كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: 31 ـ 40
(31)
1 ص 181 ، الأعلام للزركلي 2 ص 675 ، الشيعة وفنون الاسلام 105 ، مجلة الهدى العراقية الجزء السادس ص 223 ـ 227.
    وعني بجمع آثاره وكتابة أخباره وروايتها جمع منهم :
    1 ـ أبو العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمار المتوفى 319 ، قال ابن المسيب لما مات ابن الرومي عمل كتابا (1) في تفضيله ومختار شعره وجلس يمليه على الناس. كما في فهرست ابن النديم 212 ، ومعجم الأدباء 1 ص 227.
    2 ـ أبو عثمان الناجم ، ترجمه في كتاب مقصور عليه.
    3 ـ أبو الحسن علي بن عباس النوبختي المتوفى 327 ، جمع أخباره في كتاب مفرد كما في معجم المرزباني 295 ، ومعجم الأدباء 2295.
    وأفرد من كتاب المتأخرين الأستاذ عباس محمود العقاد كتابا في ترجمته في 392 صفحة ونحن نأخذ منه ما هو المهم ملخصا بلفظه قال :
    قد أدرك ابن الرومي في حياته ثمانية خلفاءهم : الواثق. المتوكل. المنتصر. المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. المعتضد المتوفى بعد ابن الرومي.
    أثنى عليه العميدي صاحب ( الابانة ) وابن رشيق صاحب ( العمدة ) وقال : أكثر المولدين اختراعا وتوليدا فيما يقول الحذاق : أبو تمام وابن الرومي. وأطراه ابن سعيد المغربي المتوفى 673 في كتابه : عنوان المرقصات والمطربات.
    ويظهر أن أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من أدباء القرن الرابع توسع في ترجمته إما في كتابه : حماسة المحدثين. أو في كتاب مقصور عليه. ولكن أخباره هذه ذهبت كلها ولم تبق منها أثر إلا متفرقات في الكتب لا تفني في ترجمة وافية ولا شبيهة بالوافية فنحن ننقلها كما هي :
    ولد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب 221 ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة (2) ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور (3).
1 ـ ينقل الحموي عنه ترجمة أحمد بن محمد بن عمار في معجم الأدباء.
2 ـ في معجم الشعراء : في الجانب الغربي بالعتيقة. وهذا هو الصحيح.
3 ـ أخذه من أبي عثمان الخالدي.


(32)
    كان ابن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى ولا يشك أنه رومي الأصل فإنه يذكره ويؤكده في مواضع من ديوانه واسم جده مع هذا : جريح. أو : جرجيس. اسم يوناني لا شبهة فيه ، فلا ينبغي الالتفات إلى من قال : إنه سمي بابن الرومي لجماله في صباه.
    وكان أبوه صديقا لبعض العلماء والأدباء منهم : محمد بن حبيب الرواية الضليع في اللغة والأنساب ، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة ، وكان محمد بن حبيب يخصه لما يراه من ذكاءه وحدة ذهنه ، وحدت الشاعر عنه فقال : إنه كان إذا مر به شيء يستغربه ويستجيده يقول لي : يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك.
    وقد علمنا أن أمه كانت فارسية من قوله : الفرس خؤلي والروم أعمامي. وقوله : فلم يلدني أبو السواس ساسان. بعد أن رفع نسبه إلى يونان من جهة أبيه ، وربما كانت أمه من أصل فارسي ولم تكن فارسية قحا لأبيها وأمها وهذا هو الأرجح لأن علمه بالفارسية لم يكن علم رجل نشأ في حجر أم تتكلم هذه اللغة ولا تحسن الكلام بغيرها ، وماتت أمه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها :
أقول : وقد قالوا : أتبكي لفاقد هي الأم يا للناس جزعت فقدها رضاعا وأين الكهل من راضع الحلم ؟! ومن يبك أماً لم تذم قط لا يذم
    وكانت أمه تقية صالحة رحيمة كما يؤخذ من أبياته في رثائها.
    ( قال الأميني ) : أمه حسنة بنت عبد الله السجزي كما في معجم المرزباني ، وسجز بلدة من بلاد الفرس من أرباض خراسان فهي فارسية قح.
    أخوه وشقيقه محمد المكنى بأبي جعفر وهو أكبر من المترجم وتوفي قبله وكان تتفجع بذكراه ورثاه ، ومات أخوه وهو يعمل في خدمة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أحد أركان بيت بني طاهر ، ويظهر من ديوان المترجم إنه كان أديبا كاتبا أيضا.
    ولم يبق لابن الرومي بعد موت أخيه أحد يعول عليه من أهله أو من يحسبون في حكم أهله إلا أناس من مواليه الهاشميين العباسيين كانوا يبرونه حينا ويتناسونه أحيانا ، و كان لعهد الهاشميين الطالبيين أحفظ منه لعهد الهاشميين العباسيين كما يظهر مما يلي. أما ابن عمه الذي أشار إليه في قوله :


(33)
لي ابن عم يجر الشر مجتهدا يجني فاصلي بما يجني فيخذلني إلي قدما ولا يصلي له نارا وكلما كان زندا كنت مسعارا
    فلا ندري أهو ابن عم لح ؟! أو ابن عم كلالة ؟! ومبلغ ما بينهما من صلة المودة ظاهر من البيتين.
    أولاده
    رزق ابن الرومي ثلاثة أبناء وهم : هبة الله. محمد. وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه. ماتوا جميعا في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد أبناءه ، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فرثاه بدالية مشهورة يقول فيها :
توخى حمام الموت أوسط صبيتي على حين شمت الخير في لمحاته فلله كيف أختار واسطة العقد ؟! وآنست من أفعاله آية الرشد
    ومنها في وصف مرضه :
لقد قل بين المهد واللحد لبثه ألح عليه النزف حتى أحاله وظل على الأيدي تساقط نفسه فلم ينس عهد المهد أو ضم في اللحد إلى صفرة الجادي (1) عن حمرة الورد ويذوي كما يذوي القضيب من الرند (2)
    ويذكر فيها أخويه الآخرين :
محمد ؟ ما شيئ توهم سلوة أرى أخويك الباقيين كليهما إذا لعبا في ملعب لك لذعا فما فيهما لي سلوة بل حزازة لقلبي إلا زاد قلبي من الوجد يكونان للأحزان أورى من الزند فؤادي بمثل النار عن غير ما عمد يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
    أما ابنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثاءه :
يا حسرتا فارقتني فننا ابني ؟ إنك والعزاء معا غضا ولم يثمر لي الفنن بالأمس لف عليكما كفن

1 ـ الجادي : الزعفران.
م 2 ) يذوى من ذوى النبات وذوى : ذبل ونشف ماؤه. الرند : نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس ).


(34)
    وفي الديوان أبيات يرثي بها ابنا لم يذكر اسمه وهي :
حماه الكرى هم سرى فتأوبا أعيني جودا لي فقد جدت للثرى بني الذي أهديته أمس للثرى فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى فبات يراعي النجم حتى تصوبا بأكثر مما تمنعان وأطيبا فلله ما أقوى قناتي وأصلبا إذا فترت عنه الدموع تلهبا
    وهي على الأرجح رثاؤه لأصغر أبناءه الذي لم يذكر اسمه ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده ؟! ولكن يخيل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أن الأبيات البائية كانت آخر ما رثى به ولدا لأنها تنم عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلا الأسى الملتهب في الضلوع ، وإلا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكل هذه الفجايع ، وقد كان رثاؤه لابنه الأوسط صرخة الضربة الأولى ، ففيها ثورة لاعجة تحس من خلل الأبيات ، ثم حل الألم المرير محل الألم السوار في مصيبته الثانية ، فوجم وسكن واستعبر ، ثم كانت الخاتمة فهو مستسلم يعجب للحزن كيف لم يقض عليه ، ويحس وقدة المصاب في نفسه ولا يحسه في عينيه ، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلها ، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعا فتمت بها مصائبه وكبر عليه الأمر... إلخ.
    تعليمه
    ذلك كل ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم و تتلمذ لهم من العلماء والرواة فإن هذه المصادر خلو مما يفيد في هذا المقام إلا ما جاء عرضا في الجزء السادس من ( الأغاني ) حيث يروي ابن الرومي عن أبي العباس ثعلب عن حماد بن المبارك عن الحسين بن الضحاك. وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة عن عمر السكوني بالكوفة عن أبيه عن الحسين بن الضحاك ، فيصح أن تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ ، لأن ثعلبا ولد سنة مائتين فهو أكبر من الشاعر بإحدى و عشرين سنة ، أما قتيبة ( والمفهوم أنه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدث العالم المشهور ) فجائز أن يكون ممن أملوا عليه وعلموه لأنه مات وابن الرومي


(35)
يناهز العشرين.
    وقد مر بنا أنه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسابة الكبير ، وسنرى هنا أنه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغوية فيذكر شرحها في ديوانه معتمدا عليه قال بعد قوله :
وأصدق المدح مدح ذي حسد ملاءن من بغضه ومن شنف
    قال لي محمد بن حبيب : الشنف ما ظهر من البغضة في العينين وأشار إليه بعد بيت آخر وهو :
بانوا فبان جميل الصبر بعدهم فللدموع من العينين عينان
    إذا فسر كلمة ( عينان ) فروى عن ابن حبيب أنه قال : عان الماء يعين عينا وعينانا إذا ساح. فهؤلاء ثلاثة من أساتذة ابن الرومي على هذا الاعتبار ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه وحسبنا مع هذا أن الرجل كيفما كان تعليمه وأيا كان معلموه قد نشأ على نصيب واف من علوم عصره ، وساهم في القديم والحديث منها بقسط وافر في شعره فلو لم يقل المعري : إنه كان يتعاطى الفلسفة. والمسعودي : إن الشعر كان أقل آلاته. لعلمنا ذلك من شواهد شتى في كلامه ، فهي هناك كثيرة متكررة لا يلم المتصفح ببعضها إلا جزم باطلاع قائلها على الفلسفة ومصاحبة أهلها واشتغاله بها ، حتى سرت في أسلوبه وتفكيره ، وما كان متعلم الفلسفة في تلك الأيام يصنع أكثر من ذلك ليتعلمها أو ليعد من متعلميها ، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملم بالفلسفة والقياس المنطقي والنجوم كلاما كهذا الكلام.
لما تؤذن الدنيا به من صروفها وإلا فما يبكيه منها وأنها يكون بكاء الطفل ساعة يولد لأرحب مما كان فيه وأرغد ؟!
    وذكر شواهد كثيرة على إلمامه بالعلوم ومعرفته بمصطلحاتها غضضنا الطرف عنها اختصارا.
رسائل ابن الرومي
    وقد وردت في أبياته الهمزية إشارة إلى حذقه في الكتابة ومشاركته في البلاغة المنثورة تعززها إشارة مثلها في هذا البيت :


(36)
ألم تجدوني آل وهب لمدحكم بشعري ونثري أخطلا ثم جاحضا ؟!
    فلا بد أنه كان يكتب ويمارس الصناعة النثرية إلا ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذا معدودة موجزة ، منها : رسالة إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصلا.
    1 ـ ترفع عن ظلمي إن كنت بريئا ، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئا ، فوالله إني لأطالب عفو ذنب لم أجنه ، وألتمس الاقالة مما لا أعرفه ، لتزداد تطولا وازداد تذللا ، وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها ، وأحرسها بوفاءك من باغ يحاول إفسادها ، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظي منك بقدر ودي لك ومحلي من رجائك بحيث أستحق منك. والسلام.
    2 ـ رسالة كتبها يعود صديقا : أذن الله في شفائك ، وتلقى داءك بدوائك ، ومسح بيد العافية عليك ، ووجه وفد السلامة إليك ، وجعل علتك ماحية لذنوبك ، مضاعفة لثوابك.
    3 ـ كتب إلى صديق له قدم من ( سيراف ) (1) فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه : أطال الله بقاءك وأدام عزك وسعادتك وجعلني فداءك ، لولا أنني في حيرة من أمري وشغل من فكري لما افترقنا ، وشوقي علم الله فغالب ، وظمأي فشديد ، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبة أنه قادر جواد.
    ومكاننا من جميل رأيك أيدك الله يبعثنا على تقاضي حقوقنا قبلك ، وكريم سجاياك وأخلاقك يشجعنا على إمضاء العزم في ذلك ، وما تطولت به من الايناس يؤنسنا بك و يبسطنا إليك ، وآثار يديك تدلنا عليك ، وتشهد لنا بسماحتك ، والله يطيل بقاءك و يديم لنا فيك وبك السعادة.
    وبلغني أدام الله عزك أن سحائب تفضلك أمطرت منذ أيام مطرا عم إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب ، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدك ويعتقدك وينحوك ويعتمدك ، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظن برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظ من لطفك ، فرأيت مداوات قلبي من ظنه ، وقلبك من سهوه ، واستبقاء الود بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل : ( ويبقى
1 ـ سيراف : مدينة جليلة على ساحل بحر فارس ، منها إلى شيراز ستون فرسخا.

(37)
الود ما بقي العتاب ) وفيما عاتبت كفاية عند من له أذنك الواعية وعينك الراعية.
    4 ـ وقال في تفضيل النرجس على الورد : النرجس يشبه الأعين والمضاحك ، والورد يشبه الخدود ، والأعين والمضاحك أشرف من الخدود ، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى ، والورد صفة لأنه لون والنرجس يضارعه في هذا الاسم ، لأن النرجس هو الريحان الوارد أعني أنه أبدا في الماء ، والورد خجل ، والنرجس مبتسم ، وانظر أدناهما شبها بالعيون فهو أفضل.
    هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا ، وخليق بمن يكتب بهذا الأسلوب أن يعد في بلغاء الكتاب وإن لم يعد في أبلغهم ، على أن ابن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف ، فإنه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب ابن أبي الإصبع :
ونحن معاشر الشعراء تنمى وإن كانوا أحق بكل فضل أبونا عند نسبتنا أبوهم إلى نسب من الكتاب دان وأبلغ باللسان وبالبيان عطارد السماوي المكان
    أما حظه من علوم العربية والدين فمن المفضول أن نتعرض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه ، لأنه أبين من أن يحتاج إلى تبيين. وندر في قصائده المطولة أو الموجزة قصيدة تقرأها ولا تخرج منها وأنت موقن باستبحار ناظمها في اللغة وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها وأوزان اشتقاقها وتصريفها وموقع أمثالها وأسماء مشاهرها ، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين ومقتبسات من أدب القرآن ، فليس في شعر العربية من تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقة غير شاعرين اثنين : أحد هما صاحبنا والثاني المعري ، وقد كان يمدح الرؤساء والأدباء أمثال عبيد الله بن عبد الله ، وعلي بن يحيى ، وإسماعيل بن بلبل فيفسر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصايده كأنه كان يشفق أن تفوتهم دقايق لفظه وأسرار لغته ثم يعود إلى الاعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغير.
لم أفسر غريبها لك لكن لغيرك لا لك التفسير أنى لامرئ يجهل الغريب سواكا يفسر لابن بجدتها الغريب



(38)
    وكانوا لشهرته باللغة وعلم أسرارها ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها ليعبثوا به أو يعجزوه ، وقصة ( الجرامض ) إحدى هذه المعابثات التي تدل على غيرها من قبيلها ، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله : ما الجرامض ؟! فارتجل مجيبا :
وسألت عن خبر الجرامض وهو الخزا كل والغوامض وهو السلجكل شيء ت إذ طالبا علم الجرامض قد تفسر بالغوامض لك أم أبيت بفرض فارض
    وكلها كلمات من مادة الجرامض لا معنى لها ولا وجود ، وإذا صح استقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة فضلا عن الأستاذية الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار ، هؤلاء كلهم من نخبة النخبة في هذه المطالب ، ولا سيما إذا أعانهم تلميذ ذو فطنة متوقدة الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ ، فقد مر بك أنه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة فهب في الرواية بعض مبالغة التي تتعرض لها أمثال هذه الروايات فهو بعد سريع الحفظ و هذا مما يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.
    عاش ابن الرومي حياته كلها في بغداد لا يفارقها قليلا حتى يعود سريعا وقد نازعه إليها الشوق وغلبه نحوها حنين ، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع ، و كان صاحب صنيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة منها قدح زعم أنه كان للرشيد ووصفه في شعره لما أهداه إلى علي بن المنجم يحيى.
قدح كان للرشيد اصطفاه كفم الحب في الحلاوة بل أحلى صيغ من جوهر مصفى طباعا تنفذ العين فيه حتى تراها كهواه بلا هباء مشوب خلف من ذكوره غير خلف وإن كان لا يناغي بحرف لا علاجا بكيمياء مصف أخطأته من رقة المستشف بضياء أرقق بذاك وأصف
    ثم استوعب الكلام في البحث عن مزاجه وأخلاقه ومعيشته وما كانت تملكه يده وذكرى مطايباته ومفاكهاته وهجاؤه وفشله وطيرته من ص 102 ـ 203 فشرع


(39)
في بيان عقيدته ( وهناك مواقع للنظر ) وقال :
    عقيدته
    تقدم في الكلام عن الحالة الدينية في القرن الثالث للهجرة أنه كان عصرا كثرت فيه النحل والمذاهب وقل فيه من لا يرى في العقايد رأيا يفسر به إسلامه و ويخلصه بين جماعة الدارسين وقراء العلوم الحديثة.
    فابن الرومي واحد من هؤلاء القراء لا ننتظر أن تمر به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة ، فكان مسلما صادق الاسلام ، ولكنه كان شيعيا معتزليا قدريا يقول بالطبيعتين ، وهي أسلم النحل التي كانت شايعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.
    وقد قال المعري في رسالة الغفران : إن البغداديين يدعون أنه متشيع و يستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية ثم عقب على ذلك فقال : ما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء.
    ولا ندري لماذا شك المعري في تشيعه لأنه على مذهب غيره من الشعراء ، فإن الشعراء إذا تشيعوا كانوا شيعة حقا كغيرهم من الناس ، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامة المتشيعين ، وإنما نعتقد أن المعري لم يطلع على شعره كله فخفيت عنه حقيقة مذهبه ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.
    على أن القصيدة الجيمية وحدها كافية في إظهار التشيع الذي لا شك فيه ، لأن الشاعر نظمها بغير داع يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة ، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء ، فقد رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين ابن زيد بن علي الثائر في وجه الخلافة ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان ، وقال فيها يخاطب بني العباس ويذكر ( ولاة السوء ) من أبناء طاهر :
أجنوا بني العباس من شنآئكم وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم نظار لكم أن يرجع الحق راجع على حين لا عذري لمعتذريكم وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا فأحرى بهم أن يغرقوا حيث لججوا إلى أهله يوما فتشجوا كما شجوا ولا لكم من حجة الله مخرج



(40)
فلا تلحقوا الآن الضغـاين بينكم غررتم لئن صدقتم أن حالة لعل لهم في منطوى الغيب ثائرا وبينهم إن اللواقح تنتج تدوم لكم والدهر لونان أخرج سيسمو لكم والصبح في الليل مولج
    فماذا يقول الشيعي لبني العباس أقسى وأصرح في التربص بدولتهم وانتظار دولة العلويين من هذا الكلام ؟! فقد أنذر بني العباس بزوال الملك وكاد يتمنى أو تمنى لبني علي يوما يهزمون فيه أعداءهم ، ويرجعون فيه حقهم ، ويطلبون تراثهم ، وينكلون بمن نكل بهم ، وهواه ظاهر من العلويين لا مداجاة فيه كهوى كل شيعي في هذا المقام. على أنه كان أظهر من هذا في النونية التي تمنى فيها هلاك أعدائهم ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم :
إن يوالي الدهر أعداء لكم خلعوا فيه عذار المعتدي فاصبروا يهلكهم الله لكم قرب النصر فلا تستبطئوا ومن التقصير صوني مهجتي لا دمي يسفك في نصرتكم غير أني باذل نفسي وإن ليت إني غرض من دونكم أتلقى بجبيني من رمي إن مبتاع الرضي من ربه فلهم فيه كمين قد كمن وغدوا بين اعتراض وأرن مثل ما أهلك أذواء اليمن قرب النصر يقينا غير ظن فعل من أضحى إلى الدنيا ركن لا ولا عرضي فيكم يمتهن حقن الله دمي فيما حقن ذاك أو درع يقيكم ومجن وبنحري وبصدري من طعن فيكم بالنفس لا يخشى الغبن
    وليس يجوز الشك في تشيع من يقول هذا القول ويشعر هذا الشعور ، فإنه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبا لبني علي وغضبا لهم وإشهارا لهم لعاطفة لا تفيده و لا تفيدهم ، وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلا بلقب الشهيد كما ذكره في القصيدة الجيمية وفي خاطرة أخرى مفردة نظمها في هذين البيتين :
كسته القنا حلة من دم جزته معانقة الدار فأضحت لدى الله من ارجوان عين معانقة القاصرات الحسان
كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: فهرس