271
    فهؤلاء الخمسة اُولو العزم وهم أفضل الأنبياء والرسل (عليهم السلام) .
    وشريعة محمّد لا تنسخ إلى يوم القيامة ، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادّعى بعده نبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكلّ من سمع ذلك منه » (1).
    ويدلّ على النسخ عقلا أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح ، والمصالح قد تختلف باختلاف الأزمان والأشخاص بحيث يصير ما كان مصلحة في وقت مفسدة في آخر .
    ففي وقت صيرورته مفسدة يجب أن يتغيّر الحكم المتعلّق به في وقت مصلحته وإلاّ لزم من التكليف على تقدير صيرورته مفسدة فعل قبيح ، وهو محال على الله تعالى (2).
    وأمّا شريعة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد جاءت للبقاء ، ولوحظت فيها المصلحة إلى يوم اللقاء ، فكانت الحكم الأفضل والشرع الأمثل ، وصارت ناسخة غير منسوخة .
    ثمّ بعد معرفة ناسخيّة وأكمليّة دينه وأفضليّة شخصه يتّضح لك أنّ الحقّ المحقّق هو أنّه (صلى الله عليه وآله) كان متعبّداً بنفس شريعته المقدّسة الفضلى للأدلّة القائمة في هذا المجال ومنها :
    1 ـ قوله (صلى الله عليه وآله) المستفيض بين الخاصّة والعامّة :
    « كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين » .
    2 ـ ما استفاض في الأخبار الصحيحة من أنّه كان مؤيّداً بروح القدس من
(1) بحار الأنوار : (ج11 ص34 ب1 ح28) ، وسائل الشيعة : (ج18 ص124 ب12 ح47) .
(2) إرشاد الطالبين : (ص318) ، ولاحظ فيه وقوع النسخ من الأديان السابقة أيضاً .



272
حين ولادته فلم يحتج إلى الأنبياء الذين كانوا قبله .
    3 ـ إنّ مقتضى أفضليته من الأنبياء قبله هو أن يكون كيحيى الذي اُوتي الحكم صبيّاً ، وعيسى الذي كان في المهد نبيّاً .
    وأمّا اقتداؤه بمن سلف قبله في قوله تعالى : ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) (1) فهو محمول على هداهم في اُصول الدين ، أو صبره على مشاقّ النبيين لا الإقتداء بأحكامهم وشريعتهم (2).
    هذا تمام الكلام في مبحث النبوّة .. ويليه بحث الإمامة .
(1) سورة الأنعام : (الآية 90) .
(2) حقّ اليقين : (ج1 ص135) .



273
أصل الإمامة


274


275
أصل الإمامة
    الإمامة هي خلافة الرسول ووصاية النبي بعد سيّدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    وعرّفها الشيخ المفيد (قدس سره) بقوله : « الإمامة هي التقدّم فيما يقتضي طاعة صاحبه ، والإقتداء به » (1).
    وقال العلاّمة الحلّي أعلى الله مقامه : « الإمامة رئاسة عامّة لشخص من الأشخاص في اُمور الدين والدنيا » (2).
    وقال السيّد البهبهاني (قدس سره) : « الإمامة عبارة عن الخلافة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، في اُمور الدين والدنيا ، وإفتراض طاعته على الاُمّة فيما أمر به أو نهى عنه » (3).
    وأوضح في الدائرة (4) ، بأنّ الإمامة منصب إلهي ، ورئاسة عامّة في اُمور الدين والدنيا يختارها الله تعالى لفرد كامل من البشر ، ويأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يرشد الاُمّة إليه ، ويقوم مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إرشاد الناس ، وحجّة الله على خلقه .
    هذا بالنسبة إلى تعريف الإمامة .
    وأمّا الإمام فهو المقتدى والمتّبع .
(1) الإفصاح في الإمامة : (ص27) .
(2) نهج المسترشدين : (ص62) .
(3) مصباح الهداية في إثبات الولاية : (ص48) .
(4) دائرة المعارف الشيعية : (ج4 ص245) .



276
    قال الشيخ الطريحي : « قوله ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (1) أي يأتمّ بك الناس ، فيتّبعونك ويأخذون عنك ، لأنّ الناس يؤمّون أفعاله أي يقصدونها ، فيتّبعونها » (2).
    وزاد في المفردات : « أنّ الإمام يُقتدى بأقواله وأفعاله » (3).
    وأفاد الشيخ الطبرسي (4) : أنّ المستفاد من لفظ الإمام أمران :
    أحدهما : أنّه المقتدى في أفعاله وأقواله .
    والثاني : أنّه الذي يقوم بتدبير الاُمّة وسياستها والقيام باُمورها وتأديب جُناتها وتولية ولاتها ، وإقامة الحدود على مستحقّيها ، ومحاربة من يكيدها ويعاديها ، هذا بالنسبة إلى تعريف الإمام والإمامة ، وسيأتي بيان مدلولها الشرعي الجامع في هذا المنصب الرفيع .
    ولا شكّ أنّ من أشرف معارف اُصول الدين ، هي معرفة إمامة الأئمّة المعصومين ، وخلافة أوصياء الرسول الميامين ، وولاية حجج الله في السماوات والأرضين التي تعود إلى معرفة الله تعالى بالحقّ واليقين .
    وذلك لأنّهم سفراؤه إلى خلقه ، ووسائل لطفه إلى عباده ، فتكون معرفتهم من شؤون معرفته .. يوجب فعلها الهداية ، وتركها الضلالة ، كما في الحديث التالي :
    عن أبي حمزة قال : قال لي أبو جعفر ـ الباقر ـ (عليه السلام) :
(1) سورة البقرة : (الآية 124) .
(2) مجمع البحرين : (ص503 مادّة ـ اُمم ـ ) .
(3) المفردات للراغب : (ص204) .
(4) مجمع البيان : (ج1 ص201) .



277
    « إنّما يعبد الله من يعرف الله ، فأمّا من لا يعرف الله فإنّما يعبده هكذا ضلالا .
    قلت : جعلت فداك ! فما معرفة الله ؟
    قال : تصديق الله عزّوجلّ وتصديق رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وموالاة علي (عليه السلام)والإيتمام به وبأئمّة الهدى (عليهم السلام) والبراءة إلى الله عزّوجلّ من عدوّهم ، هكذا يُعرف الله عزّوجلّ » (1).
    وإمامة آل محمّد الربّانية الإلهية ، من الاُصول الدعائم والأركان العظائم للدين الإسلامي الحنيف .. وترك معرفتهم يوجب الردى وكفر الجاهلية الاُولى ، لما ورد في الحديث المتواتر بين الفريقين :
    « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة » (2).
    وفي حديث عيسى بن السري (3) قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : حدّثني عمّا بُنيت عليه دعائم الإسلام .. ـ وسيأتي ذكر الحديث (4) ـ وقد صرّح بكون الولاية من دعائم الإسلام .
    فيلزم على كلّ من أراد معرفة الله تعالى معرفتهم ، والدخول في ولايتهم التي هي من دين الله عزّوجلّ كما صرّحت به الأحاديث الآنفة مثل حديث أبي
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص180 باب معرفة الإمام والردّ إليه ح1) .
(2) لاحظ اُصول الكافي : (ج1 ص376 باب من مات وليس له إمام من أئمّة الهدى) ، وبحار الأنوار : (ج23 ص76 ب3 الأحاديث) .
ولاحظ من مصادر العامّة مسند أحمد بن حنبل : (ج4 ص96) ، وصحيح مسلم : (ج8 ص107) ، وحلية الأولياء لأبي نعيم : (ج3 ص224) ، وكنز العمّال للمتّقي الهندي : (ج3 ص220) ، وينابيع المودّة للقندوزي : (ص117) ، ومسند الحافظ الطيالسي : (ص259) .
(3) اُصول الكافي : (ج2 ص21 باب دعائم الإسلام ح9) .
(4) في ص377 من هذا الكتاب .



278
الجارود زياد بن المنذر (1)، الذي سيأتي ذكره (2) ، وصرّح بكون الولاية من الدين .
    هذا مضافاً إلى أنّ نفس وجوب إطاعتهم تقضي بلزوم معرفتهم لأنّ تحقّق الطاعة يستلزم معرفة المُطاع ، تلك الطاعة التي أمر الله بها في قوله عزّ إسمه : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ ) (3) ، وقد نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) بأخبار الخاصّة والعامّة المتظافرة التي تلاحظها في غاية المرام (4).
    فيلزم معرفتهم وإطاعتهم والإقتداء بهم والتصديق بإمامتهم الكبرى المتّسمة بالمزايا العظمى .
    والبحث الآتي شمّة بيان ، وخلاصة برهان لتلك الإمامة الحقّة والولاية المطلقة ، في الفصول الخمسة التالية :
    1 ـ إحتياج البشر إلى الإمام وضرورة الإمامة .
    2 ـ أنّ الإمامة كالنبوّة إنتصابيّة وليست بانتخابية ، وتعيينها بيد الخالق لا المخلوق .
    3 ـ إنحصار الإمامة في الهداة الغرر المعصومين الإثني عشر .
    4 ـ معرفة شرائط وخصوصيات الإمام والإمامة .
    5 ـ وظائف الاُمّة اتّجاه أهل بيت العصمة (عليهم السلام) .
    ومن الله تعالى نستمدّ العون ونسأل التوفيق ، وهو الهادي إلى الحقّ الحقيق .
(1) اُصول الكافي : (ج2 ص21 باب دعائم الإسلام ح10) .
(2) في ص378 من هذا الكتاب .
(3) سورة النساء : (الآية 59) .
(4) غاية المرام : (ص263 ـ 265 ب58 ـ 59 الأحاديث) .



279
    الفصل الأوّل :
إحتياج البشر إلى الإمام وضرورة الإمامة
    البشر بنحو عامّ محتاج إلى إمام يَقتدي به ، ويَستضيء بنور علمه ، وولي يلجأ إليه ويستفيد منه ، كإحتياجه إلى النبي والرسول .. إذ الإمامة إتمام وإمتداد للنبوّة الباقية والرسالة الخالدة .
    وهذا أمر فطري وحقيقة إرتكازية يحكم بها العقل السليم والوجدان المستقيم ، وتشهد البداهة بأنّه لابدّ لكلّ قوم ، بل لكلّ عالَم من عوالم الوجود من إمام ورئيس يهديهم إلى سبيل الصلاح ، ويقودهم إلى الخير والفلاح ، ويرفع عنهم النزاع والخلاف ، ويكون داعياً إلى الله ومصلحاً لعباد الله .
    وكلّ ما يتصدّى له النبي الأكرم في حياته من الوظائف والقوانين والأحكام والشؤون الدينيّة والإجتماعية والعلمية والقضائية والأخلاقية والإدارية والإرشادية وغيرها يلزم أن يتصدّى له من بعده مَن يكون نموذجاً له ، ومظهراً من مظاهره ، وزعيماً للدين مثله .. حذراً من زوال الدين وإضمحلال الرسالة التي جاءت للدوام ، وأسّست للبقاء ، وإلاّ كان شأن هذا الدين شأن سائر المبادئ التي تزول بزوال أصحابها ..
    وشريعة الإسلام نزلت لتكون باقية بجميع أحكامها وحلالها وحرامها إلى


280
يوم القيامة ، كما في حديث سلام بن المستنير عن الإمام الباقر (عليه السلام) (1).
    وهذا الدين الإسلامي أبديّ في بقائه ، خاتم للأديان في رسوله ، ولا يُقبل من أحد غيره .
    قال تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاِْسْلاَمُ ) (2) ، وقال عزّوجلّ : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاِْسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاْخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) (3).
    فالإسلام إذاً رسالة سماوية خالدة اُريد لها ـ بواسطة أكمليتها ـ أن تبقى بقاء السماوات والأرضين .. وامتداد الدنيا والآخرة .
    فلو كان بناء هذا الدين على عدم الحافظ والوصي والإمام بعد نبيّه الكريم لكان نقضاً لغرض البعثة النبوية الشريفة التي بشّرت بها الأنبياء ، وكانت أشرف الغايات ، وخاتمة الرسالات .
    ولا يُعقل أن يكون جميع البشائر والمقدّمات لأجل ثلاثة وعشرين سنة مدّة نبوّة سيّدنا الرسول الأمين صلوات الله عليه وآله الطاهرين في حياته .
    لذلك كان لابدّ لبقاء أشرف الأديان بعد أشرف الرسل من أشرف شخص يكون خليفته ويقوم مقامه ويتصدّى لمناصبه ـ سوى النبوّة ـ ليأتمّ الناس به ، ويهتدون بهداه ، ويسلكون الطريق القويم بنوره حتّى تستمرّ شؤون الرسالة ، وتتمّ فائدة البعثة ، ولا تحرم الأجيال الآتية من الهداية .
    فلابدّ لهذا الغرض من تصدّي الوصي لشؤون النبي .
    وشؤون النبي التي صرّح بها القرآن الكريم هي :
(1) وسائل الشيعة : (ج18 ص124 ب12 ح47) .
(2) سورة آل عمران : (الآية 19) .
(3) سورة آل عمران : (الآية 85) .