمرك .. الداعي اليك والدليل عليك ، وحجتك على خلقك ، وخليفتك في أرضك ، وشاهدك على عبادك .
    اللهم أعز نصره ، ومد في عمره ، وزين الأرض بطول بقائه اللهم اكفه بغي الحاسدين ، واعذه من شر الكائدين وادحر عنه إرادة الظالمين ، وخلصه من أيدي الجبارين .
    اللهم جد به ما محي من دينك ، وأحيي به ما بدل من كتابك واظهر به ما غير من حكمك ، حتى يعود دينك به وعلى يديه غضاً جديداً .. خالصاً مخلصاً لا شك فيه ولا شبهة معه ، ولا باطل عنده ، ولا بدعة لديه .
    اللهم نوّر بنوره كل ظلمة ، وهد بركنه كل بدعة واهدم بعزته