21
عزّوجلّ : ( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ) (1) ?
    قال : كتب الله عزّوجلّ كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورق آس ، ثمّ وضعها على العرش ، ثمّ نادى : يااُمّة محمّد ! إنّ رحمتي سبقت غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلاّ أنا وأنّ محمّداً عبدي ورسولي أدخلته الجنّة برحمتي (2).
    4 ـ خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ... ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله) ، شهادتين ، تُصعِدَان القول ، وترفعان العمل : لا يخِفّ ميزان توضعان فيه ، ولا يثقل ميزان ترفعان عنه » (3).
    فمن شهد مخلصاً دخل الجنّة ، ومن قالها كاذباً عُصِمَ ماله ودمه لكن كان مصيره إلى النار (4).
    واعلم أنّ الشهادة هي : الإخبار الجازم بالشيء عن مشاهدة أو ما يقوم مقام المشاهدة من الدلالات الواضحة والحجج اللائحة ، كما أفاده شيخ الطائفة الطوسي (قدس سره) (5).
    وقد اعتبر في معناها الحضور مع المشاهدة إمّا بالبصر أو بالبصيرة (6).
    وفسّرت الشهادة في اللغة بالإخبار القاطع (7).
(1) سورة القصص : (الآية 46) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص12 الباب1 ح24) .
(3) نهج البلاغة : (ج1 ص222 من الطبعة المصرية ، الخطبة رقم110) .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص5 الباب1 ح13) .
(5) تفسير التبيان : (ج2 ص416) .
(6) مفردات الراغب : (ص267) .
(7) لسان العرب : (ج3 ص239) .



22
    فلابدّ إذاً أن تكون تلك الشهادة قطعيّة علميّة ناشئة عن العلم كما يستفاد من أحاديث باب الشهادة (1).
    وعلى الجملة لابدّ لنا من إكتساب العلم وتحصيل اليقين باُصول الدين ، والعلم يحصل من البراهين الوجدانية والشواهد اليقينية الآتي ذكرها .
    والله المستعان أن يمنّ هو علينا بلازم معرفته ويتفضّل علينا بمعرفة رسوله واُولي الأمر من بعده وما يلزم علينا معرفته ، وهو المعين لخلقه والمرشد بنور هدايته .
    ففي الحديث العلوي الشريف : « إعرفوا الله بالله ، والرسول بالرسالة ، واُولي الأمر بالمعروف والعدل والإحسان » (2).
    وفي الدعاء الحسيني يوم عرفة : « ... كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِرَ لك ، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بَعُدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً ... » (3).
    فلنذكر الاُصول الثلاثة تحت عنوان : التوحيد ، والرسالة ، والإمامة ، مع ذكر عدالة الله المُثلى ضمن صفاته الحسنى .
    ثمّ نتبعها بتصديق ما جاء به المعصومون عن ربّ العالمين ومنه معاد يوم الدين . والله هو المأمول المتفضّل بالتوفيق لبيان ما هو الحقّ الحقيقي .
(1) وسائل الشيعة : (ج18 ص245 الباب17 ح1 ، وص250 الباب20 الأحاديث) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص270 الباب1 ح7) .
(3) الإقبال للسيّد ابن طاووس : (ص565) .



23
أصل التوحيد


24


25
أصل التوحيد
    البحث في هذا الأصل الأوّل الشريف من اُصول العقائد يقع في جهات ثلاثة :
    1 ـ إثبات وجوده تعالى .
    2 ـ توحيده عزّ إسمه .
    3 ـ صفاته الكريمة جلّ شأنه .
    فنبحث في ذلك إستمداداً من نور الكتاب والسنّة والعقل ، واهتداءً إلى معرفته القلبية التي هي أسمى المعارف الحقيقيّة ، ووصولا إلى رؤية القلوب بحقائق الإيمان كما في حديث ذِعْلب المروي عن سيّد الوصيّين وأمير المؤمنين (عليه السلام) :
    « لم تَرَهُ العيونُ بمشاهَدة الأبصار ولكن رأتْهُ القلوبُ بحقائق الإيمان » (1).
    فنبحث بعون الله تعالى في هذا الأصل ببيان الاُمور الثلاثة الآتية :
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص138 باب جوامع التوحيد ح4) .


26
   الجهة الاُولى :
وجود الله تعالى
    وجوده تعالى أغنى من أن يحتاج إلى بيان أو يتوقّف على برهان ، حيث إنّ العيان يغني عن البيان ، والوجدان يكفي عن البرهان .
    وقد أيقن به كلّ ذي علم ، وأدركه كلّ ذي عقل ، وأحسّ به كلّ ذي شعور ، وفهمته كلّ فطرة بحيث أغنى الصباح عن المصباح .
    حتّى الذي ينكره بلسانه لا محالة يتوجّه إليه عند الإضطرار بقلبه وجَنانه ، بل يمكن القول بأنّ وجوده الشريف فطريّ جبلّي حتّى للبهائم والحيوانات كما في قصّة نملة سليمان (عليه السلام) وقضايا الوجدان التي تدلّنا على توجّه الحيوانات أيضاً إلى الله تعالى .. ففي الحديث :
    « إنّ سليمان بن داود خرج يستسقي ، فمرّ بنملة مُلقاة على ظهرها ، رافعة قوائمَها إلى السماء وهي تقول : اللهمّ أنا خلقٌ من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك ، فلا تهلكنا بذنوب غيرنا .


27
    فقال سليمان : اِرجعوا فقد سُقيتم بغيركم » (1).
    وفي الأخبار شواهد كثيرة على ذلك يقف عليها المتتبّع .
    فإثبات وجود الصانع إذن لا يحتاج في الحقيقة إلى دليل بعد حكم الفطرة ; إذ مقتضى الفطرة عدم الحاجة بعدها إلى الأدلّة ..
    إلاّ أنّه تبرّكاً بوحي السماء وإتماماً للحجّة الغرّاء نشير إلى هذه الأدلّة الآتية الدالّة على وجود الله جلّ شأنه :
    1 ـ دليل الكتاب :
    وقد بيّن القرآن الكريم أحسن البيان ، وأقام أتقن البرهان على وجود الله تعالى المنّان بالشواهد اليقينية والدلائل التكوينية في آيات مباركات أحصاها العلاّمة المجلسي في البحار (2) تحت عنوان إثبات الصانع والإستدلال بعجائب صنعه على وجوده في ضمن ذكر 244 آية شريفة من الكتاب العزيز ، منها قوله تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَى بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ) (3).
    وهذه الآية الشريفة بوحدها مشتملة على سبع آيات من آيات الله العجيبة ومخلوقاته الغريبة التي تدلّ على وجود خالق لها ومدبّر في إحداثها وسبب
(1) حقّ اليقين : (ج1 ص10) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص16 الباب3) .
(3) سورة البقرة : (الآية 164) .



28
لدوامها .
    وكفى بها آيةً تدفع الريب وترفع الشكّ عن وجود فاطر السماوات والأرضين ، الذي يؤمن به كلّ من تدبّر وفكّر فيها من المسلمين والكافرين .
    2 ـ دليل السنّة :
    وقد أفاض نبيّ الإسلام وأهل بيته الكرام ، الأنوار اللامعة ، والحِكَم البارعة في إثبات وجود الله تعالى بمتواتر الحديث بل فوق التواتر من الأحاديث المفيدة للعلم واليقين بوجود الله الحقّ المبين كما تلاحظها بكثرتها في جميع كتب التوحيد ، وربّما تزيد على مئة حديث ، ومن ذلك ما نقتطفه من الأحاديث التالية :
    1 ـ الحديث العلوي الشريف المروي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه :
    « ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة والأبصار مدخولة (1)، أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر وسوّى له العظم والبشر .
    انظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيأتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها وضنّت على رزقها (2)، تنقل الحبّة إلى جحرها وتعدّها في مستقرّها ، تجمع في حرّها لبردها وفي ورودها لصدورها ، مكفول برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس
(1) من الدَخَل ـ بفتحتين ـ بمعنى العيب أي معيوبة .
(2) أي : بخلت به .



29
والحجر الجامس (1)، لو فكّرت في مجاري أكلها ، وفي علوّها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها واُذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً ، فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لِتبلغ غاياتِه ما دلّتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النحلة لدقيق تفصيل كلّ شيء ، وغامض إختلاف كلّ حيّ .
    وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ، كذلك السماء والهواء والريح والماء ، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر ، وإختلاف هذا الليل والنهار، وتفجّر هذه البحار وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات .
    فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر .
    زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لإختلاف صورهم صانع ، لم يلجأوا إلى حجّة فيما ادّعوا ، ولا تحقيق لما وعوا ، وهل يكون بناءٌ من غير بان أو جنايةٌ من غير جان ؟!
    وإن شئت قلت : في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفيّ ، وفتح لها الفمّ السويّ ، وجعل لها الحسّ القويّ ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، ترهبها الزرّاع في زرعهم ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم ،
(1) الحجر الجامس والجميس : هو اليابس أيضاً .


30
حتّى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعاً مستدقّة ، فتبارك الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ، ويعفّر له خدّاً ووجهاً ، ويلقي بالطاعة إليه سلماً وضعفاً ، ويعطي له القياد رهبةً وخوفاً .
    فالطير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، قدَّر أقواتها ، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، هذا حمام ، وهذا نعام ، دعا كلّ طائر باسمه ، وكفّل له برزقه .
    وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها » (1).
    2 ـ عن هشام بن الحكم قال :
    « دخل ابن أبي العوجاء على الصادق (عليه السلام) فقال له الصادق : يابن أبي العوجاء ! أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟
    قال : لست بمصنوع .
    فقال له الصادق (عليه السلام) : فلو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟
    فلم يحر ابن أبي العوجاء جواباً (2) وقام وخرج » (3).
    3 ـ دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له : ياجعفر بن محمّد ! دلّني على معبودي ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) :
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص36 الباب2 ح1) .
(2) يُقال : لم يحُر جواباً أي لم يَرُدُّ جواباً .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص31 الباب2 ح4) .