271
37
    في عام 285 هـ وقعت معارك بحرية في البحر الابيض المتوسط انتصر فيها الاسطول الاسلامي ..
    شهدت بلاد الاندلس مجاعة وما لبث الوباء أن اجتاح مناطق واسعة حصد فيها أرواح الكثيرين .
    وشهد جنوب العراق عواصف عنيفة اقتلعت المئات من أشجار النخيل .. كما شهدت الكوفة أمطاراً رعدية واستمر اشتعال البروق ساعات طويلة وسقطت بعد توقف الامطار حجارة سود وبيض في قرية تدعى « أحمد آباد » (249) .
    وبعد انتهاء موسم الحج شنت قبائل طيء غاراتها على طريق العراق .
    وكان « الحسن بن وجناء النصيبي » ما يزال يطوف حول الكعبة في رابع وخمسين حجة له يتمنى لقاء الامام الغائب الذي تأكد لديه أنه يظهر في مواسم الحج ..
    ولكن من أين يعلم بحالي أو يكترث لي ؟! آه لقد تعبت من هذه الدنيا كل ما فيها وهم وباطل !


272
    كان ما يزال ساجداً بعد أدى صلاة العشاء تحت الميزاب .. يتضرع الى الله .. عندما شعر بيد تحركه وصوت امرأة تخاطبه باسمه :
    ـ قم يا حسن بن وجناء النصيبي !
    رفع ابن وجناء رأسه ليرى امرأة صفراء يبدو عليها قد اجتازت الأربعين من عمرها ..
    أخذت سمتها خارج المسجد الحرام ، وراح ابن وجناء يتبعها ساكتاً لكأن قوة ما تشده الى باتجاهها فهو يترسم خطاها حتى اذا وصلت دار خديجة فإذا باب وسط يرتفع عن جادة الطريق وسلم قصير يؤدي اليه ..
    صعدت الجارية وتوقفت عند الباب ودلفت ثم سمع ابن وجناء من يناديه :
    ـ اصعد يا حسن .
    وصعد الرجل الذي هدته السنون .. ليتوقف عند عتبة الباب بعد أن أدرك ان من يناديه هو الغائب الذي ينتظر ظهوره ليملأ الأرض بالعدالة والدفء .. إنه يتمنى في أخريات حياته أن يركن قليلاً الى الراحة في دنيا تموج بالفتن وتزدحم بالغيوم .
    وعندما دلف قال له الامام :
    ـ يا حسن أتراك خفيت علي .. والله ما من وقت في حجك إلا وأنا معك فيه .


273
    وراح يذكره بمشاهد قديمة ما تزال عالقة في الذاكرة ..
    شعر الشيخ بأن عقله يتأرجح كقارب وسط الامواج ولم يعد بمقدوره أن يتماسك وغامت المرئيات أمامه ليفقد وعيه تماماً .
    لم يدر كم مضى من الوقت عندما انتبه الى كف دافئة تلامس وجهه .
    وهمس الامام في أذنه بمحبة لكأنه يقرأ كل خلجات نفسه :
    ـ يا حسن ! إلزم دار جعفر بن محمد ولا يهمك أمر طعامك ولا شرابك ولا ما يسترك .
    ثم ناوله دفتراً صغيراً فيه دعاء وقال :
    ـ بهذا فادع ، ولا تعطه أحداً إلاّ محقي أوليائي ..
    وان الله جل جلاله موفقك .
    قال الشيخ وهو قد غمرته مشاعر الحب لهذا الانسان الطاهر الذي يبدو كملاك يبعث الطمأنينة في قلب من يراه :
    ـ مولاي ألا أرك بعدها ؟
    أجاب الامام :
    ـ يا حسن إذا شاء الله ..
    وفي اليوم التالي كان ابن وجناء يقطع الأودية متجهاً الى مدينة الرسول والى دار جعفر بن محمد الصادق ليقضي أيام شيخوخته بسلام (250) .
    ومنذ مطلع سنة 286 هـ كانون الثاني عام 899 م تلاحقت


274
الاحداث بشكل مذهل ، حيث ظهر القرامطة فجأة لتشكل لهم دولة انطلقت من البحرين ، وأعادت الى الأذهان مآسي ثورة الزنوج في جنوب العراق والفتن التي هزت البلاد الاسلامية .
    فيما شهد عام 287 هـ اندلاع الحروب المدمرة في شمال ايران ولتسري نارها الى تخوم خراسان وفي هذه الحروب يلقى محمد بن زيد العلوي مصرعه متأثراً بجراحه وانتهت بموته الدولة العلوية في طبرستان لتنهض على انقاضها الدولة السامانية .
    وفي هذا العام توفيت الأميرة « قطر الندى » ولما تبلغ العشرين بعد ! مما أثار موجة من الهمس داخل قصر الخلافة وخارجه !!
    ثم أطل عام 288 هـ ليشهد الشمال الافريقي ظهور رجل يدعي أنه المهدي (251) !!
    وهزت البصرة في هذا العام زلالزل مدمرة مع هبوب عاصفة هوجاء اقتلعت اشجار النخيل ..
    فيما اجتاح الوباء مناطق في اقليم آذربيجان حتى اذا حل عام 289 هـ اذا بالخليفة المعتضد يودع الدنيا ويترك ما جنته يداه من مجد دنيوي زائل وقصوراً بل ويترك ملكاً عريضاً ويخرج من الدنيا عارياً كما جاءها أول مرة !!
    وفي نفس الوقت توفى ابراهيم الأغلبي الحاكم العام للشمال الافريقي الذي أصيب بمرض الفصام فارتكب أعمالاً


275
وحشية في القتل طالت كثيراً من الكتاب والحجاب وشملت بعض نسوته واثنين من أبنائه وثمانية أخوة له وست عشرة من بناته !
    كما قتل في يوم واحد ألف جندي من جنوده .
    ومات على أسوار قلعة « كسوستنزا » في صقلية .
    وبدأ رعب القرامطة الذين سيعيثون في الأرض الفساد ، خاصة بعد غاراتهم على دمشق وفرض الحصار عليها وتهديدهم باجتياح الكوفة (252) .


276
38
    تنفس أهالي بغداد الصعداء بعد تولي الخليفة الجديد الملقب بـ « المكتفي » مقاليد الخلافة بعد أبيه وبدأ حكمه باصداره الأوامر في اعادة جميع البساتين التي صادرها أبوه لبناء قصر جديد ...
    ولكن ما لبث أهل بغداد أن شاهدوا بدء اعمال البناء في قصر التاج الى جانب قصر الثريا ..
    فيما عم الحزن بيوتات الشيعة برحيل أبي جعفر القمي محمد بن الحسن الصفار الأعرج مخلفاً سفره الخالد : « بصائر الدرجات في علوم آل محمد » (253) .
    وفي عام 290 هـ عصفت غارات القرامطة على الديار السورية وارتكابهم المجازر في حمص .
    وشهد البحر الابيض المتوسط معارك بحرية ضارية بين الاسطول الاسلامي الذي انطلق من طرسوس واساطيل الروم التي انكفأت هاربة فيما اندفع الاسطول الاسلامي باتجاه القسطنطينية ، ثم يوجه هجماته على سالونيك المدينة الثانية بعد العاصمة .


277
    وفي المغرب العربي اغتيل يحيى الثالث زعيم دولة الادارسة ..
    واندثرت الدولة الطولونية في مصر ... واشتدت دعوة عبد الله الشيعي ، وبدا واضحاً أنه سوف ينجح في تدمير دولة الأغالبة وتأسيس دولة جديدة هي الدولة الفاطمية ...
    المهدي الغائب يشهد قيام الدول واضمحلالها .. يواكب حركة الاحداث وقوانين التاريخ .. يشهد صعود الكيانات الى الذرى وسقوطها الى الحضيض .. وإذا كان جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اخترق الفضاء والزمن في رحلة الاسراء والمعراج ليرى ملكوت السماء فإن حفيده سيشهد كل اللحظات الحاسمة في حركة التاريخ ويتشرب قوانين الطبيعة .. ويرسم مستقبل الاسلام باتجاه اليوم الموعود .. والغد الأخضر .
    انه يواكب حركة المجتمع الاسلامي ، كشمس تبعث دفنها من وراء الغيوم .. كبنفسجة يشم الجميع أريجها ولا يراها أحد .. كنجم بعيد يهتدي به الحيارى في بحار الظلمات .
    نحن الآن في موسم الحج سنة 293 تشرين الأول عام 905 م وقد هوت افئدة الناس من كل حدب وصوب تطوف حول كعبة التوحيد ، وتشكو الى الله ظلم الانسان لأخيه الانسان .. تشكو الى بارئها رحيل السلام .. تتأوه من محنة القرامطة الذين عاثوا في الأرض الفساد وقهروا العباد ..


278
    يشكوا الى ملك السماوات والأرض تعسف الولاة وظلم الحاكمين وعدوان المعتدين 254 .
    وقد انتشر الناس في أطراف المسجد الحرام فيما كان النهر البشري يطوف حول الكعبة .
    اليوم هو السادس من ذي الحجة سنة 293 هـ أيلول سنة 906 م وشاب أسمر يرتدي زي الاحرام ينفصل عن جموع الطائفين ويتجه صوب مجموعة من الحجيج جالسين حول بعضهم وفيهم رجل علوي ..
    نهض الجميع أجلالاً للشاب الاسمر ، فحيا بأدب الجميع ثم جلس بينهم .. والتفت يميناً ثم شمالاً وقال بلهجة فيها تساؤل :
    ـ أتدرون ما كان أبو عبد الله يقول في دعاء الالحاح ؟
    ـ وما كان يقول ؟
    وراح الشاب يقرأ بخشوع دعاءاً مأثوراً هو تجسيد حي لعقيدة التوحيد :
    ـ « اللهم إني أسألك باسمك الذي به تقوم السماء وبه تقم الأرض وبه تفرق بين الحق والباطل .. وبه احصيت عدد الرمال ..
    وزنة الجبال .. وكيل البحار .. ان تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي من أمري فرجاً » ..
    ونهض الشاب ليندمج مرة أخرى في النهر البشري الذي ما انفك يطوف حول بيت الرب .


279
    ساد الصمت وكانوا جميعاً يفكرون في هوية الشاب الذي تملأ هيبته النفوس .
    وفي اليوم التالي يتكرر نفس المشهد ... ويجلس الشاب بينهم .. يلتفت يميناً ثم شمالاً ويقول :
    ـ أتدرون ما كان يقول أمير المؤمنين بعد صلاة الفريضة .
    ـ وما كان يقول ؟
    ـ كان يقول : « إليك رفعت الأصوات وعنت الوجوه ولك وضعت الرقاب .. واليك التحاكم في الأعمال .. يا خير من سئل ويا خير من أعطى .. يا صادق يا بارىء يا من لا يخلف الميعاد .. يا من أمر بالدعاء ووعد بالاجابة ، يا من قال « ادعوني استجب لكم » يا من قال : « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون » .
    ويا من قال : « يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم » .
    لبيك وسعديك ، ها أنا ذا بين يديك المسرف ؛ وانت القائل : ( لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً ) .
    ونظر جهة اليمين ثم الشمال وقال :
    ـ أتدرون ما كان أمير المؤمنين يقول في سجدة الشكر ؟
    ـ ما كان يقول ؟!
    ـ كان يقول :


280
    « يا من لا يزيده كثرة الدعاء إلاّ سعة وعطاء .. يا من لا تنفذ خزائنه .. يا من له خزائن السماوات والأرض .. يا من له خزائن ما دق وجل لا تمنعك اساءتي من احسانك .. انت تفعل بي الذي أنت أهله .. انك انت أهل الكرم والجود ، والعفو يا رب .. يا الله ! لا تفعل بي الذي أنا أهله .. » .
    وغادر المكان فيما كانت الكلمات الخاشعة تدخل قلوب المؤمنين اما الفتى فقد غاب في جموع الطائفين ..
    وفي اليوم التالي وقد صادف يوم التروية يتكرر ذات المشهد السابق ..
    قال الفتى وقد استقر في جلوسه ونظر ذات اليمين وذات الشمال :
    ـ كان علي بن الحسين سيد العابدين يقول في سجوده في هذا الموضع ..
    وأشار بيده الى الحجر تحت الميزاب : « عبيدك بثنائك مسكينك بفنائك .. سائلك بفنائك .. يسألك ما لا يقدر عليه غيرك » .
    وهملت عيون المؤمنين بالدموع لكلمات رقيقة يناجي فيه المؤمن ربه ..
    التفت الفتى الأسمر الى الرجل العلوي قائلاً :
    ـ يا محمد بن القاسم ! أنت على خير إن شاء الله ..
    ونهض متجهاً الى النهر البشري الذي ما انفك يدور حول