411
وأشفق عليه من أخ شفيق .
    ثمّ قام إليه ملك الموت فيقول : ياعبد الله ! أخذت فكاك رقبتك ؟ أخذت رهان أمانك ؟ فيقول : نعم ، فيقول الملك : فبماذا ؟ فيقول : بحبّي محمّداً وآله ، وبولايتي علي بن أبي طالب وذرّيته ، فيقول : أمّا ما كنت تحذر فقد آمنك الله منه وأمّا ما كنت ترجو فقد أتاك الله به ، افتح عينيك فانظر إلى ما عندك .
    قال : فيفتح عينيه فينظر إليهم واحداً واحداً ، ويفتح له باب إلى الجنّة فينظر إليها ، فيقول له : هذا ما أعدّ الله لك ، وهؤلاء رفقاؤك ، أفتحبّ اللحاق بهم أو الرجوع إلى الدنيا ؟
    قال : فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : أما رأيت شخوصه (1) ورفع حاجبيه إلى فوق من قوله : لا حاجة لي إلى الدنيا ولا الرجوع إليها ؟ ويناديه مناد من بطنان العرش يسمعه ويسمع من بحضرته : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) إلى محمّد ووصيّه والأئمّة من بعده ( ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً ) بالولاية ، ( مَرْضِيَّةً ) بالثواب ، ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) مع محمّد وأهل بيته ( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) غير مشوبة » (2).
    كما وأنّ بحضور النبي الأكرم والأئمّة العظام عليهم سلام الله الملك العلاّم يكون سرور المؤمن في موته وحضوره عند أوليائه كما تلاحظه في حديث وبيان العلاّمة المجلسي (قدس سره) (3).
(1) يقال : شَخَص بصره أي فتح عينيه ، وشخص ببصره أي رفعه .
(2) بحار الأنوار : (ج6 ص162 ـ 163 ب6 ح31) .
(3) بحار الأنوار : (ج6 ص200) .



412
    فيلزم على الإنسان في وفوده هذا إلى الله تعالى أن يكون متّكلا على رحمته الواسعة وآملا محبّة أهل البيت النافعة ، ومتعوّذاً بالله من وساوس الشيطان والعديلة عند الموت التي تلاحظ تفصيلها في المعالم الزلفى (1) ونحيل الذكر رعايةً للإختصار .
(1) المعالم الزلفى : (ص71) .


413
(2) ـ البزرخ

    البرزخ في اللغة هو الحاجز بين الشيئين كما في مجمع البحرين (1).
    وكلّ فصل بين شيئين برزخ كما في مجمع البيان (2).
    وأفاد في المفردات : « البرزخ هو الحاجز والحدّ بين الشيئين ، قيل أصل برزخ : برزه ، ومنه قوله تعالى : ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ) (3) » (4).
    هذا لغةً ، وعالم البرزخ في الإصطلاح هو ما بين العالَمَين الدنيا والآخرة كما أفاده في مرآة الأنوار (5).
    ويلزم الإعتقاد بعالم البرزخ الذي هو ما بين الموت لكلّ إنسان والقيامة وما فيه من الاُمور ، كما أفاده السيّد الشبّر (6).
    وقد ثبت هذا العالم بدليل الكتاب والسنّة :
(1) مجمع البحرين : (ص191) .
(2) مجمع البيان : (ج7 ص116) .
(3) سورة الرحمن : (الآية 20) .
(4) المفردات : (ص43) .
(5) مرآة الأنوار : (ص64) .
(6) حقّ اليقين : (ج1 ص64) .



414
    أمّا الكتاب :
    فمثل قوله تعالى : ( .. وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (1).
    وأمّا السنّة : فالأحاديث العديدة الواردة في كتب الأخبار مثل الأحاديث التالية :
    1 ـ ما في تفسير القمّي : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) (2) إلى قوله : ( إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) فإنّها نزلت في مانع الزكاة ، قوله : ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال : البرزخ هو أمر بين أمرين ، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة ، وهو ردّ على من أنكر عذاب القبر والثواب والعقاب قبل يوم القيامة ، وهو قول الصادق (عليه السلام) : « والله ما أخاف عليكم إلاّ البرزخ ، فأمّا إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم » .
    وقال علي بن الحسين (عليهما السلام) : « إنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران » (3).
    2 ـ حديث أبي ولاّد الحنّاط ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : جعلت فداك ! يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال :
    « لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم » (4).
(1) سورة المؤمنون : (الآية 100) .
(2) سورة المؤمنون : (الآية 99) .
(3) بحار الأنوار : (ج6 ص214 ب8 ح2) .
(4) بحار الأنوار : (ج6 ص268 ب8 ح119) .



415
    فبموت الإنسان يبدأ هذا العالم الأوسط ، ويجري فيه الجزاء بالثواب أو العقاب ; فإنّه وإن مات البدن إلاّ أنّ الروح حي باق حسّاس مشعر يحسّ اللذّات والآلام .
    والمعتقد الصحيح هو بقاء الأرواح كما صرّح به شيخ المحدّثين الصدوق (قدس سره) (1).
    بل المستظهر من الأدلّة كالآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة والبراهين القطعيّة هو أنّ النفس باقية بعد الموت في عالم البرزخ .. إمّا معذّبة كمن مُحض الكفر ، أو منعمة كمن محض الإيمان ، أو يلهى عنها كمن كان من المستضعفين ، وقد يذوق شيئاً من الجهد إن كان من العاصين .
    ويدلّ على بقاء الروح ، الكتاب والسنّة بالبيان التالي :
    1 ـ دليل الكتاب على بقاء الروح :
    1 ـ قوله تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).
    2 ـ قوله تعالى : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ ) (3).
(1) الإعتقادات للصدوق : (ص47) .
(2) سورة آل عمران : (الآيتان 169 و170) .
(3) سورة البقرة : (الآية 154) .



416
    3 ـ قوله تعالى : ( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (1) حيث فسّر بجنّة الدنيا بدليل قوله عزّ إسمه « بكرةً وعشيّاً » فالبُكرة والعشي لا تكونان في الآخرة في جنان الخُلد بل هما في الدنيا .
    فيستفاد من هذه الآيات الشريفة الحياة بعد الشهادة والموت لصراحة صفات الأحياء .
    3 ـ دليل السنّة على بقاء الروح :
    مثل أحاديث أحوال البرزخ نظير ما يلي :
    1 ـ حديث الفضل بن شاذان من كتاب صحائف الأبرار : إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اضطجع في نجف الكوفة على الحصى فقال قنبر : يامولاي ! ألا أفرش لك ثوبي تحتك ؟
    فقال :
    « لا إن هي إلاّ تربة مؤمن ، أو مزاحمته في مجلسه .
    فقال الأصبغ بن نباتة : أمّا تربة مؤمن فقد علمنا أنّها كانت أو ستكون ، فما معنى مزاحمته في مجلسه ؟
    فقال : يابن نباتة ! إنّ في هذا الظهر أرواح كلّ مؤمن ومؤمنة في قوالب من نور على منابر من نور » (2).
    2 ـ حديث قيس مولى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال :
    « إنّ عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قريباً من الجبل بصفّين ، فحضرت
(1) سورة مريم : (الآية 62) .
(2) بحار الأنوار : (ج6 ص237 ب8 ح55) .



417
صلاة المغرب فأمعن (1) بعيداً ، ثمّ أذّن ، فلمّا فرغ عن أذانه إذا رجل مقبل نحو الجبل ، أبيض الرأس واللحية والوجه ، فقال : السلام عليك ياأمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، مرحباً بوصيّ خاتم النبيّين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، والأعزّ المأمون ، والفاضل الفائز بثواب الصدّيقين ، وسيّد الوصيّين ; فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : عليك السلام ، كيف حالك ؟ فقال : بخير أنا منتظر روح القدس ، ولا أعلم أحداً أعظم في الله عزّوجلّ اسمه بلاءاً ولا أحسن ثواباً منك ، ولا أرفع عند الله مكاناً ، اصبر ياأخي على ما أنت فيه حتّى تلقى الحبيب ، فقد رأيت أصحابنا ما لقوا بالأمس من بني إسرائيل ، نشروهم بالمناشير ، وحملوهم على الخشب ، ولو تعلم هذه الوجوه التَرِبَة الشائهة (2) ـ وأومأ بيده إلى أهل الشام ـ ما اُعدّ لهم في قتالك من عذاب وسوء نكال لأقصروا ، ولو تعلم هذه الوجوه المبيضّة ـ وأومأ بيده إلى أهل العراق ـ ماذا لهم من الثواب في طاعتك لودّت أنّها قرضت بالمقاريض ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
    ثمّ غاب من موضعه ، فقام عمّار بن ياسر ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وأبو أيّوب الأنصاري ، وعبادة بن الصامت ، وخزيمة بن ثابت ، وهاشم المرقال في جماعة من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وقد كانوا سمعوا كلام الرجل ـ فقالوا : ياأمير المؤمنين ! من هذا الرجل ؟ فقال
(1) يقال : أمعن في النظر أي بالغ في الإستقصاء ، وكذا أمعن في الطلب ، ويقال : أمعن في الأمر أي أبعد .
(2) الشائهة أي القبيحة ، والتَرِبة أي الفقيرة .



418
لهم أمير المؤمنين (عليه السلام) : هذا شمعون وصي عيسى (عليه السلام) ، بعثه الله يصبّرني على قتال أعدائه ، فقالوا له : فداك آباؤنا واُمّهاتنا ، والله لننصرنّك نصرنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولا يتخلّف عنك من المهاجرين والأنصار إلاّ شقي ; فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام) معروفاً » (1).
    3 ـ حديث زيد الشحّام ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
    « إنّ أرواح المؤمنين يرون آل محمّد (عليهم السلام) في جبال رضوى فتأكل من طعامهم ، وتشرب من شرابهم ، وتحدّث معهم في مجالسهم حتّى يقوم قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) فإذا قام قائمنا بعثهم الله وأقبلوا معه يلبّون زمراً فزمراً ، فعند ذلك يرتاب المبطلون ، ويضمحلّ المنتحلون ، وينجو المقرّبون » (2).
    4 ـ حديث إسحاق بن عمّار ، عن أبي الحسن الأوّل [ الإمام الكاظم ] (عليه السلام)قال :
    « سألته عن الميّت يزور أهله ؟ قال : نعم ، فقلت : في كم يزور ؟ قال : في الجمعة وفي الشهر وفي السنة على قدر منزلته ، فقلت : في أي صورة يأتيهم ؟ قال : في صورة طائر لطيف يسقط على جدرهم ويشرف عليهم ، فإن رآهم بخير فرح ، وإن رآهم بشرّ وحاجة وحزن اغتمّ » (3).
    5 ـ حديث يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فقال :
(1) بحار الأنوار : (ج6 ص238 ـ 239 ب8 ح58) .
(2) بحار الأنوار : (ج6 ص243 ب8 ح66) .
(3) بحار الأنوار : (ج6 ص257 ب8 ح91) .



419
    « ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ؟ فقلت : يقولون : تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : سبحان الله ! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، يايونس ! إذا كان ذلك أتاه محمّد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والملائكة المقرّبون (عليهم السلام) فإذا قبضه الله عزّوجلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا » (1).
    6 ـ حديث الإحتجاج (2) المتقدّم الذي صرّح فيه أنّ الروح باق إلى يوم ينفخ في الصور .
    هذا ، وقد أفاد العلاّمة المجلسي (3) أنّ عذاب البرزخ وثوابه ممّا اتّفقت عليه الاُمّة سلفاً وخلفاً وقال به أكثر أهل الملل ، ولم ينكره من المسلمين إلاّ شرذمة قليلة لا عبرة بهم ، وقد انعقد الإجماع على خلافهم سابقاً ولاحقاً ، والأحاديث الواردة فيه من طرق الخاصّة والعامّة متواترة المضمون .
    وعليه فالكتاب والسنّة والإجماع كلّها دالّة على عالم البرزخ ، رحمنا الله فيه بفضله ورحمته .
(1) بحار الأنوار : (ج6 ص269 ب8 ح124) .
(2) الإحتجاج : (ج2 ص97) ، وقد مرّ ذكره في (ص395) من هذا الكتاب .
(3) بحار الأنوار : (ج6 ص271) .



420
(3) ـ القبر
    القبر من المراحل الوسطى للإنسان وهو تكرمة له في البدن وستر له في الأرض وحفظ له عن الهوام والمؤذيات ، وقد جعله الله وقدّره للإنسان فيما بيّن من مراحله بقوله عزّ إسمه : ( قُتِلَ الاِْنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَىِّ شَيْء خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (1).
    وأوّل شيء يكون في القبر بعد الدفن هو مساءلة العبد ، فيُسأل المكلّف الكامل عن ربّه وعن نبيّه وعن وليّه وعن دينه والحجج عليه ، بعد أن تُردّ الحياة إلى العبد إمّا كاملا أو إلى بعض بدنه ، كما أفاده العلاّمة المجلسي أعلى الله مقامه (2).
    واعتقادنا في مساءلة القبر أنّها حقّ لابدّ منها فمن أجاب بالصواب فاز بروح وريحان في قبره ، وبجنّة ونعيم في الآخرة .
    ومن لم يأت بالصواب فله نُزُلٌ من حميم في قبره وتصلية جحيم في آخرته ، كما أفاده الشيخ الصدوق طاب ثراه (3).
    وقد جاءت الآثار الصحيحة عن النبي (صلى الله عليه وآله) بأنّ الملائكة تنزل على
(1) سورة عبس : (الآيات 17 ـ 21) .
(2) بحار الأنوار : (ج6 ص270) .
(3) إعتقادات الصدوق : (ص58) .