151
الفصل الثالث
السَّلامُ عَلى مَحَالِّ مَعْرِفَةِ اللّهِ (1)

(1) ـ محالّ جمع محلّ ، وهو المكان والموضع .
    والمعرفة هي إدراك الشيء .
    ومعرفة الله تعالى هي ـ كما قيل ـ : الإطّلاع على صفاته الجمالية الثبوتية ، والجلالية أي السلبية ، بقدر الطاقة البشرية ، وأمّا الإطّلاع على الذات المقدّسة فممّا لا مطمع فيه لأحد (1) .
    وأهل البيت سلام الله عليهم وُصفوا في هذا التسليم الثالث من هذه الزيارة المباركة بأنّهم محالّ ومواضع معرفة الله تعالى وإدراكه ، وذلك بمعنيين :
    المعنى الأوّل : أنّه لا يَعرِف الله تعالى حقّ معرفته إلاّ هم سلام الله عليهم ، فهم أعرف الناس بالله والتامّين في معرفته .
    ويشهد لهذا المعنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) : « ياعلي ما عرف الله حقّ معرفته غيري وغيرك ، وما عرفك حقّ معرفتك غير الله
(1) مجمع البحرين : مادّة عرف ص415 .


152
وغيري » (1) .
    وقد بلغوا أقصى غاية المعرفة الإلهية بحيث قال سيّدهم الأمير (عليه السلام) : « لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً » (2) .
    وفي حديث الأصبغ بن نباتة أنّه قام إليه رجل يقال له : ذِعلب فقال : ياأمير المؤمنين هل رأيت ربّك ؟
    فقال : « ويلك ياذِعلب لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره .
    قال : فكيف رأيته ؟ صفه لنا .
    قال : ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان » (3) .
    وللعلم ضمناً بأدنى ما يجزي من المعرفة لاحظ أحاديث المعارف خصوصاً حديث سيّدنا عبدالعظيم الحسني سلام الله عليه (4) .
    المعنى الثاني : أنّه لا يُعرف الله تعالى إلاّ بهم ومن طريقهم ، ولا يُتوصّل إلى المعرفة الحقّة إلاّ بتعريفهم ، فتعود المعرفة الصادقة إليهم سلام الله عليهم .
    كما يدلّ على ذلك مثل حديث عبدالله بن أبي يعفور ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي جاء فيه : « بنا عُرف الله وبنا عُبد الله ونحن الأدلاّء على الله
(1) بحار الأنوار : ج39 ص84 .
(2) بحار الأنوار : ج40 ص153 .
(3) بحار الأنوار : ج4 ص27 ب5 ح2 .
(4) بحار الأنوار : ج3 ص268 ب10 ح3 .



153
ولولانا ما عُبد الله » (1) .
    وكذلك حديث نصر العطّار أنّه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : « ثلاث اُقسم أنّهنّ حقّ : إنّك والأوصياء من بعدك عرفاء لا يُعرف الله إلاّ بسبيل معرفتكم ... » (2) .
    وهكذا حديث الأصبغ بن نباتة ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي ورد فيه : « نحن الأعراف الذين لا يُعرف الله إلاّ بسبيل معرفتنا » (3) .
    فطلب المعارف يكون من طريقهم وبمعرفتهم وهو الإيمان ، وفي مقابله يكون سلوك طريق غيرهم هو الكفر والعصيان .
    فإن رجعنا إليهم إهتدينا ، وإن أعرضنا عنهم أو رجعنا إلى غيرهم غوينا .
    ويكفي شاهداً وجدانيّاً على معرفتهم التامّة بالله تعالى كلامهم وحديثهم الجميل الذي تلاحظه في روايات التوحيد ، وما ورد عنهم في بيان صفات الله تعالى الذي تلاحظه في مثل خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) (4) .
    وكذلك ما أثر عنهم في أدعيتهم الشريفة المربّية كدعاء الإمام الحسين (عليه السلام)المعروف يوم عرفة الذي أورده الكفعمي في البلد الأمين ، والسيّد ابن طاووس في الإقبال ، والشيخ المجلسي في زاد المعاد .
    وكذلك ما اختصّ بهم من تعليم مواليهم وتهذيب شيعتهم والكمّلين
(1) التوحيد ، للصدوق : ص152 ب12 ح9 .
(2) بحار الأنوار : ج23 ص99 ب9 ح2 ـ 8 .
(3) بحار الأنوار : ج24 ص248 ب62 ح2 .
(4) نهج البلاغة : ج2 ص142 رقم الخطبة 181 من الطبعة المصرية .



154
وَمَساكِنِ بَرَكَةِ اللّهِ (1)

من أصحابهم مثل كميل بن زياد ، وميثم التمّار ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر وغيرهم .
    (1) ـ المساكن جمع مسكن بفتح الكاف وكسره ، هو محلّ النزول والسكون والإستقرار .
    والبركة هي كثرة النعمة والخير والكرم ، وزيادة التشريف والكرامة ، والنماء والسعادة .
    وأهل البيت سلام الله عليهم أجمعين هم محلّ الفيوضات الإلهية ، ومستقرّ البركات الربّانية ، وبهم يبارك الله تعالى على الخلائق بالأرزاق المادّية والمعنوية ، وبوسيلتهم يتفضّل الله الكريم على خلقه بالعطايا الجزيلة والمنائح الجميلة ، وبواسطتهم يهب الله العظيم العقل والمعرفة ، ويهدي إلى المعارف الحقّة .
    فإنّه بيُمنهم رُزِقَ الورى ، وبوجودهم ثبتت الأرض والسماء .
    ويدلّ على ذلك مضافاً إلى وجدان بركاتهم ، المشهودة في كراماتهم ، الأدلّة المتواترة مثل :
    1 ـ حديث الإمام السجّاد (عليه السلام) : « وبنا يُنزّل الغيث ، وتُنشر الرحمة ، وتخرج بركات الأرض ، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها » (1) .
    2 ـ حديث الإمام الصادق (عليه السلام) : « بنا أثمرت الأشجار ، وأينعت الثمار ، وجرت الأنهار ، وبنا اُنزل غيث السماء ، ونبت عشب الأرض » (2) .
(1) إكمال الدين : ج1 ص207 ح22 .
(2) بحار الأنوار : ج24 ص197 ب52 ح24 .



155
وَمَعادِنِ حِكْمَةِ اللّهِ (1)

    3 ـ حديث الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنِ النَّعِيمِ) (1) : « نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين ، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءً ، وبنا هداهم الله للإسلام ، وهي النعمة التي لا تنقطع ، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم به عليهم ، وهو النبي (صلى الله عليه وآله) وعترته (عليهم السلام) » (2) .
    4 ـ الزيارة الرجبية المعروفة : « فَبِكُم يُجبرُ المهيض ويُشفى المريض » .
    5 ـ حديث الإمام الصادق (عليه السلام) : « نحن أهل بيت الرحمة وبيت النعمة وبيت البركة » (3) .
    ولقد بارك الله تعالى في آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين بأنواع البركات .
    وجعل سيّدتهم الصدّيقة الطاهرة الكوثر والخير الكثير ، وسمّاها المباركة (4) .
    وبارك فيهم وفي نسلهم وفي شيعتهم وفي محبّيهم وحتّى في تربتهم التي تضمّنتهم ، والمشاهد الشامخة التي تشرّفت بهم .
    (1) ـ المعادن جمع مَعدِن بكسر الدال بمعنى محلّ إستقرار الجواهر وإفاضتها ، وهو مركز كلِّ شيء وأصله ومبدؤه .
(1) سورة التكاثر : الآية 8 .
(2) بحار الأنوار : ج24 ص49 ب29 الآيات ، كنز الدقائق : ج14 ص421 .
(3) بحار الأنوار : ج26 ص254 ب4 ح27 .
(4) بحار الأنوار : ج43 ص10 ب2 ح1 .



156
    والحكمة في اللغة هي : العلم الذي يرفع الإنسان ويمنعه عن فعل القبيح ، مستعارٌ من حكمة اللجام وهي ما أحاط بحنك الدابّة ، ويمنعها عن الخروج والمخالفة (1) . ويكون هذا المنع للإصلاح (2) .
    وعُرّفت الحكمة بأنّها هي : العلوم الحقيقيّة الإلهية (3) .
    وقد وردت كلمة الحكمة في الكتاب المبين ، وفُسّرت في كلمات الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، بما نستغني معها عن تفاسير الآخرين .
    فقد قال الله تعالى : (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْراً كَثِيراً) (4) .
    وقال عزّ إسمه : (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) (5) .
    وفسّرها المعصومون (عليهم السلام) بضياء المعرفة ، وطاعة الله تعالى ، ومعرفة الإمام (عليه السلام) ، واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار والعقاب ، والتفقّه في الدين ، والعقل والفهم (6) .
    وأهل البيت سلام الله عليهم هم معادن أنوار الحكمة الإلهية ، واُصول المعارف الربّانية ، وأسمى المراتب العقلانيّة .
    وهم أتمّ الناس في هذه المزايا ، ومعلّموا الخلق في هذه العطايا ، كما
(1) مجمع البحرين : مادّة حكم ص511 .
(2) مفردات الراغب : ص126 .
(3) الأنوار اللامعة : ص77 .
(4) سورة البقرة : الآية 269 .
(5) سورة لقمان : الآية 12 .
(6) تفسير البرهان : ج1 ص158 ، وج2 ص818 ، كنز الدقائق : ج2 ص443 .



157
وَحَفَظَةِ سِرِّ اللّهِ (1)

تلمسه في كلماتهم الصريحة ، وبياناتهم المليحة ، وفي نصوصهم وتنصيص سيّدهم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فلاحظ مثل :
    1 ـ حديث جابر بن عبدالله الأنصاري قال : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخذاً بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو يقول : « ... أنا مدينة الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب » (1) .
    2 ـ خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) : « أيّها الناس نحن أبواب الحكمة ، ومفاتيح الرحمة ، وسادة الأئمّة ، واُمناء الكتاب ، وفصل الخطاب ... وإنّا أهل بيت خصّنا بالرحمة والحكمة والنبوّة والعصمة ... » (2) .
    3 ـ حديث يونس بن ظبيان ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال له : « يايونس إذا أردت العلم الصحيح فخذ عن أهل البيت فإنّا روينا واُوتينا شرح الحكمة وفصل الخطاب ، إنّ الله إصطفانا وآتانا ما لم يؤت أحداً من العالمين » (3) .
    وفي البلد الأمين بعد هذه الفقرة زيادة : « وخزنة علم الله » فجميع العلوم الإلهية مخزونة عندهم ، محفوظة لديهم ، وقد مرّ بيان ذلك مفصّلا في الفقرة الشريفة المتقدّمة « وخزّان العلم » فلاحظ .
    (1) ـ حفظة : جمع حافظ، يقال : حَفَظَ المال والسرّ أي رعاه ، والمحافظة على الشيء هي المواظبة عليه ، والمراقبة له ، والإعتناء به كما يستفاد من كتب اللغة (4) .
(1) بحار الأنوار : ج40 ص201 ب94 ح3 و9 و11 .
(2) بحار الأنوار : ج26 ص260 ب4 ح37 .
(3) بحار الأنوار : ج26 ص158 ب11 ح5 .
(4) لسان العرب : ج7 ص441 .



158
    والسِرّ : جمعه أسرار ، هو في اللغة بمعنى ما يُكتم ، ومنه (هذا من سرّ آل محمّد) أي من مكتومهم (عليهم السلام) الذي لا يظهر لكلّ أحد (1) .
    وأسرار الله تعالى هي العلوم التي لا يجوز إظهارها وإفشاؤها إلاّ لمن هو أهلٌ لها من الكمّلين والمتحمّلين مثل سلمان وكميل (2) .
    فمعنى حفظة سرّ الله أنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم الحافظون المراعون للأسرار الإلهية المودعة عندهم ، اللازم كتمانها ، ولا يظهرونها إلاّ لمن يتحمّلها ، ولا يظهرون منها إلاّ ما يُتحمّل ، فإنّ إلقاء السرّ إلى من لا يتحمّله تضييع للسرّ ، وإرهاق للمُلقى إليه ، وهو خلاف الحكمة .
    وليس كلّ أحد قابلا لأن يُستودع السرّ ، فكيف بأن يكون صاحب أسرار الله الحكيم في هذا العالم العظيم ، المُلك والملكوت .
    فإنّ الأسرار الإلهية لا يتحمّلها إلاّ مَلَكٌ مُقرّب أو نبيٌّ مرسل أو عبدٌ إمتحن الله قلبه للإيمان كما جاء في أحاديث كثيرة (3) .
    وقد فسّرت الأحاديث الصعبة المستصعبة في إحدى تفاسيرها بأسرار الله المخزونة عندهم ، المكنونة لديهم (4) .
    بل في بعض الأحاديث لا يتحمّلها لا مَلَك مقرّب ولا نبي مرسل ولا مؤمن إمتحن الله قلبه للإيمان إلاّ أهل البيت أو من شاء أهل البيت سلام الله عليهم كما
(1) مجمع البحرين : مادّة سرر ص266 .
(2) الأنوار اللامعة : ص78 .
(3) الكافي : ج1 ص401 ح2 .
(4) مصابيح الأنوار : ج1 ص344 .



159
تلاحظه في حديث أبي بصير (1) .
    فعدم التحمّل يدعو إلى حفظ السرّ وعدم إفشاءه كما في بعض قضايا من لم يتحمّل الإسم الأعظم .
    بل حتّى بعض أهل التحمّل يجيش العلم والسرّ في صدورهم ويضيق بهم ذرعاً كما تلاحظه في حديث جابر الجعفي (2) .
    ومثل النبي الكليم موسى (عليه السلام) إذا لم يتحمّل بعض الأسرار فما ظنّك بالآخرين فلاحظ أحاديثه الشريفة في قضايا موسى والخضر (عليهما السلام) الواردة في القرآن الكريم في أحاديث التفسير القويم (3) .
    إلاّ أنّ أهل البيت سلام الله عليهم هم المثل الأعلى والقمّة العليا لأسرار الله تعالى كما تلاحظه في مثل :
    1 ـ حديث إسحاق بن غالب ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في خطبته الشريفة التي يذكر فيها حال الأئمّة (عليهم السلام) : « استودعه سرّه ، واستحفظه علمه ، واستخباه حكمته ، واسترعاه لدينه ، وانتدبه لعظيم أمره » (4) .
    2 ـ حديث سيف التمّار ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه : « لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما إنّي أعلم منهما ، ولأنبئتهما بما ليس في أيديهما ، لأنّ موسى والخضر (عليهما السلام) اُعطيا علم ما كان ، ولم يُعطيا علم ما يكون وما هو كائن
(1) الكافي : ج1 ص402 ح5 .
(2) رجال الكشّي : ص171 .
(3) بحار الأنوار : ج13 ص278 الأحاديث .
(4) الكافي : ج1 ص204 ح2 .



160
وَحَمَلَةِ كِتابِ اللّهِ (1)

حتّى تقوم الساعة ، وقد ورثناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وراثةً » (1) .
    (1) ـ حملة جمع حامل وهو من يحمل الشيء .
    وكتاب الله هو القرآن الكريم .
    وفسّر حامل كتاب الله بمن يكون عنده جميع القرآن ، الذي فيه تبيان كلّ شيء ، على ما نَزَل من عند الله ، من غير نقص ولا تغيير ، مع حفظ جميع ألفاظه بجميع المعاني ، بما فيها من ظاهر وباطن ، وتأويل وتفسير ، وناسخ ومنسوخ ، وعام وخاصّ ، ومطلق ومقيّد ، ومكان النزول وزمانه وشأن النزول وبيانه .
    ومحمّد وآله الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين هم الحاملون لعلوم القرآن ومعارفه وأسراره ، والواقفون على معانيه وأبعاده وأغواره .
    مضافاً إلى حفظهم ألفاظ القرآن من دون زيادة ولا نقصان .
    ودليل ذلك أحاديث كثيرة مثل :
    1 ـ حديث محمّد بن فضيل قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ : (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (2) .
    قال : « هم الأئمّة (عليهم السلام) خاصّة » (3) .
    2 ـ حديث جابر قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : « ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله
(1) الكافي : ج1 ص261 ح1 .
(2) سورة العنكبوت : الآية 49 .
(3) الكافي : ج1 ص214 ح5 .