291
40
    بغداد تستعد لاستقبال سفير الامبراطور قسطنطين السابع لتوقيع اتفاق يوقف العمليات الحربية والاشتباكات الحدودية ..
    بينما وصلت أنباء مثيرة عن استيلاء عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية على جميع أقاليم دولة الادارسة التي انتهت مع استسلام يحيى بن ادريس الادريسي ..
    كما وصلت انباء عن مصرع الثائر والعالم الزيدي المعروف بالاطروش ونهاية الدولة العلوية في طبرستان ..
    كان الشيخ محمد بن عثمان قد ظهرت عليه الشيخوخة وتقدم العمر وما ينوء به من الهموم ..
    وبدأ يرشد من يأتيه بالحقوق الشرعية الى أحد اصدقائه من علماء بغداد وهو الحسين بن روح النوبختي ، وذلك بأمر من الامام المهدي (265) .
    أما هو فقد بدا انه يستعد لسفر طويل فهو يعد زاد الآخرة ..
    نحن الآن في ربيع الأول 305 هـ أيلول 917 م ومحمد بن عثمان يتلو القرآن في مكان عجيب .. لقد حفر لنفسه قبراً في داره


292
الواقعة في شارع باب الكوفة (266) .
    ويزوره في ذلك الاصيل الخريفي رجال من الشيعة يتفقدون أمره ..
    تساءل أحدهم عن سر ذلك ؟! خاصة عندما وقعت عيناه على ساجة خشب نقشت عليها آيات من القرآن الكريم تؤطرها أسماء الائمة من أهل البيت عليهم السلام :
    ـ لم حفرت لنفسك قبراً وما هذا الساج ؟
    قال الشيخ :
    ـ للناس اسباب .
    ـ أعرف ذلك فما السبب ؟!
    قال الشيخ في لهجة من يستعد للرحيل :
    ـ قد أمرت أن أجمع أمري !
    ـ فإلى من بعدك ؟
    قال الشيخ وهو يثبت وصيته رسمياً :
    ـ الأمر الى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي .. فقد أمرت أن اجعله في موضعي بعدي .. فارجعوا اليه .. وعولوا في أموركم عليه (267).
    ويزوره في نفس اليوم رجل آخر ومعه مبلغ قدره أربعمئة دينار ..


293
    قال الرجل واسمه ابو عبد الله جعفر المدائني :
    ـ هذه اربعمئة دينار للامام .
    ـ امض بها الى الحسين بن روح .
    قال المدائني بدهشة :
    ـ لقد اعتدت على تسليمها اليك ؟
    رد الشيخ مستنكراً موقفه :
    ـ قم عافاك الله فادفعها الى الحسين بن روح !
    وعندما أراد أن يناقشه رأى سحابة غضب تطوف جبين الشيخ الوقور فنهض .. وركب بغلته صوب منزل ابن روح ..
    ساورته الشكوك فابن روح لم يكن من أصدقاء الشيخ المقربين .. لو قال له اذهب بالمبلغ الى ابي جعفر أحمد بن متيل أو ابنه جعفر لتفهم ذلك .. ان الجميع يتوقع أن يكون أحدهما سفيراً بعد الشيخ ..
    لوى عنان دابته عائداً نحو منزل محمد بن عثمان وطرق الباب مستأذناً ..
    خرج الخادم مستفسراً عن القادم فقال :
    ـ قل له المدائني يطلب الإذن بالدخول .
    غاب الخادم لحظات ليعود :
    ـ ان سيدي يتعجب من عودتك .
    ـ استأذن لي .. لابد من لقائه ..


294
    ومرة أخرى غاب الخادم ليعود قائلاً :
    ـ ادخل !
    وقاده الخادم الى حجرة الاستقبال ..
    والفى الشيخ جالساً على سرير منسوج من خوص وسعف النخل وما زال نعلاه في قدميه .. لأنه قد عاد تواً من حجرة النساء ..
    قال الشيخ مستنكراً عودته .
    ـ ما الذي جرأك على الرجوع .. ولم لم تمتثل ما قلته لك ؟!
    ـ لم أجسر على ما رسمته لي !
    قال بغضب :
    ـ قم عافاك الله .. فقد أقمت أبا القاسم الحسين بن روح مقامي ونصبته منصبي .
    رد متسائلاً :
    ـ بأمر الامام ؟!
    نهض الشيخ وهو ينهي اللقاء :
    ـ قم عافاك الله .. كما أقول لك .
    ونهض المدائني وقد تبددت سحب الشك والتردد في أعماقه .. فانطلق الى منزل ابن روح الذي أشرقت اسارير وجهه وهوى ساجداً لله شكراً .
    وفي جمادي الأولى بعد شهرين تدهورت صحة الشيخ


295
محمد بن عثمان ، فأرسل وراء جمع من زعماء الشيعة وفي طليعتهم أبو سهل اسماعيل النوبختي ، وأبو جعفر أحمد بن متيل وأبو عبد الله بن محمد الكاتب ، وعبد الله بن الوجناء والحسين بن روح وكان واضحاً أن الرجل يودع الحياة .. جلس ابن متيل عند رأسه ، وجلس الحسين بن روح عند قدميه واتخذ الباقون أماكنهم قربه ..
    قال الشيخ بصوت فيه حشرجة الرحيل وخطورة البلاغ الأخير :
    ـ هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي ! القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر ، والوكيل والثقة الامين فارجعوا اليه في أموركم وعولوا عليه في مهماتكم .. بذلك أمرت .. وقد بلغت !
    وفي خطوة لا تصدر إلا عن نفس امتلأت علماً مضيئاً نهض ابن متيل من مكانه ليأخذ بيد الحسين بن روح ويجلسه في مكانه عند رأس الشيخ ثم ليجلس هو عند قدميه ..
    وابتسم الشيخ الوقور رضاً وتألقت عيناه بنور سماوي ..
    وشعر الحاضرون بالحب لهذا الرجل الذي كان الجميع يعتقدون بأنه سيكون هو السفير الثالث بعد رحيل الشيخ وعندما اُنتخب ابن روح سلّم له الأمر وأصبح أشد المخلصين له (268) .
    ويتصدى ابن روح لهذه المهمة الخطيرة في زمن عمت فيه


296
الفوضى وسادت فيه روح الطائفية خاصة العاصمة بغداد .. واصبحت الخلافة العوبة بيد النساء والخدم ..
    فقد اصبحت « شغب » ام الخليفة وكانت جارية صاحبة النفوذ المطلق في تسيير شؤون الحكم ، واضحى للخدم من الدرجة الثالثة نفوذ كبير .. فـ « ثمل » يتولى قيادة الاسطول الاسلامي أما « ثمال » فقد اسندت اليها رئاسة محكمة الاستئناف (269) !
    وفي عام 306 عمت الفوضى بغداد بسبب فتنة وقعت .. كان الحنابلة طرفاً فيها .. فانتهز اللصوص والعيارون الفرصة وتعرضت الاسواق للنهب والسلب !
    وفي عام 307 منح الخليفة رئيس الوزراء مسؤولية الخراج في العراق وأجزاء واسعة من ايران .. فيستغل « حامد بن العباس » ذلك ويحتكر الغلال .. وترتفع اسعار المواد الغذائية بشكل جنوني مما أدى الى انفجار غضب شعبي في بغداد التي عمتها الاضطرابات ، وأحرقت الجسور وكسرت أبواب السجون .. واضطر الخليفة الى فسخ الضمان وفتح أبواب المخازن العائدة لرئيس الوزراء و « شغب » أم الخليفة .. فأدى ذلك الى رخص الاسعار وانتهاء الأزمة ..
    وفي نفس العام تتعرض مدينة البصرة الى غارات القرامطة الذين نهبوا المدينة وقتلوا بعض السكان .
    وشهد عام 308 صعد نجم بني حمدان الذين سيؤسسون


297
دولتهم في شمال العراق وسوريا .. كما دخل أبناء « بويه » التاريخ عندما دخل الابناء الثلاثة مؤسسة الجيش العباسي .
    وفي مطلع عام 309 وصل بغداد وفد « بلغاري » يحمل رغبة من ملك البلغار في ارسال بعثة لشرح تعاليم الاسلام وفي نفس الوقت بدأت محاكمة الحلاج بتهمة الالحاد والزندقة وأصبحت قضية المحاكمة من أكثر الحوادث اثارة في عاصمة الدولة العباسية بسبب الجدل حول هويته .. فهل هو قديس زاهد أم زنديق ملحد (270) ؟!
    وكان حامد رئيس الوزراء في طليعة المتحمسين لقتله فطلب من الخليفة تسليمه اليه والاشراف على استنطاقه واستجوابه ومحاكمته (271) .


298
41
    استنطق الحلاج في عدة جلسات في حضور العلماء والقضاة وكانت تنتهي بعدم كفاية الادلة في ادانته .. وخلال تلك الفترة التي امتدت اسابيع طويلة .. كان رئيس الوزراء ولاسباب غير معروفة يحاول ادانته بكل وسيلة والعثور على وثيقة قوية تؤدي الى اعدامه .. وتم له ما اراد عندما عثر على كتاب بخط الحلاج فتم عقد مجلس جديد لمحاكمته حضره القضاة والعلماء .
    قال الوزير وهو يمسك بكتاب :
    ـ هذا كتابك ؟ نظر الحلاج الى الوزير والى الكتاب وقال :
    نعم كتابي !
    وقرأ الوزير مقطعاً « يتضمن ان من لم يمكنه الحج إذا أفرد في داره بيتاً نظيفاً ولم يدخله أحداً .. فطاف حوله أيام الحج ، وفعل ما يفعله الحاج ، ثم جمع ثلاثين يتيماً وأطعمهم أجود الطعام في ذلك البيت وكساهم وأعطى كل واحد منهم سبعة دراهم كان كمن


299
    حج » !!
    سأل القاضي أبو عمر وهو يحدق في الحلاّج :
    ـ من أين لك هذا ؟!
    أجاب الحلاّج :
    ـ اخذته من كتاب « الاخلاص » للحسن البصري .
    هتف القاضي مستنكراً :
    ـ كذبت يا حلال الدم .. قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا .
    انتهز حامد الوزير الفرصة وقال للقاضي :
    ـ اكتب بخطك انه حلال الدم !
    تردد القاضي ولم ينفذ رغبة الوزير إلاّ بعد الحاح واصرار استمر أياماً عديدة .. وأخيراً كتب القاضي محمد بن يوسف بن يعقوب الى الوزير بالحاد الحلاج واباحة دمه ..
    وعندها شكل الوزير آخر مجالس المحاكمة في يوم الاثنين السادس من ذي القعدة سنة 309 هـ وقرأ الوزير حكم القاضي أبي عمر وأدرك الحلاّج انه على شفا حفرة القبر فهتف :
    ـ ما يحل لكم دمي وديني الاسلام ومذهبي السنة ولي كتب عند الوراقين (272) فالله الله في دمي !!
    طلب الوزير حامد من العلماء توقيع حكم الاعدام ، ونظم محضر في سجل الوقائع .. فيما كان الحلاج ما يزال يهتف :
    ـ مذهبي السنة ، وتفضيل الخلفاء .. والعشرة المبشرة


300
بالجنة .
    ولكن أحداً لم يكن يكترث له حتى تم استكمال « فهرست الوقائع » الذي رفع فوراً الى الخليفة .. وانفض المجلس وسيق الحلاج الى السجن ..
    وبعد ساعة جاء الجواب من الخليفة :
    ـ ان قضاة البلد إذا كانوا قد افتوا بقتل الرجل فليسلم الى صاحب الشرطة وليتقدم اليه بضربه ألف سوط ، فإن هلك وإلا يضرب ألفاً آخر ويضرب عنقه .
    في منتصف الليل سلم الوزير حامد الحلاج الى الشرطي الفظ « نازك » لتنفيذ حكم الاعدام :
    ـ ان لم يتلف بالضرب فاقطع يديه ثم رجليه ثم رأسه واحرق جثته .. انه مشعوذ خطير فلا تلتفت الى كلماته حتى لو قال لك : أنا أجري لك الفرات ودجلة ذهباً وفضة فلا تقبل ذلك منه ولا ترفع العقوبة ..
    وفي صبيحة الثلاثاء السابع من ذي القعدة اقتيد الحلاج الى باب الطاق ، لتنفيذ الحكم .
    كان الحلاج يمشي متبختراً في قيوده بعد أن أيقن بالنهاية القادمة ..
    وبلغ الازدحام ذروته في ذلك ، وبدأ الجلاد تنفيذ الحكم فالهب ظهر الحلاج بالسياط .. ولم يتأوه بل خاطب الجلاد قائلاً