مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 101 ـ 110
(101)
(5)
بعثته ونزول الوحي إليه
    « بَعَثَ اللّه سُبْحانَهُ نَبِيّهُ الأَكْرَمِ عَلَى حِيْنِ فَتَرة مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجعَة مِنَ الاُمَمِ ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَار مِنَ الأُمُورِ ، وَتَلَظِّ مِنَ الحُروبِ ، والدُّنْيَا كَاسفَةٌ النُّورِ ، ظَاهِرةُ الغُرورِ ، عَلى حِيْنِ اصْفِرَارِ مِنْ وَرَقِهَا ، وإياس مِنَ ثَمرِهَا ، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى ، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَة ٌ لأَهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها ، ثَمَرُهَا الفِنتْنَةُ ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (1).
    بعث على رأس الأربعين من عمره ، وبُشّر بالنبوّة والرسالة ، وأمّا الشهر الذي بعث فيه ، ففيه أقوال وآراء ، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) على أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث في سبع وعشرين من رجب.
    روى الكليني عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2).
    وروى أيضاً عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) أنّه قال : بعث اللّه عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب (3).
    روى المفيد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول اللّه ، إلى غير ذلك من الروايات (4).
    وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.
1 ـ إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة85 ، طبعة عبده.
2 ـ البحار ج18 ص189 ـ نقلاً عن الكافي و أمالي ابن الشيخ.
3 ـ البحار ج18 ص189 ـ نقلاً عن الكافي و أمالي ابن الشيخ.
4 ـ البحار ج18 ص189 ـ نقلاً عن الكافي و أمالي ابن الشيخ.


(102)
    وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعده ، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه ، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيْهِ ا لقُرآنُ ... ) ( البقرة/185 ).
    وقال سبحانه : ( إِنَّا اَنْزَلنَاهُ فِى لَيْلَةِ القَدرِ ) ( القدر/1 ).
    وقال سبحانه : ( اِنَّا اَنْزِلنَاهُ فِى لَيْلَة مُبارَكَة اِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) ( الدخان/3 ).
    إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.
    والإستدلال بهذه الآيات على أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة ، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت ، فلو قلنا بالتفكيك وانّه بعث في شهر رجب ، وبشّر بالنبوّة فيه ، ونزل القرآن في شهر رمضان ، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب ، ونزول القرآن في شهر رمضان.
    ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة : إنّ أوّل ما بدء به رسول اللّه من النبوّة حين أراد اللّه كرامته ، الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رؤيا في نومه إلاّ جاءت كفلق الصبح ، قالت : وحبّب اللّه تعالى إليه الخلوة ، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده (1).
    لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم ، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري : « كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخلو بغار حراء ، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : إقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال : إقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني
1 ـ صحيح البخاري ج1 ص3 ، السيرة النبوية ج1 ص 334.

(103)
فقال : إقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني ، فقال : ( إِقْرَأْبِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَق * إِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الأَكْرَمُ ).
    و في هذه ال (1) رواية تأمّلات واضحة :
    1 ـ ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم ، و أن يؤذيه بالعصر إلى حدّ أنّه يظن إنّه الموت ؟ يفعل به ذلك و هو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به ، و لايرحمه ولايلين معه.
    2 ـ لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لاأكثر و لاأقل ؟
    3 ـ لماذا صدّقه في الثالثة ، لا في المرّة الاُولى و لا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لايكذب ؟
    4 ـ هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.
    أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام ، و إرتزاقه من موائدهم ، و كان كاتباً لهشام بن عبدالملك و معلّماً لأولاده ، و جلس هو و عروة في مسجد المدينة فنالا من علي ، فبلغ ذلك السجاد ( عليه السلام ) حتى وقف عليهما فقال : أمّا أنت ياعروة فإنّ أبي حاكم أباك ، فحُكِم لأبي على أبيك ، و أمّّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك (2).
    أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّ ( عليه السلام ) (3).
    نعم رواه ابن هشام و الطبري في تفسيره و تاريخه (4) بسند آخر ينتهي إلى
1 ـ صحيح البخاري ج1 ص3.
2 ـ أي بيت أبيك.
3 ـ الصحيح من سيرة النبي الأعظم ص223.
4 ـ السيرة النبوية ج1 ص235 ، تفسير الطبري ج30 ص162 ، و تاريخه ج3 ص353.


(104)
أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم و دونك أسماؤهم :
    1 ـ عبيدبن عمير ، ترجمه ابن الاثير ، قال : ذكر البخاري أنّه رأى النبي و ذكر مسلم انّه ولد على عهد النبي و هو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره (1).
    2 ـ عبد اللّه بن شداد ، ترجمه ابن الأثير و قال : ولد على عهد النبي ، روى عن أبيه و عن عمر و عليّ (2).
    3 ـ عائشة ، زوجة النبي ، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث و من المستبعد جداً أن لايحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.
    نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) و نقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه (3) أو المجلسي في بحاره (4).
    لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكري ( عليه السلام ) و أمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث و التواريخ مرسلة لامسندة ، و المجلسي إعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.
    و بذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن ، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب ، نعم أورد العلاّمة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله : إذا بعث النبي في اليوم الثاني و العشرين من شهر رجب و بينه و بين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول اللّه و أنّها
1 ـ اُسد الغابة ج3 ص 353.
2 ـ نفس المصدر ج4 ص183.
3 ـ مناقب آل أبي طالب ج1 ص40 ـ 44.
4 ـ بحار الأنوار ج18 ص196.


(105)
نزلت بمصاحبة البعثة (1).
    يلاحظ على ما ذكر :
    1 ـ إنّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد فأي إشكال في أن يكون النبي قدبشّر بالنبوّة و نزِّل القرآن بعد شهر و بضعة أيام.
    2 ـ و أمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت و ليس فيها مايدلّ على إقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.
     سؤال و إجابة :
    إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة و عشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟
    و أمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.
    الأوّل : إنّ للقرآن نزولين : نزول دفعي و قدعبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة ، و نزول تدريجي و هو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه : ( كِتَابٌاُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيم خَبِير ) ( هود/1 ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل ، و التفصيل هو جعله فصلاً فصلاً ، و قطعة قطعة ، و الإحكام كونه على وجه لايتفصّل فيه جزء من جزء و لايتميّز بعض من بعض ، لرجوعه إلى معنى واحد ، لاأجزاء و لافصول فيه ، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم ، ثم صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات و الوقائع و الأحداث (2).
    و على ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً ، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة و عشرين سنة.
1 ـ تفسير الميزان ج2 ص13.
2 ـ الميزان ج2 ص14 ـ 16.


(106)
    و يلاحظ عليه : إنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل » ، و إنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي ، و الثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لادليل عليه ، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين : ( وَلَنْنُؤْمِنَ لِرُقِّيِكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ) ( الاسراء/93 ).
    و قال تعالى : ( وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان/32 ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله : « جملة واحدة ... ».
    الثاني : إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.
    روى حفص بن غياث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : ( شَهْرُ رَمَضَانِ الَّذِى اُنْزِلَ فِيهِ القُرْآن ) و إنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره ، فقال أبو عبداللّه ( عليه السلام ) « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة ». (1)
    و لو صحّت الرواية يجب التعبّد بها ، و إلاّ فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور و أي صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن و يقول : ( شهر رمضان الذي اُنزل فيه القرآن هدى للناس و بيّنات من الهدى والفرقان ).
    قال الشيخ المفيد :
    « الذي ذهب إليه أبو جعفر (2) حديث واحد لايوجب علماً و لاعملاً و نزول
1 ـ البرهان في تفسير القرآن ج1 ص182 ، و الدر المنثور ج6 ص 370.
2 ـ مراده الصدوق ، و قد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.


(107)
القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لايدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث ، و ذلك انّه قدتضمّن حكم ما حدث ، و ذكر ما جرى على وجهه ، و ذلك لايكون على الحقيقة إلاّ لحدوثه عند السبب ، ... الخ.
    ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة (1).
    الثالث : إنّ القرآن يطلق على الكلّ و الجزء ، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة و هي ليلة القدر ، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة ، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان و استمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.
    فيقال : نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر ، و له نظائر في العرف ، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا و إن استمرّ جريانه و فيضانه عدّة أيام.
    و هذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول : و أمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها ، فهو انّ إبتداء نزوله كان في رمضان ، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف ، و الليلة المباركة كما في آيات اُخرى. و هذا المعنى ظاهر لاإشكال فيه ، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه و يطلق على بعضه.
    الرابع : إنّ جملة القرآن و إن لم تنزل في تلك الليلة ، لكن لمّا نزلت سورة الحمد بها و هي تشتمل على جلِّ معارف القرآن ، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال : إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.
    يلاحظ عليه : إنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول اللّه لكان حق الكلام أن يقال : قل بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمدللّه رب العالمين ، أو يقال :
1 ـ تصحيح الإعتقاد ص58.

(108)
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قل : الحمد للّه ربّ العالمين (1).
    و هذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.
    هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون و الثالث هو الأقوى.
     أوّل ما نزل على رسول اللّه :
    ذكر أكثر المفسّرين إنّ أوّل سورة نزلت على رسول اللّه هي سورة العلق ، و تدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادق ( عليه السلام ) قال : أوّل مانزل على رسول اللّه ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... ) و آخر سورة هو قوله : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ و َالفَتْحُ ... ) ومثله عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) (2).
    و لعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لاجميع السورة.
    لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة : ( اَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ... ) لايناسب أن تكون أوّل ما نزل ، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة ، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين و هذا لايتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير و خرافات
    دلّت الأدلة العقلية و الآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً ، و ضبطه ثانياً ، و إبلاغه ثالثاً و انّهم لايشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين و أنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين ، و الكلام كلامه ، لايشكّون في ذلك طرفة عين و لايتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.
1 ـ الميزان ج2 ص21 ـ 22.
2 ـ البرهان في تفسير القرآن ج1 المقدّمة الباب الخامس عشر ص29 ، و تاريخ القرآن للزنجاني ص30.


(109)
    هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى و إنّه تلقّاه بلاتردّد و لاتريّث. بذكره في سور مختلفة :
    يقول : ( فَلَمَّا اَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * اِنِّى اَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيكَ اِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوىً * وَ اَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوْحَى * إِنَّنِى اَنَا اللّهُ لاَ اِلَهَ اِلاَّ اَنَا فَاعْبُدْنِى وَاَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِى * اِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ اَكَادُ اُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا تَسْعَى * ... اذْهَبْ اِلَى فِرْعَونَ اِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى * و يَسِّرْلِى أَمْرِى * وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِى * وَ اجْعَلْ لِى وَزِيراً مِنْ اَهْلِى * هَارُونَ اَخِى * اشْدُدْ بِهِ اَزْرِى وَ اَشْرِكْهُ فِى اَمْرِى * كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً * اِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً ) ( طه/11 ـ 35 ).
    ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي ، تلقّاه بصدر رحب ، و لم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه و أمره ، و لذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره ، و ييسر له أمره ، ويحلّ العقدة التي في لسانه ، و يجعل له وزيراً من أهله ، يشدّ به أزره و يشركه في أمره.
    يقول سبحانه : ( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِىَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِى النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل/8 ـ 9 ).
    و جاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين (1).
    و من لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه ، و هذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء ( عليهم السلام ) .
    نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم ، و مواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن بـ « شديد القوى ».
    يقول : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوْحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُومِرَّة فاَسْتَوَى * وَ هُوَ بِالاُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ اَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ
1 ـ القصص 29 ـ 35.

(110)
مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) ( النجم/4 ـ 12 ).
    فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي و إذعانه في مجال الوحي و مواجهة أمينه من قوله سبحانه : ( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد ، ما رآه الفؤاد.
    قال العلاّمة الطباطبائي :
    فالمراد بالفؤاد ، فؤاد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و ضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد ، و الرؤيا رؤيته و لابدع في نسبة الرؤية و هي مشاهدة العيان إلى الفؤاد ، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة ، و التخيّل و التفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا انّنا نرى و ليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر و لامعلوماً بالفكر و كذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع و نشمّ و نذوق و نلمس ، و نشاهد أنّنا نتخيّل و نتفكّر ، و ليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة (1).
    فاللّه سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي و رؤية آيات اللّه الكبرى ، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.
    و على كل تقدير فهذه الآيات و غيرها تدلّ على أنّ الأنبياء و غيرهم لايشكّون و لايتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.
    و على ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة و بعض التفاسير في مجال بدء الوحي و أنّه تردّد النبي و شكّ عند ما بشّر بالنبوّة و شاهد ملك الوحي و امتلأ روعاً و خوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق ، و عاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه ، و عادت زوجته تسلّيه و تقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين ، و إنّ ما رآه ليس إلاّ أمراً حقّاً.
    إذ كل ذلك أساطير و خرافات ، تناقض البراهين العقليّة و ما يتلقّاه الإنسان
1 ـ الميزان ج19 ص30.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس