باستقباض مالك من خزانتك .
فأمر له بعشرة آلاف درهم ثمّ قال : أتحبّ أن أزيدك ؟
قال : زد فإنّك لا تعطيه من مال أبيك ، وإنّ الله تعالى وليّ من يزيد .
قال : أعطوه عشرين ألفاً .
قال الطرماح : اجعلها وتراً فإنّ الله تعالى هو الوتر ويحبّ الوتر .
قال : أعطوه ثلاثين ألفاً فمدّ الطرماح بصره إلى إيراده فأبطأ عليه ساعة فقال : ياملك تستهزىء بي على فراشك ؟
فقال : لماذا ياأعرابي ؟
قال : إنّك أمرت لي بجائزة لا أراها ولا تراها ، فإنّها بمنزلة الريح التي تهبّ من قلل الجبال !! فأحضر المال ووضع بين يدي الطرماح فلمّا قبض المال سكت ولم يتكلّم بشيء .
فقال عمرو بن العاص : ياأعرابي كيف ترى جائزة أمير المؤمنين ؟
فقال الأعرابي : هذا مال المسلمين من خزانة ربّ العالمين ، أخذه عبد من عباد الله الصالحين .
فالتفت معاوية إلى كاتبه وقال : اكتب جوابه ، فوالله لقد أظلمت الدنيا عليّ وما لي طاقة ، فأخذ الكاتب القرطاس فكتب :
بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله وابن عبده معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أمّا بعد فإنّي اُوجّه إليك جنداً من جنود الشام مقدّمته بالكوفة وساقته بساحل البحر ، ولأرمينّك بألف حمل من خردل تحت كلّ خردل ألف مقاتل فإن أطفأت نار الفتنة وسلّمت إلينا قتلة عثمان وإلاّ فلا تقل غال ابن أبي
592
سفيان ، ولا يغرنّك شجاعة أهل العراق واتّفاقهم فإنّ اتّفاقهم نفاق فمثلهم كمثل الحمار الناهق يميلون مع كلّ ناعق والسلام .
فلمّا نظر الطرماح إلى ما يخرج تحت قلمه قال : سبحان الله لا أدري أيّكما أكذب أنت بادّعائك أم كاتبك فيما كتب !! لو اجتمع أهل الشرق والغرب من الجنّ والإنس لم يقدروا به على ذلك .
فنظر معاوية فقال : والله لقد كتب من غير أمري .
فقال : إن كنت لم تأمره فقد استضعفك وإن كنت أمرته فقد استفضحك .
أو قال : إن كتب من تلقاء نفسه فقد خانك ، وإن أمرته بذلك فأنتما خائنان كاذبان في الدنيا والآخرة ثمّ قال الطرماح : يامعاوية أظنّك تهدّد البطّ بالشطّ .
فدع الوعيد فما وعيدك ضائر
أطنين أجنحة الذباب يضير
والله إنّ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لديكاً علىَّ الصوت ، عظيم المنقار ، يلتقط الجيش بخيشومه ، ويصرفه إلى قانصته ، ويحطّه إلى حوصلته .
فقال معاوية : والله كذلك هو مالك بن الأشتر النخعي ثمّ قال : ارجع بسلام منّي » (1) .
هكذا خضع الجبابرة أمام أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك خضع الظالمون تجاههم .
وروي أنّ الرشيد لمّا أراد قتل الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) أرسل إلى عمّاله في الأطراف فقال : التمسوا لي قوماً لا يعرفون الله أستعين بهم في مهم لي ، فأرسلوا إليه قوماً يقال لهم : العبدة ، فلمّا قدموا عليه وكانوا خمسين رجلا
(1) بحار الأنوار : ج33 ص289 ح550 .
أنزلهم في بيت من داره قريب من المطبخ ، ثمّ حمل إليهم المال والثياب والجواهر والأشربة والخدم ، ثمّ استدعاهم وقال : مَن ربّكم ؟
فقالوا : ما نعرف ربّاً وما سمعنا بهذه الكلمة ، فخلع عليهم ، ثمّ قال للترجمان : قل لهم : إنّ لي عدوّاً في هذه الحجرة فادخلوا إليه وقطّعوه ، فدخلوا بأسلحتهم على الكاظم (عليه السلام) والرشيد ينظر ماذا يفعلون .
فلمّا رأوه رموا أسلحتهم وخرّوا له سجّداً فجعل موسى (عليه السلام) يمرّ يده على رؤوسهم وهم منكّسون وهو يخاطبهم بألسنتهم .
فلمّا رأى الرشيد ذلك غشي عليه وصاح بالترجمان أخرجهم فأخرجهم يمشون القهقري إجلالا لموسى (عليه السلام) ثمّ ركبوا خيولهم وأخذوا الأموال ومضوا » (1) .
(1) ـ ذلّ : مأخوذ من الذِّل بكسر الذال بمعنى اللين والإنقياد والسهولة ضدّ الصعوبة ، كما وأنّ الذُّل بضمّ الذال بمعنى الخفّة والهوان ضدّ العزّة .
فكلمة ذَلَّ بمعنى انقاد ولانَ وسَهُل ، كما في قوله تعالى : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا) (2) .
وهذا الإنقياد هو غاية الخضوع ، يقال لكلّ مطيع من الناس ذليل ، ومن غير الناس ذلول (3) .
فالمعنى : انقاد وخضع كلّ شيء في العالم لكم بقدرة الله تعالى .
(1) جلاء العيون : ج3 ص71 .
(2) سورة الإنسان : الآية 14 .
(3) مجمع البحرين : ص474 .
594
وهذه هي الولاية التكوينية الثابتة بقدرة الله تعالى وإرادته لأهل البيت (عليهم السلام) .
فإنّ كلّ شيء في الكون خاضع ومنقاد وتابع لهم ، ويمكنهم التصرّف بولايتهم في جميع أشياء ، الكون والتكوين .
وهذا مضافاً إلى ولايتهم التشريعية الثابتة لهم بنصب الله تعالى ، وهي إمامتهم وأولويتهم بالأمر وهدايتهم وإرشادهم مع وجوب إطاعتهم ، الثابتة بأدلّة الإمامة من الكتاب والسنّة والعقل والإعجاز .
كما ثبتت ولايتهم التكوينية بالأدلّة المتظافرة المتقدّمة في فقرة : « والسادة الولاة » .
ونضيف هنا بياناً أنّ من الأدلّة عليها :
1 / الاقتران في آية الولاية في سورة المائدة / الآية 55 (1) .
2 / حديث طارق بن شهاب الذي جاء فيه : « خلقهم الله من نور عظمته ، وولاّهم أمر مملكته ، فهم سرّ الله المخزون وأولياؤه المقرّبون ، وأمره بين الكاف والنون » (2) .
3 / تصرّفاتهم الإعجازية في الكون والمكان والكائنات ، ممّا تلاحظها في كتاب الثاقب في المناقب .
فهم (عليهم السلام) أولياء الكون ، وكلّ شيء خاضع لهم بالتكوين ، بالقدرة الإلهية ، والإرادة الربّانية .
(1) كنز الدقائق : ج4 ص144 .
(2) بحار الأنوار : ج25 ص169 ب4 ح38 .
(1) ـ أي أشرقت الأرض بنور وجودكم ، فإنّه لولاهم (عليهم السلام) لما وجدت ولا ثبتت أرض ولا غيرها من سائر الموجودات . كما أشرقت القلوب بنور هدايتكم .
وتلاحظ بيان ذلك في فقرة : « ونوره وبرهانه » .
قال الله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) (1) وجاء تفسيرها بنور الإمام (عليه السلام) كما في حديث علي بن إبراهيم (2) .
(2) ـ الفوز : هو النجاة والظفر بالخير .
أي نجى وظفر الناجون بولايتكم أهل البيت ، وباعتقاد إمامتكم ، ومتابعتكم فإنّ شيعتكم هم الفائزون كما تظافر به الحديث من الفريقين .
وتلاحظ بيان ذلك ودليله في فقرة « وفاز من تمسّك بكم » .
وكذلك فقرة « من اتّبعكم فالجنّة مأواه » .
(3) ـ أي بكم أهل البيت عليكم السلام لا بغيركم يسلك إلى جنان الله تعالى ورضوانه فإنّكم حجج الله وخلفاؤه والوسيلة إليه ، فاتّباعكم إطاعة لله ، وموجب لرضوانه .
إشارة إلى قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِّن اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (3) .
وفي حديث تفسيره عن الإمام الهادي (عليه السلام) قال : « إذا صار أهل الجنّة
(1) سورة الزمر : الآية 69 .
(2) كنز الدقائق : ج11 ص338 .
(3) سورة التوبة : الآية 72 .
في الجنّة ودخل ولي الله جنّاته ومساكنه ، واتّكى كلّ مؤمن منهم على أريكته ، حفّته زوجاته وخدّامه ، وتهدّلت عليه الثمار ، وتفجّرت حوله العيون ، وجرت من تحته الأنهار ، وبُسطت له الزرابي ، وصُفّفت له النمارق ، وأتته الخدّام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك .
قال : وتخرج عليهم الحور العين من الجنان ، فيمكثون بذلك ما شاء الله ، ثمّ أنّ الجبّار يشرف عليهم ، فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكّان جنّتي في جواري ، ألا هل اُنبّئكم بخير ممّا أنتم فيه ؟
فيقولون : ربّنا ، وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه ؟ نحن فيما اشتهت أنفسنا ولذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم .
قال : فيعود عليهم بالقول .
فيقولون : ربّنا نعم ، فأتنا بخير ممّا نحن فيه .
فيقول لهم تبارك وتعالى : رضاي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم ممّا أنتم فيه .
قال : فيقولون : نعم ، ياربّنا رضاك ومحبّتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا .
ثمّ قرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآية : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ـ إلى قوله ـ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) » (1) .
(1) ـ أي على من جحد وأنكر ولايتكم وإمامتكم وخلافتكم ووجوب طاعتكم غضب الله الرحمن أي سخطه وعذابه وعقابه .
(1) كنز الدقائق : ج5 ص498 .
قال تعالى : (ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (1) .
وفي حديث تفسيره عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : قال الله عزّوجلّ : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بتركهم ولاية علي (عليه السلام) (عَذَاباً شَدِيداً) في الدنيا (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) في الآخرة (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) والآيات : الأئمّة (عليهم السلام) » (2) .
(1) ـ سبق أنّ هذه الكلمات إنشاء للتحبيب وتعظيم للمحبوب ، بتفدية ما أحبّه الإنسان ، أي أفديكم ياأهل البيت بأبي واُمّي ، أو أنتم مفديّون بأبي واُمّي .
(2) ـ الروح هنا : هي التي بها حياة الإنسان ويشتمل عليه البدن .
والنفس : هي جملة الشيء وحقيقته .
والآثار : جمع الأثر هي بقيّة الشيء وما يبقى منه .
وقد فُسّرت هذه الفقرات المباركة بتفسيرات عديدة منها :
الأوّل : إنّ ذكركم الشريف وإن كان في الظاهر مذكوراً بين الذاكرين فيذكرونكم ويذكرون غيركم ، لكن لا نسبة بين ذكركم وذكر غيركم ، من جهة ما لكم من كمال الامتياز والسموّ والرفعة والقدر والمنزلة .
(1) سورة فصّلت : الآية 28 .
(2) كنز الدقائق : ج11 ص444 .
598
وكذا بقيّة الفقرات يعني أسماؤكم وأجسادكم وأرواحكم الخ .
والقرينة على هذا المعنى قوله : فما أحلى أسماؤكم الخ المفيد للامتياز .
وهذا المعنى يستفاد من العلاّمة المجلسي (1) ، وأفاد السيّد شبّر (2) أنّه أحسن المعاني وأوضحها .
الثاني : أنّ الأخبار في هذه الفقرات هي الأحسنية المحذوفة ، وتقدّر بما يناسبها .
يعني ذكركم في الذاكرين أحسنُ الذكر ، وأسماءكم في الأسماء أحسن الأسماء وهكذا .
احتمل هذا المعنى الفاضل التفرشي (3) .
الثالث : أن يكون المعنى أنّ ذكركم في الذاكرين أي ذاكري الله تعالى لأنّكم سادات الذاكرين ، وكذلك إذا ذُكرت الأسماء الشريفة ، والأجساد الطاهرة ، والأرواح الطيّبة ، والأنفس السليمة ، والآثار الحسنة ، والقبور المقدّسة ، فأسماؤكم وأجسادكم وأرواحكم وأنفسكم وآثاركم وقبوركم داخلة فيها لأنّكم سادة السادات وقادة الهداة وأقدس الموجودات .
احتمل هذا المعنى السيّد شبّر أيضاً (4) .
وجميع هذه المعاني تعطي تفوّق أهل البيت (عليهم السلام) على الآخرين ،
(1) بحار الأنوار : ج102 ص143 .
(2) الأنوار اللامعة : ص188 .
(3) هامش الفقيه : ج2 ص616 .
(4) الأنوار اللامعة : ص188 .
599
ورفعتهم في جميع الجهات على الخلق أجمعين .
فذكرهم الشريف ذكر الله الأكبر ، وهو يمتاز حتّى على ذكر الطيّبين .
كما تلاحظه في تفسير قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (1) ففي حديث سعد الخفّاف عن الإمام الباقر (عليه السلام) : « نحن ذكر الله ونحن أكبر » (2) .
وأسماؤهم المباركة هي أسماء الله الحسنى ، فتكون لها المرتبة العليا على جميع الأسماء كما تلاحظه في تفسير قوله تعالى : (وَللهِِ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (3) ـ (4) .
وأجسادهم الشريفة مخلوقة من أعلى علّيين ، كما أنّ أرواحهم السامية مخلوقة من نور عظمة الله العظيم ، فلا يدانيهم أجساد وأرواح العالمين .
وقد عرفت أحاديثه فيما تقدّم من فقرة : « وأنّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة » .
وأنفسهم الطيّبة نفوس عالية مطمئنة راضية مرضية ، فلا يقاس بها نفوس الآخرين .
تلاحظها في تفسير قوله تعالى : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) (5)(6) .
(1) سورة العنكبوت : الآية 45 .
(2) الكافي : ج2 ص598 ح1 .
(3) سورة الأعراف : الآية 180 .
(4) كنز الدقائق : ج5 ص251 .
(5) سورة الفجر : الآية 27 ـ 28 .
(6) كنز الدقائق : ج4 ص279 ـ 280 .
600
فَما اَحْلى أَسْماءَكُمْ (1)
وآثارهم الحسنة تتعالى على كلّ حسنة ، بل هي الهادية إلى الحسنات والموصلة إلى المكرمات .
حيث إنّ من آثارهم الحكم بالحقّ ، والتذكير بالله تعالى ، والدعوة إليه ، والحرص على سعادة الخلق وصلاح شأنهم والرأفة بهم وغير ذلك .
تلاحظ بيان الآيات والروايات لذلك في فصل ضرورة الإمامة (1) .
وقبورهم الشامخة من البقع التي طهّرها الله تعالى وشرّفها ، بل هي من البيوت التي أذن الله أن ترفُع (2) .
وقد تقدّم بيانه في فقرة « فجعلكم في بيوت أذن الله أن تُرفع » .
فأهل البيت (عليهم السلام) في جميع شؤونهم السامية لا يقاس بهم أحد من الخلق قاطبة .
وفي حديث نهج البلاغة : « لا يقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله) من هذه الاُمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً » (3) .
وكذا في حديث طارق بن شهاب ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ... فلا يقاس بهم من الخلق أحد ، فهم خاصّة الله وخالصته ... » (4) .
(1) ـ ما أحلى : فعل تعجّب من الحلاوة بمعنى الحُسن .
(1) العقائد الحقّة الطبعة الاُولى : ص266 .
(2) بحار الأنوار : ج102 ص141 .
(3) نهج البلاغة : الخطبة رقم 2 ص24 .
(4) بحار الأنوار : ج25 ص174 ب3 ح38 .