441
عن مسائل إلى أن قال : أيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق ؟
    قال (عليه السلام) :
    « بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمّ اُعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين » (1).
    4 ـ حديث النهج الشريف :
    « هو المفني لها بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد إبتداعها بأعجب من إنشائها وإختراعها ، وكيف [ و ] لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مراحها وسائمها وأصناف أسناخها وأجناسها ومتبلّدة اُممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ؟
    ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها ، وتناهت ورجعت خاسئة حسيرة عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها .
    وإنّ الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل إبتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات .
    فلا شيء إلاّ الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الاُمور ، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير إمتناع منها كان فناؤها، ولو قدرت على
(1) بحار الأنوار : (ج6 ص330 ب2 ح15) .


442
الإمتناع لدام بقاؤها ، لم يتكأّده صنع شيء منها إذ صنعه ، ولم يؤده خلق ما خلقه وبرأه ، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للإستعانة بها على ند مكاثر ، ولا للإحتراز بها من ضدّ مثاور ، ولا للإزدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها .
    ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شيء منها عليه ، لم يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا إستعانة بشيء منها عليها » (1).
(1) بحار الأنوار : (ج6 ص330 ـ 331 ب2 ح16) ، وهي خطبة نهج البلاغة : (الرقم 181 ص142 من الطبعة المصرية) .


443
(6) ـ المحشر
    الحشر في اللغة بمعنى الجمع .. يقال : حشرهم حشراً أي جمعهم .
    وحشر الأجساد عبارة عن جمع أجزاء بدن الميّت وتأليفها بمثل ما كانت ، وإعادة روحه المدبّرة إليه كما كان ..
    ولا شكّ في إمكانه ووقوعه ، والله قادر على كلّ ممكن ، وعالم بالجزئيات ، فيعيد الجزء المعيّن للشخص المعيّن (1).
    وفسّره في المفردات : باخراج الجماعة عن مقرّهم وسمّي يوم القيامة يوم الحشر كما سمّي يوم البعث ويوم النشر (2).
    والحشر ممّا ثبت بالدليل العلمي كتاباً وسنّةً ، وهو من عقائدنا الحقّة (3).
    بل إنّ إنكاره كفر كما في إعتقادات العلاّمة المجلسي (4).
(1) مجمع البحرين : (ص252) .
(2) مفردات الراغب : (ص119) .
(3) إعتقادات الصدوق : (ص64) .
(4) إعتقادات العلاّمة المجلسي : (ص41) .



444
    أمّا دليل الكتاب عليه :
    فالآيات الكثيرة التي أحصاها في البحار (1)، منها:
    قوله تعالى : ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الاَْرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) (2).
    وأمّا دليل السنّة على الحشر :
    فالأخبار المتواترة المفيدة للعلم واليقين منها ما يلي :
    1 ـ حديث هشام بن الحكم المتقدّم أنّه قال الزنديق للإمام الصادق (عليه السلام) : أنّى للروح بالبعث والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرّقت ؟ فعضو في بلدة تأكلها سباعها ، وعضو باُخرى تمزّقه هوامّها ، وعضو قد صار تراباً بني به مع الطين حائط ؟
    قال (عليه السلام) :
    « إنّ الذي أنشأه من غير شيء وصوّره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه .
    قال : أوضح لي ذلك .
    قال : إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير تراباً منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوامّ من أجوافها فما أكلته ومزّقته ، كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض
(1) بحار الأنوار : (ج7 ص1 ب3) .
(2) سورة الكهف : (الآيتان 47 و48) .



445
ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض فتربو الأرض ثمّ تمخض مخض (1) السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللّبن إذا مخض فيجتمع تراب كلّ قالب فينقل بإذن الله تعالى إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيأتها وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئاً .. » (2). الخبر .
    2 ـ حديث جميل بن درّاج ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
    « إذا أراد الله أن يبعث أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم .
    وقال : أتى جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذه فأخرجه إلى البقيع فانتهى به إلى قبر فصوّت بصاحبه فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل أبيض الرأس واللحية يمسح التراب عن وجهه وهو يقول : الحمد لله والله أكبر ، فقال جبرئيل : عُد بإذن الله ; ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال : قم بإذن الله ، فخرج منه رجل مسودّ الوجه وهو يقول : ياحسرتاه ! ياثبوراه ! ثمّ قال له جبرئيل : عُد إلى ما كنت بإذن الله ; فقال : يامحمّد ! هكذا يحشرون يوم القيامة ، والمؤمنون يقولون هذا القول ، وهؤلاء يقولون ما ترى » (3).
(1) المخض هي الحركة الشديدة .
(2) بحار الأنوار : (ج7 ص37 و38 ب3 ح5) .
(3) بحار الأنوار : (ج7 ص39 ب3 ح8) .



446
    3 ـ حديث جابر ، عن أبي جعفر [ الباقر ] صلوات الله عليه قال :
    « كان فيما وعظ به لقمان (عليه السلام) إبنه أن قال : يابني ! إن تك في شكّ من الموت فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك ، وإن كنت في شكّ من البعث فارفع عن نفسك الإنتباه ولن تستطيع ذلك .
    فإنّك إذا فكّرت في هذا علمت أنّ نفسك بيد غيرك ، وإنّما النوم بمنزلة الموت ، وإنّما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت » (1).
    4 ـ حديث عمّار بن موسى ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
    « وسئل عن الميّت يبلى جسده ؟
    قال : نعم حتّى لا يبقى لحم ولا عظم إلاّ طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة » (2).
    5 ـ قول النبي (صلى الله عليه وآله) :
    « يابني عبدالمطلّب ! إنّ الرائد لا يكذب أهله ، والذي بعثني بالحقّ لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، وما بعد الموت دار إلاّ جنّة أو نار ، وخَلْقُ جميع الخلق وبعثهم على الله عزّوجلّ كخلق نفس واحدة وبعثها ; قال الله تعالى : ( مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَاحِدَة ) (3) » (4).
(1) بحار الأنوار : (ج7 ص42 ب3 ح13) .
(2) بحار الأنوار : (ج7 ص43 ب3 ح21) .
(3) سورة لقمان : (الآية 28) .
(4) بحار الأنوار : (ج7 ص47 ب3 ح31) .



447
    6 ـ حديث شيخ الطائفة في الأمالي بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة طويلة قال :
    « اسمع ياذا الغفلة والتصريف من ذي الوعظ والتعريف ، جُعل يوم الحشر يوم العرض والسؤال والحباء والنكال ، يوم تقلّب إليه أعمال الأنام ، وتحصى فيه جميع الآثام ، يوم تذوب من النفوس أحداق عيونها ، وتضع الحوامل ما في بطونها ، ويفرّق بين كلّ نفس وحبيبها ، ويحار في تلك الأهوال عقل لبيبها ، إذ نكرت الأرض بعد حسن عمارتها ، وتبدّلت بالخلق بعد أنيق زهرتها ، أخرجت من معادن الغيب أثقالها ، ونفضت إلى الله أحمالها ، يوم لا ينفع الحذر إذ عاينوا الهول الشديد فاستكانوا ، وعُرف المجرمون بسيماهم فاستبانوا ، فانشقّت القبور بعد طول إنطباقها ، وإستسلمت النفوس إلى الله بأسبابها ، كشف عن الآخرة غطاؤها ، فظهر للخلق أنباؤها ، فدكّت الأرض (1) دكّاً دكّاً ، ومدّت لأمر يُراد بها مدّاً مدّاً ، واشتدّ المبادرون إلى الله شدّاً شدّاً ، وتزاحفت الخلائق إلى المحشر زحفاً زحفاً ، وردّ المجرمون على الأعقاب ردّاً ردّاً ، وجدّ الأمر ويحك ياإنسان جدّاً جدّاً ، وقرّبوا للحساب فرداً فرداً ، وجاء ربّك والملك صفّاً صفّاً ، يسألهم عمّا عملوا حرفاً حرفاً ، وجىء بهم عراة الأبدان ، خشّعاً أبصارهم ، أمامهم الحساب ، ومن ورائهم جهنّم يسمعون زفيرها ويرون سعيرها، فلم يجدوا ناصراً ولا وليّاً يجيرهم من الذلّ ، فهم
(1) أي كُسر كلّ شيء على ظهر الأرض من جبل أو شجر أو بناء حين زلزلت فلم يبق عليها شيء .


448
يَعْدون سراعاً إلى مواقف الحشر يساقون سوقاً ، فالسماوات مطويّات بيمينه كطيّ السجلّ للكتب ، والعباد على الصراط وَجِلت قلوبهم يظنّون أنّهم لا يسلمون ، ولا يؤذن لهم فيتكلّمون ، ولا يقبل منهم فيعتذرون ، قد ختم على أفواههم ، واستنطقت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .
    يا لها من ساعة ! ما أشجى مواقعها من القلوب حين ميّز بين الفريقين : فريق في الجنّة ، وفريق في السعير ، من مثل هذا فليهرب الهاربون ، إذا كانت الدار الآخرة لها فليعمل العاملون » (1).
    7 ـ حديث أبي الورد ، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال :
    « إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد فهم حفاة عراة فيوقفون في المحشر حتّى يعرقوا عرقاً شديداً فتشتدّ أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاماً وهو قول الله : ( وَخَشَعَتْ الاَْصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ) (2).
    قال : ثمّ ينادي مناد من تلقاء العرش : أين النبي الاُمّي ؟ فيقول الناس : قد أسمعت فسمّ باسمه ، فينادي : أين نبي الرحمة محمّد بن عبدالله الاُمّي (3) (صلى الله عليه وآله) ؟ فيتقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمام الناس كلّهم حتّى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيلة إلى صنعاء فيقف عليه .
(1) بحار الأنوار : (ج7 ص98 و99 ب5 ح2) .
(2) سورة طه : (الآية 108) .
(3) يأتي بيانه عند ذكر الحوض .



449
    ثمّ ينادي بصاحبكم (1) فيتقدّم أمام الناس فيقف معه ، ثمّ يؤذن للناس فيمرّون ، فبين وارد الحوض يومئذ وبين مصروف عنه ، فإذا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يصرف عنه من محبّينا يبكي فيقول : ياربّ ! شيعة علي ، قال : فيبعث الله إليه ملكاً فيقول : ما يبكيك يامحمّد ؟ فيقول : أبكي لاُناس من شيعة علي أراهم قد صرفوا تلقاء النار ومنعوا ورود الحوض ، قال : فيقول له المَلَك : إنّ الله يقول : قد وهبتهم لك يامحمّد وصفحت لهم عن ذنوبهم وألحقتهم بك وبمن كانوا يقولون به وجعلناهم في زمرتك فأوردهم حوضك .
    فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فكم من باك يومئذ وباكية ينادون : يامحمّداه ! إذا رأوا ذلك ، ولا يبقى أحد يومئذ يتولاّنا ويحبّنا ويتبرّأ من عدوّنا ويبغضهم إلاّ كانوا في حزبنا ومعنا ويرد حوضنا » (2).
    8 ـ ما في كتاب كتبه أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى أهل مصر مع محمّد بن أبي بكر :
    « ياعباد الله ! إنّ بعد البعث ما هو أشدّ من القبر ، يوم يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، ويسقط فيه الجنين ، وتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت ، يوم عبوس قمطرير ، يوم كان شرّه مستطيراً ، إنّ فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشقّ
(1) أي أمير المؤمنين وسيّدهم وزعيمهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
(2) بحار الأنوار : (ج7 ص101 ـ 102 ب5 ح9) .



450
السماء فهي يومئذ واهية ، وتتغيّر فكأنّها وردة كالدهان (1)، وتكون الجبال سراباً مهيلا بعد ما كانت صمّاً صلاباً ، وينفخ في الصور فيفزع من في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله ، فكيف من عصى بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن إن لم يغفر الله له ويرحمه من ذلك اليوم ؟ لأنّه يصير إلى غيره إلى نار قعرها بعيد ، وحرّها شديد ، وشرابها صديد ، وعذابها جديد ، ومقامها حديد ، لا يغيّر عذابها ولا يموت ساكنها ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تسمع لأهلها دعوة » (2). الخبر .
    9 ـ حديث ياسر الخادم قال : سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول :
    « إنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد ويخرج من بطن اُمّه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ، ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا .
    وقد سلّم الله عزّوجلّ على يحيى (عليه السلام) في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته فقال : ( وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً ) (3).
    وقد سلّم عيسى بن مريم (عليه السلام) على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال : ( وَالسَّلاَمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) (4) » (5).
(1) قال في مجمع البحرين : (ص557) : أي كدهن الزيت أي تمور كالدهن ، وقيل الدهان : الأديم الأحمر أي صارت حمراء كالأديم .
(2) بحار الأنوار : (ج7 ص103 و104 ب5 ح16) .
(3) سورة مريم : (الآية 15) .
(4) سورة مريم : (الآية 33) .
(5) بحار الأنوار : (ج7 ص104 ب5 ح18) .