221
وعصمتهم وطهارتهم ، فإنّ إنكار نبوّتهم أو سبّهم أو الإستهزاء بهم أو الخدشة بمقامهم مساوق للكفر .
    وصرّح أعلى الله مقامه (1): بأنّ مذهب أصحابنا الإماميّة هو أنّه لا يصدر من الأنبياء ذنب ، لا صغيره ، ولا كبيره ، لا عمداً ولا نسياناً ، لاخطاءً ولا إسهاءً .
    ووقت عصمتهم من ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه .
    ثمّ قال (قدس سره) : والعمدة في ما إختاره أصحابنا من تنزيه الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)من كلّ ذنب ودناءة ومنقصة قبل النبوّة وبعدها هو قول أئمّتنا سلام الله عليهم المعلوم لنا قطعاً بإجماع أصحابنا رضوان الله عليهم ، مع تأييده بالنصوص المتظافرة حتّى صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الإمامية .
    فعصمة الأنبياء ثابتة بالنقل المتواتر كتاباً وسنّة ، وبإجماع الفرقة المحقّة ، وبقيام الأدلّة العقلية الحقّة ..
    أمّا الكتاب :
    ففي مثل الآيات الشريفة التالية :
    1 ـ قوله تعالى فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ... ) (2).
    2 ـ قوله تعالى : ( وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى الْعَالَمِينَ ) (3).
    3 ـ قوله تعالى : ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الاَْخْيَارِ ) (4).
(1) في بحار الأنوار : (ج11 ص90) .
(2) سورة الأنبياء : (الآية 101) .
(3) سورة الدخان : (الآية 32) .
(4) سورة ص : (الآية 47) .



222
    أمّا السنّة :
    فالنصوص الروائية المتظافرة المصرّحة بعصمة الأنبياء ، وهي كثيرة جاء بعضها في الأمالي (1).. نختار في الإستدلال واحدة منها ونذكرها بتفصيلها لعموم الفائدة فيها وهو حديث العيون المسند عن الإمام الرضا (عليه السلام) بسند الصدوق القريب عن القرشي ، عن النيسابوري ، عن علي بن محمّد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له المأمون :
    « يابن رسول الله ! أليس من قولك : إنّ الأنبياء معصومون ؟ قال : بلى ; قال : فما معنى قول الله عزّوجلّ : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (2) ؟
    فقال (عليه السلام) : إنّ الله تبارك وتعالى قال لآدم : ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) (3) وأشار لهما إلى شجرة الحنطة ( فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ ) (4) ، ولم يقل لهما : لا تأكلا منها وإنّما أكلا من غيرها ، لمّا أن وسوس لهما الشيطان وقال : ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ) (5) وإنّما ينهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها ( إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ ) (6) ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً ( فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور ) (7) فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان
(1) أمالي الشيخ الصدوق : (المجلس العشرون ص80) .
(2) سورة طه : (الآية 121) .
(3) سورة البقرة : (الآية 35) .
(4) سورة البقرة : (الآية 35) .
(5 ـ 7) سورة الأعراف : (الآيات 20 ـ 22) .



223
ذلك من آدم قبل النبوّة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النار وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم ، فلمّا اجتباه الله تعالى وجعله نبيّاً كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عزّوجلّ : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (1) وقال عزّوجلّ : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (2).
    فقال له المأمون : فما معنى قول الله عزّوجلّ : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) (3) ؟
    فقال له الرضا (عليه السلام) : إنّ حواء ولدت لآدم خمس مئة بطن ذكراً واُنثى وإنّ آدم (عليه السلام) وحواء عاهدا الله عزّوجلّ ودعواه وقالا : ( لَئِنْ آتَيْتَنا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) (4) من النسل خلقاً سويّاً برياً من الزمانة والعاهة وكان ما آتاهما صنفين صنفاً ذكراناً وصنفاً اُناثاً فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزّوجلّ ، قال الله تبارك وتعالى : ( فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (5).
    فقال المأمون : أشهد أنّك ابن رسول الله حقّاً ، فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ في حقّ إبراهيم (عليه السلام) : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا
(1) سورة طه : (الآيتان 121 و122) .
(2) سورة آل عمران : (الآية 33) .
(3) سورة الأعراف : (الآية 190) .
(4 ـ 5) سورة الأعراف : (الآيتان 189 و190) .



224
رَبِّي ) (1) ؟
    فقال الرضا (عليه السلام) : إنّ إبراهيم (عليه السلام) وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفى فيه ، ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ) فرأى الزهرة قال : ( هَذَا رَبِّي ) على الإنكار والاستخبار ( فَلَمَّا أَفَلَ ) الكوكب ( قَالَ لاَ أُحِبُّ الاْفِلِينَ ) لأنّ الاُفول من صفات المحدَث لا من صفات القدم ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي ) (2) على الإنكار والاستخبار ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّين ) (3) يقول : لو لم يهدني ربّي لكنت من القوم الضالّين ، ( فَلَمَّا ) أصبح و ( رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار ( فَلَمَّا أَفَلَتْ ) قال للأصناف الثلاثة من عبَدة الزهرة والقمر والشمس : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) (4) وإنّما أراد إبراهيم (عليه السلام) بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحقّ لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنّما تحقّ العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض وكان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه الله تعالى وأتاه كما قال الله عزّوجلّ : ( وَتِلْكَ
(1) سورة الأنعام : (الآية 76) .
(2 و3) سورة الأنعام : (الآية 77) .
(4) سورة الأنعام : (الآيتان 78 و79) .



225
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) (1).
    فقال المأمون : لله درّك يابن رسول الله ! فأخبرني عن قول إبراهيم (عليه السلام) : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (2).
    قال الرضا (عليه السلام) : انّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) أنّي متّخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على الخلّة قال : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (3) فأخذ إبراهيم (عليه السلام) نسراً وطاووساً وبطّاً وديكاً فقطعهنّ وخلطهنّ ثمّ جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله ـ وكانت عشرة ـ منهنّ جزءاً وجعل مناقيرهنّ بين أصابعه ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ ووضع عنده حبّاً وماء فتطايرت تلك الأزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان وجاء كلّ بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه ، فخلّى إبراهيم (عليه السلام) عن مناقيرهنّ فطِرن ثمّ وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحبّ وقلن : يانبي الله ! أحييتنا أحياك الله . فقال إبراهيم : بل الله يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير .
(1) سورة الأنعام : (الآية 83) .
(2) سورة البقرة : (الآية 260) .
(3) سورة البقرة : (الآية 260) .



226
    قال المأمون : بارك الله فيك ياأبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ : ( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) ؟
    قال الرضا (عليه السلام) : إنّ موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) فقضى موسى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات . قال : ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) يعني الإقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله ( إِنَّهُ ) يعني الشيطان ( عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .
    فقال المأمون : فما معنى قول موسى : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) ؟
    قال (عليه السلام) : يقول : إنّي وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلاّ يظفروا بي فيقتلوني ( فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ; قال موسى (عليه السلام) : ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ ) من القوّة حتّى قتلت رجلا بوكزة ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) بل اُجاهد في سبيلك بهذه القوّة حتّى ترضى ( فَأَصْبَحَ ) موسى (عليه السلام) ( فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) على آخر ( قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُبِينٌ ) قتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لاُودّبنّك وأراد أن يبطش به ( فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا ) وهو من شيعته ( قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاَْمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الاَْرْضِ وَمَا


227
تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ ) (1).
    قال المأمون : جزاك الله عن أنبيائه خيراً ياأبا الحسن ! فما معنى قول موسى لفرعون : ( فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ ) (2) ؟
    قال الرضا (عليه السلام) : إنّ فرعون قال لموسى لمّا أتاه : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ ) بي ، قال موسى : ( فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ ) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ ) (3) ، وقد قال الله عزّوجلّ لنبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) (4) يقول : ألم يجدك وحيداً فآوى إليك الناس ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ ) يعني عند قومك ( فَهَدَى ) أي هداهم إلى معرفتك ( وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ) . يقول : أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً .
    قال المأمون : بارك الله فيك يابن رسول الله ! فما معنى قول الله عزّوجلّ : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (5) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أنّ الله تبارك وتعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال ؟
(1) سورة القصص : (الآيات 15 ـ 19) .
(2) سورة الشعراء : (الآية 20) .
(3) سورة الشعراء : (الآيات 19 ـ 21) .
(4) سورة الضحى : (الآية 6) .
(5) سورة الأعراف : (الآية 143) .



228
فقال الرضا (عليه السلام) : إنّ كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أنّ الله تعالى أعزّ أن يُرى بالأبصار ولكنّه لمّا كلّمه الله عزّوجلّ وقرّبه نجيّاً رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّوجلّ كلّمه وناجاه ، فقالوا لن نؤمن لك حتّى نستمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبع مئة ألف رجل فاختار منهم سبعين ألفاً ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبع مئة ثمّ إختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّهم فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل الله تعالى أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام لأنّ الله عزّوجلّ أحدثه في الشجرة وجعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتّى نرى الله جهرةً ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعَتَوا بعث الله عزّوجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : ياربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنّك ذهبت بهم فقتلتهم ; لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة الله عزّوجلّ إيّاك فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك ننظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته ؟ فقال موسى : ياقوم ! إنّ الله تعالى لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له وإنّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه . فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسأله .
    فقال موسى : ياربّ ! إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله تعالى إليه : ياموسى ! سَلني فلن اُؤاخذك


229
بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام) : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) وهو يهوي ( فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) بآية من آياته ( جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) منهم بأنّك لا تُرى .
    فقال المأمون : لله درّك ياأبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (2) ؟
    فقال الرضا (عليه السلام) : لقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت به لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه الصادق ( (عليه السلام) ) أنّه قال : همّت بأن تفعل وهمّ بأن لا يفعل . فقال المأمون : لله درّك ياأبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ : ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) (3) ؟
    فقال الرضا (عليه السلام) : ذاك يونس بن متى (عليه السلام) ( ذَهَبَ مُغَاضِباً ) لقومه ( فَظَنَّ ) بمعنى استيقن ( أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) أي لم نضيّق عليه رزقه ومنه قوله عزّوجلّ : ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) (4) أي ضيّق وقتر ( فَنادى فِي الظُلماتِ ) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت : ( أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
(1) سورة الأعراف : (الآية 143) .
(2) سورة يوسف : (الآية 24) .
(3) سورة الأنبياء : (الآية 87) .
(4) سورة الفجر : (الآية 16) .



230
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ ) (1) بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت فاستجاب الله له وقال عزّوجلّ : ( فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (2).
    فقال المأمون : لله درّك ياأبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (3) ؟
    قال الرضا (عليه السلام) : يقول الله عزّوجلّ : حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كُذبوا جاء الرسلَ نصرنا .
    فقال المأمون : لله درّك ياأبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) (4) ؟
    قال الرضا (عليه السلام) : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنباً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاث مئة وستّين صنماً ، فلمّا جاءهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا : ( أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الاْخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) (5) فلمّا فتح الله عزّوجلّ على نبيّه (صلى الله عليه وآله) مكّة قال له : يامحمّد ! ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ) مكّة ( فَتْحاً مُبِيناً *
(1) سورة الأنبياء : (الآية87) .
(2) سورة الصافات : (الآيتان 143 و144) .
(3) سورة يوسف : (الآية 110) .
(4) سورة الفتح : (الآية 2) .
(5) سورة ص : (الآيات 5 ـ 7) .