نعم خالف الشوكاني في المقام وجاء بالحق حيث قال : والحق أنّ قول الصحابي ليس بحجة ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبينا محمداً وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجة من دين اللّه بغيرهما فقد قال في دين اللّه بما لا يثبت ، وأثبت شرعاً لم يأمر اللّه به (1) وما ذكره الشوكاني حق والحق أحق أن يتّبع وقال سبحانه : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ ). (2) وقال سبحانه : ( ءَاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ). (3) إنّ حق التشريع من حقوقه سبحانه لم يعطه لأحد حسب مفاد هذه الآيات ولم يشرك فيه أحداً غير أنّ بعض أهل السنّة قد جانب الحق وأثبته للأُمراء ، وراء الصحابة يسمّونه « صوافي الأُمراء ». فعن المسيب بن رافع قال : إذا كان الشيء من القضاء وليس في الكتاب ولا في السنّة سمّي « صوافي الأُمراء » فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق. (4) وعن هشام بن عروة قال : ما سمعت أبي يقول في شيء قط برأيه ، قال : ربما سئل عن الشيء فيقول هذا من خالص السلطان. (5) 1 ـ راجع ص : 231 ـ 239 كتاب بحوث مع أهل السنّة والسلفية. 2 ـ النحل : 116. 3 ـ يونس : 59. 4 ـ جامع بيان العلم : 2/174. 5 ـ جامع بيان العلم : 2/147.
(632)
وبالاسناد عن أبي هرمز قال : أدركت أهل المدينة ما فيها الكتاب والسنّة والأمر ينزل فينظر فيه السلطان. (1) هذا وذاك بل وغيره من الكلمات تفيد ـ بصراحة ـ أنّ الصحابة والأُمراء لهم حق التشريع والتقنين ، وأنّ آراءهم ونظرياتهم تعدّ أحكاماً إلهية ـ حسب منطق أهل السنّة ـ وعلى ذلك فرعوا حجية القياس والرأي للعلماء قائلين بأنّا أمرنا بطاعة أُولي الأمر بمقتضى قوله : ( أَطِيْعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) ، فيدخل في هذه الاطاعة ما قالوه بقياس أو رأي. (2) ولقد أشبع الكلام في المقام العلاّمة الحجّة السيد مهدي الروحاني في كتابه القيّم « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه. وقد عد الأُستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه « مصادر التشريع الإسلامي » في ما لا نص فيه ، من الأدلة : إجماع أهل المدينة ، وقول الصحابي ، وإجماع أهل الكوفة ، وإجماع الخلفاء الأربعة. فراجع ص 109 واقرأ ما فيه ثم أقض في التهمة التي ألصقها الجهمان بالشيعة ، وأنّ أي طائفة أحرى بهذه النسبة.
1 ـ المصدر السابق. 2 ـ لا يخفى ما في هذا الاستدلال من الوهن والضعف.
اللّه والتوحيد في الطاعة 1. انحصار حق الطاعة في اللّه. 2. الطوائف التي وجب طاعتها بإذن اللّه. 3. الرسول الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). 4. وظائف الرسول. 5. أُولو الأمر. 6. الوالدان. 7. محدودية إطاعتهما.
(635)
انحصار حق الطاعة في اللّه سبحانه تعتبر مسألة التوحيد في الطاعة من أهم مسائله والمراد منه الاعتقاد بأنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه تعالى ، فهو وحده الذي يجب أن يُطاع وتمتثل أوامره ، وأمّا طاعة غيره فإنّما تجوز إذا كانت بإذنه و أمره وإلاّ تكون محرمة ، ووجه ذلك هو أنّ الطاعة من شؤون المالكية والمملوكية ، ومن فروع الربوبية والمربوبية ، فالمالك للوجود بأسره ورب الكون الذي منه وإليه كل شؤوننا هو الذي يجب أن يُطاع دون سواه ، ولا تعني الطاعة ـ في الحقيقة ـ سوى أن نضع ما وهبنا من آلاء ونعم بما في ذلك « وجودنا » و « إرادتنا » ـ في الموضع الذي يرضاه ولا ريب أنّ المروق من هذه الطاعة لا يكون إلاّ ظلماً تقبّحه العقول السليمة ، وتنفر منه الطباع المستقيمة. وبعبارة أوضح : أنّ التوحيد في الطاعة يعد في الحقيقة من شؤون التوحيد في الأفعال. فعندما نعتقد بأنّه ليس للكون إلاّ خالق ومنعم واحد وأنّ وجود العالم مستمد من ذلك الخالق المنعم ، في هذه الصورة يتعين بالضرورة أن نعترف بأنّه ليس في الوجود سوى مطاع واحد هو الذي تجب طاعته دون غيره ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (1).
1 ـ فاطر : 15.
(636)
ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم يطرح مسألة الطاعة للّه وحده مشعراً بانحصارها فيه ، إذ قال : ( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأنْفُسِكُمْ ). (1) وتقرب من ذلك الآية التالية حيث تمدح فريقاً من المؤمنين بأنّهم يسمعون أوامر اللّه ويطيعونها مشعرة بانحصار الطاعة فيه سبحانه إذ تقول : ( وَقَالُوا سَمِعْنَا وََأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) . (2) وفي آية ثالثة تصرح بأنّ النبي لا يُطاع إلاّ بإذنه سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) . (3) فهذه الآية تفيد ـ بوضوح ـ أنّ طاعة النبي فرع لطاعة اللّه ، وأنّها في طول طاعته تعالى وليس في عرضها ومصافها ، بمعنى أنّها ليست واجبة بذاتها وأنّ النبي ليس مطاعاً بذاته ، فلو لم يأمر بها لما وجبت طاعته ولما كان مطاعاً. وفي آية رابعة تعد طاعة النبي طاعة اللّه نفسه ، إذ تقول : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهُ ). (4) فإذا كان هذا حال النبي فحال غيره أوضح ، فتلخص أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه سبحانه وأمّا إطاعة غيره فإنّما تجب بأمر من تجب طاعته بالذات.
1 ـ التغابن : 16. 2 ـ البقرة : 285. 3 ـ النساء : 64. 4 ـ النساء : 80.
(637)
الذين تجب طاعتهم بأمره يصرح القرآن الكريم بوجوب طاعة طوائف خاصة بإذنه وأمره ، وفي مقدّمتهم النبي الأكرم ثم أُولو الأمر من المؤمنين ثم الوالدان. ولمّا كان البحث عن المطاع الثاني يرتبط بمباحث الحكومة والولاية التي تأتي في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، لذلك نرجئ البحث عنه إلى ذلك الجزء ، ونخص البحث في هذا الفصل بالأوّل والثالث فنقول :
1. الرسول الأكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إنّ النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ممّن افترض اللّه طاعته والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه ، وهذه حقيقة صرحت بها الآيات التالية مضافاً إلى الآيات التي مر ذكرها عليك : وهذه الآيات هي : ( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَولَّوْا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ). (1) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) . (2) ( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ) . (3) ( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ) . (4) 1 ـ آل عمران : 32. 2 ـ النساء : 59. 3 ـ المائدة : 92. 4 ـ الأنفال : 1.
(638)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَولَّوا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ). (1). ( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ) . (2). ( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ). (3). ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) (4). ( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) . (5). ( وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ). (6). وقد ورد لزوم طاعة النبي في آيات أُخرى في صورة التسوية ، بين طاعة اللّه وطاعة الرسول مثل قوله : ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ). (7). ( مَنْ يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ). (8). ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ). (9).
1 ـ الأنفال : 20. 2 ـ الأنفال : 46. 3 ـ النور : 54. 4 ـ محمد : 33. 5 ـ المجادلة : 13. 6 ـ التغابن : 12. 7 ـ النساء : 69. 8 ـ النساء : 80. 9 ـ النور : 52.
(639)
( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) . (1). ( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ). (2). ( وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ ) . (3). ( وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) . (4). ثم يعود القرآن فيصف معصية الرسول بالكفر ، لأنّ رد الرسول والتمرّد عليه رد على اللّه وتمرّد عليه ، إذ يقول : ( قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ). (5). وعلى هذا الأساس يعتبر القرآن تكذيب النبي بمنزلة التكذيب للّه والجحد لآياته سبحانه ، إذ يقول : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ) . (6). وعلى هذا يعتبر تكذيب القرآن ، وتكذيب النبي بل وتكذيب أي شخص أو شيء مرتبط باللّه ارتباطاً مسلماً ، تكذيباً للّه تعالى ، في الحقيقة.
1 ـ الأحزاب : 71. 2 ـ الفتح : 17. 3 ـ التوبة : 71. 4 ـ الأحزاب : 33. 5 ـ آل عمران : 32. 6 ـ الأنعام : 33.
(640)
ما هو المراد من إطاعة النبي ؟ إنّ النبي الأعظم بما هو نبي ورسول كان يتحمل من جانبه سبحانه أُموراً ووظائف هامة تنبع من صميم نبوته ورسالته ونشير إلى أهمها : الأوّل : تلاوة وتعليم الآيات القرآنية ، التي كان ينزل بها أمين الوحي جبرائيل ، على قلبه الشريف ، تلك الآيات التي كانت تتضمن الأوامر والنواهي الإلهية ، مثل أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وما شابه ذلك. الثاني : إبلاغ الأحكام والأوامر والنواهي بالبيان الشخصي ، والمراد من البيان الشخصي هو « الأحاديث » والألفاظ التي يكون إنشاؤها من النبي نفسه ، فيما يكون معانيها من جانب اللّه تعالى ، وهو ما يطلق عليه « الحديث النبوي » حسب ما اصطلح عليه. ولم يكن للنبي في إبلاغه لرسالات ربه من شأن ـ سواء أكان عن طريق تلاوة القرآن أم عن طريق أحاديث هـ إلاّ كونه رسولاً ومبلغاً لأوامره ونواهيه سبحانه. وإذا ما وجدنا القرآن الكريم يصف النبي بأنّه : « الشاهد والبشير والنذير » وما شابه ذلك ، فإنّ تلك الأوصاف ليست ناظرة إلاّ إلى هذه الوظائف التي ما كان للنبي فيها من دور إلاّ دور المبلغ حسب. الثالث : أعمال الولاية الإلهية الموهوبة له من اللّه سبحانه بقوله : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) ومن الواضح أنّ إعمالها يحتاج إلى إصدار أوامر ونواهي إلى المؤمنين ، ولا ينجح النبي في هذا المقام إلاّ أن يكون مطاعاً بين أُمّته.
1 ـ الأحزاب : 6.