مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: 321 ـ 330
(321)
    و كان أكثر المؤمنين يريدون مواجهة العير دون النفير ، مواجهة غير ذات الشوكة ، حتّى يكسبوا الأموال و يجمعوا الغنائم. و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اْللّهُ إحْدَى اْلطَّآئِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَ تُوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُريِدُ اْللّهُ أَنْ يُحِقَّ اْلحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحقَّ وَ يُبْطِلَ البَاطِلَ وَ لَوْكَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الأنفال/7 ـ 8 ).
    و قد عرفت أنّ النّبي قال لهم : « إنّ اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين » ولكنّ إرادة اللّه سبحانه غلبت على إرادتهم فالتقوا بالنفير دون العير ، لما في ذلك من إظهار للحق ، و عزاز للإسلام ، و إستئصال للكافرين ، و إبطال للباطل.

إنتقال الرّسول إلى مكان قريب من بدر
    و لمّا وقف الرّسول على أنّ الأنصار مستعدّون للحرب و القتال ، و أنّ حربهم و قتالهم عن رغبة و رضى ، ارتحل الرّسول من « ذفران » و قطع منازل حتّى نزل قريباً من « وادي بدر » ، فركب هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و رجل من أصحابه يتعرّفان أخبار قريش ، فوقف ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على شيخ في المنطقة ، فسأله عن قريش و عن محمّد و أصحابه.
    قال الشيخ : إنّه بلغني أنّ محمّداً و أصحابه خرجوا يوم كذا و كذا ، فإن كان الذّي أخبرني صدق ، فهم اليوم بمكان كذا و كذا ( فسمّى المكان الّذي به رسول اللّه ) ، و بلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا و كذا ، فإن كان الّذي أخبرني صدق ، فهم اليوم في مكان كذا و كذا ( فسمّى المكان الّذي فيه قريش ) ; ثم انصرف. فلمّا أمسى بعث علي بن أبي طالب مع غيره يلتمسون الخبر له ، فأصابوا راوية (1) لقريش ، و عليها غلامان لهم ، فأتوا بهما فسألوهما ، فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء و هؤلاء وراء هذا الكثيب; فقال لهما رسول اللّه : كم القوم ؟ قالا : كثير ، قال : ما
1 ـ الإبل التي يستقي عليها الماء.

(322)
عدّتهم ؟ قالا : لاندري ، قال : كم ينحرون كل اليوم ؟ قالا : يوماًتسعاً و يوماً عشراً ، فقال رسول اللّه القوم بين التسعمائة و الألف. ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ فسمّوا أسماء عدّة منهم ، فأقبل رسول اللّه على النّاس ، فقال : هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
    و لم يكتف النّبي بما وصل اليه من الأخبار ، فأرسل بعض أصحابه حتّى نزل بدراً ، فأناخ إلى تل قريب من الماء ، ثمّ أخذ زقّاً يستقي فيه ، فسمع جاريتين تتنازعان في دين عند « مجدي بن عمرو الجهني » شيخ القبيلة ، فقالت إحداهما للاُخرى ، عند ما تأتي العير غداً أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثمّ اقضي الّذي لك ، فقال مجدي : صدقت : ثّم خلص بينهما. فرجع إلى النّبي ، فأخبره بما سمع ، فأذعن النّبي بأنّ موضع العدو قريب وهم وراء الكثيب.

نزول النّبي في وادي بدر
    لمّا كانت قلب المياه في بدر ، أسرع النّبي بالسّير حتّى ينزل ببدر في العدوة الدّنيا ، فمضى و كان الوادي ليّناً و لكن قليل الرمل ، و جاءت الأمطار فلبّدت الأرض للنّبي و أصحابه و لم يمنعهم عن السير ، و لكن أصاب قريشاً من المطر مالم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، فخرج رسول اللّه يبادرهم إلى الماء ، حتّى إذا جاء أدنى ماء من بدر ، نزل به.
    ثمّ قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) به : أشيروا عليّ في المنزل. فقال الحبّاب بن المنذر : يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه اللّه ، فليس لنا أن نتقدّمه و لا نتأخّر عنه ، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة. قال : بل هو الرأي والحرب و المكيدة. قال : فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم ، فإنّي عالم بها و بقلبها ، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه ، و ماء كثير لا ينزح ، ثم نبني عليها حوضاً و نقذف فيه الآنية فنشرب و نقاتل ، و نغور ماسواها من القلب.


(323)
    فقال رسول اللّه : يا حبّاب أشرت بالرأي ، و بادر القوم إلى الماء حتّى إذا وصلوا إلى ما يريدون نزلوا فيه. ثم أمر بالقلب فغورت ، و بنى حوضاً على القليب الّذي نزل عليه. فملي ماء ثمّ قذ فوا فيه الآنية (1).

بناء العريش
    فلمّا استقرّ لهم المكان إقترح سعدبن معاذ على النّبي ، فقال : يا نبي اللّه ألا نبني لك عريشاً تكون فيه و نعدّ عندك ركائبك ثم نلقى عدوّنا ، فإن أعزّنا اللّه و أظهرنا على عدوّنا ، كان ذلك ما أحبنا ، و إن كانت الاُخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلّف عنك أقوام ، يا نبي اللّه ، ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم ، ولوظنّوا انّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك ، يمنعك اللّه بهم ، يناصحونك و يجاهدون معك. فاثنى عليه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خيراً ، و دعا له بخير ، ثم بنى لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عريش ، فكان فيه (2).
     تعليق على تغوير القلب و بناء العريش
    هذا ما تذكره كتب السيرة ، و لكن للنظر في كلا الأمرين المذكورين مجالاً ، أمّا تغوير القلب و طمّها ، فهو لا يناسب شأن النبي الأكرم ، فقد كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوصي قادة سراياه عند ما كان يبعثها باُمور ، و يقول : سيروا باسم اللّهو باللّه ، وفي سبيل اللّه ، و على ملّة رسول اللّه ، لا تغلو ، و لا تمثّلوا ، و لا تغدروا ، و لا تقتلوا شيخاً فانياً ، و لا صبيّاً ، و لا امرأة ، و لا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها.
    و في رواية اُخرى : و لا تحرقوا النخل ، و لا تغرقوه بالماء ، و لا تقطعوا شجرة مثمرة ، و لا تحرقوا زرعاً ، لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه (3).
1 ـ السيرة النبويّة ج1 ص620 ، مغازي الواقدي ج1 ص53.
2 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج1 ص620 ـ 621.
3 ـ الوسائل ج11 الباب 5 من أبواب جهاد العدو ، الحديث 2و3.


(324)
    فإنّ من يمنع من قطع الشجرة أولى بأن يمنع من طمّ القلب الّتي حفرها رجال الخير لأجل سقاية القوافل الّتي كانت تمرّ من هذا الطريق.
    و قد أشار بعض أصحابه في غزوة خيبر أن يمنع جريان الماء إلى قلاع خيبر ، فأبى (1). و قد كانت هذه سيرة وصيّة أميرالمومنين فإنّه ـ صلوات اللّه عليه ـ ورد صفّين و قد سيطر أصحاب معاوية على الشريعة ، فمنعوا أصحاب علي من الإستقاء ، حتّى أصابهم العطش و ضاق الأمر عليهم ، فلم يكن بد من فتح طريق الماء على أصحابه ، فحمل حملة خاطفة مع لفيف من أصحابه على الشريعة فأزال جيش معاوية عنها ، فلمّا إستولى عليها إقترح عليه بعض أصحابه أن يعتدي عليهم بالمثل ، فأبى ، و قال ـ مخاطباً لعسكره ـ : خذوا من الماء حاجتكم و ارجعوا الى عسكركم و خلّوا بينهم و بين الماء ، فإنّ اللّه قد نصركم ببغيهم و ظلمهم (2).
    و أمّا بناء العريش للنّبي الأكرم ، فهو بمعزل من الصّحة ، فإنّ قبوله أمام أصحابه الّذين يضحّون بنفسهم ونفيسهم يثبّط من عزائمهم ، و يخفّف من مثابرتهم ، فإنّهم إذا رأوا باُمّ أعينهم أنّ سيّدهم على حالة إذا رأى بوادر الهزيمة فسيجلس على الركائب و ينجي نفسه و يترك أصحابه تحت رحمة عدوّهم ، فلربّما يشكّون في صحّة دعوته و نبوّته ، فلا يصدر مثل ذلك الإقتراح من سيد مثل سعد بن معاذ المعروف بالعقل و الحنكة ، و لو صدر منه ـ على وجه بعيد ـ فلن يقبله النّّبي الأكرم الّذي يصفه علي ( عليه السلام ) بقوله : « كان أقرب الناس إلى العدوّ ، و كنّا إذا احمر البأس إتّقينا برسول اللّه » (3).
1 ـ ناسخ التواريخ ج2 ص400.
2 ـ وقعة صفّين ص180.
3 ـ نهج البلاغة : قسم غريب كلامه برقم 9.


(325)
إرتحال قريش من مقامهم و نزولهم وادي بدر
    قد تعرّفت على أنّ النّبي الأكرم قد أسرع في الإرتحال و استقرّ في وادي بدر قبل أن ينزل العدو من وراء الكثيب ، فارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت ، فلمّارأى رسول اللّه نزولهم إلى الوادي قال : « اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك و تكذّب رسولك ، اللّهم فنصرك الّذي وعدتني ، اللّهم أحنهم (1) الغداة » (2).
    و قال الواقدي : و كان أوّل من طلع زمعة بن الأسود على فرس له ، يتبعه ابنه ، فاستجال بفرسه يريد أن يتبوّأ للقوم منزلاً ، فقال رس ـ ول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اللّهم إنّك أنزلت عليّ الكتاب و أمرتني بالقتال ، و وعدتني إحدى الطائفتين ، وأنت لاتخلف الميعاد ، اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها ... (3).
    فلمّا إطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي ، فقالوا : أحرز لنا محمداً وأصحابه ، فاستجال بفرسه حول المعسكر ، فصوّب في الوادي و صعد ، يقول : عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ، ثمّ رجع فقال : لا مدد و لاكمين ، و القوم ثلاثمائة إن زادوا قليلاً ، و معهم سبعون بعيراً ، و معهم فرسان ، ثم قال : يا معشر قريش ، البلايا (4) تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولاملجأ إلاّ سيوفهم ، ألا ترونهم خُرّسا لا يتكلّمون ، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي ، و اللّه ما أرى أن يقتل منهم رجل حتّى يقتل منّا رجلاً ، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فماخير في العيش بعد ذلك ، فارتأوا رأيكم (5).
1 ـ أي أهلكهم.
2 ـ السيرة النبويّة ، ج1 ص621.
3 ـ مغازي الواقدي ، ج1 ص29.
4 ـ البلايا جمع بليه و هي الناقة.
5 ـ السيرة النبويّة ج1 ص622 ، و المغازي للواقدي ، ج1 ص62.


(326)
    و لمّا قال الجمحي هذه المقالة أرسلوا أبا اُسامة الجشمي و كان فارساً ، فأطاف بالنّبي و أصحابه ، قال : واللّه ما رأيت جلداً ، و لا عدداً ، و لا حلقة (1) ، ولاكراعاً ، ولكنّي واللّه رأيت قوماً لا يريدون أن يعودوا إلى أهليهم ، قوماً مستميتين ليست لهم منعة و لا ملجأ إلاّ سيوفهم (2).
    فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في النّاس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فاستدعى منه أن يرجع بالنّاس فلبّى دعوته برحابة ، و أمره بالإنطلاق إلى أبي جهل ، ويستدعي منه نفس ذلك ، فرجع إليه و قال يا أبا الحكم : إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ( أي أن ترجع بالنّاس و تترك الحرب ) ، فقال : « واللّه لا نرجع حتّى يحكم اللّه بيننا و بين محمّد. و ما بعتبة ما قال ، و لكنّه قد رأى أنّ محمداً و أصحابه أكلة جزور ، وبين أصحابه ابنه ، فقد تخوّفكم عليه ». و بالتّالي أفسد أبوجهل على النّاس الرأي الّذي دعاهم إليه عتبة ، و جرّهم إلى التهلكة و الدمار.

الشرارة الّّتي أشعلت الحرب
    كان القوم يتحاورون حول الحرب ، فبين داع إلى ترك الوادي واللحوق بمكّة ، وترك أمر محمّد إلى ذؤبان العرب (3) ، وبين متردّد يقدّم رجلاً ويؤخّر اُخرى ، ومحرّض يدعو إلى الإقدام والقتال ، فبينما كان القوم على هذه الحالة ، خرج الأسود بن عبدالأسد المخزوفي ، وكان رجلاً سيئ الخلق ، فقال : أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم ، أو لاُهدِّمنّه أو لأموتنّ دونه ، فلمّا خرج ، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب ، فلمّا إلتقيا ، ضربه حمزة فأطار قدمه بنصف ساقه ، و هو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً ، ثم حبا إلى الحوض ، حتّى وقع فيه ، يريد أن يبرّ يمينه ، فتبعه حمزة وضربه حتى قتله في الحوض.
1 ـ أي سلاحاً.
2 ـ المغازي ج1 ص62.
3 ـ صعاليكهم.


(327)
    و هذه الحادثة فرضت الحرب على قريش وأبطلت فكرة الرجوع ، فخرج عتبة ابن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن ربيعة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار. فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : رهط من الأنصار ، قالوا : مالنا بكم من حاجة ، ثم نادى مناديهم : يا محمّد ، أخرج إلينا أكفّاءنا من قومنا ، فقال رسول اللّه : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم ياعلي ، فلمّا قاموا ودنوا منهم. قالوا : من أنتم ؟ قال عبيدة : عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال علي : علي. قالوا : نعم أكفّاء كرام ، فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة ، و بارز حمزة شيبة بن ربيعة ، وبارز عليّ الوليد بن عتبة ، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، و أمّا علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، وإختلف عبيدة و عتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه (1) ، و كرّ حمزة و علي بأسيافهما على عتبة ، فأسرعا قتله ، و احتملا صاحبهما.
    ثّم تزاحف النّاس و دنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصحابه أن لا يحملوا حتّى يأمرهم ، فقال : إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل. ثم عدّل رسول اللّه الصفوف ، و ناشد ربّه وقال : « اللّهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لن تعبد » ثم خرج رسول اللّه إلى النّاس فحرّضهم و قال : والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلاّ أدخله اللّه الجنّة.
    ثّم إنّ رسول اللّه أخذ حفنةً من الحصباء فاستقبل قريشاً بها ، ثم قال : شاهت الوجوه ، ثم نفحهم بها. وأمر أصحابه فقال : شدّوا ، فكانت الهزيمة ، فقتل اللّه تعالى من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم وفرّ من فرّ إلى مكّة.
    وكان شعار أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم بدر : أحد ، أحد. فكانت الهزيمة لقريش والنّصر للمسلمين.
1 ـ جرحه جراحة لم يقم معها.

(328)
الإعانات الغيبيّة
    إنّ غزوة بدر من أعظم غزوات النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان إنتصاره فيها معجزة غيبيّة تفضّل بها سبحانه على اُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث إلتقى في وادي بدر فئتان غير متكافئتين عدداً وعدّة ، ولقد كان عدد المشركين ثلاثة إضعاف عدد المسلمين ، كان المشكون بين تسعمائة وألف (1) وعدد المسلمين ثلاثمائة وبضع وعلى قول ثلاثمائة وثلاثة عشر لم يكن لدى المسلمين إلاّ فرسان ، وقد تعرّفت على كلمة أبي اُسامة الجشمي رائد القوم ( قريش ) « ... واللّه مارأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً » (2).
    و مع ذلك كلّه ، غلبت هذه الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة ، لقوّة إيمانها وتفانيها دون رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودينهم ، وفي ظل إعانات غيبيّة يذكرها القرآن الكريم ، سيوافيك بيانها.
    قال سبحانه : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اْللّهُ بِبَدْر وَأَنْتُم أَذِلَّةً فَاْتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُم تَشْكُروُنَ ) ( آل عمران/123 ).
    نعم ، كانوا أذلاّء ، فصاروا أعزّاء أقوياء بفضله وكرمه. قال سبحانه : ( وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِينَ وَلكِنَّ المُنافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون/8 ) فصاروا أعزّاء بعنايات ربّانية ، وإعانات غيبيّة تكفّل الذكر الحكيم ببيانها ونحن نذكرها إستلهاماً منه ، وتصل أنواعها إلى ثمانية ، وكان لها الدور الهام في إنتصار المسلمين.
1 ـ قال الواقدي : « و خرجت قريش بالجيش يتقاذفون بالحراب ، و خرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلاً ، و قادوا مائة فرس ، و كانت الإبل سبعمائة بعير ، و كان أهل الخيل كلّهم دارع و كانوا مائة ، و كان في الرجالة دروع سوى ذلك » المغازي ، ج1 ص39.
2 ـ المغازي ج1 ص62.


(329)
1 ـ إراءة العدو قليلاً في المنام
    قد رأى النّبي في المنام وقعة بدر ، وأراه سبحانه عدد العدو قليلاً فيه ليصون المسلمين بذلك عن الفشل والتنازع ، قال سبحانه : ( إذْ يُرِيكَهُمُ اْللّهُ فِى مَنِامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُم كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُم فِى اْلأمْرِ وَلكِنّ اْللّهَ سَلَّمَ إنَّهْ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الأنفال/43 ).
    إنّ الآية تصرّح بأنّه سبحانه أراهم للنّبي في منامه قليلاً ، وبيّن أنّ سبب ذلك هو منع طروءأمرين بين المسلمين ، أشارإليهما بقوله :
    أ ـ ( لفشلتم )
    ب ـ ( ولتنازعتم )
    والّذي يلزم الفات النظر إليه هو أنّ اللّه سبحانه ينسب الأمرين إلى المسلمين لاإلى النّبي الأكرم ، وهذا يعرب أنّ إراءة العدو قليلين كان مؤثّراً في عزائم المسلمين لا في عزيمة النّبي الأكرم ، فإنّه ( صلوات اللّه عليه وآله ) كان ثابتاً ، قليلين كانوا أم كثيرين ، وإنّما أراهم النّبي قليلاً حتّى ينقل رؤياه إلى المسلمين حسب مارآه ، فتشتدّ عزيمتهم وترتفع معنويّاتهم بظنّ انّ أعدائهم أقلاّء.
     2 ـ إراءة كلّ من الفريقين الآخر قليلاً في بدء الحرب
    ومن إعاناته تعالى الغيبيّة أنّه سبحانه أرى كل فريق للفريق الآخر ـ عند إبتداء الحرب ـ قليلاً ، وقد كانت تكمن في ذلك فلسفة إنتصار الحق على الباطل وزهوقه ، فأرى المشركين المؤمنين قليلين ، كما أرى المؤمنين للفريق الآخر كذلك ، حتّى إنّ أبا جهل قال : خذوا أصحاب محمّد بالأيدي (1).
1 ـ مجمع البيان ج2 ص547.

(330)
    إنّما أرى المشركين المؤمنين قليلين ، حتّى لا يورث ذلك رُعبا ووحشة في قلوبهم ، وقد مرّ في الإعانة الاُولى أنّه سبحانه فعل ذلك دفعاً للفشل والتّنازع.
    و إنّما أرى المؤمنين للمشركين قليلين لئلاًّ يتأهّبوا ويستشرسوا في القتال ، ويتخيّلوا أنّهم لا يحتاجون في دفع عدوّهم إلى بذل جهد كبير.
    قال سبحانه مشيراً إلى ذلك بقوله : ( وَإذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ اْلتَقَيْتُم فِى أَعيُنِكُم قَلِيلاً وَيُقَلِلُّكُمْ فِى أعْيُنِهِم ، لِيَقْضِىَ اْللّهُ أمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً وَإلَى اْللّهِ تُرْجَعُ الأُمُوُر ) ( الأنفال/44 ) و حاصل الآية أنّه سبحانه قلّل الفريقين في عين الآخر ، ولولا ذلك لانتهى الأمر إلى فشل المسلمين أو إلى فرار العدوّ من المعركة ، بحفظ أنفسهم.وقد تعلّقت مشيئته بإبادتهم.

3 ـ إراءة المشركين كثرة المؤمنين أثناء القتال
    و هناك إعانة غيبيّة ثالثة وهي أنّه سبحانه أرى المؤمنين للمشركين في أثناء القتال كثيرين ، على خلاف ما أراهم إيّاه عند إبتداء القتال.
    إنّ المصلحة قد اقتضت أن يُري سبحانه المؤمنين للعدو كثيرين على خلاف ما أراهم عند أوّل الحرب و ذلك حتّى يتخيّل العدو أنّه وصل إلى المسلمين مددٌ كانوا بعيدين عن المعركة حتّى تتزعزع بذلك معنويّاتهم و يتقهقروا عن ميدان المعركة بعد ما فتك بهم المسلمون بقتل كثيرين منهم و أسر آخرين.
    قال سبحانه : ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِى فِئَتَيْنِ اْلتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِم رَأْىَ العَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَآءُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُِّولِى اْلأبْصَارِ ) ( آل عمران/13 ).
    اُنظر إلى قوله سبحانه : ( يرونهم مثليهم رأى العين ) فإنّ هذه الجملة ناظرة إلى أثناء الحرب ، وماورد في الإعانة الغيبيّة الثانية ناظر إلى أوّل الحرب.
مفاهيم القرآن ـ جلد السابع ::: فهرس