مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 311 ـ 320
(311)
    غادر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة و أمر أن ينادى فيها بأنّه لايخرج معي إلاّ راغب في الجهاد ، أمّا الغنيمة فلا ، و استخلف فيها نميلة بن عبد اللّه الليثي ، فأخذ يسير إلى شمال المدينة ، و كان المسلمون يظنّون أنّه يريد غزو قبائل غطفان و قزارة الذين تعاونوا مع قريش في معركة الأحزاب ، و لكنّه عندما وصل أرض الرجيع ، عرّج بجيشه صوب خيبر ، و بهذا قطع الطريق على أيّة إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر ، و حال بين قبائل غطفان و قزارة و يهود خيبر ، فعلى الرّغم من أنّ الحصار إمتدّ على اليهود قرابة شهر لم تستطع القبائل المذكورة أن تمدّ حلفاءهم اليهود بأيّ شيء (1).
    فلمّا نزل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرب خيبر مع 1600 مقاتل والخيبريّون بين عشرين ألف نسمة ، دعا بهذا الدعاء :
    « اللّهم ربّ السموات و ما أظللن ، و ربّ الأرضين و ما أقللن ... نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها » (2).
    و هذا الدعاء يكشف عن نوايا النبي و هو يدعو به أمام 1600 من جنوده الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة وهّاجة من الشوق إلى القتال في سبيل اللّه ، و لكنّ هذا الدعاء أنار الهدف من هذا الغزو و أنّه يطلب خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها ، ثمّ أمر بإحتلال المواقع و المواضع الحسّاسة ليلاً بحيث لميقف واحد من الخيبريين ، و لا القاطنين في أبراج حصونهم السبعة على قدوم المسلمين ، و احتلالهم القلاع السبع ، و صدّ الطريق على سائر القبائل ، و لمّا طلع الشمس خرج الفلاّحون من الحصن مغادرين بيوتهم إلى مزارعهم و بساتينهم ، ففوجئوا بجيش التوحيد ، فرجعوا إلى حصونهم و هم يقولون : محمد و الجيش معه. فبادروا إلى إغلاق أبواب الحصون. ثمّ عقدوا إجتماعاً عسكرياً داخل حصنهم المركزي ، فلمّا رأى رسول اللّه مساحي اليهود ، إستغلّ تلك المنظرة فقال :
1 ـ السيرة النبويّة ج2 ص303.
2 ـ الكامل لابن الأثير ج2 ص147.


(312)
    « اللّه أكبر خربت خيبر. إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين »
    و قد إتّخذت اللجنة العسكرية قراراً خاصاً ، و هو أن يجعل الأطفال و النساء في واحد من الحصون ، و يجعل الطعام و الذخيرة في حصن آخر ، و يستقرّ المقاتلون على الأبراج و يدافعوا عن كل حصن بالأحجار ، ثمّ يخرج الأبطال الصناديد من كلّ حصن و يقاتلون المسلمين خارجه.
    كانت هذه خطّة اليهود الدفاعيّة لمواجهة جنود الإسلام ، و قد أصرّوا على تنفيذها حتّى آخر لحظة ، و بهذا التخطيط استطاعوا أن يقاوموا الجيش الإسلامي قرابة شهر كامل ، إلى أن وفّق اللّه تبارك و تعالى المسلمين بفتح هذه القلاع واحدة بعد اُخرى.
    فكان أوّل حصن إفتتح حصن ناعم ، ثمّ القموص ( حصن بني أبي الحقيق ) وهكذا سائر الحصون افتتحت واحد بعد الآخر.
    ثمّ إنّ الآيات الواردة في هذه الواقعة على قسمين :
    قسم نزل في صلح الحديبيّة ، حيث إنّ النبي الأكرم صالح قريشاً ، و كانت تلك المصالحة مرّة في مذاق بعض الأصحاب ، فنزل الوحي بأنّهم سوف يصيبهم مغانم كثيرة يريد بها غنائم خيبر. قال سبحانه :
    ( وَ مغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَ كَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَ اُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَ كَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيراً ) ( الفتح/19 ـ 21 ).
    و هذه الآيات نزلت في قصّة الحديبيّة ، و بذلك كسب النبي رضا بعض الصحابة الذين كان تهمّهم الغنيمة و الفوز بالمال.
    فإذا كان المراد من الآية : ( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) هو غنائم خيبر يكون المراد من قوله : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) هو قصّة الحديبيّة ، فقد كان للمسلمين في


(313)
صلحها فوز عظيم ، وإن لم يقف عليها السطحيون منهم ، كما أنّ المراد من الناس في قوله : ( وَ كَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) هو قريش ، و بذلك يعلم أنّ تفسير هاتين الجملتين بغزوة خيبر تفسير على وجه بعيد و إن اختاره أمين الإسلام في مجمعه.
    و من أمعن النظر في سورة الفتح يرى أنّ الجميع على سبيكة واحدة فركّز على قصّة الحديبيّة و يعد الفوز بمغانم كثيرة و ليس هو إلاّ غزوة غنائم خيبر.
    و قسم آخر نزل عند مغادرة النبي المدينة قاصداً إلى خيبر و هو قوله سبحانه :
    ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُريدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللّهِ قُلْ لَّنْ تَتَّبِعُونَا كَذِلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَيَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الفتح/15 ).
    قال الطبرسي :
    « لمّا انصرف المسلمون عام الحديبيّة بالصلح وعدهم اللّه تعالى فتح خيبر وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية دون من تخلّف عنها فلمّا انطلقوا إليها ، قال هؤلاء المخلّفون « ذرونا نتبعكم » يريدون بذلك تبديل كلام اللّه و مواعيده لأهل الحديبيّة بغنيمة خيبر خاصّة ، فأرادوا بالمشاركة ابطال هذا النبأ ، ثمّ قال سبحانه :
    ( قُلْ لَّنْ تَتَّبِعُونَا كَذِلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ ... ) (1).

قصّة فدك و التصالح مع أهالي وادي القرى
    لمّا فرغ رسول اللّه من خيبر قذف اللّه الرعب في قلوب أهل « فدك » حين بلغهم ما أوقع اللّه تعالى بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول اللّه يصالحونه على النصف من فدك فقدمت عليه رسلهم بخيبر ، فقبل ذلك منهم رسول اللّه ، فكانت فدك لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خالصة لأنّه لم يوجف عليها من خيل و لا ركاب (2).
1 ـ مجمع البيان ج5 ص114.
2 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ، ج2 ص353.


(314)
    قال سبحانه : ( وَ مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَرِكَاب وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) ( الحشر/6 ).
    كانت فدك منطقة خصبة كثيرة الخير قرب خيبر و هي تبعد عن المدينة مايقارب من خمس كيلومترات ، فقد شاء اللّه تبارك و تعالى أن تكون ملكاً مطلقاً للرسول الأكرم يصرفه في مصالح الإسلام و المسلمين حسبما يشاء ، و من ثمّ وهب رسول اللّه فدكاً لابنته الطاهرة و ذلك بعد ما نزل قوله سبحانه :
    ( وَ آتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَتُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) ( الإسراء/26 ).
    و أكّد المفسّرون من الشيعة و السنّة على أنّها نزلت في أقرباء رسول اللّه وبالأخص إبنته الزهراء ( عليها السلام ) فإنّها كانت أقوى مصاديق « ذى القربى » و كان المسلمون يعرفونها بأنّها هي المراد من الآية.
    يقول السيوطي :
    « كان علي بن الحسين السجّاد ( عليه السلام ) في الشام بعد واقعة كربلاء فسأله بعض الشاميين عن نسبه ، فتلى علي بن الحسين ( عليه السلام ) تلك الآية للتعريف عن نفسه ، فقال الشامي متعجّباً : و إنّكم القرابة التي أمر اللّه أن يعطى حقّها » ؟! (1).
    نعم إختلفوا في أنّ النبي وهب ساعة نزول الآية فدكاً لابنته فاطمة أو لا ؟ فالشيعة على الأوّل و وافقهم جمع من السنّة ، و إن خالف بعضهم الآخر.
    و لمّا أراد المأمون العباسي إعادة فدك إلى بني الزهراء كتب إلى المحدّث المعروف عبد اللّه بن موسى و طلب منه أن يرشده في هذا الأمر ، فوافاه الجواب بلإيجاب ، فأعاد المأمون فدكاً إلى أبناء الزهراء و ذرّيتها (2).
1 ـ الدر المنثور ج4 ص176 ، مجمع البيان : ج3 ص411.
2 ـ مجمع البيان ج3 ص411 ، و فتوح البلدان ص46.


(315)
    و قد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاصّ للإستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم ، فكانت أوّل ما اُعطي له رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنّه يدافع عن الزهراء ، فقرأ المأمون الرسالة و بكى مدّة ، ثم قال : من هذا المحامي عن الزهراء ، فقام شيخ كبير و قال : أنا هوذا ، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء إلى مجلس الحوار بينه وبين ذلك الشيخ و وجد نفسه محجوجاً لأدلّة الشيخ ، فأمر رئيس ديوانه بالكتابة إلى عامله أن يردّ فدك إلى أبناء الزهراء ، ثمّ وشّحه المأمون بتوقيعه ، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي :
أصبح وجه الزمان قد ضحكا بردّ مأمون هاشم فدكاً (1)
    و ليست الشيعة بحاجة في ذلك المقام إلى إقامة الدلائل بأنّ فدكاً كانت ملكاً موهوباً لبنت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و يكفي في ذلك ما قاله الإمام علي ( عليه السلام ) في رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله بالبصرة :
    « بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم و سخت عنهانفوس قوم آخرين ، و نعم الحكم اللّه! » (2).
    لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأوّل ، و كان الحال على ذلك حتّى تسنّم معاوية سدّة الحكم ، فوّزع فدكاً بين ثلاثة هم مروان ابن الحكم وعمرو بن العثمان و ابنه يزيد ، و لمّا ولّى الأمر مروان ابن الحكم ، سيطر على فدك بصورة كاملة و وهبها لابنه عبد العزيز و هو وهبها لولده عمر بن عبد العزيز (3).
    و هو أوّل من ردّ فدك إلى بني فاطمة ، ثمّ إنتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من أبناء الزهراء ، و كانت بأيديهم حتّى إنقرض حكم الأمويين.
1 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج16 ص217.
2 ـ نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45.
3 ـ شرح نهج البلاغة : ج16 ص216.


(316)
    و قد أضطرب أمر فدك إضطراباً عجيباً أيام الخلافة العباسية ، فلمّا ولّي أبوالعباس السفّاح ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر من بني الحسن ، ثمّ ردّها محمد المهدي ابنه على ولد فاطمة ( عليها السلام ) ، ثمّ قبضها موسى الهادي بن المهدي و هارون أخوه ، لأسباب سياسيّة خاصّة ، حتّى وصل الدور إلى المأمون فردّها على الفاطميين أصحابها الشرعيّين ضمن تشريفات خاصة وبصورة رسمية ، ثمّ اضطرب أمر فدك من بعده أيضاً ، فربّما سلبت من أصحابها وربّما ردّت إليهم ، و هكذا تراوحت بين السلب و الردّ.
    و لقد اُستغلّت فدك في عهد الأُمويين و العباسيين في أغراض سياسّية بحتة قبل أن تستغل في أغراض إقتصاديّة.
    فلقد كان الخلفاء في صدر الإسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية مضافاً إلى أنّهم إنتزعوها من يد الإمام علي ( عليه السلام ) لغرض سياسي ، و لكن في العصور المتأخّرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك ، و لهذا فإنّ عمر بن عبد العزيز لمّا أعاد فدكاً إلى بني فاطمة إحتجّ عليه بنو اُميّة و اعترضوا قائلين : « هجنت فعل الشيخين ، و إن أبيت إلاّ هذا فامسك الأصل و اقسم الغلّة » (1).
    إنّ دراسة قصّة فدك و ما ورد حولها من الأقوال و الآراء يحتاج إلى بسط في الكلام و هو خارج عن مقاصد هذه الموسوعة ، و قد أشبعنا الكلام فيها في بعض كتبنا الخاصّة ببيان سيرة الأئمّة الطاهرين و في مقدّمتهم أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فمن شاء فليرجع إليه.
1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج16 ص278.

(317)
(10)
غزوات النّبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ غزوة بدر
    ليس الهدف في المقام تبيين غزوات النّبي و سراياه طيلة حياته ، فإنّ ذلك يقع على عاتق كتب السير الوافرة ، و إنمّا الهدف الإشارة إلى الغزوات التّي قادها بعد هجرته ، و لها جذو ر في القرآن الكريم ، و لأجل ذلك نقتصر في عرض جهاده في سبيل اللّه على القليل منه الذي جاء ذكره في القرآن الكريم.
    و من أسمى مغازيه و أعظمها أثراً و أكبرها دويّاً غزوة بدر الكبرى التّي وقعت في « وادي بدر » المنسوب إلى « بدربن يخلدبن نضربن كنانة » و وادي بدر معروف ، وبينه و بين المدينة قرابة ( 150 ) كيلومترا.
    بلغ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ أباسفيان بن حرب ، مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش ، فيها أموال لهم و تجارة من تجاراتهم ، فيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون ، منهم مخرمة بن نوفل و عمروبن العاص ، فندب المسلمين إليهم و قال : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها ، لعلّ اللّه ينفلكموها (1) هذا مايذكره أصحاب السير ، و هو بظاهره يكشف عن جانب من جوانب القضيّة ، و لكنْ كان هناك حافز آخر دفع النبي للتعرّض إلى عير قريش و هو أنّ المسلمين في اُمّ القرى ، كانوا يعانون من ضغط المشركين و ظلمهم ، فقد كانوا يستبيحون دماءهم ويصادرون أموالهم و يخرجونهم من مساكنهم و ديارهم ظلماً و بغياً ، فأراد النبي أن
1 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص606 ـ 607 ، و مغازي الواقدي ج1 ص20.

(318)
يوقف قريشاً على خطورة ما يفعلون ، و أنهّم إذا تمادوا في أعمالهم الإجراميّة في مكّة ، فسوف يقوم المسلمون بقيادة نبيّهم ، بسد منافذ تجارتهم و مصادرة قوافلهم.
    فخرج رسول اللّه في ثمان ليال خلون من شهر رمضان و استعمل عمرو بن اُم مكتوم على الصلاة بالناس ، و ردّ أبا لبابة من الروحاء و استعمله على المدينة ، فسلك طريقه من المدينة ـ و بعد ما قطع منازل ـ نزل على واد يقال له « ذفران ». و كان أبوسفيان حين دنامن الحجاز يتحسّس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان حتّى أصاب خبراً من بعضهم أنّ النّبي قد استنفر أصحابه قاصداً إيّاه و عيره ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر « ضمضم بن عمرو الغفاري » فبعثه إلى مكّة و أمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ، و يخبرهم أنّ محمّداً قد عرض لها في أصحابه ، فخرج « ضمضم بن عمرو » سريعاً إلى مكّة ، و دخل و هو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره ، و قد جدع بعيره ، و حوّل رحله ، و شقّ قميصه ، و هو يقول :
    « يا معشر قريش ، اللطيمة ، اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها الغوث ، الغوث ».
    فتجهّز الناس سراعاً و قالوا : أيظن محمد و أصحابه أن تكون ( عيرنا ) كعير ابن الحضري ، كلاّ واللّه ، ليعلمنّ غير ذلك ، فكانوا بين رجلين أمّا خارج و أمّا باعث مكانه رجلاً. و أوعبت قريش ، فخرجوا كلّهم إلى الغزو ، فلم يتخلّف من أشرافها إلاّ أبالهب فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة.
    أقبل أبوسفيان بن حرب ، و تقدّم العير حذراً ، حتّى وردالماء ، فقال لـ « مجدي بن عمرو » : هل أحسست أحداً. فقال : ما رأيت أحداً أنكره ، إلاّ إنّي قدرأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن (1) لهما ، ثم انطلقا ، فأتى أبوسفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه فإذا فيه النوى ، فقال : هذه واللّه علائف يثرب ، فرجع إلى أصحابه سريعاً ، فضرب وجه عيره عن الطريق و أخذ بها جهة
1 ـ أي قربة ، و هي آلة حمل الماء.

(319)
الساحل و ترك بدراً يساراً ، و انطلق حتّى أسر ع.
    و لمّا رأى أبوسفيان أنّه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنّكم إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم و رجالكم و أموالكم ، فقد نجّاها اللّه ، فارجعوا.
    فقال أبوجهل بن هشام : واللّه لا نرجع حتى نرد بدر اً ـ و كان بدر موسماً من مواسم العرب ، يجتمع به سوق كل عام ـ فنقيم عليه ثلاثاً ، فننحر الجزر ، و نطعم الطعام ، و نسقي الخمر ، و تعزف علينا القيان ، و تسمع بنا العرب و بمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها.
    فمضت قريش حتّى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي يتوسّط بينها و بين وادي البدر كثيب.
    ثمّ إنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس و أخبرهم عن قريش ، فأظهر كل رأيه. فقال عمر بن الخطاب ـ مهوِّلاً خطورة الموقف ـ : إنّها واللّه قريش و عزّها ، واللّه ما ذلّت منذ عزّت ، والله ما آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزّها أبداً ، و لتقاتلنّك ، فاتّهب لذلك اُهبته ، وأعد لذلك عدتّه (1).
    ثمّ قام المقداد بن عمرر ، فقال : « يا رسول اللّه ، أمض لما أراك اللّه ، فنحن معك ، والله لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( إذْهَبْ أنْتَ وَ رَبُّكَ فَقَاتِلاَ انَّا هَاهُنَا قَاعِدُون ). و لكن إذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ، فوالّذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد (2) ، لجادلنا معك من دونه حتّى تبلغه ». فقال له رسول اللّه خيراً و دعا له بخير.
    ثمّ قال رسول الله : « أشِيروا عليّ أيّها الناس » و إنّما يريد ( رسول الله ) الأنصار ، و كان يظن أنّ الأنصار لا تنصره إلاّ في الدار ، و ذلك انّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا
1 ـ المغازي ، للواقدي ج1 ص48.
2 ـ موضع بناحية اليمن ، و قيل هو أقصى حجر ، و قيل إنّها مدينة في الحبشة.


(320)
يمنعون منه أنفسهم و أولادهم ، و عند ذلك قام سعد بن معاذ ، فقال : « أنا اُجيب عن الأنصار ، و كأنّك تريدنا يا رسول اللّه ؟ » قال : « أجل » ; قال :
    « فقد آمنّا بك و صدّقناك ، و شهدنا أنّ ماجئت به هوالحقٌ ، و آتيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع و الطّاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أردت ، فنحن معك ، فو الّذي بعثك بالحق لواستعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلّف منا رجل واحد ، و ما نكَره أن تلقى بناعدونا غداً ، و إنّا لصبُرٌ في الحرب ، صُدق في اللقاء ، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة اللّه ».
    فسرّ رسول اللّه بقول سعد ، و نشّطه ذلك ، ثم قال : « سيروا وابشروا ، فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، واللّه كإنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم ».
    ثم إنّه سبحانه يشير إلى خروج قريش من مكّة و إصرارهم على إدامة السير إلى وادى بدر ليقيموا هناك أيّاماً يسقون الخمر و تعزف عليهم القيان بقوله سبح ـ ـ ان ـ ه : ( وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذيِنَ خَرَجُوا دِيَارِهِم بَطَراً وَ رِئَاءَ اْلنَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اْللّهِ وَ اْللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) ( الأنفال/ 47 ).
    روى ابن عباس في تفسيرالآية : « لمّا رأى أبوسفيان أنّه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش أن ارجعوا ، فقال أبوجهل : واللّه لا نرجع حتّى نرد بدراً ... » (1) و قد تقدّم ذكره.
    إنّّ غزوة بدر ، كانت أوّل غزوة قام بها المسلمون ، و لم يكن لهم تدريب في الحرب ، و لأجل ذلك كره فريق من المؤمنين الحرب ، قال سبحانه : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِاْلحَقِّ وَ إِنَّ فَريِقاً مِّنَ المُؤمِنيِنَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِ لُونَكَ فِى اَلحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى اْلمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) ( الأنفا ل/5 ـ 6 ).
    و الآية ظاهرة في كراهة لفيف من المؤمنين للخروج من المدينة عند مغادرتها ، و يحتمل أن تكون إشارة إلى كراهة بعضهم للخروج في مجلس المشورة في منطقة « ذفران » ، و قد تعرّفت على بعض نصوص الكارهين.
1 ـ مجمع البيان ج2 ص548.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس