401
    وحاشا الحكيم العليم العادل عن ذلك أبداً !
    فلابدّ وأن يتحقّق الرجوع هنالك بإقتضاء الحكمة حتّى لا يلزم العبث واللغو والبطلان .
    فيحكم العقل على أساس حكمة الله الحكيم بتحقّق ذلك اليوم العظيم .
    ثالثاً : إنّه لو لم يكن ذلك اليوم الخالد ولم يظهر الفرق بين العاصي والمطيع لتساوى الأنبياء النبلاء مع أشقى العصاة الأشقياء ، وتعادل جبابرة الكافرين مع كبار المؤمنين ، وتساوى البرّ والفاجر ، وتوازن الظلم والعدل والحقّ مع الباطل والنور مع الظلمة .
    وهذا شيء قبيح مخالف للحقّ الصريح ، فيحكم العقل بإستحالته على الله تعالى .
    وعليه ، فالعقل حاكم على أساس الحسن وعدم القبح بضرورية يوم الحشر للإنسان ، وقيام يوم المعاد والميزان ، لتمييز الحقّ وإبطال الباطل .
    على أنّ الفطرة بنفسها تقضي بمجازاة الظالم ومؤاخذة الجاني .. حتّى فطرة الملحدين والمنكرين للربوبية ; لذلك تراهم يعاقبون السارق ويؤاخذون المتجاوز .
    فحقّانية يوم القيامة ثابتة بوحي الفطرة ، مضافاً إلى ما تقدّم من الأدلّة .


402
مراحل القيامة
    المراحل التي يمرّ عليها الإنسان من حين موته إلى آخر موطنه ومصيره كثيرة نعنون منها أربعة عشر مرحلة وهي :
    1 ـ الموت .
    2 ـ البرزخ .
    3 ـ القبر .
    4 ـ أشراط الساعة .
    5 ـ نفخ الصور وفناء الدنيا .
    6 ـ المحشر .
    7 ـ الميزان .
    8 ـ محاسبة العباد .
    9 ـ الأعمال .
    10 ـ الوسيلة .
    11 ـ الحوض .
    12 ـ الشفاعة .
    13 ـ الصراط .
    14 ـ الجنّة والنار .


403
(1) ـ الموت
    آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل من يوم من أيّام الآخرة لكلّ فرد من أفراد الإنسان هو يوم موته ; فإنّه إذا مات ابن آدم قامت قيامته وابتدأت آخرته .
    والموت : هي الحقيقة الثابتة التي دلّت عليها الأدلّة البرهانية ، بل وصلت إليها الإدراكات الوجدانية وكلّ منّا يعلم بالموت ويراه عن يقين وعيان ، ويدركه عن حسّ يغني عن البيان والبرهان ، فيلزم الإعتقاد بحقّانيّته والإقرار بأنّ كلّ حي سوى الله ميّت ، وكلّ نفس ذائقة الموت ; التزاماً بما قاله الله وجاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
    وقد خلقه الله تعالى كما خلق الحياة ، فقال عزّ إسمه : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) (1).
    وقد بيّنته الأحاديث الكثيرة وشرحته الروايات الوفيرة ، وبيّنت أنّ الموت للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فينعس (2) ، وللكافر أعظم ألم يحسّه الشخص فيجهد كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ كما تلاحظ ذلك في الأحاديث التالية :
    1 ـ حديث أحمد بن الحسن الحسيني ، عن الإمام أبي محمّد العسكري ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قيل للصادق (عليه السلام) : صف لنا الموت .
    قال (عليه السلام) :
(1) سورة الملك : (الآية 2) .
(2) من النعاس وهي فترة الحواس عند قرب النوم .



404
    « للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ .
    قيل : فإنّ قوماً يقولون : إنّه أشدّ من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ! ورضخ بالأحجار ! وتدوير قطب الأرحية على الأحداق (1).
    قال : كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين ، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد ؟ فذلكم الذي هو أشدّ من هذا لا من عذاب الآخرة فإنّه أشدّ من عذاب الدنيا .
    قيل : فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يحدّث ويضحك ويتكلّم ، وفي المؤمنين أيضاً من يكون كذلك ، وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد ؟
    فقال : ما كان من راحة للمؤمن هناك فهو عاجل ثوابه ، وما كان من شديدة فتمحيصه من ذنوبه ليرد الآخرة نقيّاً ، نظيفاً ، مستحقّاً لثواب الأبد ، لا مانع له دونه ; وما كان من سهولة هناك على الكافر فيوفّى أجر حسناته في الدنيا ليرد الآخرة وليس له إلاّ ما يوجب عليه العذاب ، وما كان من شدّة على الكافر هناك فهو ابتداء عذاب الله له بعد نفاد حسناته ذلكم بأنّ الله عدل لا يجور » (2).
    2 ـ ما في أحاديث جامع الأخبار مثل حديث الحسن بن علي الناصري ، عن أبيه ، عن الإمام أبي جعفر الجواد ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : قيل لأمير
(1) جمع حَدَقة وهي السواد الأعظم للعين أو خصوص ناظرها .
(2) بحار الأنوار : (ج6 ص152 ب1 ح6) .



405
المؤمنين (عليه السلام) : صف لنا الموت .
    فقال :
    « على الخبير سقطتم ، هو أحد ثلاثة اُمور يرد عليه : إمّا بشارة بنعيم الأبد ، وإمّا بشارة بعذاب الأبد ، وإمّا تحزين (1) وتهويل وأمره مبهم ، لا تدري من أيّ الفرق هو ; فأمّا وليّنا المطيع لأمرنا فهو المبشَّر بنعيم الأبد ، وأمّا عدوّنا المخالف علينا فهو المبشَّر بعذاب الأبد ، وأمّا المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدري ما يؤول إليه حاله ، يأتيه الخبر مبهماً مخوفاً ، ثمّ لن يسوّيه الله عزّوجلّ بأعدائنا لكن يخرجه من النار بشفاعتنا ، فاعملوا وأطيعوا ولا تتّكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله عزّوجلّ فإنّ من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلاّ بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة .
    وسئل الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : ما الموت الذي جهلوه ؟
    قال : أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ، وأعظم ثبور (2) يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد .
    وقال علي بن الحسين (عليهما السلام) : لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم ، وكان الحسين صلوات الله عليه وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم ،
(1) في المصدر ـ يعني جامع الأخبار ـ : تخويف .
(2) الثبور هو الهلاك والخسران .



406
وتهدئ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم .
    فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت !
    فقال لهم الحسين (عليه السلام) : صبراً بني الكرام ! فما الموت إلاّ قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسطة والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب .
    إنّ أبي حدّثني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كَذبت ولا كُذّبت .
    وقال محمّد بن علي (عليهما السلام) : قيل لعلي بن الحسين (عليهما السلام) : ما الموت ؟
    قال : للمؤمن كنزع ثياب وسخة قَمِلة ، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة ، والإستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح ، وأوطئ المراكب ، وآنس المنازل ; وللكافر كخلع ثياب فاخرة ، والنقل عن منازل أنيسة ، والإستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش المنازل وأعظم العذاب .
    وقيل لمحمّد بن علي (عليهما السلام) ما الموت ؟
    قال : هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة ، إلاّ أنّه طويل مدّته ، لا ينتبه منه إلاّ يوم القيامة ، فمن رأى في نومه من أصناف الفرح ما لا يقادر (1)قدره ومن أصناف الأهوال ما لا يقادر قدره فكيف حال فرح في النوم
(1) كذا ورد في البحار وفي مصدره معاني الأخبار ولعلّ الأصل يُقدَّر .


407
ووجل فيه ؟ هذا هو الموت فاستعدّوا له » (1).
    3 ـ حديث أحمد بن الحسن الحسيني ، عن الإمام أبي محمّد العسكري ، عن آبائه (عليهم السلام) قال :
    « دخل موسى بن جعفر (عليه السلام) على رجل قد غرق في سكرات الموت وهو لا يجيب داعياً ، فقالوا له : يابن رسول الله ! وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف حال صاحبنا ؟
    فقال : الموت هو المصفاة تصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ; وتصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم ، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل (2) من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفيةً ، وخُلّص حتّى نقي كما ينقى الثوب من الوسخ ، وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد » (3).
    وغيرها من الأخبار التي تبيّن كيفية الموت وحقيقته .
    قال شيخنا المفيد أعلى الله مقامه في تصحيح الإعتقادات : « الموت هو يضادّ الحياة ، يبطل معه النموّ ويستحيل معه الإحساس ، وهو يحلّ محلّ الحياة فينفيها ، وهو من فعل الله تعالى وليس لأحد فيه صنع ولا يقدر عليه أحد إلاّ الله تعالى » (4).
(1) بحار الأنوار : (ج6 ص153 ـ 155 ب1 ح9) .
(2) نخل الدقيق غربلته وإزالة نخالته ، ويقال : نخل الشيء أي صفّاه .
(3) بحار الأنوار : (ج6 ص155 ب1 ح10) .
(4) تصحيح الإعتقاد : (ص94) .



408
    فالموت حقيقة يلزم الإعتراف به والإنتقال بواسطته إلى عالم الآخرة .. البرزخ والقيامة وهو يتحقّق بأمر الله القاهر فوق عباده فانّه يتوفّى الأنفس حين موتها .
    ويتنفّذ بواسطة ملك الموت وأعوانه كما في قوله تعالى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (1) ويكون ذلك بأمر الله تعالى كما تراه في أحاديث البحار التالية :
    1 ـ حديث زيد الشحّام قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن ملك الموت يقال :
    « الأرض بين يديه كالقصعة (2) يمدّ يده حيث يشاء ؟
    قال : نعم » (3).
    2 ـ حديث أسباط بن سالم مولى أبان قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : جعلت فداك ! يعلم ملك الموت بقبض من يقبض ؟
    قال :
    « لا إنّما هي صكاك (4) تتنزّل من السماء : اقبض نفس فلان بن فلان » (5).
    واعلم أنّه يطيب به المؤمن ويُبشّر به ولا يكون إكراهاً عليه ، ويرهق به الفاجر ويكون مستحقّاً له كما في الأحاديث التالية :
(1) سورة السجدة : (الآية 11) .
(2) القصعة : الجفنة .
(3) بحار الأنوار : (ج6 ص144 ب5 ح12) .
(4) صكاك جمع صكّ وهو الكتاب الذي يكون كالسجل .
(5) بحار الأنوار : (ج6 ص145 ب5 ح16) .



409
    1 ـ حديث جامع الأخبار : قال إبراهيم الخليل (عليه السلام) لملك الموت :
    « هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض فيها روح الفاجر ؟
    قال : لا تطيق ذلك ، قال : بلى ، قال : فأعرض عنّي ; فأعرض عنه ثمّ التفت فإذا هو برجل أسود ، قائم الشعر ، منتن الريح ، أسود الثياب ، يخرج من فيه ومناخره لهيب النار والدخان ; فغشي على إبراهيم (عليه السلام)ثمّ أفاق ، فقال : لو لم يلق الفاجر عند موته إلاّ صورة وجهك لكان حسبه » (1).
    2 ـ ما رواه أبو طاهر المقلّد بن غالب ، عن رجاله بإسناده المتّصل إلى علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ، أنّه رآه وهو ساجد يبكي حتّى علا نحيبه وارتفع صوته بالبكاء ، فقالوا له : ياأمير المؤمنين ! لقد أمرضنا بكاؤك وأمضّنا وشجانا (2) ، وما رأيناك قد فعلت مثل هذا الفعل قطّ .
    فقال :
    « كنت ساجداً أدعو ربّي بدعاء الخيرات في سجدتي فغلبني عيني فرأيت رؤياً هالتني وأقلقتني ، رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائماً وهو يقول : ياأبا الحسن ! طالت غيبتك فقد اشتقت إلى رؤياك ، وقد أنجز لي ربّي ما وعدني فيك . فقلت : يارسول الله ! وما الذي أنجز لك فيّ ؟ قال : أنجز لي فيك وفي زوجتك وإبنيك وذرّيتك في الدرجات العلى في علّيين ; قلت : بأبي أنت واُمّي يارسول الله ! فشيعتنا ؟ قال : شيعتنا معنا ،
(1) بحار الأنوار : (ج6 ص143 ب5 ح8) .
(2) يقال : أمضّه الأمر أي أحرقه وشقّ عليه ، وأمضّه الجرح أي أوجعه ، وشجا الرجل أي أحزنه .



410
وقصورهم بحذاء قصورنا ، ومنازلهم مقابل منازلنا ; قلت : يارسول الله ! فما لشيعتنا في الدنيا ؟ قال : الأمن والعافية ، قلت : فما لهم عند الموت ؟ قال : يحكم الرجل في نفسه ويؤمر ملك الموت بطاعته ، قلت : فما لذلك حدّ يعرف ؟ قال : بلى ، إنّ أشدّ شيعتنا لنا حبّاً يكون خروج نفسه كشرب أحدكم في يوم الصيف الماء البارد الذي ينتقع به القلوب ، وإنّ سائرهم ليموت كما يغبط أحدكم على فراشه كأقرّ ما كانت عينه بموته » (1).
    3 ـ حديث أبي بصير قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : جعلت فداك ! يستكره المؤمن على خروج نفسه ؟ قال : فقال :
    « لا والله ، قال : قلت : وكيف ذاك ؟ قال : إنّ المؤمن إذا حضرته الوفاة حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وجميع الأئمّة عليهم الصلاة والسلام ـ ولكن أكنّوا عن اسم فاطمة ـ ويحضره جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (عليهم السلام) ، قال : فيقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : يارسول الله ! إنّه كان ممّن يحبّنا ويتولاّنا فأحبّه ، قال : فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ياجبرئيل ! إنّه ممّن كان يحبّ عليّاً وذرّيته فأحبّه ، وقال جبرئيل لميكائيل وإسرافيل (عليهم السلام) مثل ذلك ، ثمّ يقولون جميعاً لملك الموت : إنّه ممّن كان يحبّ محمّداً وآله ويتولّى عليّاً وذرّيته فارفق به ، قال : فيقول ملك الموت : والذي اختاركم وكرّمكم واصطفى محمّداً (صلى الله عليه وآله) بالنبوّة ، وخصّه بالرسالة لأنا أرفق به من والد رفيق ،
(1) بحار الأنوار : (ج6 ص161 ب6 ح30) .