كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 101 ـ 110
(101)
وديني فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلما محرما برا تقيا فنستغفر الله عز وجل العصمة لذنوبنا ونسأله لديننا ، ألا وإني قد ألقيت إليكم بالسلم ، وإني أجبتك إلى قتال قتلة عثمان رضي الله عنه إمام الهدى المظلوم ، فعول علي فيما أحببت من الأموال والرجال اعجل عليك. والسلام (1)
    إن شنشنة التقول والافتعال غريزة ثابتة في سجايا معاوية ، ومنذ عهده شاعت الأحاديث المزورة فيما يعنيه من فضل بني أمية والوقيعة في بني هاشم عترة الوحي وأنصاره يوم كان يهب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لأهل الجباه السود فيضعون له في ذلك روايات معزوة إلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله ، فإنه بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم ليروي أن قوله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله. نزل في ابن ملجم أشقى مراد. وقوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. الآية. نزل في علي أمير ـ المؤمنين. فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم ، فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل (2) وله من نظاير هذا شيء كثير.
    فليس من البدع اختلاقه على قيس وهو يفتعل على سيده النبي الأطهر ما لم يقله ، و على أمير المؤمنين ما لم يكن ، وعلى سروات المجد من بني هاشم الأطيبين ماهم عنه بعداء. فهو مبتدع هذه الخزايات العايدة عليه وعلى لفيفه في عهد ملوكيته المظلم ، وعلى هذا كان دينه وديدنه ، ثم تمرنت رواة السوء من بعده على رواية الموضوعات وشاعت و كثرت إلى أن ألقت العلماء وحفظة الحديث في جهود متعبة بالتأليف في تمييز الموضوع من غيره ، والخبيث من الطيب.
    لم يزل معاوية دائبا على ذلك متهالكا فيه حتى كبر عليه الصغير ، وشاخ الكهل وهرم الكبير ، فتداخل بغض أهل البيت عليهم السلام في قلوب ران عليها ذلك التمويه ، فتسنى له لعن أمير المؤمنين عليه السلام وسبه في أعقاب الصلوات في الجمعة والجماعات
1 ـ تاريخ الطبري 5 ص 229 ، كامل ابن الأثير 3 ص 117 ، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 24.
2 ـ شرح ابن أبي الحديد 1 ص 361.


(102)
وعلى صهوات المنابر في شرق الأرض وغربها حتى في مهبط وحي الله ( المدينة المنورة ) قال الحموي في معجم البلدان 5 ص 38 : لعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منابر الشرق والغرب ولم يلعن على منبر سجستان إلا مرة وامتنعوا على بني أمية حتى زادوا في عهدهم : وأن لا يلعن على منبرهم أحد. وأي شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول الله صلى الله عليه وآله على منبرهم وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة.
    لما مات الحسن بن علي عليهما السلام حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله فقيل له : إن ههنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه ذكر له ذلك فقال : إن فعلت لأخرجن من المسجد ثم لا أعود إليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد فلما مات لعنه على المنبر وكتب إلى عماله : أن يلعنوه على المنابر. ففعلوا فكتبت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله إلى معاوية : إنكم تعلنون الله ورسوله على منابركم وذلك إنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها (1).
    قال الجاحظ في كتاب الرد على الإمامية : إن معاوية كان يقول في آخر خطبته : أللهم إن أبا تراب ألحد في دينك. وصد عن سبيك ، فالعنه لعنا وبيلا ، وعذبه عذابا أليما. وكتب ذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز. وإن قوما من بني أمية قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين ؟ إنك قد بلغت ما أملت فلو كففت عن هذا الرجل. فقال : لا والله حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلا.
    وذكره ابن أبي الحديد في شرحه 1 ص 356.
    قال الزمخشري في ربيع الأبرار على ما يعلق بالخاطر ، والحافظ السيوطي : إنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب بما سنه لهم معاوية من ذلك. وفي ذلك يقول العلامة الشيخ أحمد الحفظي الشافعي في أرجوزته :
1 ـ العقد الفريد 2 ص 300.

(103)
وقد حكى الشيخ السيوطي : إنه سبعون ألف منبر وعشره وهذه في جنبها العظائم فهل ترى من سنها يعادى ؟ أو عالم يقول : عنه نسكت ؟ وليت شعري هل يقال : اجتهدا أليس ذا يؤذيه أم لا ؟ فاسمعن بل جاء في حديث أم سلمة عاون أخا العرفان بالجواب قد كان فيما جعلوه سُنّه من فوقهن يلعنون حيدره تصغر بل توجه اللوائم أم لا وهل يستر أو يهادى ؟؟ أجب فإني للجواب منصت كقولهم في بغيه أم ألحدا ؟ إن الذي يؤذيه من ومن ومن ؟؟ : هل فيكم الله يسب مه لمه ؟ وعاد من عادى أبا تراب
    وكان أمير المؤمنين يخبر بذلك كله ويقول : أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن (1) يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني. ( نهج البلاغة ).
    ونحن لو بسطنا القول في المقام لخرج الكتاب عن وضعه إذ صحايف تاريخ معاوية السوداء ومن لف لفه من بني أمية إنما تعد بالآلاف لا بالعشرات والمئات.

( الصلح بين قيس ومعاوية )
    أمرت شرطة الخميس قيس بن سعد على أنفسهم ( وكان يعرف بصاحب شرطة الخميس كما في الكشي ص 72 ) وتعاهد هو معهم على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي ولمن كان اتبعه على أموالهم ودمائهم وما أصابوا في الفتنة ، فأرسل معاوية إلى قيس يقول : على طاعة من تقاتل ؟ وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك. فأبى قيس أن يلين له حتى أرسل إليه معاوية بسجل قد ختم عليه في أسفله وقال : اكتب في هذا ما شئت فهو لك. فقال عمرو بن العاص لمعاوية : لا تعطه هذا وقاتله. فقال معاوية : على رسلك فإنا لا نخلص إلى قتلهم حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام ، فما خير العيش بعد ذلك ؟ فإني والله لا أقاتله أبدا حتى لا أجد من قتاله بدا. فلما بعث إليه معاوية
1 ـ مندحق البطن : واسعها. كان معاوية موصوفا بالنهم وكثرة الأكل.
2 ـ تاريخ الطبري 6 ص 94 ، كامل ابن الأثير 3 ص 163.


(104)
ذلك السجل اشترط قيس له ولشيعة علي أمير المؤمنين عليه السلام الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم يسأل في سجله ذلك مالا ، وأعطاه معاوية ما سأل و دخل قيس ومن معه في طاعته. (2)
    قال أبو الفرج فأرسل معاوية إليه يدعوه إلى البيعة ، فلما أرادوا إدخاله إليه قال : إني حلفت أن ألقاه إلا بيني وبينه الرمح أو السيف. فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا بينهما ليبر يمينه ، فلما دخل قيس ليبايع وقد بايع الحسن عليه السلام فأقبل على الحسن عليه السلام فقال : أفي حل أنا من بيعتك ؟ فقال : نعم. فألقي له كرسي وجلس معاوية على سرير والحسن معه فقال له معاوية : أتبايع يا قيس ؟ قال : نعم. ووضع يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية ، فجاء معاوية من سريره وأكب على قيس حتى مسح يده وما رفع إليه قيس يده (1).
    قال اليعقوبي في تاريخه 2 ص 192 : بويع معاوية بالكوفة في ذي القعدة سنة 40 و أحضر الناس لبيعته ، وكان الرجل يحضر فيقول : والله يا معاوية ؟ إني لا بايعك وإني لكاره لك. فيقول : بايع فإن الله قد جعل في المكروه خيرا كثيرا ، ويأتي الآخر فيقول : أعوذ بالله من نفسك. وأتاه قيس بن سعد بن عبادة ، فقال : بايع قيس. قال : إني كنت لأكره مثل هذ اليوم يا معاوية ؟ فقال له : مه رحمك الله. فقال : لقد حرصت أن أفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك فأبى الله يا بن أبي سفيان إلا ما أحب. قال : فلا يرد أمر الله. قال : فأقبل قيس على الناس بوجهه فقال :
    يا معشر الناس ؟ لقد اعتضتم الشر من الخير ، واستبدلتم الذل من العز ، و الكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وابن عم رسول رب العالمين ، وقد وليكم الطليق ابن الطليق ، يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم ؟ أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون ؟.
    فجثا معاوية على ركبته ثم أخذ بيده وقال : أقسمت عليك ثم صفق على كفه ونادى الناس : بايع قيس. فقال : كذبتم والله ما بايعت. ولم يبايع لمعاوية أحد إلا أخذ عليه الإيمان ، فكان أول من استحلف على بيعته.
1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الجديد 4 ص 17.

(105)
    أخرج الحافظ عبد الرزاق عن ابن عيينة قال : قدم قيس بن سعد على معاوية فقال له معاوية : وأنت يا قيس ؟ تلجم علي مع من ألجم ؟ أما الله لقد كنت أحب أن لا تأتيني هذا اليوم إلا وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع. فقال له قيس : وأنا والله قد كنت كارها أن أقوم في هذا المقام فأحييك بهذه التحية. فقال له معاوية : ولم ؟ و هل أنت حبر من أحبار اليهود ؟! فقال له قيس : وأنت يا معاوية ؟ كنت صنما من أصنام الجاهلية ، دخلت في الاسلام كارها ، وخرجت منه طائعا. فقال معاوية : أللهم غفرا مد يدك. فقال له قيس : إن شئت زدت وزدت ( تاريخ ابن كثير 8 ص 99 ).

( قيس ومعاوية في المدينة )
بعد الصلح بينهما
    دخل قيس بن سعد بعد وقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية فقال لهم معاوية : يا معشر الأنصار ؟ بم تطلبون ما قبلي ؟ فوالله لقد كنتم قليلا معي كثيرا علي ، ولفللتم حدي يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظى في أسنتكم ، وهجوتموني في أسلافي بأشد من وقع الأسنة ، حتى إذا أقام الله ما حاولتم ميله ، قلتم : ارع وصية رسول الله صلى الله عليه وآله. هيهات يأبى الحقين العذرة.
    فقال قيس : نطلب ما قبلك بالاسلام الكافي به الله لا بما نمت به إليك الأحزاب ، وأما عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك ، وأما هجاونا إياك فقول يزول باطنه ويثبت حقه ، وأما استقامة الأمر فعلى كره كان منا ، وأما فللنا حدك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى طاعة الله طاعته ، وأما وصية رسول الله بنا فمن آمن به رعاها بعده ، وأما قولك : يأبى الحقين العذرة. فليس دون الله يد تحجزك منا يا معاوية ؟ فدونك أمرك يا معاوية ؟ فإنما مثلك كما قال الشاعر :
يا لك من قبّرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري
    فقال معاوية يموه : إرفعوا حوائجكم.
    العقد الفريد 2 ص 121 ، مروج الذهب 2 ص 63 ، الإمتاع والمؤانسة 3 ص 170.
    ( بيان ) قول معاوية : يأبى الحقين العذرة. مثل ساير ، أصله : أن رجلا نزل بقوم فاستسقاهم لبنا فاعتلوا عليه وزعموا أن لا لبن عندهم ، وكان اللبن محقونا في وطاب


(106)
عندهم ، يضرب به الكاذب الذي يعتذر ولا عذر له ، يعني : أن اللبن المحقون لديكم يكذبكم في عذركم. فما في مروج الذهب من : يأبى الحقير العذرة. وفي العقد الفريد أبي الخبير العذر. فهو تصحيف.
( قيس ومعاوية في المدينة )
    روى التابعي الكبير أبو صادق سليم بن قيس الهلالي في كتابه قال : قدم معاوية حاجا في أيام خلافته بعد ما مات الحسن بن علي عليها السلام فاستقبله أهل المدينة فنظر فإذا الذين استقبلوه عامهم قريش فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال : ما فعلت الأنصار ، وما بالها ما تستقبلني ؟؟!! فقيل : إنهم محتاجون ليس لهم دواب. فقال معاوية : فأين نواضحهم ؟ فقال قيس بن سعد : أفنوها يوم بدر واحد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وآله حين ضربوك وأباك على الاسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون. فقال معاوية : أللهم اغفر. فقال قيس : أما إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : سترون بعدي أثرة. فقال معاوية : فما أمركم به ؟ قال أمرنا أن نصبر حتى نلقاه. قال : فاصبروا حتى تلقونه.
    ثم قال يا معاوية : تعيرنا بنواضحنا ؟ والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله ، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثم دخلت أنت وأبوك كرها في الاسلام الذي ضربناكم عليه. فقال معاوية : كأنك تمن علينا بنصرتكم إيانا فلله ولقريش بذلك المن والطول. ألستم تمنون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول الله وهو من قريش وهو ابن عمنا ومنا ، فلنا المن والطول إن جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا. فقال قيس :
    إن الله بعث محمد صلى الله عليه وآله رحمة للعالمين فبعثه إلى الناس كافة ، وإلى الجن والإنس والأحمر والأسود والأبيض اختاره لنبوته ، واختصه برسالته ، فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو طالب يذب عنه ويمنعه ويحول بين كفار قريش وبين أن يردعوه أو يؤذوه وأمره أن يبلغ رسالة ربه ، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى حتى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه بموازرته فوازره ونصره ، وجعل نفسه دونه في كل شديدة وكل ضيق وكل خوف ، واختص الله بذلك


(107)
عليا عليه السلام من بين قريش ، وأكرمه من بين جميع العرب والعجم ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله جميع بني عبد المطلب فيهم أبو طالب وأبو لهب وهم يومئذ أربعون رجلا فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وخادمه علي عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله في حجر عمه أبي طالب فقال : أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي. فسكت القوم حتى أعادها ثلاثا ، فقال علي عليه السلام : أنا يا رسول الله ؟ صلى الله عليك. فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه وقال : أللهم املأ جوفه علما وفهما وحكما. ثم قال لأبي طالب : يا أبا طالب ؟ اسمع الآن لابنك وأطع فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من موسى. وآخى صلى الله عليه وآله بين علي وبين نفسه. فلم يدع قيس شيئا من مناقبه إلا ذكره واحتج به.
    وقال : منهم : جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين اختصه الله بذلك من بين الناس. ومنهم : حمزة سيد الشهداء. ومنهم : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة. فإذا وضعت من قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته وعترته الطيبين فنحن والله خير منكم يا معشر قريش ؟ وأحب إلى الله ورسوله وإلى أهل بيته منكم ، لقد قبض رسول الله فاجتمعت الأنصار إلى أبي ثم قالوا : نبايع سعدا فجائت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته ، وخاصمونا بحقه وقرابته ، فما يعدوا قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار وظلموا آل محمد ، ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي بن أبي طالب وولده من بعده.
    فغضب معاوية وقال : يا بن سعد ؟ عمن أخذت هذا ؟ وعمن رويته ؟ وعمن سمعته ؟ أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته ؟؟!! فقال قيس : سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي وأعظم علي حقا من أبي. قال : من ؟ قال : علي بن أبي طالب عالم هذه الأمة ، وصديقها ؟ الذي أنزل الله فيه : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ـ فلم يدع آية نزلت في علي إلا ذكرها ـ قال معاوية : فإن صديقها أبو بكر ، وفاروقها عمر والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام. قال قيس : أحق هذه الأسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ، والذي نصبه رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم فقال : من كنت مولاه أولى به من نفسه


(108)
فعلي أولى به من نفسه ، وقال في غزوة تبوك : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
    كل ما ذكره قيس في هذه المناظرة من الآيات النازلة في أمير المؤمنين ، والأحاديث النبوية المأثورة في فضله ، أخرجها الحفاظ والعلماء في المسانيد والصحاح نذكر كلا منها في محله إنشاء الله كما مر بعضها.

    ( قيس في خلقته )
    إن للأشكال والهيئات دخلا في مواقع الأبهة والاكبار ، فإنها هي التي تملأ العيون بادئ بدء ، وهي أول ما تقع عليه النظر من الانسان قبل كل ما انحنت عليه أضالعه ، من جاش رابط ، وبطولة وبسالة ، ودهاء وحزم ، ولذلك قيل : إن للهيئة قسطا من الثمن ، وهذا في الملوك والأمراء ، وذوي الشئون الكبيرة آكد ، فإن الرعية تتفرس في العظيم في جثته عظما في معنوياته ، وتترسم منه كبر نفسياته ، وشدة أمره ، ونفوذ عزائمه ، وترضخ له قبل الضئيل الذي يحسب أنه لا حول له ولا طول ، وإنه يضعف دون إدارة الشئون طوقه وأوقه ، ولذلك إن الله سبحانه لما عرف طالوت لبني إسرائيل ملكا عرفه بأنه أوتي بسطة في العلم والجسم ، فبعلمه يدير شئون الشعب الدينية والمدنية. ويكون ما أوتي من البسطة في الجسم من مؤكدات الأبهة و الهيبة التي هي كقوة تنفيذية لمواد العلم وشئونه.
    إن سيد الأنصار ( قيس ) لما لم يدع الله سبحانه شيئا من صفات الفضيلة ظاهرة وباطنة إلا وجمعه فيه من علم ، وعمل ، وهدى ، وورع ، وحزم ، وسداد ، وعقل ، ورأي ودهاء ، وذكاء ، وإمارة ، وحكومة ، ورياسة وسياسة ، وبسالة ، وشهامة ، وسخاء ، و كرم ، وعدل ، وصلاح ، لم يشأ يخليه عن هذه الخاصة المربية بمقام العظماء.
    فقال شيخنا الديلمي في إرشاده 2 ص 325 : إنه كان رجلا طوله ثمانية عشر شبرا في عرض خمسة أشبار ، وكان أشد الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين. وقال أبو الفرج : كان قيس رجلا طوالا يركب الفرس المشرف ورجلاه يخطان في الأرض. ومر ص 77 عن المنذر بن الجارود أنه رآه في الزاوية على فرس أشقر تخط رجلاه في الأرض. وقال أبو عمر والكشي في رجاله ص 73 : كان قيس من العشرة الذين لحقهم النبي صلى الله عليه وآله


(109)
من العصر الأول ممن كان طولهم عشرة أشبار بأشبار أنفسهم ، وكان قيس وأبوه سعد طولهما عشر أشبار بأشبارهم. وعن كتاب الغارات لإبراهيم الثقفي أنه قال : كان قيس طوالا أطول الناس وأمدهم قامة ، وكان سناطا أصلع شيخا شجاعا مجربا مناصحا لعلي ولولده ولم يزل على ذلك إلى أن مات.
    عد الثعالبي في ( ثمار القلوب ) ص 480 من الأمثال الدائرة والمضافات المعروفة والمنسوب السائر : سراويل قيس. وقال : إنه يضرب مثلا لثوب الرجل الضخم الطويل ، وكان قيصر بعث إلى معاوية بعلج من علوج الروم طويل جسيم ، معجبا بكمال خلقته و امتداد قامته ، فعلم معاوية أنه ليس لمطاولته ومقاومته إلا قيس بن سعد بن عبادة فإنه كان أجسم الناس وأطولهم ، فقال له يوما وعنده العلج : إذا أتيت رحلك فابعث إلي بسراويلك. فعلم قيس مراده فنزعها ورمى بها إلى العلج والناس ينظرون فلبسها العلج فطالت إلى صدره ، فعجب الناس وأطرق الرومي مغلوبا ، وليم قيس على ما فعل بحضرة معاوية فأنشد يقول :
أردت لكيما يعلم الناس أنها وأن لا يقولوا : غاب قيس وهذه وإني من القوم اليمانين سيد وبز جميع الناس أصلي ومنصبي سراويل قيس والوفود شهود سراويل عاد قد نمته ثمود وما الناس إلا سيد ومسود وجسم به أعلو الرجال مديد
    ورواها ابن كثير في ( البداية والنهاية ) 8 ص 103 بتغيير فيها ثم قال : وفي رواية : أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلين من جيشه يزعم أن أحدهما أقوى الروم والآخر أطول الروم : فانظر هل في قومك من يفوقهما في قوة هذا وطول هذا ؟ فإن كان في قومك من يفوقهما بعثت إليك من الأسارى كذا وكذا ومن التحف كذا وكذا ، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول منهما فهادني ثلاث سنين. فلما حضروا عند معاوية قال : من لهذا القوي ؟ فقالوا : ما له إلا أحد رجلين إما محمد بن الحنفية أو عبد الله بن الزبير ، فجيئ بمحمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب فلما اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية : أتعلم فيم أرسلت إليك ؟ قال : لا. فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه فقال للرومي : إما أن تجلس لي أو أجلس لك ، وتناولني يدك أو أناولك يدي فأينا قدر


(110)
على أن يقيم الآخر من مكانه غلبه وإلا فقد غلب. فقال له : ماذا تريد ؟ تجلس أو أجلس ؟ فقال له الرومي : بل اجلس أنت. فجلس محمد بن الحنفية وأعطى الرومي يده فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيله من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك ولا وجد إليه سبيلا ، فغلب الرومي عند ذلك وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غلب ، ثم قام محمد بن الحنفية فقال للرومي : اجلس لي. فجلس وأعطى محمدا يده فما أمهله أن أقامه سريعا ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض ، فسر بذلك معاوية سرورا عظيما ، ونهض قيس بن سعد فتنحى عن الناس ثم خلع سراويله وأعطاها لذلك الرومي الطويل فبلغت إلى ثدييه وأطرافها تخط بالأرض ، فاعترف الرومي بالغلب وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية.
    يستفيد القارئ من أمثال هذه الموارد من التاريخ أن أهل البيت عليهم السلام و شيعتهم كانوا هم المرجع لحل المشكلات من كل الوجوه كما أن مولاهم أمير المؤمنين عليه السلام كان هو المرجع الفذ فيها لدى الصدر الأول.

    وفاته
    قال الواقدي وخليفة بن خياط والخطيب البغدادي في تاريخه 1 ص 179 وابن كثير في تاريخه 8 ص 102 وغيرهم بكثير : إنه توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية. فإن عدت سنة وفاة معاوية من سني خلافته فالمترجم له توفي في سنة ستين ، وإلا ففي تسع وخمسين ، ولعل هذا منشأ ترديد ابن عبد البر في الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة في تاريخ وفاته بين السنتين ، ففي الأول : إنه توفي سنة ستين. وقيل تسع وخمسين في آخر خلافة معاوية ، وفي الثاني بالعكس ، وذكر ابن الجوزي سنة 59 وتبعه ابن كثير في تاريخه ، وهناك قول لابن حبان متروك قال : إنه هرب من معاوية ومات سنة 85 في خلافة عبد الملك. ذكره ابن حجر في الإصابة 3 ص 249 ، واستصوب قول خليفة ومن وافقه.

    بيت قيس
    كان في العصور المتقادمة آل قيس من أشرف بيوتات الأنصار ، وما زال منبثق أنوار العلم والمجد في أدواره ، بين زعيم ، وحافظ ، وعالم ، ومحدث ، ومشفوع بالصلاح
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس