مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 111 ـ 120
(111)
من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم ، و قد دسّها الأحبار و الرهبان و سماسرة الحديث و القصّاصون في كتب القصص و السير و الحديث ، و نحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه و ابن هشام في سيرته ، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة ، و لكن فيما ذكرنا غنىً و كفاية. قال البخاري :
    ( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي اللّه عنها ) فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة ـ و أخبرها الخبر ـ لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلاّ و اللّه ما يخزيك اللّه أبداً إنّك لتصل الرحم ، و تحمل الكل و تكسب المعدوم ، و تقري الضيف ، و تعين على نوائب الحقّ ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة ، و كان أُمرأً تنصّر في الجاهلية ، و كان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب ، و كان شيخاً كبيراً قدعمي ، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل اللّه على موسى ياليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمخرجي هم ؟ قال : نعم ، لميأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلاّ عودي ، و إن يدركني يومك ، أنصرك نصراً مؤزّراً ثم لم ينشب (1) ورقة أن توفّي و فتر الوحي » (2).
    هذا ما لدى البخاري و أمّا صاحب السيرة النبوية فبعد ما ذكر مسألة الغت ينقل عن النبي أنّه قال :
    « فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول :
1 ـ أي لم يلبث.
2 ـ صحيح البخاري ج1 ص3.


(112)
يامحمد ، أنت رسول اللّه و أنا جبرئيل ، قال : فوقفت أنظر إليه ، فما أتقدّم وما أتأخّر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، قال : فلاأنظر في ناحية منها إلاّ رأيته كذلك ، فمازلت واقفاً ، ما أتقدّم أمامي ، و ما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة و رجعوا إليها ، و أنا واقف في مكاني ذلك ، ثمانصرف عنّي و انصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها ، فقالت : يا أبا القاسم ، أين كنت ؟ فو اللّه لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة و رجعوا إليّ ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت ، فقالت : ابشر يا ابن عمّ واثبت ، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».
    ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل ، و ما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل ، و هو يطوف بالكعبة ، فسأله ورقة بما رأى و سمع ، فأخبره النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال له ورقة : والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.
    ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبؤته فذكر أنّها قالت لرسول اللّه : أي ابن عمّ ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال : نعم. قالت : فإذا جاءك فاخبرني به ، فجاءه جبرئيل ، فقال رسول اللّه لخديجة : هذا جبرئيل قدجائني ، قالت : قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى ، قال : فقام رسول اللّه فجلس عليها ، قالت : هل ترى ؟ قال : نعم ، قالت : فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى ، فجلس على فخذها اليمنى ، فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم ، قالت : فتحوّل واجلس في حجري ، فتحوّل فجلس في حجرها ، قالت هل تراه ، قال : نعم ، فتحسّرت و ألقت خمارها و رسول اللّه جالس في حجرها ، ثم قالت له : هل تراه ؟ قال : لا.
    قالت : يا ابن عم اثبت و ابشر ، فو اللّه هذا ملك و ما هذا بشيطان (1).
    و قال الطبري ـ بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه و تعليم آيات من سورة العلق ـ
1 ـ السيرة النبوية ج1 ص237 ـ 239 ، و تاريخ الطبري ج2 ص49 ـ 50.

(113)
ثمّ دخلت على خديجة و قلت : زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع ، ثمّ أتاني وقال : يا محمد ، أنت رسول اللّه.
    قال : لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك ، فقال : يا محمد ، أنا جبرئيل و أنت رسول اللّه ، ثمّ قال : إقرأ ، قلت : ما اقرأ ؟ قال : فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال : اقرأ باسم ربّك الذي خلق ، فقرأت فأتيت خديجة ، فقلت : لقد أشفقت على نفسي ، فأخبرتها خبري فقالت : ابشر فو اللّه لايخزيك اللّه أبداً ، و و اللّه إنّك لتصل الرحم ، و تصدق الحديث ، و تؤدّي الأمانة ، و تحمل الكل ، و تقري الضيف ، و تعين على نوائب الحقّ ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد ، فقالت : اسمع من ابن أخيك ، فسألني فأخبرته خبري ، فقال : هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران ....

نظرة تحليلية حول هذه النصوص :
    إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري و ابن هشام و الطبري ، و تلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم و تناقض البديهة العقلية ، و إليك بيان ما فيها من نقاط الضعف و علائم الجعل و التهافت :
    1 ـ إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لايفيضه اللّه إلاّ على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية و القوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي ، ومشاهدة الملائكة ، فعندئذ فلا معنى لما ذكره البخاري : « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لايفرّق بين لقاء الملك ، و لقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟
    2 ـ و أسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل ، فندم عليه و رجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يامحمد أنا جبرئيل.


(114)
    إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدّ همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق ، و هل هذا هو إلاّ نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته ، فواعجباً نسمعه من أعوانه و أنصاره و من لسان زوجته.
    3 ـ إنّ قول خديجة لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كلاّ و اللّه ما يخزيك اللّه أبداً ، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك ، و ما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه : ( وَ عَلَّمَكَ مَالَمْتَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) ( النساء/113 ) إلى هذا التسلّي ؟
    و هل يصحّ و يتعقّل للنبيّ أن يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟
    4 ـ ذكر البخاري : إنّ خديجة انطلقت مع رسول اللّه إلى ورقة ، فأخبره رسول اللّه بما وقع ، فأجاب ورقة بما ذكره ، و إنّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله اللّه على موسى.
    و معنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول اللّه من نفسه ، كما أنّ معنى ذلك إنّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة ، فانطلقا إلى متنصّر و قرأ و ريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ و غشاوة الريب.
    5 ـ إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه : يسخرمنك قومك ، وتعجّب الرسول من هذا الكلام و قال : أو مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول و أفضل منه.
    6 ـ إنّ ما ذكره ابن هشام من « إنّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلاّ رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء ، فلاينظر في ناحية من السماء إلاّ رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم و شعورهم ، و المختلّين في أفكارهم ، فلا يرون في


(115)
كل جهة إلاّ الصورة المتخيّلة ، لطغيانها على مخيّلتهم و شعورهم ، أعاذنا اللّه من إكالة الشنائع بمقام النبوّة ، بنحو لايليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.
    7 ـ إنظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها ، و لكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري ، و لكن أي صلة بين رفع الخمار و إلقائه و عدم رؤية جبرئيل ، و هل لرفع الخمار و تعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟
    نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل و تبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك : إنّ زوجة الخليل لوكانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليل ( عليه السلام ) (1).
    8 ـ إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً ، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته ، لابالكليم.أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث و دورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات و الخرافات ؟
    9 ـ نحن على ثقة و يقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لايتحمّله إلاّ الأمثل و الأكمل فالأكمل من الناس ، و لايقوم بأعباءمهامّها إلاّ من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان و التسليم ، و الإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه و أمين وحيه ، فلاتأخذه المسكنة و لايستولي عليه الخوف عند سماع كلامه و وحيه ، و قددرسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع و لاأحاط به الخوف ، و لاهمّ بإلقاء نفسه ... إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات ، و بما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات ، يحتّم علينا إعراض
1 ـ لاحظ هود/71 ـ 73 ، الذاريات/29.

(116)
الصفح عنها ، و ضربها عرض الجدار ، مضافاً إلى ما فيها من التناقض و الإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها و تأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي و فتوره
    وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع و الدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرى حيكت على المنوال السابق ، وللغاية نفسها ، و هي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق ، أو سورة المدّثّر ، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و قدحازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام و التقدير في كتب السيرة و التفسير حتى إنّ الدكتور محمد حسين هيكل ، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله : « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره ، و إنارة سبيله ، فإذا الوحي يفتر ، و إذا جبرئيل لاينزل عليه ، ... إلى أن قال : و قد روي أنّ خديجة قالت له : ما أرى ربّك إلاّ قدقلاك ، و تولاّه الخوف و الوجل ، فهما يبعثانه من جديد ، يطوي الجبال و ينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه ، يسأله : لم قلاه بعد أن اصطفاه ، و لمتكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً و وجلاً و يتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به ، فيرجع إلى نفسه ، ثمّ إلى ربّه ، و لقد قيل : إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس و أيّ خير في الحياة ، و هذا أكبر عمله فيها يدوي و ينقضي ، و أنّه لذلك تساور هذه المخاوف ، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى : ( وَ الضُّحَى * وَ اللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَاوَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مَا قَلَى * وَ لَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الاُوْلَى * وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى اَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَاَغْنَى * فَاَمَّا اليَتِيمَ فَلاَتَقْهَرْ * وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلاَتَنْهَرْ * وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى ) (1).
    هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم ، فما ظنّك
1 ـ حياة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ص138.

(117)
بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات و لايحيدون عن شاذّها و سقيمها قيد أنملة و قدر شعرة ، و أصل هذه الفريّة يرجع إلى كتب السيرة و التفسير ، و إليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه :
    1 ـ عن ابن زيد : إنّ هذه السورة نزلت على رسول اللّه تكذيباً من اللّه قريشاً في قيلهم لرسول اللّه لمّا أبطأ عليه الوحي : « قد ودّع محمداً ربّه و قلاه ».
    2 ـ عن ابن عبداللّه : لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه ، فقالت امرأة من أهله أو من قومه : ودّع الشيطان محمداً ، فأنزل اللّه عليه : ( و الضحى ... ـ إلى قوله ـ ماودّعك ربّك و ما قلى ).
    3 ـ عن جندب البجلي : أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمداً ربّه ، فأنزل اللّه : « و الضحى ... » ، و عنه قالت امرأة لرسول اللّه : ما أرى صاحبك إلاّ قد أبطأ عنك ، فنزلت هذه الآية.
    و في رواية اُخرى عنه : ما أرى شيطانك إلاّ قدتركك.
    4 ـ عن عبداللّه بن شدّاد : إنّ خديجة قالت للنبي : ما أرى ربّك إلاّ قدقَلاك ، فأنزل اللّه « والضحى ».
    5 ـ و عن قتادة : إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي ، فقال ناس من الناس : ما نرى صاحبك إلاّ قدقلاك فودّعك ، فأنزل اللّه : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مَا قَلَى ).
    6 ـ عن ضحّاك : مكث جبرئيل عن محمّد ، فقال المشركون : قد ودّعه ربّه.
    7 ـ عن ابن عروة ، عن أبيه قال : أبطأ جبرئيل على النبي ، فجزع جزعاً شديداً ، و قالت خديجة : أرى ربّك قدقلاك ، ممّا نرى من جزعك ، قالت : فنزلت « والضحى » (1).
    يلاحظ على هذه الروايات و على فريّة فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور :
    1 ـ إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير و كتب السير ، رويت عن اُناس
1 ـ تفسير الطبري ج30 ص148.

(118)
لا يركن إليهم كقتادة و الضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب (1). وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    2 ـ إنّها اختلفت في القائل الذي شمت برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه و اُخرى إلى المشركين ، و ثالثة إلى طائفة من الناس ، و رابعة إلى زوجته خديجة.
    إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته ، و قدعرفت فضائله و ملكاته النفسيّة عن كثب ، بعيداً جداً.
    3 ـ إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثنى عشر يوماً ، و قال ابن عباس : خمسة عشر يوماً ، و قيل : خمسة و عشرين يوماً ، و قال مقاتل : أربعين يوماً (2) ، و في فتح الباري : انّه كان ثلاث سنين (3) كما في السيرة الحلبية و فيها أيضاً : إنّها كانت سنتين و نصفاً ، و على قول : سنتين ، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية و النقل.
    4 ـ إختلفت الرواية في سبب الفترة و انقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول اللّه عن مسائل ثلاث : عن أصحاب الكهف و عن الروح و عن قصّة ذي القرنين ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : سأخبركم غداً و لم يستثنِ ، فاحتبس عنه الوحي ، فقال المشركون ما قالوا ، فنزلت (4).
    و اُخرى قالوا : إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب ، و قيل : عذق تمر ، فجاء سائل فأعطاه ، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم ، فقدّمه إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن ، ج1 ، ص46 ، يقول : إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد ، و كان يروي عن ابن عباس ، و أنكر ملاقاته له حتى قيل : إنّه ما رآه قط ، و أمّا قتادة فقد ذكروا : إنّه مدلّس.
2 ـ تفسير القرطبي ج20 ص92.
3 ـ السيرة الحلبية ج1 ص 262.
4 ـ روح المعاني ج10 ص157 ، نقله عن جمع من المفسرين.


(119)
ثانياً ، ثمّ عاد السائل فأعطى و هكذا ثلاث مرّات ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ملاطفاً لاغضبان : أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.
    و ثالثة : رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده و الطبراني و ابن مردويه من حديث خولة ، و كانت تخدم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن جرواً دخل تحت سرير رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فمات و لم تشعر به ، فمكث رسول اللّه أربعة أيّام لاينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة! ما حدث في بيت رسول اللّه ؟ جبرئيل لايأتيني! فقلت يا نبي اللّه ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم ، فأخذ برده فلبسها وخرج ، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت و كنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً ، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار ، فجاء النبي ترعد لحيته ، و كان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة ، فقال يا خولة دثّريني ، فأنزل اللّه تعالى : ( و الضحى و الليل إذا سجى ) (1).
    و رابعة : إنّ المسلمين قالوا : يا رسول اللّه مالك لاينزل عليك الوحي ؟ فقال : وكيف ينزل عليّ و أنتم لاتنقّون رواجبكم ، و في رواية : براجمكم ، و لاتقصّون أظفاركم ، و لاتأخذون من شواربكم ، فنزل جبرئيل بهذه السورة ، فقال النبي : ماجئت حتى اشتقت إليك ، فقال جبرئيل : و أنا كنت أشدّ إليك شوقاً ، و لكنّي عبد مأمور ، ثمّ أنزل عليه : ( وَ مَا نَتَنَزَّلَ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم/64 ) (2).
    إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.
    أمّا الأوّل : فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث و ابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم ، و قالا لهم : إنّكم أهل التوراة و قدجئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، فقالت لهم أحبار اليهود : سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فجاؤوا إلى رسول اللّه ، وقالوا : يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ، قد كانت لهم قصّة عجب ،
1 ـ روح المعاني ج10 ص157.
2 ـ تفسير القرطبي ج20 ص93 ، و مجمع البيان ج10 ص55 ( طبع صيدا ).


(120)
وعن رجل كان طوّافاً قدبلغ مشارق الأرض و مغاربها ، و أخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولميستثن ، فانصرفوا عنه (1).
    نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليئ بالطهر والقداسة ، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟
    و أمّا الثاني : فهو أشبه بالقصص الموضوعة ، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق ، و مثله عذق تمر ؟ و لعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.
    و أمّا الثالث : فبعيد جدّاً ، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت و لايلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت : « و كان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة ، مع أنّ المشهور انّه كانت في بدء البعثة ـ أي بعد نزول سورة العلق أو آيات من هـ.
    و أمّا الرابع : فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير ، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم ، أو عدم تنظيف رواجبهم لايكون سبباً لإنقطاع الوحي ، قال سبحانه : ( وَلاَتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ( الأنعام/164 ).
    هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول : بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل و الوضع لغاية أو غايات خاصّة ، و لم يكن هناك أيّة فترة ، و إنّما المسألة كانت بصورة اُخرى :
1 ـ السيرة النبويّة لإبن هشام ج1 ، ص 301.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس