كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: 121 ـ 130
(121)
المترجم نفسه ، كان أحد شانئي رسول الله صلى الله عليه وآله لما مات ولده إبراهيم فقال : إن محمدا قد صار أبتر لا عقب له. وذكره بذلك أمير المؤمنين في أبيات له تأتي فقال :
إن يقرنوا وصيه والأبترا شاني الرسول واللعين الأخزرا
    وذكره بذلك عمار بن ياسر يوم صفين وعبد الله بن جعفر في حديثيهما الآتيين. فالمترجم له هو ( الأبتر ابن الأبتر ) وبذلك خاطبه أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب له يأتي بقول : من عبد الله أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص شانئ محمد وآله محمد في الجاهلية والاسلام.
    تعرفنا الآية الكريمة المذكورة إن كل معزو إلى العاص من الولد من ذكر أو أنثى من المترجم له أو غيره ليسوا لرشدة ، فمن هنا تعرف فضيلة عمرو من ناحية النسب ، أضف إلى ذلك حديث أمه ليلى العنزية الجلانية.
    كانت أمه ليلى أشهر بغي بمكة وأرخصهن أجرة ، ولما وضعته ادعاها خمسة كلهم أتوها غير أن ليلى ألحقته بالعاص لكونه أقرب شبها به ، وأكثر نفقة عليها ، ذكرت ذلك أروى بنت الحارث بن عبد المطلب لما وفدت إلى معاوية فقال لها : مرحبا بك يا عمة ؟ فكيف كنت بعدنا ؟ فقالت : يا بن أخي ؟ لقد كفرت يد النعمة ، وأسأت لابن عمك الصحبة ، وتسميت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك ، من غير بلاء كان منك ولا من آبائك ، ولا سابقة في الاسلام ، ولقد كفرتم بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله فأتعس الله منكم الجدود ، وأصعر منكم الخدود ، حتى رد الله الحق إلى أهله ، وكانت كلمة الله هي العليا ، ونبينا محمد صلى الله عليه وآله هو المنصور على من ناواه ولو كره المشركون ، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظا ونصيبا وقدرا حتى قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله مغفورا ذنبه ، مرفوعا درجته ، شريفا عند الله مرضيا ، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى حيث يقول : يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، ولم يجمع بعد رسول الله لنا شمل ، ولم يسهل لنا وعر ، وغايتنا الجنة ، وغايتكم النار.
    فقال لها عمرو بن العاص : أيها العجوز الضالة ؟ أقصري من قولك ، وغضي


(122)
من طرفك. قالت : ومن أنت ؟ لا أم لك. قال : عمرو بن العاص. قالت يا بن اللخناء النابغة تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة بمكة وآخذهن لأجرة ، إربع على ظلعك (1) واعن بشأن نفسك فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها ، ولقد إدعاك ستة (2) نفر من قريش كله يزعم أنه أبوك فسألت أمك عنهم فقالت : كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به ، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به ، ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر ، فأتم بهم فإنك بهم أشبه (3).
    وقال الإمام السبط الحسن الزكي سلام الله عليه بمحضر من معاوية وجمع آخر : أما أنت يا بن العاص فإن أمرك مشترك ، وضعتك أمك مجهولا من عهر وسفاح ، فتحاكم فيك أربعة (4) من قريش فغلب عليك جزارها ، ألأمهم حسبا ، وأخبثهم منصبا ، ثم قام أبوك فقال : أنا شانئي محمد الأبتر فأنزل الله فيه ما أنزل (5).
    وعده الكلبي أبو المنذر هشام المتوفى 206 / 4 في كتابه ( مثالب العرب ) الموجود عندنا ـ ممن يدين بسفاح الجاهلية ، وقال في باب تسمية ذوات الرايات : وأما النابغة أم عمرو بن العاص : فإنها كانت بغيا من طوايف مكة فقدمت مكة ومعها بنات لها ، فوقع عليها العاص بن وائل في الجاهلية في عدة من قريش منهم : أبو لهب ، وأمية بن خلف ، وهشام بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ، في طهر واحد فولدت عمرا فاختصم القوم جميعا فيه كل يزعم أنه ابنه ، ثم إنه أضرب عنه ثلاثة وأكب عليه اثنان : العاص بن وائل ، وأبو سفيان بن حرب فقال أبو سفيان : أنا والله وضعته في حر أمه. فقال العاص : ليس هو كما تقول
1 ـ مثل يضرب لمن يتوعد. ربع في المكان أي أقام به. الظلع : العرج. يقال : ظلع البعير أي غمز في مشيته فالمعنى : لا تجاوز حدك في وعيدك ، وأبصر نقصك وعجزك عنه.
2 ـ في العقد الفريد ، وروض المناظر : خمسة.
3 ـ بلاغات النساء ص 27 ، العقد الفريد 1 ص 164 ، روض المناظر 8 ص 4 ، ثمرات الأوراق 1 ص 132 ، دايرة المعارف لفريد وجدي 1 ص 215 ، جمهرة الخطب 2 ص 363.
4 ـ في لفظ الكلبي وسبط ابن الجوزي : خمسة.
5 ـ أخذنا هذه الجملة من حديث المهاجاة الطويلة الواقعة بين الإمام الحسن بن علي وبين عمرو بن العاص ، والوليد بن عقبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، في مجلس معاوية رواه ابن أبي الحديد في شرحه 2 ص 101 نقلا عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكار ، وذكره سبط ابن الجوزي في التذكرة ص 114.


(123)
هو إبني فحكما أمه فيه فقالت : للعاص. فقيل لها بعد ذلك : ما حملك على ما صنعت و أبو سفيان أشرف من العاص ؟ فقالت : إن العاص كان ينفق على بناتي ، ولو ألحقته بأبي سفيان لم ينفق علي العاص شيئا وخفت الضيعة ، وزعم ابنها عمرو بن العاص إن أمه امرأة من غنزة بن أسد بن ربيعة.
    وكان الزناة الذين اشتهروا بمكة جماعة منهم هؤلاء المذكورون وأمية بن عبد شمس ، وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص أخو مروان بن الحكم ، وعتبة بن أبي سفيان أخو معاوية ، وعقبة بن أبي معيط. (1)
    وعده الكلبي من الأدعياء في باب ـ أدعياء الجاهلية ـ وقال : قال الهيثم : ومن الأدعياء عمرو بن العاص ، وأمه النابغة حبشية ، وأخته لأمه أرينب ( بضم الألف ) وكانت تدعي لعفيف بن أبي العاص ، وفيها قال عثمان لعمرو بن العاص : لمن كانت تدعى أختك أرينب يا عمرو ؟ فقال : لعفيف بن أبي العاص. قال عثمان : صدقت. إنتهى.
    وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى 209 / 11 في كتاب ( الأنساب ) : إن عمرا اختصم فيه يوم ولادته رجلان : أبو سفيان ، والعاص ، فقيل : لتحكم أمه فقالت : إنه من العاص بن وائل. فقال أبو سفيان. أما إني لا أشك إنني وضعته في رحم أمه فأبت إلا العاص فقيل لها : أبو سفيان أشرف نسبا. فقالت : إن العاص بن وائل كثير النفقة علي وأبو سفيان شحيح. ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو بن العاص حيث هجاه مكافئا له عن هجاء رسول الله صلى الله عليه وآله :
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت ففاخر به إما فخرت ولا تكن وإن التي في ذاك يا عمرو حكمت : من العاص عمرو تخبر الناس كلما لنافيك منه بينات الدلائل تفاخر بالعاص الهجين بن وائل فقالت رجاء عند ذاك لنائـل تجمعت الأقوام عند المحامل (2)
    وقال الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة ( بالتحريك ) فسبيت فاشتراها عبد الله بن جذعان التيمي بمكة فكانت
1 ـ وإلى هنا ذكره سبط ابن الجوزي في تذكرته ص 117 عن المثالب.
2 ) شرح ابن أبي الحديد 2 ص 101.


(124)
بغيا. ثم ذكر نظير الجملة الأولى من كلام الكلبي ونسب الأبيات المذكورة إلى أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. وقال : جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه ولم تكن بمنصب مرضي فأتاه بمصر أميرا عليها فقال : أردت أن أعرف أم الأمير. فقال : نعم ، كانت امرأة من عنزة ، ثم من بني جلان تسمى ليلى وتلقب النابغة ، إذهب وخذ ما جعل لك (1)
    وقال الحلبي في سيرته 1 ص 46 في نكاح البغايا. ونكاح الجمع. من أقسام نكاح الجاهلية : الأول أن يطأ البغي جماعة متفرقين واحدا بعد واحد فإذا حملت وولدت الحق الولد بمن غلب عليه شبهه منهم. الثاني : أن تجتمع جماعة دون العشرة ويدخلون على امرأة من البغايا ذوات الرايات كلهم يطؤوها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت منهم فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منهم الرجل إن لم يغلب شبهه عليه ، وحينئذ يحتمل أن يكون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من القسم الثاني فإنه يقال : إنه وطئها أربعة هم : العاص ، وأبو لهب ، وأمية ، وأبو سفيان ، و ادعي كلهم عمرا فألحقته بالعاص لإنفاقه على بناتها. ويحتمل أن يكون من القسم الأول ويدل عليه ما قيل : إنه الحق بالعاص لغلبة شبهه عليه ، وكان عمرو يعير بذلك عيره علي وعثمان والحسن وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. و سيأتي ذلك في قصة قتل عثمان عند الكلام على بناء مسجد المدينة (2).
     ( عبد الله وعمرو )
    روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ الشام 7 ص 330 : إن عمرو بن العاص قال لعبد الله بن جعفر الطيار ذي الجناحين في مجلس معاوية : يا بن جعفر ؟ يريد تصغيره. فقال له : لئن نسبتني إلى جعفر فلست بدعي ولا أبتر ثم ولى وهو يقول :
1 ـ ورواه المبرد في الكامل ، ابن قتيبة في عيون الأخبار 1 ص 284 ، ابن عبد البر في الاستيعاب ، وذكر في شرح النهج لابن أبي الحديد 2 ص 100 ، جمهرة الخطب 2 ص 19.
2 ـ ذكر قتل عثمان عند الكلام على بناء المسجد ج 2 ص 72 ـ 88 ولم يوجد هناك شيء مما أو عزاليه.


(125)
تعرضت قرن الشمس وقت ظهيرة كفرت اختيارا ثم آمنت خيفة لتستر منه ضوءه بظلامكا وبغضك إيانا شهيد بذلكا
     ( عبد الله وعمرو )
    أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه 7 ص ـ 438 : إن عبد الله بن أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي قدم معاوية وعنده عمرو فجاء الآذن فقال : هذا عبد الله وهو بالباب : فقال : إئذن له. فقال عمرو : يا أمير المؤمنين ؟ لقد أذنت لرجل كثير الخلوات للتلهي ، والطربات للتغني ، صدوف عن السنان ، محب للقيان ، كثير مزاحه ، شديد طماحه ، ظاهر الطيش ، لين العيش ، أخاذ للسلف ، صفاق للشرف فقال عبد الله : كذبت يا عمرو ؟ وأنت أهله ليس كما وصفت ولكنه : لله ذكور ، ولبلاءه شكور ، وعن الخنا زجور ، سيد كريم ، ماجد صميم ، جواد حليم ، إن ابتدأ أصاب ، وإن سئل أجاب ، غير حصر ولا هياب ، ولا فاحش عياب ، كذلك قضى الله في الكتاب ، فهو كالليث الضرغام ، الجرئ المقدام ، في الحسب القمقام ، ليس بدعي ولا دني كمن اختصم فيه من قريش شرارها فغلب عليه جزارها ، فأصبح ينوء بالدليل ، ويأوي فيها إلى القليل ، قد بدت بين حيين ، وكالساقط بين المهدين ، لا المعتزي إليهم قبلوه ، ولا الظاعن عنهم فقدوه ، فليت شعري بأي حسب تنازل للنضال ؟ أم بأي قديم تعرض للرجال ؟ أبنفسك ؟ فأنت الخوار الوغد الزنيم. أم بمن تنتمي إليه ؟ فأنت أهل السفه والطيش والدناءة في قريش ، لا بشرف في الجاهلية شهر ، ولا بقديم في الاسلام ذكر ، غير أنك تنطق بغير لسانك ، وتنهض بغير أركانك ، وأيم الله إن كان لأسهل للوعث (1) وألم للشعث (2) أن يكعمك (3) معاوية على ولوعك باعراض قريش كعام الضبع في وجاره (4) فأنت لست لها بكفي ، ولا لأعراضها بوفي. قال : فتهيأ عمرو للجواب فقال له معاوية : نشدتك الله إلا ما كففت. فقال عمرو : يا أمير المؤمنين دعني أنتصر فإنه لم يدع شيئا. فقال معاوية : أما في مجلسك هذا فدع الانتصار و
1 ـ الوعث بالفتح : العسر الغليظ.
2 ـ يقال : لم الله شعثهم. أي جمع أمرهم.
3 ـ يقال : كعم البعير. أي شد فمه لئلا يعض أو يأكل.
4 ـ الوجار بكسر الواو وفتحها : حجر الضبع وغيرها


(126)
عليك بالاصطبار. وأشار إلى هذه القصة ابن حجر في الإصابة 2 ص 320.

    إسلامه
    إن الذي حدانا إليه يقين لا يخالجه شك بعد الأخذ بمجامع ما يؤثر عن الرجل في شئونه وأطواره : أنه لم يعتنق الدين اعتناقا ، وإنما انتحله انتحالا وهو في الحبشة ، نزل بها مع عمارة بن الوليد لاغتيال جعفر وأصحابه رسل النبي الأعظم تنتهي إليه الأنباء عن أمر الرسالة ، ويبلغه التقدم والنشور له ، وسمع من النجاشي قوله : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله ؟ فقال : أيها الملك ؟ أكذلك هو ؟ فقال : ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده (1).
    فراقه التزلف إلى صاحب الرسالة بالتسليم له فلم ينكفئ إلى الحجاز إلى طمعا في رتبة ، أو وقوفا على لماظة من العيش ، أو فرقا من البطش الإلهي بالسلطة النبوية. فنحن لا نعرفه في غضون هاتيك المدد التي كان يداهن فيها المسلمين و يصانعهم إبقاءا لحياته ، واستدرارا لمعاشه ، إلا كما نعرفه يوم كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وآله بقصيدة ذات سبعين بيتا فلعنه صلى الله عليه وآله عدد أبياته. وهو كما قال أمير المؤمنين : متى ما كان للفاسقين وليا ، وللمسلمين عدوا ؟؟ وهل يشبه إلا أمه التي دفعت به (2). وكان كما يأتي عن أمير المؤمنين من قوله : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا رجعوا إلى عداوتهم منا.
    قال ابن أبي الحديد في الشرح 1 ص 137 : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى : قول عمرو بن العاص لمعاوية لما قاله معاوية : يا أبا عبد الله ؟ إني لأكره لك أن تتحدث العرب عنك إنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا : دعنا عنك. كناية عن الالحاد بل تصريح به ، أي : دع هذا الكلام لا أصل له ، فإن اعتقاد الآخرة و إنها لاتباع بعرض الدنيا من الخرافات ، وما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط
1 ـ سيرة ابن هشام 3 ص 319 وغير واحد من كتب السيرة النبوية والتاريخ.
2 ـ تذكرة خواص الأمة ص 56 ، السيرة الحلبية وغيرهما.


(127)
في الالحاد والزندقة وكان معاوية مثله.
    وقال في ج 2 ص 113 : نقلت أنا من كتب متفرقة كلمات حكمية تنسب إلى عمرو بن العاص استحسنتها وأوردتها لأني لا أجحد الفاضل فضله وإن كان دينه عندي غير مرضي. وقال في ص 114 : قال شيخنا أبو عبد الله : أول من قال بالارجاء المحض معاوية وعمرو بن العاص ، كانا يزعمان أنه لا يضر مع الإيمان معصية ، ولذلك قال معاوية لمن قال : حاربت من تعلم وارتكبت ما تعلم. فقال : وثقت بقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا.
    وقال في ج 2 ص 179 : وأما معاوية فكان فاسقا مشهورا بقلة الدين والانحراف عن الاسلام ، وكذلك ناصره ومظاهره على أمره عمرو بن العاص ومن تبعهما من طغام أهل الشام وأجلافهم وجهال الأعراب ، فلم يكن أمرهم خافيا في جواز محاربتهم و استحلال قتالهم.
    وهناك كلمات ذكرت في مصادر وثيقة تمثل الرجل بين يدي القاري بروحياته و حقيقته ، وتخبره بعجره وبجره (1) وإليك نماذج منها :

1 ـ كلمة النبي الأعظم
    دخل زيد بن أرقم على معاوية فإذا عمرو بن العاص جالس معه على السرير فلما رأى ذلك زيد جاء حتى رمى بنفسه بينهما فقال له : عمرو بن العاص : أما وجدت لك مجلسا إلا أن تقطع بيني وبين أمير المؤمنين ؟ فقال زيد : إن رسول الله صلى الله عليه و آله غزا غزوة وأنتما معه فرءاكما مجتمعين فنظر إليكما نظرا شديدا ثم راءكما اليوم الثاني واليوم الثالث كل ذلك يديم النظر إليكما فقال في اليوم الثالث : إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما فإنهما لن يجتمعا على خير.
    كذا أخرجه ابن مزاحم في كتاب ( صفين ) ص 112 ورواه ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) 2 ص 290 عن عبادة بن الصامت وفيه : إنه صلى الله عليه وآله قاله في غزوة تبوك ولفظه : إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما فإنهما لا يجتمعان على خير.
1 ـ العجر : العروق المتعقدة. البحر : العروق المتعقدة في البطن. مثل يضرب لمن يخبر بجميع عيوبه.

(128)
2 ـ كلمة أمير المؤمنين
    روى أبو حيان التوحيدي في ( الإمتاع والمؤانسة ) 3 ص 183 قال : قال الشعبي : ذكر عمرو بن العاص عليا فقال : فيه دعابة فبلغ ذلك عليا فقال : زعم ابن النابغة إني تلعابة ، تمراحة ، ذو دعابة ، اعافس ، وامارس. هيهات يمنع من العفاس والمراس (1) ذكر الموت وخوف البعث والحساب ، ومن كان له قلب ففي هذا من هذا له واعظ وزاجر ، أما وشر القول الكذب ، إنه ليعد فيخلف ، ويحدث فيكذب ، فإذا كان يوم البأس فإنه زاجر وآمر ما لم تأخذ السيوف بهام الرجال ، فإذا كان ذاك فأعظم مكيدته في نفسه أن يمنح القوم إسته.
    ورواه بهذا اللفظ شيخ الطايفة في أماليه ص 82 من طريق الحافظ ابن عقدة.
( صورة أخرى على رواية الشريف الرضي)
    عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة ، وإني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس ، لقد قال باطلا ، ونطق آثما ، أما وشر القول الكذب ، إنه ليقول فيكذب ، ويعد فيخلف ، ويسأل فيلحف ، ويسئل فيبخل ، ويخون العهد ، ويقطع الإل ، فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو ؟؟!! ما لم تأخذ السيوف مآخذها ، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته ، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت ، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة ، وإنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية ، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (2).
نهج البلاغة ـ 1 ص 145.
( صورة أخرى على رواية ابن قتيبة)
    قال زيد بن وهب : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : عجبا لابن النابغة يزعم إني تلعابة ، أعافس وأمارس ، أما وشر القول أكذبه ، إنه يسأل فيلحف ، و يسئل فيبخل ، فإذا كان عند البأس فإنه امرؤ زاجر ما لم تؤخذ السيوف مآخذها من هام القوم ، فإذا كان كذلك كان أكبر همه أن يبر قط ويمنع الناس إسته ، قبحه
1 ـ العفاس بالكسر : الفساد المراس : العبث واللعب.
2 ـ يقال : رضخ له من ماله رضيخة. أي : قليلا من كثير.


(129)
الله وترحه. ( عيون الأخبار 1 ص 164 ).
( صورة أخرى على رواية ابن عبد ربه)
    ذكر عمرو بن العاص عند علي بن أبي طالب فقال فيه علي : عجبا لابن الباغية يزعم إني بلقائه أعافس وأمارس ، ألا وشر القول أكذبه ، إنه يسأل فيلحف ، و ويسئل فيبخل ، فإذا احمر البأس ، وحمى الوطيس ، وأخذت السيوف مآخذها من هام الرجال لم يكن له هم إلا غرقة ثيابه ، ويمنح الناس إسته ، فضه الله وترحه.
( العقد الفريد 2 ص 287 ).

3 ـ كلمة أخرى له عليه السلام
    لما رفع أهل الشام المصاحف على الرماح يوم صفين يدعون إلى حكم القرآن قال علي عليه السلام : عباد الله ؟ أنا أحق من أجاب إلى كتاب الله ولكن معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا ، وصحبتهم رجالا ، فكانوا شر أطفال ، وشر رجال ، إنها كلمة حق يراد بها الباطل ، إنهم والله ما رفعوها ، إنهم يعرفونها ولا يعملون بها ، وما رفعوها لكم إلا خديعة ومكيدة.
كتاب صفين لابن مزاحم ص 264.

4 ـ كلمة أخرى له عليه السلام
    قال أبو عبد الرحمن المسعودي : حدثني يونس بن أرقم بن عوف عن شيخ من بكر بن وائل قال : كنا مع علي بصفين فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة في رأس رمح فقال ناس : هذا لواء عقده له رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يزالوا كذلك حتى بلغ عليا فقال علي : هل تدرون ما أمر هذا اللواء ؟ إن عدو الله عمرو بن العاص أخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الشقة فقال : من يأخذها بما فيها ؟ فقال عمرو : و ما فيها يا رسول الله ؟ قال : فيها أن لا تقاتل به مسلما ، ولا تقربه من كافر. فأخذها ، فقد والله قربه من المشركين وقاتل به اليوم المسلمين ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا رجعوا إلى عداوتهم منا إلا أنهم لم يدعوا الصلاة.
كتاب صفين لابن مزاحم ص 110.


(130)
5 ـ كتاب أمير المؤمنين إلى عمرو :
    من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص بن وائل شانئ محمد وآله محمد في الجاهلية والاسلام. سلام على من اتبع الهدى ـ أما بعد ـ فإنك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، فصار قلبك لقلبه تبعا كما قيل : وافق شن طبقة (1) فسلبك دينك وأمانتك ودنياك وآخرتك ، وكان علم الله بالغا فيك ، فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجا ، أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره ، وحوايا فريسته ، ولكن لا نجاة من القدر ، ولو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت ، وقد رشد من كان الحق قائده ، فإن يمكن الله منك ومن ابن آكلة الأكباد ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن تعجزا (2) وتبقيا بعدي فالله حسبكما ، وكفى بانتقامه انتقاما ، وبعقابه عقابا. والسلام.
     ( فائدة ) هذا الكتاب بهذه الصورة ذكرها ابن أبي الحديد (3) في شرحه 4 ص 61 نقلا عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم ولم نجده فيه فمن أمعن النظر في جل ما نقله ابن أبي الحديد عن هذا الكتاب يعلم بأن المطبوع منه هو مختصره لا أصله وهو أكبر من الموجود بكثير.
    صورة أخرى له
    فإنك قد جعلت دينك تبعا لدنيا امرئ ظاهر غيه ، مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، فاتبعت أثره ، وطلبت فضله ، إتباع الكلب للضرغام ، يلوذ بمخالبه ، وينتظر ما يلقى إليه من فضل فريسته ، فأذهب دنياك وآخرتك ، ولو بالحق أخذت ، أدركت ما طلبت ، فإن يمكن الله منك ومن ابن أبي سفيان أجزكما بما قدمتما ، وإن تعجزا وتبقيا فما أمامكما شر لكما. والسلام.
نهج البلاغة 2 ص 64

1 ـ مثل ساير له قصة يستفاد منها. شن : اسم رجل. طبقة : اسم امرأة : راجع مجمع الأمثال للميداني 2 ص 321.
2 ـ عجز الشئ : مؤخره.
3 ـ وذكره عنه الدكتور أحمد زكي صفوت في جمهرة الرسائل 1 ص 486.
كتاب الغدير ـ الجزء الثاني ::: فهرس