كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: 41 ـ 50
(41)
    وبعض هذا يكفي في الدلالة علي تشيعه للطالبيين واتخاذه التشيع مذهبا في الخلافة كمذهب الشعراء أو غير الشعراء ولا سيما التشيع المعتدل الذي يقول أهله بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل ، ويستنكرون لعن الصحابة الذين عارضوا عليا في الخلافة ، ومعظم هؤلاء من الزيدية الذين خرجوا في جند يحيى بن عمر لقتال بني العباس ، فهم لا يقولون في نصرة آل علي أشد مما قال ابن الرومي ، ولا يتمنون لهم أكثر مما تمناه.
    ويلوح لنا أن ابن الرومي ورث التشيع وراثة من أمه وأبيه لأن أمه كانت فارسية الأصل فهي أقرب إلى مذهب قومها الفرس في نصرة العلويين ، ولأن أباه سماه عليا وهو من أسماء الشيعة المحبوبة التي يتجنبها المتشددون من أنصار الخلفاء ، ولا حرج على أبي الشاعر أن يتشيع وهو في خدمة بيت من بيوت العباسيين ، لأن مواليه كانوا أناسا بعيدين من الخلافة وولاية العهد وهما علة البغضاء الشديدة بين العباسيين والعلويين ، وقد اتفق لبعض الخلفاء وولاة العهد أنفسهم أنهم كانوا يكرمون عليا وأبناءه كما كان مشهورا عن ( المعتضد ) الخليفة الذي أكثر ابن الرومي من مدحه ، كما كان مشهورا عن ( المنتصر ) ولي العهد الذي قيل : إنه قتل أباه ( المتوكل ) جريرة ملاحاة وقعت بينهما في الذب عن حرمة علي وآله ( ثم قال بعد استظهار تشيع بني طاهر ص 207 ـ 209 ) :
    وإن أحق عقيدة أن يجد المرء فيها لعقيدة تجرؤه إذا خاف ، وتبسط له العذر والعزاء إذا سخط من صروف الحوادث ، وتمهد له الأمل في مقبل خير من الحاضر ، وأدنى منه إلى كشف الظلمات ورد الحقوق ، وكل أولئك كان ابن الرومي واجده على أوفاه في التشيع للعلويين أصحاب الإمامة المنتظرة في عالم الغيب على العباسيين أصحاب الحاضر الممقوت المتمنى زواله ، فلهذا كان متشيعا في الهوى ، متشيعا في الرجاء ، وكان على مذهب غيره من الشعراء وعلى مذهب غيره من سائر المتشيعين.
    أما الاعتزال فابن الرومي لا يكتمه ولا يماري فيه ، بل يظهره إظهار معتز به حريص عليه فمن قوله في ابن حريث :
معتزلي مسر كفر أأرفض الاعتزال رأيا يبدي ظهورا لها بطون كلا لأني به ضنين


(42)
لو صح عندي له اعتقاد ما دنت ربي بما يدين
    وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدرية الذين يقولون بالاختيار وينزهون الله عن عقاب المجبر على ما يفعل ، وذلك واضح من قوله يخاطب العباس بن القاشي و يناشده صلة المذهب :
إن لا يكن بيننا قربى فآصرة مقالة العدل والتوحيد تجمعنا وبين مستطرفي غي مرافقة كن عند أخلاقك الزهر التي جعلت ما عذر ( معتزلي ) موسر منعت أيزعم القدر المحتوم أثبطه ؟! أم ليس مستأهلا جدواه صاحبه ؟! أم ليس يمكنه ما يرتضيه له ؟! لا عذر فيما يريني الرأي أعلمه للدين يقطع فيها الوالد الولدا دون المضاهين من ثنى ومن جحدا ترعى فكيف اللذان استطرفا فارشدا عليك موقوفة مقصورة أبدا كفاه معتزلياً مقترا صفدا ؟ ! إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا أنى ؟! وما جار عن قصد ولا عندا يكفي أخا من أخ ميسور ما وجدا للمرء مثلك ألا يأتي السددا
    فواضح من كلامه هذا أنه ( معتزلي ) وأنه من أهل العدل والتوحيد وهو الاسم الذي تسمى به القدرية لأنهم ينسبون العدل إلى الله فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضى له وسبق إليه ، ولأنهم يوحدون الله فيقولون : إن القرآن من خلقه و ليس قديما مضاهيا له في صفتي الوجود والقدم ، وقد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم ليردوا به على الذين سموهم القدرية ورووا فيهم الحديث ( القدرية مجوس هذه الأمة ) فهم يقولون : ما نحن بالقدرية لأن الذين يعتقدون القدر أولى بأن ينسبوا إليه ، إنما نحن من أهل العدل والتوحيد لأننا ننزه الله عن الظلم وعن الشريك.
    وواضح كذلك من كلامه أنه يعتقد حرية الانسان فيما يأتي من خير وشر ، ويحتج على زميله بهذه الحجة فيقول له : لم لا تثيبني ؟! إن قلت : إن القدر يمنعك ؟! فقد حللت ما اعتقدت من اختيار الانسان في أفعاله ، وإن قلت : إنك لا تريد ؟! فقد ظلمت الصداقة وأخللت بالمروءة. وله عدا هذا أبيات صريحة في اعتقاد ( الاختيار ) وخلق الانسان لأفعاله كقوله :


(43)
لولا صروف الاختيار لأعنقوا لهوى كما اتثقت جمال قطار
    وقوله :
أنى تكون كذا وأنت مخير متصرف في النقض والإمرار ؟!
    وقوله :
الخير مصنوع بصانعه والشر مفعول بفاعله فمتى صنعت الخير أعقبكا فمتى فعلت الشر أعطبكا
    إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق وأن :
الرزق آت بلا مطالبة سيان مدفوعهُ ومجتذبه
    ويقول :
أما رأيت الفجاج واسعة والله حيا والرزق مضمونا ؟!
    ( قال الأميني ) : هذا في الرزق الذي يطلبك لا في الرزق الذي تطلبه كما فصله الحديث ، ولا تناقض عند القدرية في هذا ، لأنهم يقولون بالاختيار فيما يعاقب عليه الانسان ويثاب لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة.
    أما القول بالطبيعتين فأوضح ما يكون في قوله :
فينا وفيك طبيعة أرضية هبطت بآدم قبلنا وبزوجه فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها بئست لعمر الله تلك طبيعة جار واستأسرت ضعفى بنيه بعده لكنها مأسورة مقصورة فجسومهم من أجلها تهوي بهم لولا منازعة الجسوم نفوسهم أو قصروا فتناولوا بأكفهم تهوي بنا أبدا لشر قرار من جنة الفردوس أفضل دار من تلكم الجنات والأنهار حرمت أبانا قرب أكـرم فهم لها أسرى بغير إسار مقهورة السلطان في الأحرار ونفوسهم تسمو سمو النار نفزوا بسورتها من الأقطار قمر السماء وكل نجم سار
    ( قال الأميني ) : لقد عزى الكاتب هاهنا إلى المترجم هنات لا مقيل لها في مستوى الحقيقة ، ومنشأ ذلك بعده عن علم الأخلاق وعدمه تعقله معنى الشعر ، فحبسه


(44)
منافيا للتوحيد الذي جاء به نبي الاسلام ، لكن العارف بأساليب الكلام ، العالم بما جبل به الانسان من الغرايز المختلفة لا يكاد يشك في صحة معنى الشعر ، وهو يعرب عن إلمام ابن الرومي بالأخلاق ، والمتكفل لتفصيل هذه الجملة كتب الأخلاق وما يضاهيها ، ولخروج البحث عن موضوع الكتاب ضربنا عنه صفحا.
    قال : وابن الرومي كان مفطورا على التدين لأنه كان مفطورا على التهيب والاعتماد على نصير ، وهما منفذان خفيان من منافذ الإيمان والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود ، ومن ثم كان مؤمنا بالله خوفا من الشك ، مقبلا على التسليم بسيطا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق ويؤثر السكينة على أي شيء ، وبلغ من بساطته أنه كان ينكر على الحكماء الذين يشكون في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت و يحسبونه من فعل الدواء والحنوط ، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء :
يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا بينت عن رعة وصدق أمانة أحسبت أن الله ليس بقادر وظننت ما شاهدت من آياته بعد التقادم منهم بدواء لولا اتهامك خالق الأشياء أن يجعل الأموات كالاحياء ؟! بلطيفة من حيلة الحكماء ؟!
    ومات وهو يقول في ساعاته الأخيرة :
ألا أن لقـاء اللـ ـه هول دونه الهول
    وما كانت الطير عنده إلا شعبة من ذلك التهيب الديني الغريزي ، فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين ولكن في حدود من الشعور لا في حدود من التفكير ، ولهذا كان الفنان ولم يكن الفيلسوف.
    ( قال الأميني ) : الطيرة ليست من شعب الدين ، ولا يركن إليها أي خاضع له وملأ مسامعه قول الصادع به صلى الله عليه وآله وسلم : لا طيرة ولا حام. وإنما هي بين ضعف النفس غير المتقوية بنور اليقين والتوكل على الله في ورد وصدر ، ولذا كانت شايعة في الجاهلية ونفاها الاسلام.
    قال : وليس من الاجتراء أنه قال بالاختيار ورأى له في الدين رأيا غير ما اصطلح


(45)
عليه السواد فإنه كان يحيل الذنب على الانسان وينفي الظلم عن القدر في العقاب و الثواب ، ويتصور الله على أحسن ما يتصور المتفلسف مثله إلهه؟؟ ، فكأنما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه ، وإنما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره ، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار ، وينتهي فيها إلى بر الأمان ، ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره ويستعين بهم على تفريج غمته.
ويدمج أسباب المودة بيننا وإخلاصنا التوحيد لله وحده بمعرفة لا يقرع الشك بابها وأعمالنا التفكير في كل شبهة يبيت كلانا في رضى الله ماحضا مودتنا الأبرار من آل هاشم وتذييبنا ؟ عن دينه في المقاوم ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم بها حجة تعيي دهاة التراجم لحجته صدرا كثير الهماهم
    بيد أن الإيمان شيء وأداء الفرايض الدينية شيء آخر ، فقصارى الإيمان عنده أنه يؤمنه بقرب آل البيت وتنزيه ربه والاطمينان إلى عدله ورحمته ، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذ له اللعب والمرح ، ولا أهلا بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من لذة وأرب.
فلا أهلا بمانع كل خير وأهلا بالطعام وبالشراب
    بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبهها بليلة المعراج :
رفعتنا السعود فيها إلى الفوز فكانت كليلة المعراج
    ذلك أنه كان في تقواه طوع الاحساس الحاضر ، كما كان في كل حالة من حالاته يلعب ، فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجون ، ويستحضر التقوى والخشوع فلا يباريه أحد من المتعبدين ، ويخيل إليك أنك تستمع إلى متعبد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول :
تتجافى جنوبهم كلهم بين خائف تركوا لذة الكرى ورعوا أنجم الدجى عن وطئ المضاجع مستجير وطامع للعيون الهواجع طالعا بعد طالع



(46)
لو تراهم إذا هم وإذا هم تأوهوا وإذا باشروا الثرى واستهلت عيونهم ودعوا : يا مليكنا اعف عنا ذنوبنا اعف عنا ذنوبنا أنت إن لم يكن لنا فأجيبوا إجابة ليس ما تصنعونه أبذلوا لي نفوسكم خطروا بالأصابع عند مر القوارع بالخدود الضوارع فائضات المدامع يا جميل الصنائع للوجوه الخواشع للعيون الدوامع شافع خير شافع لم تقع في المسامع : أوليائي بضائع إنها في ودائعي
    وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين.
    ( قال الأميني ) : ليس ما ارتئاه ابن الرومي في باب الاختيار نتيجة مخامرة الشبه والشكوك كما يراه ( المترجم ) وإنما هي وليدة البرهنة الصادقة ، وإنه لم يعط القدر حقه محاباة له ، لكن الحجج الدامغة ألجأته إلى ذلك ، وكذلك ما يقوله في باب الأرزاق فهي تقادير محضة غير أن الانسان كلف بتحري الأسباب الظاهرية جريا على النواميس الإلهية ؟ ؟ المطردة في النظام العالمي الأتم ، وهذه مسائل كلامية لا يروقنا الخوض فيها إلا هنالك.
    وأما اعتماد ابن الرومي على العدل والرحمة وتنزيه ربه فهو شأن كل مؤمن بالله عارف بكمال قدسه وصفاته الجلالية ، وليس قرب أهل البيت الطاهر عليهم السلام إلا نتيجة مودتهم التي هي أجر الرسالة بنص من الذكر الحكيم ، وإنما مثلهم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق ، وهم عدل الكتاب وقد خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بعده وقال : ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، فأحر بهم أن يكون القرب منهم مؤمنا للانسان نشأته الأخرى ، وأما ما عزاه إليه من مظاهر من المجون فهي معان شعرية لا يؤاخذ بها القائل ، وكم للشعراء الاعفاء أمثالها.


(47)
    هجاؤه
    أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجائين هما أشهر الهجائين في أدب العصور الإسلامية عامة : أحدهما ابن الرومي. والآخر دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء و الأمراء وهاجي الناس جميعا ؟ وقال :
إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا
    وقد جمع المعري بينهما في بيت واحد وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال :
لو أنصف الدهر هجا أهله كأنه الرومي أو دعبل
    وليس للمؤرخ الحديث أن يضيف إسما جديدا إلى هذين الاسمين فإن العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة ، و كلاهما مع هذا نوع فذ في الهجاء يظهر متى قرن بالآخر.
    فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب ( لا يهمنا ما ذكره في دعبل ).
    أما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس ، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب ، ولكنه كان فنانا بارعا أوتي ملكة التصوير ولطف التخيل والتوليد وبراعة اللعب بالمعاني والأشكال ، فإذا قصد شخصا أو شيئا بهجاء صوب إليه ( مصورته ) الواعية فإذا ذلك الشيء صورة مهيأة في الشعر تهجو نفسها بنفسها ، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع؟؟ الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة ، فكل هجوه تصوير مستحضر لأشكاله ، أو لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.
    وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات ، فإذا حذفت من هجوه كل ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة فقد حذفت منه شر ما فيه ولم يبق منه إلا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.
    وكان لصاحبنا فنا واحدا من الهجاء لا ترتاب في أنه كان يختاره ويكثر منه ولو لم تحمله الحاجة وتلجأه النقمة إليه ، ونعني به فن التصوير الهزلي والعبث بالإشكال المضحكة والمناظرة الفكاهية والمشابهات الدقيقة ، فهو مطبوع على هذا كما يطبع المصور على نقل ما يراه وإعطاء التصوير حقه من الاتقان والاختراع ، و


(48)
ما نراه كان يقع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته وحسنت مع الناس علاقاته ، لكن هذا الفن أدخل في التصوير منه في الهجاء ، وهو حسنة وليس بسيئة ، وقدرة تطلب وليس بخلة تنبذ ، وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرا فيه خبيرا بمغامزه وخوافيه ، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم ويهين المهين ، ويهجو من يستهدف غرضه للهجاء ، لأنك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزلية وأن يفتن في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها ومنعت ملكة فيه أن تنمو وأبيت على حاسته الصادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه ، أما إذا منعت الهجاء وبواعثه فإنك تمنع خلقا يستغنى عنه ، وميلا لا بد له من التقويم.
    ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه ولا موجب للاعتذار ، فأما ما عدا ذلك من هجاؤه فهو مسوق فيه لا سائق ، ومدافع لا مهاجم ، ومستثار عن عمد في بعض الأحيان لا مستثير ، وإنك لتقرأ له قوله :
ما استب قط اثنان إلا غلبا شرهما نفسا وأما وأبا
    فلا تصدق أن قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية وقاذف المهجوين بكل نقيصة لكن الواقع هو هذا ، والواقع كذلك أنه كان يسكن إلى رشده أحيانا فيتسأم الهجاء ويعافه ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسما :
آليت لا أهجو طوال لا بل سأطرح الهجاء أمن الخلايق كلهم حلمي أعز علي من أولى بجهلي بعد ما الدهر إلا من هجاني وإن رماني من رماني فليأخذوا مني أماني غضبي إذا غضبي عراني مكنت حلمي من عناني
    وهذا أشبه بابن الرومي لأنه في صميمه خلق مسالما سهلا ، ولم يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة ، بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء ، أو هو لو كان أكبر شرا لكان أقل هجاء ، لأنه كان يأمن من جانب العدوان فلا يقابله بمثله ، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم ، وما كان هجاؤه يشف عن


(49)
الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشر المستقر في الغريزة ، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه ، وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان ، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون لأنهم على ذلك مطبوعون.
    ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه علم منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء و الأخوان ، فمراثيه هي التي تدل عليه الدلالة المنصفة وليست مدائحه التي كان يميلها الطمع والرغبة أو أهاجيه التي كان يميلها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس ، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات ، ونرى فيه الولد البار ، والأخ الشفيق ، والوالد الرحيم ، والزوج الودود ، والقريب الرؤف ، والصديق المحزون ، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرا مغلق الفؤاد مطبوعا على الكيد والإيذاء.
    وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدق كلامهم فيه ، لأنهم كانوا يستبيحون إيذاءه ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره ، وتعود الناس أن يصدقوا كل ما يرمى به غريب الأطوار من التهم والأعاجيب ، في حين أنه كان يتحاشى عن تلك التهم ، ويغفر الاساءة بعد الاساءة مخافة من كثرة الشكاية و علما منه بقلة الانصاف.
أتاني مقال من أخ فاغتفرته وذكرت نفسي منه عند امتعاضها ومثلي رأى الحسنى بعين جلية فيا هاربا من سخطنا متنصلا فعذرك مبسوط لدينا مقدم ولو بلغتني عنك أذني أقمتها ولست بتقليب اللسان مصارما وإن كان فيما دونه وجه معتب محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب وأغضى عن العوراء غير مؤنب هربت إلى أنجى مفر ومهرب وودك مقبول بأهل ومرحب لدي مقام الكاشح المتكذب خليلي إذا ما القلب لم يتـقلب
    فالرجل لم يكن شريرا ولا ردئ النفس ولا سريعا إلى النقمة ، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في أعراض مهجويه ؟! نظن أنه كان كذلك لأنه كان قليل الحيلة


(50)
طيب السريرة خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره ، فكان مستغرقا في فنه يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة ، لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء ، وقد كان هو شاعرا كاتبا ، وكان خطيبا واسع الرواية مشاركا في المنطق والفلك واللغة ، وكل ما تدور عليه ثقافة زمان ، أو كما قال المسعودي : كان الشعر أقل أدواته .. وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الآمال ، فماذا بعد أن يعرف الناس إنه شاعر وإنه كاتب وإنه راوية مطلع على الفلسفة والنجوم ؟! إلا أن تجيه الوزارة ساعية إليه تخطب وده ، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه ، ولا يبلغون في البلاغة مكانه ، ألم يصل ابن الزيات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصل له تفسيرها وهي كلمة ( الكلاء ) التي يعرفها عامة الأدباء ؟! بلى ، وابن الرومي كان يعرف من غرايب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه ، فما أولاه إذن بالوزارة ؟ وما أظلم الدنيا ؟ إذ هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء.
    فإذا لم تكن الوزارة فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين ؟! فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل غبن أصعب على النفس من هذا الغبن ؟! وهل تقصير من الزمان ألام من هذا التقصير ؟!
    ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله : ( أنت للشرف ) أيذهب هذا كله هباء لا يقبض منه اليدين على شيء ؟! تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار ، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها وتعمق في الضمير أغوارها ، أيأتي الشباب وهي محو لغو مطموس لا يبين أولا يبين منه إلا ما ينقلب إلى الأضداد وتترجمه الأيام بالسقم والفقر والكساد ؟! وكيف يمحى ؟ ! إلا وقد محى القلب الذي طبعت فيه ، وكيف ينعكس معناه ؟! إلا وقد انعكس في القلب كل قائم والتوى فيه كل قويم ، ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل إلا على من يلهو به وهو بعيد.
    وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم :
مالي أسل من القراب وأغمد ؟! لم لا أجرد ؟! والسيوف تجرد
كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: فهرس