261
كل ضلالة ، واقصم به كل جبار .
اللهم اذل كل من ناواه ، واهلك كل من عاداه وامكر بمن كاده ، واستأصل من جحد حقه ، واستهان بأمره وسعى في اطفاء نوره ، واراد اخماد ذكره .
وشعر يعقوب بالألم يعتصر قلبه منذ أكثر من عشرين سنة وهو ما يزال غائباً ولا يُعرف له سكن ولا وطن ولا قرار .. يسيح في أرض الله الواسعة .. رأسه مطلوب ، وقد حكم عليه بالموت .. لأنه صرخة عدل مكبوتة في عالم يعج بالظلم والقهر والحرمان ..
اي انسان هو يحمل على كتفيه هموم العالم كله .. انه آخر الحجج السماوية في أرض انفصلت عن السماء فهي تهوي الى مكان سحيق لا يعرف له قرار ..
ومع ذلك فهناك أمل مشرق بغد أفضل ..
غداً تشرق الشمس وتصبح الأرض خضراء زاخرة بالدفء والنور والسلام .
هاهو يحمل معه كلمات المهدي المنددة بالظلم والفساد انه يحمل وثيقة كبرى تهتف بوجود الانسان الذي بشرت الرسالات عبر الزمن ..
وفي المساء ضم يعقوب على مطاردة خطوات الرجل الذي يحلم بلقائه منذ سنين طويلة ..
وعندما ظهر السراج يهبط من فوق السلم عرف أن هذا موعد
262
خروجه ..
كان الغسق يشهق أنفاسه الأخيرة عندما فُتح الباب .. وخرج يعقوب وراء السراج الذي كان يتجه صوب المسجد الحرام ..
وبعد أيام رأى رجالاً من بلدان شتى يأتون الى باب الدار ويسلم بعضهم رقاعاً الى المرأة ، أو يستلمون منها .
وفي الايام التالية ازدادت الامطار غزارة ، وتحدث بعضهم عن أخبار سيول اجتاحت بطون الأودية ، ومضى يعقوب مع رفاقه يستمدون للعودة ويهيئون اسباب السفر الى ايران عن طريق العراق ، وكان يعقوب قد أضمر المكوث في بغداد عدة أسابيع .
263
36
صادفت عودة قوافل الحجيج الى بغداد وصول الاميرة « قطر الندى » بنت حاكم مصر خمارويه ..
وفرض منع التجول على جانبي دجلة ، ومنع العبور من خلال الجسر ، فيما استعدت أربعة « حرّاقات » لاستقبال زورق الأميرة قطر الندى زوجة الخليفة الجديدة (236) .
وكان قد تم الانتهاء من تشييد قصر الثريا حيث ستحل الأميرة هناك .
ولم تلبث الانباء أن وصلت بغداد باغتيال خمارويه في دمشق ، في ظروف غامضة وتولي ابنه أبو العساكر مقاليد الحكم في مصر (237) .
وفي بغداد أعلن الخليفة الحادي عشر من حزيران يوماً للنيروز بدلاً من الحادي والعشرين من آذار وتسمية ذلك « نيروز المعتضدي » (238) !
وعمت بغداد حالة من التوتر بعد تجدد الاشتباكات العنيفة مع قوات الدولة العلوية في طبرستان ..
264
وكانت تقارير الجواسيس في بغداد قد أفادت بوصول مبالغ كبيرة من « محمد بن زيد العلوي » الى « محمد بن ورد العطار » لتوزيعها على العلويين في بغداد والكوفة فالقي القبض على ابن العطار وسيق الى قصر « بدر » الرجل المتنفذ بعد الخليفة .
وفي التحقيق اعترف ابن العطار .. ان مبالغ تصله سنوياً من محمد بن زيد وأنه يقوم بتوزيعها على العلويين .
ولكن المعتضد الذي اتبع سياسة تشبه سياسة المأمون في التسامح مع العلويين لكسب ودهم أمر باطلاق سراح ابن العطار وإعادة الاموال اليه وطلب منه أن يكون توزيع الأموال علنا وأن موظفي الدولة سوف يساعدوه في هذه المهمة (239) .
وفي شعبان من نفس العام صدرت تأكيدات بالقاء القبض على زوار كربلاء والكاظمين ، وكان قد سبق هذا الاجراء صدور توقيع من الامام المهدي يحذر من زيارة مرقد الحسين في كربلاء ومرقد الامام الكاظم وحفيده الجواد في مقابر قريش (240) .
وفي غمرة الاجواء الملبدة بالغيوم التزم السفير محمد بن عثمان جانب الحذر التام منهمكاً في اعماله التجارية .. ولكن الرجل الذي ظل يتردد عليه منذ شهور ويتوسل اليه أن يرى الامام قد انتصر .
ففي ذلك الصباح وقد بزغت الشمس من بين السحب الملونة حضر الرجل الذي اشترى قدراً من الزيت ونظر نظرة
265
متوسلة الى الشيخ محمد بن عثمان الذي قال له كالمعتاد :
ـ ليس الى ذلك من سبيل !
طفرت الدموع من عيني الرجل وشمر السفير أن قلبه يذوب فقال هامساً :
ـ بكر غداً !
ثم راح يسجل في دفتره بعض الحسابات فغادر الرجل وهو يكاد يطير فرحاً .
وقبل مطلع الشمس كان الرجل في طريقه الى المحل التجاري حيث يشتغل محمد بن عثمان في تجارة الزيت واذا عيناه تقعان على شاب أحسن الناس وجهاً وكان يفوح عبيراً يرتدي زي التجار وفي كمه شيء كهيئة التجار ..
أومأ العمري للرجل أنه هو .. فاتجه الرجل اليه وقد امتلأت عيناه بدموع الشوق والحنين .
وشعر ان كلماته تحترق في حضرته .. وود أن يشهق بالبكاء من أجل أن يزيح كل غيوم الحزن المتراكمة في قلبه .. أنه يقف في حضرة الانسان الذي يحمل كل هموم الانبياء وتتألق في عينيه أحلام السماء ..
وراح يسأل ويسأل .. والشاب الاسمر الذي يرتدي زي التجار يجيب .. وعندما اشرقت الشمس دلف الشاب الاسمر الى بيت متواضع من البيوت التي عادة ما يقطنها الفقراء ..
266
قال العمري للرجل :
ـ ان أردت ان تسأل فأسأل فإنك لا تراه بعد اليوم .
فانطلق ليتبعه وأراد أن يسأل ولكن الفتى الاسمر قال قبل أن يغلق الباب دونه :
ـ ملعون .. ملعون ! من أخّر العشاء الى أن تشتبك النجوم ... ملعون ملعون من أخرّ الغداة الى أن تنقضي النجوم ..
ثم أغلق الباب .
وعاد الرجل الى العمري وهو يبكي بصمت ثم قال بصوت أقرب الى الهمس :
ـ لقد أجابني قبل أن أسأل .
ومضى الرجل لا يلوي على شيء وغاب في أزقة بغداد .
وفي الضحى من نفس اليوم مر موكب تشييع قرب سوق « الوراقين » يحمل جثمان الشاعر ابن الرومي الذي اغتيل بأوامر من رئيس الوزراء لأنه انتقده في بعض الأشعار ، وتناقل الناس طريقة اغتياله بالسم (241) .
كما وصلت أخبار بتدفق آلاف المحاربين البلغار وفرضهم الحصار على القسطنطينية وكادت أن تسقط لولا استنجاد الامبراطور بالأسرى المسلمين للدفاع عن المدينة مقابل تحريرهم من الأسر (242) لكنه نكث بوعده واقترح على الدولة الاسلامية افتداء الاسرى .
267
وشهد نهر اللامس الذي يشكل الحاجز المائي بين الدولتين عملية افتداء الاسرى التي شملت ألفين وخمسمئة واربعة أسرى بما في ذلك النساء والاطفال (243) .
في ذي القعدة من سنة 283 ورد بغداد انباء عن اشتباكات في اقليم خراسان عندما شن القائد المعزول رافع بن هرثمة هجمات على الاقليم فصده محمد بن الليث الصفار حيث انتهت المعارك بمصرع رافع الذي وصل رأسه بغداد هدية للخليفة المعتضد !
وفيما وراء مضيق جبل طارق شهد الاندلس ثورة في اقليم « تدمير » واستيلاء الثوار على مدينتي « مرسية » و « لورقة » (244) .
وفي مطلع عام 284 هـ قرر الخليفة لعن معاوية بن أبي سفيان والطغمة الأموية على المنابر فاستخرج من خزانة الدولة كتاباً في لعن معاوية كان الخليفة المأمون قد أعده في خلافته ، وتم اعداد كتاب موجز أخذ من جوامع كتاب المأمون ..
وتناقل أهل بغداد أخبار عن موعد قراءة الكتاب الذي سيكون 11 جمادي الآخرة ..
قال رئيس الوزراء الذي حرر بنفسه نسخة الكتاب :
ـ انني أخشى وقوع اضطرابات بسبب الكتاب .
ـ إذا تكلم أحد فسيكون جوابه السيف ..
وقبل يوم الخميس اتصل رئيس الوزراء برئيس سلطة
268
القضاء يوسف بن يعقوب القاضي وطلب منه اقناع الخليفة بالانصراف عن قراره فدخل القاضي على المعتضد قائلاً :
ـ اني أخاف أن تضطرب العامّة عند سماعها هذا الكتاب .
قال المعتضد :
ـ ان تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها .
قال القاضي يحذره من الطالبيين لأن الكتاب سيكون في صالحهم :
ـ يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين يثورون في كل ناحية ؟ وكثير من الناس يميلون اليهم لقرابتهم من الرسول ومآثرهم ؟! وفي هذا الكتاب إطراء لهم .. فإذا سمع الناس هذا الكتاب كانوا إليهم أميل ، وكانوا هم أبسط ألسنة واثبت حجة منهم اليوم ..
أطرق المعتضد والتزم الصمت المطبق .. أجل ان الكتاب سيجعل الناس اكثر ايماناً بهم واكثر حماساً لحركاتهم وثوراتهم .
وفي منتصف شعبان وقع حادث غريب عندما ظهر تحت جنح الظلام شخص مسلح في قصر الثريا الذي انتقل اليه المعتضد رسمياً منذ زفاف « قطر الندى » وعندما أراد أحد الخدم أن يتعرف على هويته ضربه الشخص بالسيف فقطع حزام الخادم الذي فر مذعوراً ..
ثم توارى الشخص المجهول في حدائق القصر ! وشعر المعتضد بالرعب وهو يصدر أوامره الى الحرس بالبحث خلال
269
الاشجار واستمر البحث حتى مطلع الفجر ولكن لم يعثر له على أثر !!
ثم ظهر ثانية بعد ليالي أخرى .
وعززت أسوار القصر بمادة هشة تحسباً من استخدام كلاليب التسلق .. كما أمر الخليفة بأحضار من في السجن من اللصوص ليناقشهم في امكانية الدخول الى القصر تسلقا أو نقباً (245) ؟!
وتناقل الناس حكايات حول هذا الشخص وأنه ربما كان من الجن ظهر للخليفة بسبب ايغاله في سفك الدماء .. وانه ربما كان شيطاناً أو من مؤمني الجن .
وكان الجواسيس ينقلون اليه بعض ما يتناقله الناس ولكن المعتضد يبدو قد صدق حكاية الخادم الذي وقع في هوى إحدى جواري القصر وانه يتناول بعض العقاقير الخاصة فلا يدرك بحاسة البصر (246) !
وعمد المعتضد الى تعذيب بعض الخدم والجواري حتى الموت والقى في السجن آخرين .
وكان المعتضد تشتد هواجسه وقلقه عندما يحل المساء الخريفي ففي منتصف الليل عاود ذلك الشيخ الى الظهور مرة أخرى في رمضان وكانت الابواب تفتح وتغلق ..
وكان المعتضد يركض كالمخبول في أروقة القصر فكان يراه
270
مرة في صورة راهب ذي لحية بيضاء وتارة في صورة شاب حسن الوجه بلحية سوداء وتارة في صورة شيخ يرتدي زي التجار وتارة أخرى بيده سيف مسلول (247) .
وأصبح المعتضد فيما يبدو في حالة نفسية متدهورة حتى أنه أمر باحضار المجذوبين والمجانين والمعزمين فاحضروا وكانت فيهم امرأة .
ان أحداً لا يدري هل كان الشيخ الذي كان يراه الخليفة حقيقة أم ان ما يراه لا يعدو أن يكون اشباح ضحاياه تتراءى له في قلب الظلام ..
لقد كان الخليفة يشرف شخصياً على مختلف الطرق في التعذيب الوحشي .. فكانت مشاهد التعذيب البشعة مما لا يمكن احتمالها لدى انسان فيه بقيا من الانسانية (248) .
وسيبقى ما رآه الخليفة في قصر الثريا لغزاً من ألغاز التاريخ !