281
الكعبة .. فيما ظل محمد بن القاسم يلهج بدعاء سيد العابدين .
    وانتبه أحدهم وكانه يتذكر شيئاً :
    ـ يا قوم : اتعرفون هذا الفتى ؟!
    ونظروا اليه متسائلين فقال :
    ـ هذا والله صاحب زمانكم !
    سأل أحدهم مشككاً :
    ـ وكيف علمت يا أبا علي ؟
    قال أبو علي المحمودي :
    ـ لقد مكثت سبع سنين أدعو ربي وأسأله رؤية صاحب الزمان ..
    واعتصم الحاضرون بالصمت .. الصمت الذي يعبر عن انسحاب للباطن والتأمل في كل ما قاله الفتى الأسمر خلال الأيام الثلاثة ..
    وعلى سفح جبل عرفات في يوم عرفة يقف الفتى الأسمر ماداً كفيه باتجاه السماء في جهة الكعبة ، وكلمات خاشعة مؤثرة تنساب هادئة :
    ـ « الهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك ؟!
    متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك ؟!
    ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك ؟!
    عميت عين لا تراك ! »


282
« الهي :
    ماذا فقد من وجدك ؟!
    وما الذي وجد من فقدك ؟!
    اقترب رجل انصاري كان حاضراً بالأمس قال مستفسراً :
    ـ من تكون يا أخي .
    ـ من الناس !
    ـ من أي الناس ؟
    ـ من أي عربها .
    ـ من عربها ؟
    ـ من أشرفها .
    ـ ومن هم ؟
    ـ بنو هاشم .
    ـ من أي بنو هاشم ؟
    ـ من أعلاها ذروة وأسناها .
    ـ ممن ؟
    ـ ممن فلق الهام وأطعم الطعام ، وصلى والناس نيام .
    أدرك الانصاري أن هذا الفتى علوي ، فشعر نحوه بالمودة وغادر الفتى المكان بهدوء حتى أن الانصاري لم يشعر به كيف ومتى ... فسأل الذين كانوا حوله :
    ـ أتعرفون هذا العلوي ؟


283
    ـ نعم لقد حج معنا ماشياً .
    قال الأنصاري بدهشة .
    ـ سبحان الله ؟ ما أرى به أثر مشي !!
    وانصرف الانصاري الى المزدلفة وقد غمرته مشاعر حزينة لقد توارى الرجل الغائب ولن يراه ..
    وهناك عندما ينام تحت السماء المرصعة بالنجوم يرى عالم في الرؤى رسول الله يقول له :
    ـ يا أحمد رأيته .
    ـ ومن هو يا سيدي ؟
    ـ الذي رأيته عشيتك هو صاحب زمانك .
    وفي يوم الأضحى عندما كان يحدث رفاقه عاتبه بعضهم لأنه لم يخبرهم (255) .
    وفي هذا العام حج رجلان ايرانيان أحدهما من خراسان والآخر من قم ، وكلاهما يبحثان عن الامام الغائب الذي تأكد لهما أنه يظهر في موسم الحج فلما انطوى الموسم ذهبا الى المدينة المنورة .
    انطلق الرجل القمي الى رجل علوي يتهامس الكثيرون بأنه يعرف مكان الامام فتعرف عليه وتوطدت بينهما عرى الصداقة قال القمي ذات يوم .
    ـ يا بن رسول الله بحق آبائك الطاهرين لما جعلتني مثلك


284
في هذا العلم بهذا الأمر .. فقد شهد عندك من توثقه أن الوزير « القاسم بن عبد الله » أراد قتلي بسبب مذهبي واعتقادي فسلمني الله .
    قال الرجل العلوي بلهجة من يكتم سراً عظيماً :
    ـ يا أخي اكتم ما تسمع مني .. الخبر في هذه الجبال وإنما يرى العجائب الذين يحملون الزاد في الليل ويقصدون به مواقع يعرفونها ..
    وسكت لحظات ليقول :
    ـ وقد نهينا عن الفحص والتفتيش (256) ..
    ونهض الرجل القمي ليودع صاحبه وينصرف .
    أما الرجل الخراساني فقد لقي مصرعه في طريق العودة عندما أغار القرامطة بقيادة زكرويه بن مهرويه على قافلة خراسان وأُرتكبت مذبحة وحشية بحق الحجاج العائدين من زيارة البيت العتيق (257) .


285
39
    مرت عشرة أعوام مليئة بالحوادث العاصفة فقد أغار القرامطة على الحجاج العائدين الى الديار العراقية ، وارتكبوا مذبحة كبرى (258) .
    وأغار بعد شهور أعراب بنو تميم على حلب وعاثوا فيها فساداً .. وتوفى الخليفة المكتفي فبويع أخوه وله من العمر ثلاث عشر سنة لتدخل أمه « شغب » وتعيد الى الأذهان قصة زوجة المتوكل « قبيحة » التي كانت تحكم من وراء ستار .
    ولم يلبث الحكم الجديد أن واجه بعد أسابيع حركة مضادة وتم خلع « المقتدر » ومبايعة عبد الله بن المعتز ابن قبيحة بالخلافة وتسميته « الراضي » .
    وجلس المعتز على دست الخلافة والحكم أربعاً وعشرين ساعة فقط (259) توعد خلالها العلويين (260) والشيعة بالويل والثبور .
    وشاء الله أن تدور عليه دائرة السوء إذ أعاد أنصار المقتدر وأمه شغب صفوفهم بقيادة « مؤنس » الخادم وفرضوا سيطرتهم


286
على الوضع ففر ابن المعتز ليختفي في منزل ابن الجصاص « الجوهري » فألقي القبض عليه وعلى وزيره ابن الجراح وتمت تصفية ابن المعتز خنقاً وسلمت جثته الى أهله مع محضر رسمي يؤكد وفاته في ظروف طبيعية !
    وظهرت الدولة الفاطمية قوية لتبسط نفوذها على الشمال الافريقي على انقاض الدولة الطولونية ودولة الأغالبة والدولة الرستمية .
    وفي عام 297 هـ اتخذت تدابير تمنع اشتغال اليهود والنصارى إلا في الطب والصيرفة .. كما نهض قصر « الشجرة » مجسداً بذخ الخليفة وأمه فقد توسطت بركة القصر شجرة من الذهب والفضة !
    وفي تلك الفترة الاسطول الروماني يهاجم جزيرة « كريت » ويرتد على اعقابه مندحراً في أول اشتباك مع الاسطول الاسلامي .
    وفي عام 299 هـ هزت القيروان زلازل مدمرة فيما انتشرت الاوبئة في بغداد .
    وفي عام 301 هـ القي القبض على الحلاج في مدينة سوسة بتهمة الالحاد وارسل مخفوراً الى بغداد ..
    واستعاد العلويون بقيادة الحسن بن علي المعروف بالاطروش نفوذهم في اقليم الشمال الايراني « طبرستان » .
    فيما قام الحمدانيون الذين أسسوا دولتهم في اقليم


287
الجزيرة الذي يضم أراض سورية وعراقية بغزو للاراضي التي تخضع تحت حكم الروم .. واستمرار غارات القرامطة على طرق الحج .
    وشهد عام 302 ارتفاع منسوب المياه في دجلة واغراقه عدداً كبيراً من منازل العاصمة ، التي شهدت حرائق أتت على احياء بكاملها .
    الأرض الاسلامية تهتز بعنف وفي غمرة هذه الاحداث برز سياسيون طموحون ، استغلوا فكرة المهدي المنقذ فادعوا شخصيته أو السفارة عنه !!
    فهناك رجل قرمطي ظهر في اليمن داعياً للمهدي المنتظر ويستولي على مدينتي زبيه وصنعاء (261) .
    وقيام دولة في الشمال الافريقي بعد أن قدم الداعية أبو عبد الله الشيعي رجلاً علوياً الى قبائل البربر على أنه المهدي الموعود فتأسست دولة كبرى مترامية الاطراف بينما آلاف العمال والمهندسين ينهمكون في بناء عاصمة الدولة الجديدة واسمها « المهدية » (262) وقد بدأ العمل فيها في ذي القعدة سنة 303 هـ ابريل سنة 916 م .
    وخلال تلك المدة يعلن الحلاج ذلك الرجل الغامض في اوساط الشيعة انه سفير الامام المهدي .. انه الآن يحاول تعزيز نفوذه بكسب تأييد الزعيم والعالم الشيعي أبي سهل بن اسماعيل


288
بن علي النوبختي والذي يمت برابطة النسب الى الشيخ الحسين ابن روح النوبختي (263) ، فسطر اليه رسالة وحملها أحد مريديه ..
    وعندما فض النوبختي الرسالة إذا فيها :
    ـ « اني وكيل صاحب الزمان .. وقد أمرت بمراسلتك ، وإظهار ما تريده من النصرة لك .. لتقوى نفسك ولا ترتاب بهذا الأمر !
    طوى العالم الرسالة وقد ارتسمت ابتسامة ساخرة فوق شفتيه وقال للرسول :
    ـ هذه المعجزات التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل ..
    قل له : إني اسألك أمراً يسيراً يخفّ مثله عليك ..
    أنا رجل غزل ولا لذة لي اكبر من النساء . وأنا مبتلى بالصلع حتى انني اطول قحفي وآخذ به الى جبيني .. ومبتلى بالخضاب لأستر الشيب ..
    فإن يصل لي شعراً ورد لحيتي سوداء بلا خضاب .. آمنت بما يدعوني اليه كائناً ما كان ..
    وسكت لحظات ليردف :
    ـ ان شاء قلت انه باب الامام .. وإن شاء قلت انه الامام .. وان شاء قلت انه النبي .. وإن شاء قلت انه الله !
    وعندما سمع الحلاج بجواب النوبختي شعر باليأس فسطر رسالة الى عالم شيعي يقطن في مدينة قم هو الشيخ علي بن الحسين بن بابويه المحدث .. ولم يصبر حتى انتظار الرد فشد


289
الرحال اليه !
    كان الشيخ الوقور جالساً في المسجد قد انفتل من صلاة العصر .. عندما جاء أحدهم ليسلمه رسالة الحلاج وفيها :
    « أنا رسول الامام ووكيله ..
    مزق ابن بابويه الرسالة وقال للرسول :
    ـ ما أفرغك للجهالات ؟!
    ونهض متجهاً الى دكانه في سوق التجار .. وعندما ولج الدكان نهض الذين كانوا بانتظاره .. ما خلا رجل واحد ظل جالساً رمق ابن بابويه الرجل الذي يرتدي ثوباً من الصوف بطرف عينه واتجه الى مكانه ، وأخرج سجلاً كبيراً وأحضر الدواة ليستأنف عمله التجاري .. وقبل أن يشرع بالعمل سأل من أحدهم عن الرجل الجالس ..
    عندها قال الحلاج :
    ـ تسأل عني وأنا حاضر ؟!
    قال ابن بابويه :
    ـ أكبرتك ايها الرجل ، وأعظمت قدرك أن اسألك !
    قال الحلاج كمن قد مسته شطحة صوفية :
    ـ تخرق رسالتي وأنا اشاهدك تخرقها !!
    هز ابن بابويه رأسه وقال بازدراء :
    ـ فأنت الرجل إذن ؟!


290
    والتفت الى غلامه :
    ـ اسحبه من رجله يا غلام !
    وسحب الحلاج من رجله الى الشارع .. وكانت صدى ضحكات الهازئين تصك أذنيه .. واختفى من قم الى الأبد ليظهر في الاهواز ، وفي عام 301 القي القبض عليه بتهمة الالحاد والشعوذة وسيق مخفوراً الى بغداد بأمر من الخليفة حيث تم توقيفه لحين محاكمته فلبث في السجن عدد سنين .
    فيما القى المؤرخ الطبري قلمه جانباً بعد أن سجل آخر حادثة في تاريخه الطويل مختتماً إياه بغارات الأعراب وقطع الطريق على إحدى القوافل في ضواحي مكة سنة 302 هـ (264) .