111
أيّوب في صبره وبلائه ، فلينظر إلى هذا الرجل المقبل الذي هو كالشمس والقمر الساري ، والكوكب الدرّي ، أشجع الناس قلباً وأسخى الناس كفّاً ، فعلى مبغضه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » ، قال : فالتفت الناس ينظرون مَن هذا المقبل ، فإذا هو علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام (1) .
    ولذلك لم يبعث الله تعالى نبيّاً إلاّ بمعرفة حقّهم ، وتفضيلهم على مَن سواهم كما في حديث عبدالأعلى قال : سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول :
    « ما من نبي جاء قط إلاّ بمعرفة حقّنا وتفضيلنا على مَن سوانا » (2) .
    بل أخذ من الأنبياء الميثاق بالشهادة بذلك كما في حديث أبي الصباح الكناني ، عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) قال :
    أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في مسجد الكوفة قد احتبى بسيفه قال : ياأمير المؤمنين إنّ في القرآن آية قد أفسدت قلبي وشكّكتني في ديني .
    قال له (عليه السلام) : وما هي ؟
    قال : قوله عزّوجلّ : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا) (3) هل كان في ذلك الزمان غيره نبيّاً يسأله ؟
    فقال له علي صلوات الله عليه : اجلس اُخبرك إن شاء الله .
    إنّ الله عزّوجلّ يقول في كتابه : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ
(1) بحار الأنوار : ج39 ص38 ب73 ح9 .
(2) الكافي : ج1 ص437 ح4 .
(3) سورة الزخرف : الآية 45 .



112
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَْقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) (1) .
    فكان من آيات الله عزّوجلّ التي أراها محمّداً (صلى الله عليه وآله) أنّه أتاه جبرئيل (عليه السلام)فاحتمله من مكّة ، فوافى به بيت المقدّس في ساعة من الليل .
    ثمّ أتاه بالبراق فرفعه إلى السماء ، ثمّ إلى البيت المعمور ، فتوضّأ جبرئيل وتوضّأ النبي (صلى الله عليه وآله) كوضوئه ، وأذّن جبرئيل وأقام مثنى مثنى ، وقال للنبي (صلى الله عليه وآله) : تقدّم فصلّ واجهر بصلاتك ، فإنّ خلفك اُفقاً من الملائكة لا يعلم عددهم إلاّ الله ، وفي الصفّ الأوّل أبوك آدم ونوح وهود وإبراهيم وموسى وكلّ نبي أرسله الله مذ خلق السماوات والأرض إلى أن بعثك يامحمّد .
    فتقدّم النبي (صلى الله عليه وآله) فصلّى بهم غير هائب ولا محتشم ركعتين ، فلمّا إنصرف من صلاته أوحى الله إليه : (اسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا) الآية .
    فالتفت إليهم النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : بم تشهدون ؟
    قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّ عليّاً أمير المؤمنين ووصيّك ، وكلّ نبي مات خلّف وصيّاً من عصبته غير هذا ـ وأشار إلى عيسى بن مريم ـ فإنّه لا عصبة له ، وكان وصيّه شمعون الصفا بن حمّون بن عمامة .
    ونشهد أنّك رسول الله سيّد النبيّين ، وأنّ علي بن أبي طالب سيّد الوصيين ، اُخذت على ذلك مواثيقنا لكما بالشهادة .
(1) سورة الإسراء : الآية 1 .


113
    فقال الرجل : أحييت قلبي وفرّجت عنّي ياأمير المؤمنين (1) .
    وما تكاملت النبوّة لنبي في الأظلّة حتّى عرضت عليه ولاية محمّد وآل محمّد ، فأقرّوا بطاعتهم وولايتهم ، كما في حديث حذيفة بن أسد الغفاري قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
    « ما تكاملت النبوّة لنبي في الأظلّة حتّى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ومُثّلوا له ، فأقرّوا بطاعتهم وولايتهم » (2) .
    واعلم أنّ في نسخة الزيارة (3) بعد قوله هذا ، زيادة قوله : « وآل يس » ويس هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآل محمّد آل يس (عليهم السلام) .
    وقد خصّهم الله بالسلام في سورة الصافات (4) التي سُلّم فيها على الأنبياء دون آلهم ، إلاّ آل يس كما تلاحظه في أحاديثنا المروية عن أئمّتنا الطاهرين سلام الله عليهم مثل حديث سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال :
    « إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إسمه ياسين ، ونحن الذين قال الله : (سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) » (5) .
    وفي المجمع (6) قال ابن عبّاس : آل يس آل محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وهو قراءة ابن
(1) بحار الأنوار : ج26 ص285 ح45 .
(2) المعالم الزلفى : ص303 ب26 ح6 .
(3) في البلد الأمين ، ومستدرك الوسائل .
(4) سورة الصافات : الآية 130 .
(5) بحار الأنوار : ج23 ص168 ب8 ح2 .
(6) مجمع البيان : ج8 ص456 و457 .



114
وَعِتْرَةَ خِيَرَةِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1)

عامر ونافع ورويس عن يعقوب .
    (1) ـ عترة الرجل : نسله ورهطه وعشيرته الأقربون .
    وجاء أيضاً بمعنى ذرّية الرجل من صلبه ، وجاء في اللغة أيضاً لمعان اُخرى فقد حكي عن ابن الأعرابي مجيئه بمعنى قطع المسك الكبار في النافجة ، وبمعنى الريقة العذبة ، وبمعنى الشجرة ، أو الشجرة المقطوعة التي تنبت من اُصولها .
    وعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم آل محمّد صلوات الله عليهم كما جاء التصريح بذلك في حديث الريّان بن الصلت قال :
    حضر الرضا (عليه السلام) مجلس المأمون بمرو ، وقد إجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان .
    فقال المأمون : مَن العترة الطاهرة ؟
    فقال الرضا (عليه السلام) : الذين وصفهم الله في كتابه ، فقال جلّ وعزّ : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1) وهم الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « إنّي مخلّف فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، أيّها الناس لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم » .
    قالت العلماء : أخبرنا ياأبا الحسن عن العترة ، أهم الآل أم غير الآل ؟
(1) سورة الأحزاب : الآية 33 .


115
    فقال الرضا (عليه السلام) : هم الآل ... (1) .
    قال الشيخ الصدوق (قدس سره) : (العترة علي بن أبي طالب وذرّيته من فاطمة وسلالة النبي (عليهم السلام) ، وهم الذين نصّ الله تبارك وتعالى عليهم بالإمامة على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، وهم إثنى عشر أوّلهم علي وآخرهم القائم (عليهم السلام) ، على جميع ما ذهبت إليه العرب من معنى العترة ...) (2) .
    والخِيَرة بكسر الخاء وفتحها ، معناها المختار ، أي رسول الله الذي هو خيرة ربّ العالمين ، إختاره الله تعالى الذي هو المنشىء للخلق ، والمربّي لهم ، والمصلح لشأنهم والعالم بخيرهم .
    قال في المجمع : (محمّد خيرتك من خلقك) أي المختار المنتجب (3) .
    وأهل البيت سلام الله عليهم هم عترة خيرة ربّ العالمين أي أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما أوضحه وبيّنه وخصّها بهم هو صلوات الله عليه وآله في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين في قوله : « وعترتي أهل بيتي » كما لاحظته في الحديث الرضوي المتقدّم (4) .
    فلا يبقى أدنى ريب ، ولا أقلّ شبهة في أنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم عترة الرسول دون غيرهم ، وإن ادّعاها الغير كذباً .
    فقول أبي بكر في السقيفة : (نحن عترة رسول الله) يردّه ما يلي :
(1) بحار الأنوار : ج25 ص220 ب6 ح20 .
(2) معاني الأخبار : ص92 .
(3) مجمع البحرين : مادّة خَيَر ص258 .
(4) وتلاحظ مصادر الحديث في إحقاق الحقّ : ج9 ص309 ، وغاية المرام : ص211 .



116
وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكاتُهُ (1).

    أوّلا : أنّه من بني تيم بن مرّة وليس من بني هاشم ، فكيف بنسل النبي وعشيرته الأقربين حتّى يكون من عترته ، كما هو واضح .
    ثانياً : أنّه لو كانت دعواه صحيحة لكانت قريش كلّها عترة واحدة ، بل كانوا بنو مُعد بن عدنان عترة واحدة ، بل كان جميع ولد آدم عترة واحدة ، وهذا واضح الفساد (1) .
    ثالثاً : أنّه يشهد بعدم كونه من العترة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ردّه حينما أمره بتبليغ سورة البراءة ، فهبط عليه جبرئيل (عليه السلام) بأنّه لا يبلّغها إلاّ هو أو رجل منه . فأنفذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) وقال : « علي منّي ولا يؤدّي عنّي إلاّ علي » (2) .
    ففعل الرسول يشهد على أنّ أبا بكر ليس من عترته ، بل ليس منه ، فالعترة خاصّة بأهل بيته .
    (1) ـ الرحمة والبركات معطوفتان على السلام الذي تقدّم في أوّل الزيارة الشريفة في قوله (عليه السلام) : « السلام عليكم ياأهل بيت النبوّة » .
    والرحمة إمّا بيان للسلام ، أو أنّ السلام لرفع المكاره ، والرحمة لجلب الفضائل .
    كما وأنّ البركة التي هي الخير والكرم تشمل البركات الدنيوية
(1) تلخيص الشافي ، لشيخ الطائفة : ج2 ص242 .
(2) بحار الأنوار : ج21 ص275 ب31 ح10 بطرق الخاصّة ونقله في التلخيص : ج2 ص223 في الهامش عن البخاري والترمذي والطبري والسيوطي والشوكاني والمتّقي وابن كثير والخوارزمي والزرقاني والكنجي وابن حجر وغيرهم .



117
والاُخروية (1) .
    هذا تمام بيان السلام الأوّل من السلامات الخمسة التي إشتملت عليها هذه الزيارة الشريفة .
(1) روضة المتّقين : ج5 ص461 .


118
الفصل الثاني
السَّلامُ عَلى اَئِمَّةِ الْهُدى (1)

(1) ـ مضى بيان معنى السلام على ثلاثة وجوه ... وأنسبيّة المعنى الأخير منها بأن يراد من السلام إسم الله تعالى ، وخاصّية السلامة والرحمة .
    فيكون حاصل المعنى من هذه الفقرة أنّ رحمة الله وسلامته على أئمّة الهدى سلام الله عليهم .
    والأئمّة جمع إمام وهو المقتدى ، قال تعالى : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) (1) أي يأتمّ بك الناس فيتّبعونك ويأخذون عنك ، لأنّ الناس يؤمّون أفعاله ، أي يقصدونها فيتّبعونها (2) .
    والهدى هي الهداية والإرشاد ، والدلالة والبيان .
    قال الكازراني : (خلاصة معنى الهداية في الإستعمال الشرعي ، الدلالة إلى الحقّ ، والدعاء إليه ، وإراءة طريقه ، والإرشاد إليه ، والأمر به) (3) .
    وأهل البيت (عليهم السلام) هم أئمّة الهدى بمعنى إنّ الهدى يلازمهم ويتبعهم ، فهم
(1) سورة البقرة : الآية 124 .
(2) مجمع البحرين : مادّة أمَمَ ص503 .
(3) مرآة الأنوار : ص227 .



119
أئمّته ، أو بمعنى أنّهم أئمّة الناس في الهداية كما أفاده شيخنا المجلسي (قدس سره) (1) .
    فهم الهداة ورثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قال فيه ربّه سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم) (2) .
    وهم عدل القرآن الكريم الذي وصفه الله عزّ إسمه بقوله : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (3) .
    وقد جعلهم الله أعلام الهداية في قوله جلّ جلاله : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد) (4) .
    كما تلاحظ ذلك في تفسير هذه الآية في مثل :
    حديث بريد العجلي ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال :
    « رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر ، ولكلّ زمان منّا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله (صلى الله عليه وآله) ثمّ الهداة من بعده عليٌّ ثمّ الأوصياء واحدٌ بعد واحد » (5) .
    وجاء ذلك في أحاديث الخاصّة والعامّة (6) .
    فمن أتاهم اهتدى ، ومن تركهم سلك طريق الردى ، كما في حديث
(1) بحار الأنوار : ج102 ص135 .
(2) سورة الشورى : الآية 52 .
(3) سورة الإسراء : الآية 9 .
(4) سورة الرعد : الآية 7 .
(5) الكافي : ج1 ص191 ح2 .
(6) إحقاق الحقّ : ج4 ص300 .



120
وَمَصابِيحِ الدُّجى (1)

عبدالرحمن بن أبي ليلى من طرقنا (1) .
    ومن اقتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم ، ولم يهب الله محبّتهم لعبد إلاّ أدخله الله الجنّة ، كما في حديث جابر من طرق العامّة (2) .
    (1) ـ مصابيح جمع مصباح ـ وهو في اللغة بمعنى السراج الثاقب المضيء ، ويكنّى به عن كل ما يهتدى به .
    والدُجى جمع الدُجْيَة بضمّ الدال أي الظلمة ، يقال : ليل دَجِيّ وليل داج أي مظلم .
    والأئمّة الأطهار (عليهم السلام) مصابيح الدجى ، وسُرُج الهداية في الدنيا ، وهادون للخلق من ظلمة الشرك والكفر ، والضلالة والجهل ، إلى نور الإيمان والطاعة والمعرفة والعلم .
    بل هم المثل الأعلى لمصباح الهدى ، ووسائل النجاة في جميع الظلمات كما تلاحظ ذلك في حديث عبدالعزيز بن مسلم ، عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال فيه :
    « الإمام كالشمس الطالعة المجلِّلة بنورها للعالَم وهي في الاُفق ، بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار ، الإمام البدرُ المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى » (3) .
    وقد تقدّم في حديث بريد العجلي أنّهم الهادون في قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْم هَاد) .
(1) الكافي : ج1 ص181 ح6 .
(2) ينابيع المودّة : ص62 ، عنه إحقاق الحقّ : ج4 ص59 .
(3) الكافي : ج1 ص200 ح1 .