كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: 321 ـ 330
(321)
السيد الجرجاني وزادوا ضغثا على إبالة فلم يكتفوا في رد الحديث بعدم إخراج الصحيحين ، ولم يقفوا على فرية ابن تيمية في عزوه الطعن إلى البخاري والحراني ، أو ما راقتهم النسبة إلى البخاري والحراني لمكان ضعف الناقل ( ابن تيمية ) عندهم ، فقالوا بإرسال مسلم : قد طعن فيه ابن أبي داود وأبو حاتم السجستاني. ثم جاء ابن حجر فزاد على أبي داود والسجستاني قوله : وغيرهم. إلى أن جاد الدهر بالهروي فزحزح السجستاني ووضع في محله الواقدي وابن خزيمة فقال في السهام الثاقبة : قدح في صحة الحديث كثير من أئمة الحديث كأبي داود والواقدي وابن خزيمة وغيرهم من الثقات.
    لا أدري ما أجرأهم على الرحمن [ وقد خاب من افترى ] وما عساني أن أقول في بحاثة يذكر هذه النسب المفتعلة على أئمة الحديث وحفاظ السنة في كتابه ؟ ألا مسائل هؤلاء عن مصدر هذه النقول والاضافات ؟ أفي مؤلف وجدوها ؟ فما هو ؟ وأين هو ؟ ولم لم يسموه. أم عن المشايخ رووها ؟ فلم لم يسندوها ؟ ألا مسائل هؤلاء كيف خفي طعن مثل البخاري وقرنائه في الحديث على ذلك الجم الغفير من الحفاظ والأعلام و مهرة الفن في القرون الأولى إلى القرن السابع والثامن قرن ابن تيمية ومقلديه ؟ فلم يفه به أحد ، ولا يوجد منه أثر في أي تأليف ومسند ، أو أنهم أوقفهم السير عليه ولكنهم لم يروا في سوق الحق له قيمة فضربوا عنه صفحا ؟.
    وبعد هذا كله فأين تجد مقيل القول بإنكار تواتره من مستوى الحقيقة ؟ والقول : بأن الشيعة إتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدل به على الإمامة فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بحديث الغدير وهو من الآحاد ؟ (1) يقول الرجل ذلك وهو يرى الحديث متواترا لرواية ثمانية صحابي (2) وأن في القوم من يرى الحديث متواترا لرواية أربعة من الصحابة له ويقول : لا تحل مخالفته (3) ويجزم بتواتر حديث :
1 ـ التفتازاني في المقاصد ص 290 ، وابن حجر في الصواعق ص 25 ومقلديهما.
2 ـ راجع الصواعق ص 13.
3 ـ قال ابن حزم في المحلى في مسألة عدم جواز بيع الماء : فهؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهم فهو نقل تواتر لا تحل مخالفته.


(322)
الأئمة من قريش (1) ويقول : رواه أنس بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، ومعاوية ، وروى معناه جابر بن عبد الله ، وجابر بن سمرة ، وعبادة بن الصامت. وآخر يقول ذلك في حديث آخر رواه علي بن النبي صلى الله عليه وآله ويرويه عن علي اثني عشر رجل فيقول (2) : هذه اثنتا عشرة طريقا إليه ومثل هذا يبلغ حد التواتر وآخر يرى حديث : تقتلك الفئة الباغية. متواترا ويقول (3) : تواترت الروايات به روي ذلك عن عمار وعثمان وابن مسعود وحذيفة وابن عباس في آخرين ، وجود السيوطي قول من حدد التواتر بعشرة وقال في ألفيته ص 16.
وما رواه عدد جم يجب فمتواتر وقوم حددوا إحالة اجتماعهم على الكذب بعشرة وهو لدي أجود
    هذه نظريتهم المشهورة في تحديد التواتر ، لكنهم إذا وقفوا على حديث الغدير اتخذوا له حدا أعلى لم تبلغه رواية مائة وعشر صحابي أو أكثر بالغا ما بلغ.
    ومن غرائب اليوم ما جاء به أحمد أمين في كتابه ظهور الاسلام تعليق ص 194 من : أنه يرويه الشيعة عن البراء بن عازب. وأنت تعلم أن نصيب رواية البراء من إخراج علماء أهل السنة أوفر من كثير من روايات الصحابة ، فقد عرفت ص 18 ، 19 ، 20 و ص 272 ـ 283 : إنه أخرجها ما يربو على الأربعين رجلا من فطاحل علمائهم وفيهم مثل أحمد وابن ماجة والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة ونظرائهم ، وجملة من أسانيدها صحيحة رجالها كلهم ثقات ، لكن : أحمد أمين راقه أن تكون الرواية معزوة إلى الشيعة فحسب ، إسقاطا للاحتجاج بها ، وليس هذا ببدع من تقولاته في صحايف إسلامه صبحا وضحا وظهرا.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذبا
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا

( سورة الكهف )

1 ـ راجع الفصل 4 ص 89.
2 ـ راجع تاريخ ابن كثير 7 ص 289.
3 ـ تهذيب التهذيب 7 ص 409 ، والإصابة 2 ص 512.


(323)
الرأي العام في ابن حزم
الأندلسي المتوفى 456
    ما عساني أن أكتب عن شخصية أجمع فقهاء عصره على تضليله والتشنيع عليه ونهي العوام عن الاقتراب منه ، وحكموا بإحراق تآليفه ومدوناته مهما وجدوا الضلال في طياتها كما في لسان الميزان 4 ص 200 ، ويعرفه الآلوسي عند ذكره بقوله : الضال المضل كما في تفسيره 21 ص 76.
    ما عساني أن أقول في مؤلف لا يتحاشا عن الكذب على الله ورسوله ، ولا يبالي بالجرأة على مقدسات الشرع النبوي ، وقذف المسلمين بكل فاحشة ، والأخذ بمخاريق القول وسقطات الرأي.
    ما عساني أن أذكر عن بحاثة لا يعرف مبدئه في أقواله ، ولا يستند على مصدر من الكتاب والسنة في آرائه ، غير أنه إذا أفتى تحكم ، وإذا حكم مان ، يعزو إلى الأمة الإسلامية ما هي بريئة منه ، ويضيف إلى الأئمة وحفاظ المذهب ما هم بعداء منه ، تعرب تآليفه عن حق القول من الرأي العام في ضلاله وإليك نماذج من آرائه.
    قال في فقهه ( المحلى ) ج 10 ص 482 : مسألة : مقتول كان في أوليائه غائب أو صغير أو مجنون ، إختلف الناس في هذا. ثم نقل عن أبي حنيفة أنه يقول : إن للكبير أن يقتل ولا ينتظر الصغار. وعن الشافعي : إن الكبير لا يستقيد حتى يبلغ الصغير ثم أورد على الشافعية بأن الحسن بن علي قد قتل عبد الرحمن بن ملجم ولعلي بنون صغار ، ثم قال : هذه القصة ( يعني قتل ابن ملجم ) عائدة على الحنفيين بمثل ما شنعوا على الشافعيين سواء سواء ، لأنهم والمالكيين لا يختلفون في أن من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك. ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا رضي الله عنه إلا متأولا مجتهدا مقدرا على أنه صواب ، وفي ذلك يقول


(324)
عمران بن حطان شاعر الصفرية :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إني لأذكره حينا فأحسبه إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا أوفى البرية عند الله ميزانا
    أي لأفكر فيه ثم أحسبه ، فقد حصل الحنفيون في خلاف الحسن بن علي على مثل ما شنعوا به على الشافعيين ، وما ينقلون أبدا من رجوع سهامهم عليهم ، ومن الوقوع فيما حفروه (1).
    فهلم معي نسائل كل معتنق للاسلام أين هذا الفتوى المجردة من قول النبي صلى الله عليه وآله في حديث صحيح لعلي عليه السلام : قاتلك أشقى الآخرين. وفي لفظ : أشقى الناس. وفي الثالث : أشقى هذه الأمة كما أن عاقر الناقة أشقى ثمود ؟ أخرجه الحفاظ الاثبات والأعلام الأئمة بغير طريق ، ويكاد أن يكون متواترا على ما حدد ابن حزم التواتر به. منهم :
    إمام الحنابلة أحمد في المسند 4 ص 263 ، والنسائي في الخصايص ص 39 ، و ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 ص 135 ، والحاكم في المستدرك عن عمار 3 ص 140 ، و الذهبي في تلخيصه وصححاه ، ورواه الحاكم عن ابن سنان الدؤلي ص 113 وصححه وذكره الذهبي في تلخيصه ، والخطيب في تاريخه عن جابر بن سمرة 1 ص 135 ، وابن عبد البر في الاستيعاب ( هامش الإصابة ) 3 ص 60 ذكره عن النسائي ثم قال : وذكره الطبري وغيره أيضا ، وذكره ابن إسحاق في السير ، وهو معروف من رواية محمد بن كعب القرظي عن يزيد (2) بن جشم عن عمار بن ياسر ، وذكره ابن أبي خيثمة من طرق ، وأخرجه محب الدين الطبري في رياضه عن علي من طريق أحمد وابن الضحاك ، وعن صهيب من طريق أبي حاتم والملا ، ورواه ابن كثير في تاريخه 7 ص 323 من طريق أبي يعلى ، وص 325 من طريق الخطيب ، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 ص 411 عن ابن عساكر والحاكم والبيهقي ، وص 412 بعدة طرق عن ابن
1 ) حكاه عنه ابن حجر في تلخيص الخبير لي تخريج أحاديث الرافعي الكبير ـ ط هند سنة 1303 ـ ص 416.
2 ـ كذا في النسخ والصحيح : عن أبي يزيد بن خثيم.

(325)
عساكر ، وص 413 من طريق ابن مردويه ، وص 157 من طريق الدارقطني ، وص 399 من طريق أحمد والبغوي والطبراني والحاكم وابن مردويه وأبي نعيم وابن عساكر وابن النجار.
    وأين هذا من قوله الآخر صلى الله عليه وسلم لعلي : ألا أخبرك بأشد الناس عذابا يوم القيامة ؟ قال : أخبرني يا رسول الله ؟ قال : فإن أشد الناس عذابا يوم القيامة عاقر ناقة ثمود و خاضب لحيتك بدم رأسك. رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 ص 298.
    وأين هذا من قوله الثالث صلى الله عليه وآله : قاتلك شبه اليهود وهو يهود أخرجه ابن عدي في الكامل ، وابن عساكر كما في ترتيب جمع الجوامع 6 ص 412.
    وأين هذا مما ذكره ابن كثير في تاريخه 7 ص 323 من أن عليا كان يكثر أن يقول : ما يحبس أشقاها ؟ وأخرجه السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 ص 411 بطريقين عن أبي سعد وأبي نعيم وابن أبي شيبة ، وص 413 من طريق ابن عساكر.
    وأين هذا من قول أمير المؤمنين الآخر لابن ملجم : لا أراك إلا من شر خلق الله ؟ رواه الطبري في تاريخه 6 ص 85 ، وابن الأثير في الكامل 3 ص 169 وقوله الآخر عليه السلام : ما ينظر بي إلا شقي ؟ أخرجه أحمد بإسناده كما في البداية و النهاية 7 ص 324. وقوله الرابع لأهله : والله لوددت لو انبعث أشقاها ؟ أخرجه أبو حاتم والملا في سيرته كما في الرياض 2 ص 248. وقوله الخامس : ما يمنع أشقاكم ؟ كما في الكامل 3 ص 168 ، وفي كنز العمال 6 ص 412 من طريق عبد الرزاق و ابن سعد. وقوله السادس : ما ينتظر أشقاها ؟ أخرجه المحاملي كما في الرياض 2 ص 248.
    ليت شعري أي اجتهاد يؤدي إلى وجوب قتل الإمام المفترض طاعته ؟ أو أي اجتهاد يسوغ جعل قتله مهرا لنكاح (1) امرأة خارجية عشقها أشقى مراد ؟ أو أي مجال مجال للاجتهاد في مقابل النص النبوي الأغر ؟ ولو فتح هذا الباب لتسرب الاجتهاد
1 ـ راجع الإمامة والسياسة 1 ص 134 ، تاريخ الطبري 6 ص 83 ، والمستدرك 3 ص 143 ، والكامل 3 ص 168 ، والبداية والنهاية 7 ص 328.

(326)
منه إلى قتلة الأنبياء والخلفاء جميعا ، لكن ابن حزم لا يرضى أن يكون قاتل عمر أو قتلة عثمان مجتهدين ، ونحن أيضا لا نقول به.
    ثم ليتني أدري أي أمة من الأمم أطبقت على تعذير عبد الرحمن بن ملجم في ما ارتكبه ؟ ليته دلنا عليها ، فإن الأمة الإسلامية ليس عندها شيء من هذا النقل المائن ، أللهم إلا الخوارج المارقين عن الدين ، وقد إقتص الرجل أثرهم واحتج بشعر قائلهم عمران.
    أللهم ؟ ما عمران بن حطان وحكمه في تبرير عمل ابن ملجم من إراقة دم ولي الله الإمام الطاهر أمير المؤمنين ؟ ما قيمة قوله حتى يستدل به ويركن إليه في أحكام الاسلام ؟ وما شأن فقيه ابن حزم من الدين يحذو حذو مثل عمران ويأخذ قوله في دين الله ، ويخالف به النبي الأعظم في نصوصه الصحيحة الثابتة ويردها ويقذف الأمة الإسلامية بسخب خارجي مارق ؟ وهذا معاصره القاضي أبو الطيب طاهر ابن عبد الله الشافعي (1) يقول في عمران ومذهبه هذا.
إني لأبرأ مما أنت قائله يا ضربة من شقي ما أراد بها إني لأذكره يوما فألعنه عليه ثم عليه الدهر متصلا فأنتما من كلاب النار جاء به عن ابن ملجم الملعون بهتانا إلا ليهدم للاسلام أركانا دنيا وألعن عمرانا وحطانا لعائن الله إسرارا وإعلانا نص الشريعة برهانا وتبيانا (2)
    وقال بكر بن حسان الباهلي :
قل لابن ملجم والأقدار غالبة قتلت أفضل من يمشي على قدم وأعلم الناس بالقرآن ثم بما : هدمت ويلك للاسلام أركانا وأول الناس إسلاما وإيمانا سن الرسول لنا شرعا وتبيانا

1 ـ من فقهاء الشافعية ، قال ابن خلكان في تاريخه 1 ص 253 : كان ثقة صادقا دينا ورعا عارفا بأصول الفقه وفروعه ، محققا في علمه ، سليم الصدر ، حسن الخلق ، صحيح المذهب ، يقول الشعر على طريقة الفقهاء ، ولد بآمل 348 وتوفي ببغداد 450.
2 ـ مروج الذهب 2 ص 43.


(327)
صهر النبي ومولانا وناصره وكان منه على رغم الحسود له وكان في الحرب سيفا صارما ذكرا ذكرت قاتله والدمع منحدر إني لأحسبه ما كان من بشر أشقى مراد إذا عدت قبائلها كعاقر الناقة الأولى التي جلبت قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها قبل المنية أزمانا فأزمانا لقوله في شقي ظل مجترما : ( يا ضربة من تقي ما أراد بها بل ضربة من غوي أورثته لظى (2) كأنه لم يرد قصدا بضربته أضحت مناقبه نورا وبرهانا مكان هارون من موسى بن عمرانا ليثا إذا ما لقى الاقران أقرانا فقلت : سبحان رب الناس سبحانا يخشى المعاد ولكن كان شيطانا وأخسر الناس عند الله ميزانا على ثمود بأرض الحجر خسرانا فلا عفا الله عنه ما تحمله (1) ولا سقى قبر عمران بن حطانا ونال ما ناله ظلما وعدوانا إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا ) وسوف يلقى به الرحمن غضبانا إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا (3)
    م ـ قال ابن حجر في الإصابة 3 ص 179 : صاحب الأبيات بكر بن حماد التاهرتي ، وهو من أهل القيروان في عصر البخاري وأجازه عنها السيد الحميري الشاعر المشهور الشيعي وهو في ديوانه.
    وفي الاستيعاب 2 ص 472 : أبو بكر ابن حماد التاهرتي ، وذكر له أبياتا في رثاء مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أولها :
وهز علي بالعراقين لحية مصيبتها جلت على كل مسلم
    وقال محمد بن أحمد الطبيب (4) ردا على عمران بن حطان :
1 ـ في الكامل : فلا عفا الله عنه سوء فعلته.
2 ـ في الكامل : بل ضربة من غوى أوردته لظى.
3 ـ مروج الذهب 2 ص 43 ، الاستيعاب في ترجمة أمير المؤمنين ، الكامل لابن الأثير 3 ص 171 ، تمام المتون للصفدي ص 152.
4 ـ يوجد البيتان في كامل المبرد 3 : 90 ط محمد بن علي صبيح وأولاده ، وليسا من أصل الكتاب كما لا يخفى.


(328)
يا ضربة من غدور صار ضاربها إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه أشقى البرية عند الله إنسانا وألعن الكلب عمران بن حطانا
    على أن قتل الإمام المجتبى لابن ملجم وتقرير المسلمين له على ذلك صحابيهم وتابعيهم حتى أن كل أحد منهم كان يود أنه هو المباشر لقتله يدلنا على أن فعل اللعين لم يكن مما يتطرق إليه الاجتهاد فضلا عن أن يبرره ، ولو كان هناك اجتهاد فهو في مقابلة النصوص المتضافرة ، فكان من الصالح العام لكافة المسلمين اجتياح تلك الجرثومة الخبيثة ، وهو واجب أي أحد من الأمة الإسلامية ، غير أن إمام الوقت السيد المجتبى تقدم إلى تلك الفضيلة كتقدمه إلى غيرها من الفضايل.
    فليس هو من المواضيع التي حررها ابن حزم فتحكم أو تهكم على الشافعية والحنفية والمالكية وإنما هو من ضروريات الاسلام في قاتل كل إمام حق ، ولذلك ترى أن القائلين بإمامة عمر بن الخطاب لم يشكوا في وجوب قتل قاتله ، ولم ير أحد منهم للاجتهاد هناك مجالا ، كما سيأتي في كلام ابن حزم نفسه : إنه لم ير له مجالا لقتلة عثمان. فشتان بين ابن حزم وبين ابن حجر ، هذا يبرر عمل عبد الرحمن وذاك يعتذر عن ذكر إسمه في كتابه لسان الميزان.
    م ـ ويصفه بالفتك وأنه من بقايا الخوارج في تهذيب التهذيب 7 : 338 ].
    وابن حجر في كلامه هذا اتبع أثر الحافظ أبي زرعة العراقي في قوله في طرح التثريب 1 : 86 : انتدب له لعلي قوم من الخوارج فقاتلهم فظفر بهم ثم انتدب له من بقاياهم أشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، وكان فاتكا ملعونا فطعنه].
( ومن نماذج آرائه )
    قوله في الفصل 4 ص 161 في المجتهد المخطي : وعمار رضي الله عنه قتله أبو الغادية يسار بن سبع السلمي ، شهد ( عمار ) بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه ، فأبو الغادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجرا واحدا ، وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله ، لأنه لم يقتل أحدا ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا


(329)
زنا بعد إحصان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل ، بل هم فساق محاربون سافكون دما حراما عمدا بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان ، فهم فساق ملعونون. إنتهى.
    لم أجد معنى لاجتهاد أبي الغادية ( بالمعجمة ) وهو من مجاهيل الدنيا ، وأفناء الناس ، وحثالة العهد النبوي ، ولم يعرف بشيء غير أنه جهني ، ولم يذكر في أي معجم بما يعرب عن اجتهاده ، ولم يرو منه شيء من العلم الإلهي سوى قول النبي صلى الله عليه وآله : دمائكم وأموالكم حرام. وقوله : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يتعجبون من أنه سمع هذا ويقتل عمارا (1) ولم يفه أي أحد من أعلام الدين إلى يوم مجيئ ابن حزم باجتهاد مثل أبي الغادية.
    ثم لم أدر ما معنى هذا الاجتهاد في مقابل النصوص النبوية في عمار ، ولست أعني بها قوله صلى الله عليه وآله في الصحيح الثابت المتواتر (2) لعمار : تقتلك الفئة الباغية وفي لفظ : الناكبة عن الطريق. وإن كان لا يدع مجالا للاجتهاد في تبرير قتله ، فإن قاتله مهما تأول فهو عاد عليه ناكب عن الطريق ، ونحن لا نعرف اجتهادا يسوغ العدوان الذي استقل العقل بقبحه ، وعاضده الدين الإلهي الأقدس. وإن كان أوله معاوية أورده لما حدث به عبد الله بن عمرو وقال عمرو بن العاص : يا معاوية ؟ أما تسمع ما يقول عبد الله ؟ بقوله :
    إنك شيخ أخرق ، ولا تزال تحدث بالحديث ، وأنت ترحض في بولك ، أنحن قتلناه ؟ إنما قتله علي وأصحابه جاؤا به حتى ألقوه بين رماحنا. (3) وبقوله : أفسدت علي أهل الشام ، أكل ما سمعت من رسول الله تقوله ؟ فقال عمرو : قلتها ولست أعلم الغيب ، ولا أدري أن صفين تكون ، قلتها وعمار يومئذ لك ولي وقد رويت أنت فيه مثل ما رويت. ولهما في القضية معاتبة مشهورة وشعر منقول ، منه قول عمرو :
تعاتبني إن قلت شيئاً سمعته وقد قلت لو أنصفتني مثله قبلي

1 ـ الاستيعاب 2 ص 680 ، والإصابة 4 ص 150.
2 ـ ذكر تواتره ابن حجر في الإصابة 2 ص 512 ، وتهذيب التهذيب 7 ص 409.
3 ـ تاريخ الطبري 6 ص 23 ، وتاريخ ابن كثير 7 ص 369.


(330)
أنعلك فيما قلت نعل ثبيتة ؟ وما كان لي علم بصفين أنها ولو كان لي بالغيب علم كتمتها أبى الله إلا أن صدرك واغر سوى أنني والراقصات عشية وتزلق بي في مثل ما قلته نعلي تكون وعمار يحث على قتلي وكابدت أقواما مراجلهم تغلي علي بلا ذنب جنيت ولا ذحل بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل
    وأجابه معاوية بأبيات منها :
فيا قبح الله العتاب وأهله فدع ذا ولكن هل لك اليوم حيلة دعاهم علي فاستجابوا لدعوة ألم تر ما أصبحت فيه من الشغل ترد بها قوما مراجلهم تغلي ؟ أحب إليهم من ثرى المال والأهل (1)
    كما لست أعني ما أخرجه الطبراني (2) عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله : إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق. وإن كان قاطعا للحجاج فإن المناوئ لابن سمية ( عمار ) على الباطل لا محالة ، ولا تجد اجتهادا يبرر مناصرة المبطل على المحق بعد ذلك النص الجلي.
    وإنما أعني ما أخرجه الحاكم في المستدرك 3 ص 387 وصححه وكذلك الذهبي في تلخيصه ، بالإسناد عن عمرو بن العاص : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول : أللهم أولعت قريش بعمار إن قاتل عمار وسالبه في النار. وأخرجه السيوطي من طريق الطبراني في الجامع الصغير 2 ص 193 ، وابن حجر في الإصابة 4 ص 151.
    وأخرج السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 7 ص 73 قوله صلى الله عليه وآله لعمار : يدخل سالبك وقاتلك في النار. من طريق إن عساكر ، و ج 6 ص 184 من طريق الطبراني في الأوسط ، وص 184 من طريق الحاكم.
    وأخرج الحافظ أبو نعيم وابن عساكر كما في ترتيب جمع الجوامع 7 ص 72 عن زيد بن وهب قال : كان عمار بن ياسر قد ولع بقريش وولعت به فغدوا عليه فضربوه فجلس
1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 ص 274.
2 ـ جمع الجوامع للسيوطي كما في ترتيبه 6 ص 184.
كتاب الغدير ـ الجزء الأول ::: فهرس