51
حيث إنّه عند وجود التعدّد يحدث الفساد والتبدّد ، فعدم الفساد دليل على عدم التعدّد .
وهذه الحكمة العلمية العقلية أشار إليها القرآن الكريم في قوله عزّ إسمه : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (1).
وقوله عزّ إسمه : ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض ) (2).
واستفيد هذا البرهان أيضاً من حديث هشام بن الحكم قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما الدليل على أنّ الله واحد ؟ قال :
« اتّصال التدبير وتمام الصنع ... » (3).
وعنه (عليه السلام) أيضاً :
« فلمّا رأينا الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، والتدبير واحداً ، والليل والنهار والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر واحد » (4).
وعليه فاتّصال التدبير المنتظم يدلّ على وحدة المدبِّر المنظِّم ، ولا يمكن ولا يليق هذا الخلق العظيم بأحد إلاّ بالله تبارك وتعالى الذي هو العالم بحقائقه والعارف بإحتياجاته ، والحكيم في تدبيره .
وهذا هو برهان الإرتباط وحكمة التدبير ، الدالّ على وحدة الخالق الخبير .
(1) سورة الأنبياء : (الآية 22) .
(2) سورة المؤمنون : (الآيه 91) .
(3) تفسير البرهان : (ج2 ص685) .
(4) نفس المصدر .
52
الثاني : برهان عدم وجود الأثر للشريك ، الكاشف عن عدم المؤثّر
فإنّه لا داعي ولا موجب أوّلا إلى الإيمان بتعدّد الآلهة ما لم نجد أثراً لغير الله تعالى كخلق من مخلوقاته ، أو رسول من رسله ، أو كتاب من كتبه .
فكما أنّ وجود الأثر دليل على وجود المؤثّر كذلك عدمه دليل على العدم .
والفطرة السليمة شاهدة والعلم الجزمي قاض بأنّه لو كان إله غير الله لعرفناه بآثاره أو ملائكته أو كتبه أو رسله .
وحيث أيقنّا بعد التتبّع الكامل والإستقصاء الشامل ، بأنّه ليس في الكون أثر لغير الله علمنا بأنّه ليس إله شريكاً مع الله .
وهذا البرهان بَزَغَ نوره من باب مدينة علم الرسول الأمين ، أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته المتقدّمة لولده الإمام الحسن (عليه السلام) :
« لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ... » (1).
الثالث : برهان الفُرجة وملازمة الشريك للتسلسل والإحتياج
وهذا هو الدليل القطعي المفيد إستحالة تعدّد القديم ، والموضّح لزوم وحدة الخالق ، وهو الذي أرشد إليه الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث هشام بن الحكم المتقدّم (2). وحاصله أنّه يلزم من تعدّد الإله وجود الفاصِل المائز القديم بينهما ، ثمّ وجود الفصل أيضاً بين الثلاثة فيما بينها ، وهكذا متسلسلا ، والتسلسل باطل فيصدق ضدّ التعدّد وهي الوحدة .
وقد تمسّك بهذا الدليل شيخ الإسلام المجلسي في كتابه ، وأضاف (قدس سره) في
(1) نهج البلاغة : (قسم الرسائل ، ص49 من الطبعة المصرية رقم الوصيّة 31) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص230 الباب6 ح22) .
53
توضيحه : « ... أنّه لو كان التعدّد موجوداً لكان إمتياز أحد الآلهتين عن الآخر بأمر خارج يُحتاج إليه في الإمتياز ; فيكون الإلهان محتاجين إلى هذا المائز ، والإحتياج ليس شأن الإله ، فإنّ كلّ محتاج ممكن ، والله الغنيّ أجلُّ من الإحتياج ، فلا يكون له شريك » (1).
الرابع : برهان السبر والتقسيم ، المستفاد أيضاً من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)
بيان ذلك : أنّه لو قيل بالتعدّد فلا يخلو الأمر فيهما من أحد ثلاثة :
إمّا أن يكونا قادرين على إقامة النظام .
أو غير قادرين عليها .
أو متفاوتين ومختلفين في القدرة .
فإذا كانا قادرين كان أحدهما لغواً ، وإذا كانا عاجزين كان كلاهما عبثاً ، وإذا كان أحدهما قادراً والآخر عاجزاً ثبتت الاُلوهية للإله القادر ، ولم يكن يليق بها الآخر العاجز .
فتتعيّن الاُلوهية للإله الواحد القدير بلا شريك ولا نظير .
الخامس : إستلزام الشركة للإستحالة
وهو ما أفاده الشيخ الصدوق بما حاصله :
« أنّه لو كان الإله إثنين لم يَخْلُ الأمر فيهما من أن يكون كلّ واحد منهما قادراً على منع صاحبه أو غير قادر ..
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص230) .
54
فإن كان قادراً كان الآخر ممنوعاً ، والممنوع حادث ، والحدوث ليس من صفات الإله .
وإن لم يكن قادراً لزم عجزه ونقصه ، والعجز أيضاً ليس من صفات الله فيستحيل الشريك على كلا التقديرين ، ويثبت أنّ الإله واحد لا شريك له ، وهو الإله القادر جلّت قدرته » (1).
السادس : برهان الدَّفْع
فإنّ وجوب الوجود لله تعالى الذي هو مسلّمٌ يستلزم القدرة والقوّة الكاملة على جميع الممكنات ، بحيث يقدر على دفع جميع ما يضادّه ويقابله بنحو مطلق .
فإنّ عدم القدرة على هذا الدفع نقصٌ ، والنقص عليه محالٌ بالضرورة ، لوجوب وجوده .
وعليه فشريكه مندفع بالبداهة ، ومستحيل وجوده بالوضوح ، فيكون هو تعالى واحداً لا شريك له .
وقد أفاد هذا الدليل وما يليه من الدليلين التاليين بعض العلماء والحكماء .
السابع : دليل الكمال
إنّ التفرّد بالصنع كمالٌ للصانع ، والشركة مستلزمة لسلب هذا الكمال ، وسلب الكمال عن ذاته المقدّسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية محالٌ ببداهة ، فلا يكون له شريك لأنّ الشريك يستلزم سلب الكمال ، وسلب الكمال باطل ، فوحدة الصانع هي الحقّ .
(1) توحيد الصدوق : (ص269) .
55
الثامن : دليل الإستغناء
وذلك أنّ الله تعالى غني عمّا سواه ، ومستغن بذاته عن غيره ، ولا طريق للإحتياج إليه ، فيكون غنيّاً عن الشريك ومنزّهاً عن الحاجة والشركة .
مع أنّ الشركة بنفسها من النقص والحاجة ، للإحتياج فيه إلى الإذن في التصرّف ، والغنيّ أجلُّ من الإحتياج ، وأرفع من الإستيذان فلا يناسبه الشريك ، بل هو الواحد الأحد الكبير الغني عن الشريك ، والمستغني عن النظير .
فحكومة العقل عند الإستدلال بأنّه واحد لا شريك له ثابتة بلا إشكال .
56
الجهة الثالثة :
صفات الله تعالى
من مسلّمات الدين الحنيف ، أنّه لا سبيل للمخلوق إلى معرفة ذات الخالق والإحاطة به ومعرفة حقيقته .
فقد قال الله تعالى : ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (1).
وورد في دعاء المشلول المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :
« يامن لا يعلم ما هو ولا كيف هو ولا أين هو ولا حيث هو إلاّ هو » (2).
وفي دعاء مولانا السجّاد (عليه السلام) :
« ولم تجعل للخلق طريقاً إلى معرفتك إلاّ بالعجز عن معرفتك » (3).
وقد قام البرهان ودلّ الوجدان وأدرك العقل بالعيان أنّه لم يُعطَ للمخلوق وسيلة يَعرِفُ بها ذات خالقه ، إذ الأعضاء والحواس الإنسانية على دقّتها وعظمتها هي مقاييس مادّية نحسّ بها المخلوقات والماديات فقط .
(1) سورة طه : (الآية 110) .
(2) مصباح الكفعمي : (ص260) .
(3) مفاتيح الجنان المعرّب : (ص127 ، مناجات العارفين) .
57
فالعين مثلا التي هي من أدقّ الوسائل لرؤية الأعيان بما أنّها خِلقةٌ مادّية نشاهد بها المادّيات فقط ، بل لا يمكننا أن نشاهد بها حتّى بعض المادّيات ، كالاُمور اللطيفة مثل الهواء ، فكيف يمكن مشاهدة خالق المادّيات ؟
وهناك بيان لطيف في أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في بيان إبطال رؤية الله تعالى ، وعدم إمكانها نظير :
1 ـ ما رواه أحمد بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث [ الإمام الهادي ] (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس ، فكتب :
« لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه ; لأنّ الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه ، لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات » (1).
2 ـ هشام بن الحكم قال :
« الأشياء [ كلّها ] لا تُدرك إلاّ بأمرين : بالحواسّ والقلب ; والحواسّ إدراكها على ثلاثة معان : إدراكاً بالمداخلة ، وإدراكاً بالمماسّة ، وإدراكاً بلا مداخلة ولا مماسّة .
فأمّا الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات والمشام والطعوم .
وأمّا الإدراك بالمماسّة فمعرفة الأشكال من التربيع والتثليث ومعرفة الليّن والخشن والحرّ والبرد .
وأمّا الإدراك بلا مماسّة ولا مداخلة فالبصر فإنّه يدرك الأشياء بلا
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص97 باب إبطال الرؤية ح4) .
58
مماسّة ولا مداخلة في حيِّز غيره ولا في حيِّزه .
وإدراك البصر له سبيل وسبب فسبيله الهواء وسببه الضياء ، فإذا كان السبيل متّصلا بينه وبين المرئي والسبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان والأشخاص ، فإذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعاً فحكى ما وراءه كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة فإذا لم يكن له سبيل رجع راجعاً ، يحكي ما وراءه وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع راجعاً ويحكي ما وراءه إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره ; فأمّا القلب فإنّما سلطانه على الهواء فهو يدرك جميع ما في الهواء ويتوهّمه ، فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجوداً رجع راجعاً فحكى ما في الهواء .
فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجوداً في الهواء من أمر التوحيد جلّ الله وعزّ ، فإنّه إن فعل ذلك لم يتوهّم إلاّ ما في الهواء موجود كما قلنا في أمر البصر تعالى الله أن يشبهه خلقه » (1).
على أنّ الحواس الاُخرى أيضاً إنّما نحسّ بها المخلوقات فقط ، فكيف يمكن مشاهدة الخالق بهذه الوسائل المادّية ؟ وهل يُرى بالجسم غير الأجسام ؟
كلاّ !! المادّي لا يمكنه التوصّل إلاّ إلى المادّي فقط بإقتضاء السنخيّة .
بل لم يتوصّل الإنسان إلى بعض نفس المادّيات المماثلة له في جوهر المادّة ، فتراه لم يعرف بَعْدُ حقيقة المواد الأوّلية ، والعناصر الأساسيّة الموجودة في هذا الكون ، بالرغم من أنّه يشاهدها ويحسّها وهو متكيّف معها ويعيش إلى جنبها .
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص99 باب إبطال الرؤية ح12) .
59
وترى الإنسان ـ وهو أشرف المخلوقات السالك بنفسه في مرامي علم الكائنات ، والمبتكر لعظيم المصنوعات ـ لم يتوصّل إلى معرفة حقيقة روحه هو ، بينما هو مشتمل عليها وعائش ببركتها ومتقارن في حياته دائماً مع وجودها .. بأقرب تقارن وأمسّ إرتباط .
فإذا كان عاجزاً عن معرفة روحه المنطوية معه ، فما بالك بمعرفة خالق الأرواح الذي هو فوق إدراكه .
إنّا لا نملك إلاّ الإعتراف بالعجز عن معرفة ذاته المقدّسة بحكومة العقل وشهادة الوجدان .
وحين لم يمكننا ولن نتمكّن من معرفة ذاته ، فلابدّ على صعيد معرفة الله من معرفة صفاته ومعالي أوصافه وعظيم خلقه وباهر صنعته .
وحتّى في نفس الصفات لا نتمكّن من معرفة كنهها خصوصاً الصفات التي هي عين ذاته ، كعلمه وقدرته وحياته و...
فتكون معرفتنا لها بالمقدور المستطاع وبقدر إدراك البصائر ، وبالمقدار الذي بيّنه هو تعالى في كتابه الباهر ، وأبان عنه على لسان نبيّه وأوصيائه المعصومين سلام الله عليهم أجمعين .
فالله تعالى هو العالم بذاته وصفاته ، لذلك يلزم علينا أن نستمدّ منه المعرفة بنعوته وأوصافه .
وقد ورد الحديث العلوي الشريف المتقدّم :
« اعرفوا الله بالله ... » (1).
وفي خطبته المباركة :
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص85 باب أنّه لا يعرف إلاّ به ح1) .
60
« هو الدالّ بالدليل عليه ، والمؤدّي بالمعرفة إليه » (1).
وعلى الجملة فالمذهب الصحيح في المعارف الحقّة هو : معرفة صفات الله تبارك وتعالى بواسطة بيان كتابه الكريم وأحاديث مهابط وحيه ، النبي وآله المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) ، كما نُصّ على الإهتداء بهما والتمسّك بكليهما في عموم حديث الثقلين : « كتاب الله والعترة » ، وخصوص أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) التي منها ما يلي :
1 ـ حديث سليمان بن خالد قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) :
« إيّاكم والتفكّر في الله (2); فإنّ التفكّر في الله لا يزيد إلاّ تَيهاً (3) إنّ الله عزّوجلّ لا تدركه الأبصار ، ولا يوصف بمقدار » (4).
2 ـ حديث عبدالرحيم القصير قال : كتبت على يدي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبدالله (عليه السلام) بمسائل فيها : أخبِرني عن الله عزّوجلّ هل يوصف بالصورة وبالتخطيط ، فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تكتب إليّ بالمذهب الصحيح من التوحيد . فكتب (صلّى الله عليه) على يدي عبدالملك بن أعين :
« سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب فيه من قبلك ، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، تعالى الله عمّا يصفه الواصفون المشبّهون الله تبارك وتعالى بخلقه ، المفترون على الله .
واعلم رحمك الله أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن
(1) الإحتجاج للطبرسي : (ج1 ص201 إحتجاجات أمير المؤمنين (عليه السلام) في التوحيد) .
(2) أي في ذات الله تعالى .
(3) التيه هو التحيّر والضلالة .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص259 الباب9 ح4) .