201
نهى عن العدل صار قبيحاً ، ولو فعل منكراً صار معروفاً .
    وعلى هذا الإدّعاء الفاسد بنوا نسيج عنكبوتهم وتوغّلوا في أباطيلهم ، وقد مزجوها بإحتجاجات واهية تلاحظها مع الجواب عنها من العلاّمة أعلى الله مقامه في النهج (1).
    وأجاب السيّد الشبّر أيضاً عن دعواهم ودليلهم بأجوبة شافية في حقّ اليقين (2) حاصلها ما يلي :
    1 ـ إنّ هذا إنكار للبديهة الواضحة ، فإنّ كلّ من له أدنى عقل وشعور يعلم حسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضارّ بحكم العقل .
    2 ـ إنّ الشخص العاقل الذي لم يسمع الشرائع ولم يعلم الأحكام ، بل نشأ في البادية ، لو خيّر بين أن يصدق في كلامه ويُعطى ديناراً ، أو يكذب ويعطى ذلك الدينار ، مع عدم ضرر عليه في الصدق أو الكذب لاختار الصدق دون الكذب ، ولولا حكم العقل بحسن الصدق لما فرّق العاقل بين الصدق والكذب ، ولما إختار الصدق دائماً .
    3 ـ إنّه لو كان الحسن والقبح شرعيين غير عقليين ، لما حكم بهما من ينكر جميع الشرائع والأديان ، كالبراهمة والملاحدة مع أنّهم يحكمون بالحسن والقبح بضرورة العقل .
    4 ـ إنّ من الحسّيات التي تقضي بها الضرورة ويدركها الوجدان قباحة الفعل اللغو والعمل العبث بحكم العقل ، كما إذا استأجر أحد أجيراً ليفرغ ماء دجلة في الفرات أو الفرات في دجلة ، وكذا من البديهيات قباحة تكليف ما لا يطاق ، كتكليف الزَمِن المُقعد بالطيران إلى السماء ، أو تكليف الأعمى بتنقيط المصحف ،
(1) نهج المسترشدين : (ص51) .
(2) حقّ اليقين : (ج1 ص56) .



202
وهذا يقضي بتحقّق قبح القبيح في حكومة العقل .
    5 ـ إنّه لو كان الحسن والقبح سمعيّين لا عقليّين ، لما قَبُح من الله إظهار المعجزات على يد الكذّابين مع أنّه قبيح ولا يفعله الحكيم قطعاً ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة التي أذعن بها حتّى الأشاعرة .
    6 ـ إنّه لو كانا شرعيّين فقط لحَسُن من الله أن يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء ، وعبادة الأصنام والمواظبة على الزنا والسرقة لفرض عدم قبحها حينئذ .. وهذا نقض الغرض الذي يُبطله الوجدان .
    7 ـ إنّه لو كانا شرعيّين لم تجب ولم تحسن معرفة الله تعالى ، لتوقّف معرفة هذا الإيجاب والحسن على معرفة الموجِب ، المتوقّفة هي على معرفة الإيجاب فيدور ، ويلزم من عدم عقليّتهما الدور الباطل .
    8 ـ إنّ الضرورة ـ بل الفطرة في الإنسان بل في الحيوان ـ قاضية قطعاً وحاكمة حقّاً بالفرق دائماً بين من أحسن إليها وبين من أساء إليها ، وحسن الأوّل وقبح الثاني بلا شكّ ولا ريب ، وإنّ الله تعالى لا يأمر إلاّ بما هو حسن ولا ينهى إلاّ عمّا هو قبيح . إنّه عزّ إسمه لا يفعل ظلماً أبداً لغناه ، ولا يصنع قبيحاً أصلا لجلالته ..
    وهذه الوجوه تثبت وجود الحسن الذاتي عقلا وحسن العدالة ذاتاً .
    وأضاف السيّد الورع الخوانساري (قدس سره) الإستدلال بأنّ الواجب تعالى لا يصدر منه الفعل القبيح ، لأنّ ترجيح القبيح إمّا أن يكون من جهة عدم العلم بالمفسدة ، أو من جهة الحاجة .. والواجب تعالى منزّه عن الأمرين ، فالحكيم العالم بالمصالح والمفاسد غير المحتاج كيف يرجّح المرجوح على الراجح ..
    وهذا أصلٌ يبتنى عليه أيضاً حسن بعث الأنبياء وبقاء أوصيائهم في كلّ عصر (1).
(1) العقائد الحقّة : (ص10) .


203
أصل النبوّة


204


205
أصل النبوّة
    النبوّة : هي الإخبار عن الله تعالى كما عرّفها في المرآة (1).
    والنبي هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة بَشَر ، أعمّ من أن يكون له شريعة كسيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أو ليس له شريعة كيحيى (عليه السلام) ..
    قيل : سمّي نبيّاً لأنّه أخبر وأنبأ عن الله تعالى ، مأخوذ من النبأ أي الخبر ، فهو فعيل بمعنى مُفعِل ، ونبي بمعنى مُنْبِئ ، أو مأخوذ من النباوة أي الرِفعة فهو نبيّ بمعنى رفيع ، والمعنى على هذا : إنّ النبي ارتفع وشَرُفَ على سائر الخلق ، كما يستفاد من المجمع (2).
    وقيل : النبي هو الطريق ، ويقال للرسل : أنبياء الله ; لكونهم طرق الهداية إليه ، فالنبوّة بمعنى طريق الهداية كما يستفاد من الإرشاد (3). والإعتقاد بالنبوّة والأنبياء من اُصول الدين المبين وممّا يلزم إعتقاده بالإستدلال واليقين .
    والخَلق بأجمعهم محتاجون إلى النبيّين ، ومضطرّون إلى المرسلين ليكونوا وسائط بينهم وبين الله ربّ العالمين وطرقاً لمعرفة وظائفهم ، ووسائل لعرفان مسائلهم ، وحججاً على جميع بريّته ، ومصباحاً لهداية خليقته .
    وقد ثبتت النبوّة والأنبياء بالكتاب والسنّة والعقل :
(1) مرآة الأنوار : (ص205) .
(2) مجمع البحرين : (ص86 مادّة ـ نبأ ـ ) .
(3) إرشاد الطالبين : (ص295) .



206

    الأوّل : دليل الكتاب :
    في آيات عديدة مثل : 1 ـ قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ... ) (1).
    2 ـ قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ ) (2).
    3 ـ قوله تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... ) (3).
    الثاني : دليل السنّة :
    في أحاديث وفيرة دلّت على لزوم إرسال الرسل ولزوم الإيمان بهم ، والعمل بقولهم نظير :
    1 ـ خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي جاء فيها بعد ذكر سيّدنا آدم (عليه السلام) :
    « واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ... » (4).
    2 ـ حديث هشام بن الحكم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال للزنديق الذي سأله : من أين أثبتّ الأنبياء والرسل ؟ قال :
    « إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ،
(1) سورة البقرة : (الآية 213) .
(2) سورة الشورى : (الآية 51) .
(3) سورة الحديد : (الآية 25) .
(4) نهج البلاغة : (ص16 الخطبة الاُولى من الطبعة المصرية) .



207
وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه ، يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان ما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته » (1).
    3 ـ حديث منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) :
    « إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه ، بل الخلق يُعرفون بالله . قال : صدقت . قلت : إنّ من عرف أنّ له ربّاً ، فقد ينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضاً وسخطاً ، وأنّه لا يُعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل ، فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة وأنّ لهم الطاعة المفترضة ، وقلت للناس : تعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا : القرآن ، فنظرتُ في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجيّ والقَدَري
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص168 باب الإضطرار إلى الحجّة ح1) .


208
والزنديق (1) الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقّاً . فقلت لهم : مَن قيّم القرآن ؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم . قلت : كلّه ؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحداً يقال : إنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّاً (عليه السلام) . وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا : لا أدري وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري . فأشهد أنّ عليّاً كان قيّم القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجّة على الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ . فقال : رحمك الله » (2).
    4 ـ حديث يونس بن يعقوب : قال : كان عند أبي عبدالله (عليه السلام) جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين ومحمّد بن نعمان وهشام بن سالم والطيّار وجماعة فيهم هشام بن الحكم ـ وهو شاب ـ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) :
    « ياهشام ! ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته ؟ فقال هشام : يابن رسول الله ! إنّي اُجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك .
    فقال أبو عبدالله : إذا أمرتكم بشيء فافعلوا .
    قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك عليّ فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة
(1) المرجئة فرقة من المنحرفين عن الإسلام يعتقدون أنّ الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخّره عنهم ، والقَدَري يطلق على الجبري والتفويضي ، والزنديق هو النافي للصانع تعالى .
(2) اُصول الكافي : (ج1 ص169 باب الإضطرار إلى الحجّة ح2) .



209
فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملةٌ سوداء متّزر بها من صوف وشملة مرتد بها والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتيّ ، ثمّ قلت : أيّها العالم ! إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة ؟ فقال لي : نعم . فقلت له : ألك عينٌ ؟ فقال : يابني ! أي شيء هذا من السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه ؟ فقلت : هكذا مسألتي ، فقال : يابنيّ ! سل وإن كانت مسألتك حمقاء ; قلت : أجبني فيها ، قال لي : سل ، قلت : ألك عين ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أرى بها الألوان والأشخاص ، قلت : فلك أنف ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أشمّ به الرائحة ، قلت : ألك فم ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع به ؟ قال : أذوق به الطعم ، قلت : فلك اُذن ؟ قال : نعم ، قلت : فما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الصوت ، قلت : ألك قلب ؟ قال : نعم ; قلت : فما تصنع به ؟ قال : اُميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس ; قلت : أو ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب ؟ فقال : لا ; قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال : يابني ! إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ، ردّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ . قال هشام : فقلت له : فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح ؟ قال : نعم . قلت : لابدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟ قال : نعم .
    فقلت له : ياأبا مروان ! فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ، ويتيقّن به ما شكّ فيه ، ويترك


210
هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم وإختلافهم ، لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك ترُدّ إليه حيرتك وشكّك ؟! قال : فسكت ولم يقل لي شيئاً .
    ثمّ التفت إليّ فقال لي : أنت هشام بن الحكم ؟ فقلت : لا ، قال : أمن جلسائه ؟ قلت : لا ، قال : فمن أين أنت ؟ قال : قلت : من أهل الكوفة ، قال : فأنت إذن هو ، ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتّى قمت .
    قال : فضحك أبو عبدالله (عليه السلام) وقال : ياهشام ! من علّمك هذا ؟ قلت : شيء أخذته منك وألّفته . فقال : هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى » (1).
    5 ـ حديث عبدالله بن سليمان العامري ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
    « ما زالت الأرض إلاّ ولله فيها الحجّة ، يعرّف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله » (2).
    6 ـ حديث أبي بصير ، عن أحدهما [ الصادقَين ] (عليهما السلام) قال :
    « قال : إنّ الله لم يَدَع الأرض بغير عالِم ، ولولا ذلك لم يُعرف الحقّ من الباطل » (3).
    7 ـ حديث أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سأله رجل فقال : لأي شيء بعث الله الأنبياء والرسل إلى الناس ؟ فقال :
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص169 باب الإضطرار إلى الحجّة ح3) .
(2) اُصول الكافي : (ج1 ص178 باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ح3) .
(3) اُصول الكافي : (ج1 ص178 باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ح5) .