كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: 241 ـ 250
(241)
أن جمهور المحدثين ثم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال منهم :
    علي بن أبي طالب ، وجعفر أخوه ، وزيد بن حارثة ، وأبو ذر الغفاري ، وعمرو بن عنبسة السلمي ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وخباب بن الأرت ، وإذا تأملنا الروايات الصحيحة والأسانيد القوية الوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليا عليه السلام أول من أسلم. فأما الرواية عن ابن عباس : أن أبا بكر أولهم إسلاما. فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رووا وأشهر فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد ( ثم ذكر أحاديث صحيحة مما مر عن ابن عباس ) فقال : فهذا قول ابن عباس في سبق علي عليه السلام إلى الاسلام وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر ، على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك من حديث أبي بكر الهذلي.
    ثم ذكر حديثه وأحاديث أخرى مما ذكر نقلا عن الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها (1) هذا. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه.

    لفت نظر
    لعل الباحث يرى خلافا بين كلمات أمير المؤمنين المذكورة ص 221 ـ 224 في سني عبادته وصلاته مع رسول الله بين ثلث.
    وخمس. وسبع. وتسع سنين فنقول : أما ثلث سنين فلعل المراد منه ما بين أول البعثة إلى إظهار الدعوة من المدة وهي ثلث سنين (2) فقد أقام صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة.
    وأما خمس سنين فلعل المراد منها سنتا (3) فترة الوحي من يوم نزول اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى نزول يا أيها المدثر.
    وثلث سنين من أول بعثته بعد الفترة إلى نزول قوله : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين.
    وقوله : وأنذر عشيرتك الأقربين.
    سني الدعوة الخفية التي لم يكن فيها معه صلى الله عليه وآله إلا خديجة وعلي. و
1 ـ مرت بقية الكلام ج 2 ص 287. وللإسكافي في المقام كلمات ضافية نحيل الحيطة بها إلى رسالته في الرد على الجاحظ.
2 ـ تاريخ الطبري 2 ص 216 ، 218. سيرة ابن هشام 1 ص 274. طبقات ابن سعد 200. الامتاع 15 ، 21.
3 ـ عدهما المقريزي أحد الأقوال في أيام فترة الوحي في الامتاع ص 14.


(242)
أحسب أن هذا مراد من قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان مستخفيا أمره خمس سنين كما في الامتاع ص 44.
    وأما سبع سنين فإنها مضافا إلى كثرة طرقها وصحة أسانيدها معتضدة بالنبوية المذكورة ص 220 وبحديث أبي رافع المذكور ص 227 وهي سني الدعوة النبوية من أول بعثته صلى الله عليه وآله وسلم إلى فرض الصلاة المكتوبة.
    وذلك أن الصلاة فرضت بلا خلاف ليلة الاسراء وكان الاسراء كما قال محمد ابن شهاب الزهري قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقد أقام صلى الله عليه وآله في مكة عشر سنين فكان أمير المؤمنين خلال هذه المدة السنين السبع يعبد الله ويصلي معه صلى الله عليه وآله فكانا يخرجان ردحا من الزمن إلى الشعب وإلى حراء للعبادة ومكثا على هذا ما شاء الله أن يمكثا (1) حتى نزل قوله تعالى : واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين.
    وقوله : وأنذر عشيرتك الأقربين.
    وذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه الشريف ، فتظاهر عليه السلام بإجابة الدعوة في منتدى الهاشميين المعقود لها ولم يلبها غيره ، ومن يوم ذاك اتخذه رسول الله صلى الله عليه وآله أخا ووصيا وخليفة ووزيرا (2) ثم لم يلب الدعوة إلى مدة إلا آحادهم بالنسبة إلى عامة قريش والناس المرتطمين في تمردهم في حيز العدم.
    على أن إيمان من آمن وقتئذ لم يكن معرفة تامة بحدود العبادات حتى تدرجوا في المعرفة والتهذيب ، وإنما كان خضوعا للاسلام وتلفظا بالشهادتين ورفضا لعبادة الأوثان.
    لكن أمير المؤمنين خلال هذه المدة كان مقتصا أثر الرسول من أول يومه فيشاهده كيف يتعبد ، ويتعلم منه حدود الفرايض ويقيمها على ما هي عليه ، فمن الحق الصحيح إذن توحيده في باب العبادة الكاملة ، والقول بأنه عبد الله وصلى قبل الناس بسبع سنين.
    ويحتمل أن يراد السنين الواردة في حديث ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله أقام بمكة خمس عشرة سنة سبع سنين يرى الضوء والنور ويسمع الصوت ، و
1 ـ تاريخ الطبري 2 ص 213. سيرة ابن هشام 1 ص 265. راجع ص 235 من هذا الجزء.
2 ـ راجع الجزء الثاني من كتابنا ص 278 ـ 284.


(243)
ثماني سنين يوحى إليه (1) وأمير المؤمنين كان معه من أول يومه يرى ما يراه صلى الله عليه وآله وسلم و يسمع ما يسمع إلا أنه ليس بنبي كما مر في ص 240.
    فإن تعجب فعجب قول الذهبي في تلخيص المستدرك 3 ص 112 : إن النبي من أول ما أوحي إليه آمن به خديجة وأبو بكر وبلال وزيد مع علي قبله بساعات أو بعده بساعات وعبدوا الله مع نبيه فأين السبع السنين ؟!
    ( قال الأميني ) : هذه السنين السبع ، ولكن أين تلك الساعات المزعومة عند الذهبي ؟ ومن ذا الذي يقولها ؟ ومتى خلق قائلها ؟ وأين هو ؟ وأي مصدر ينص عليها ؟ وأي راو رواها ؟ بل نتنازل معه ونرضى بقصيص يقصها ، غير ما في علبة مفكرة الذهبي ، أو عيبة أو هامه ، ومتى كان أبو بكر من تلك الطبقة ؟ وقد مر في صحيحة الطبري ص 240 : إنه أسلم بعد أكثر من خمسين رجلا.
    فكأن الرجل قروي من البعداء عن تاريخ الاسلام ، أو أنه عارف به غير أنه يروقه الإفك والزور. وأما تسع سنين فيمكن أن يراد منها سنتا الفترة والسنين السبع من البعثة إلى فرض الصلوات المكتوبة. والمبني في هذه كلها على التقريب لا على الدقة والتحقيق كما هو المطرد في المحاورات ، فالكل صحيح لا خلاف بينها ولا تعارض هناك.
    5 ـ ذكر في ج 7 ص 357 حديث تصدق أمير المؤمنين خاتمه في الصلاة و هو راكع ونزول آية : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا. الآية. من طريق أبي سعيد الأشج الذي أسلفناه ص 157 ثم أردفه بقوله :
    وهذا لا يصح بوجه من الوجوه لضعف أسانيده ، ولم ينزل في علي شيء من القرآن بخصوصيته وكل ما يريدونه (2) في قوله تعالى : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد.
    وقوله : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا.
    وقوله : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر.
    وغير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في أنها نزلت في علي لا يصح شيء منها.
    ج ـ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذبا. كيف يحكم الرجل
1 ـ طبقات ابن سعد ص 209 ط مصر.
2 ـ كذا في النسخة ولعله : يروونه.


(244)
بعدم صحة نزول آية ( إنما وليكم الله ) في علي عليه السلام ويستدل بضعف أسانيده وهو بنفسه يرويه في تفسيره 2 ص 71 من طريق ابن مردويه عن الكلبي ويقول : قال : هذا إسناد لا يقدح به ؟! ونحن أوقفناك ص 157 : على أن حديث أبي سعيد الأشج الذي ذكره صحيح رجاله ثقات.
    ثم إن كان ما ورد في هذه الآيات وغيرها من الآيات الكريمة المتكثرة من نزولها في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، أنها مأولة به ، أو أنه عليه السلام أحد المصاديق الظاهرة لعمومها كما حسبه المغفل مما لا يصح شيء منها ؟ فمن واجب الباحث أن يشطب على هذه التفاسير المعتمدة عليها والصحاح والمسانيد ومدونات الحديث المعتبرة بقلم عريض يمحو ما سطروه فيها ، وما تكون عندئذ قيمة هاتيك الكتب المشحونة بما لا يصح ؟! وما غناء هؤلاء العلماء الذين يعتمدون على الأباطيل ؟! وهم يقضون أعمارهم في جمعها ، ويدخرونها للأمة لتعمل بها وتخبت إلى مفادها ، وإذا ذهب هذه ضحية هوى ابن كثير فأي كتاب يحق أن يكون مرجعا لرواد العلم ، وموئلا يقصده الباحث ؟! ؟ ! نعم :
    هذه الكتب هي المصدر والموئل لا غيرها وابن كثير نفسه لا يرد إلا إليها ، ولا يصدر إلا منها في كل مورد ، إلا في باب فضايل أمير المؤمنين فعندها تغلي مراجل حقده فيأمها بلسان بذي وقلم جرئ.
    ونحن قد أوقفناك على مصادر نزول هذه الآيات الكريمة في كتابنا هذا ج 2 ص 52 ـ 55 و ج 3 ص 106 ـ 111 و 156 ـ 163 وسنوقفك على حق القول في قوله تعالى : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد. فإلى الملتقى.
    6 ـ ذكر في ج 7 ص 356 عن الإمام أحمد عن وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن أبي بكر حديث البراءة ثم أردفه بقوله : وفيه نكارة من جهة أمره برد الصديق فإن الصديق لم يرجع بل كان هو أمير الحج.. إلخ.
    ج ـ إقرأ واضحك من هذا الاجتهاد البارد في مقابل النص الثابت الصحيح المجمع على صحته ، وسيوافيك الحديث بطرقه المتكثرة.
    7 ـ ذكر في ج 7 ص 343 من طريق الإمام أحمد عن ابن نمير عن الأجلح الكندي عن عبد الله بن بريدة حديثا فيه :
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقع في علي فإنه مني و


(245)
أنا منه وهو وليكم بعدي. ثم أردفه بقوله : هذه اللفظة منكرة والأجلح شيعي ، و مثله لا يقبل إذا تفرد بمثلها.
    وقد تابعه فيها من هو أضعف منه والله أعلم ، والمحفوظ في هذا رواية أحمد عن وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي وليه.
    جهل يرى عربي غير أموي في هذه اللفظة نكرا ؟! وهو ذلك القول العربي المبين السهل الممتنع.
    أو هل يرى عربي لم يشبه عوامل العصبية في معناه شيئا منكرا ؟ وهو ذلك المعنى الصحيح الثابت الصادر عن مصدر الوحي بأسانيد صحيحة المدعوم بما في معناه من الأحاديث الكثيرة الصحاح (1) وهل النكر الذي حسبه ابن كثير في إسناده إلى قائله صلى الله عليه وسلم ؟ وهو لا يفتأ يشيد بأمثال هذا الذكر الحكيم.
    أم في المقول فيه صلوات الله عليه ؟ فيراه غير لائق بمثل هذه الكلمة ، إذن فما ذا يصنع ابن كثير بأمثالها المتكثرة التي ملأت بين المشرق والمغرب ؟! وهي لا تدافع بغمز في إسناد أو بوقيعة في دلالة.
    وهل سمعت أذناك من محدث ديني رد ما أخرجه أئمة الحديث في الصحاح والمسانيد وفي مقدمها الصحيحان إذا تفرد به شيعي ؟ وما ذنب شيعي إذا كان ثقة عند أئمة الحديث ؟ كأجلح فقد وثقه مثل ابن معين. والحديث أخرجه أحمد في المسند 5 ص 355 بالإسناد المذكور. والترمذي باختصار. والنسائي في الخصايص 24. وابن أبي شيبة كما في كنز العمال 6 ص 154. و محب الدين الطبري في الرياض النضرة 2 ص 171. والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 9 ص 128 وغيرهم ، وإسناد أحمد المذكور صحيح رجاله رجال الصحيح إلا الأجلح و هو ثقة كما سمعت.
    وقول الرجل : والمحفوظ في هذا رواية أحمد.. إلخ.
    يكشف عن قصور باعه في الحديث ، وحسبانه الحديثين واحد الانتهاء سندهما إلى بريدة ، وإفادة كليها الولاية ، وعدم معرفته بأن حديث ( لا تقع ) قضية في واقعة شخصية لدة قصة عمران بن الحصين المذكورة ص 215 وأما ( من كنت مولاه ) فهو لفظ حديث الغدير العام ، وليس هو محفوظ
1 ـ راجع حديث الغدير في الجزء الأول من كتابنا وفي هذا الجزء ص 215 ، 216.

(246)
هذه القضية كما لا يخفى على النابه البصير.
    8 ـ يعزو إلى الشيعة في 2 ص 196 مشفوعا ذلك بالتكذيب منه أن منهم من زعم أن الإبل البخاتي إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم ( يوم سبي عقايل بيت الوحي يوم كربلا ) لتستر عوراتهن من قبلهن ودبرهن.
    ج ـ لا أحسب أن في الشيعة معتوها يزعم أن الأسنمة الموجودة في الإبل بخاتيها وعرابيها منذ كونت حدثت بعد واقعة الطف ، الشيعة لا يقول ذلك وإنما يأفك بهم من أفك ، وهو يريد الوقيعة فيهم بإسناد التافهات إليهم ، ولا يعتقد الشيعي أن حرائر النبوة وإن سلبن الحلي ، والحلل ، والأزر ، والأخمرة ، مضين في السبي عراة ، و استقبلهن شيء من مظاهر الخزي ، فإن عطف المولى لهن كان يأبى ذلك كله.
    نعم : انتابتهن محن ونوائب وكوارث وشدايد في سبيل جهادهن كما انتابت رجالهن في سبيل جهادهم ، وكلما ينتاب المجاهد بعين الله وفي سبيله فهي مأثرة له لا مخزاة فإنهن شاركن الرجال في تلك النهضة المقدسة التي أسفرت عن فضيحة الأمويين ومكائدهم ونواياهم السيئة على الدين والمسلمين ، وإضمارهم إرجاع الملأ الديني إلى الجاهلية الأولى.
    لكن حسين الدين والهدى ، المفوض إليه كلائة دين جده عن عادية أعدائه ، الناظر إلى هاتيك الأحوال من أمم ، وقف هو وآله وأصحابه ونساؤه ذلك الموقف الرهيب ، فأنهوا إلى الجامعة الدينية مقاصد القوم ، وأبصروهم المعاول الهدامة لتدمير الشريعة في أيدي آل أمية ، وإن ذلك المقعي على أنقاض الخلافة الإسلامية لا صلة له برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا نصيب له من الخلافة عنه ، ولم يزل عليه السلام يتلو هاتيك الصحيفة السوداء لبني صخر حتى لفظ نفسه الأخير في مشهد يوم الطف ، وحتى انتهى السير بنساؤه وذراريه إلى الشام.
    هنالك مجت النفوس آل حرب وأشياعهم ، وتعاقبت عليهم الثورات ، حتى اكتسح الله سبحانه معرتهم عن أديم الأرض أيام مروان الحمار ، ذلك بما كسبت أيديهم وما الله بظلام للعبيد.
    وهذا مغزى ما يقال : من أن دين الاسلام كما أنه محمدي الحدوث فهو حسيني البقاء.


(247)
    هذه حقيقة راهنة مدعمة بالبراهين لكن ابن كثير ونظرائه من حملة الروح الأموية لا ينقطعون عن تحاملهم على شيعة الحسين عليه السلام بنسبة الأكاذيب إليهم ، وقذفهم بالقوارص.
    هذه نماذج يسيرة من جنابات ابن كثير على العلم وودائع الاسلام ، وتمويهه على الحقايق ، ولا يسعنا استيعاب ما أودع في طي كتابه من عجره وبجره ، ولو أردنا أن نسرد كل ما فيه أو جله من المخاريق والتافهات والاضافات المفتعلة إلى الأبرياء ، والسباب المقذع لرجال الشيعة عند ذكر تاريخهم من دون أي مبرر ، و التحامل عليهم بما يستقبحه الوجدان والعقل السليم ، لجاء منه كتاب حافل ، لكنا نمر عليها كراما.
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع
غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا

النساء 115


(248)
    قال الأميني :
    هذه نماذج مما في الكتب من التافهات ولم نقصد استقصاءها لأنه يكلفنا تأليف مجلدات ضخمة ، وإنما أردنا إيقاظ شعور الأمة إلى عوامل الحقد والإحن الممتزجين بنفسيات ناصبي العداوة لأهل البيت عليهم السلام وأتباعهم ، حتى لا تكبو بتلك المدونات المزخرفة تجاه هذه الطائفة الكبيرة ( شيعة آل الله ) مثل ما كبوا أولئك المهملجون إلى البهرجة والضلال.
    وإذا عرف القارئ هذه النزعة منهم ففي وسعه أن يتفحص عن بقية ما هنالك من المخازي والطامات والقذائف ، و يحرى بنا الآن أن نوعز إلى شيئ مما جاء به متأخروا القوم من مؤلفي اليوم ممن اقتصوا إثر قدمائهم في العصبية العمياء التي فرقت الكلم ، وشتت جمع الأمم ، وأحدثت في القلوب ضغاين ، وأورثت في الأفئدة نار العداء ، وأثمرت الفتن ، و أوجدت الكوارث ، وجرت على الأمة كل سوء ، وفتحت عليها باب الضعة بمصراعيه ، وألبستها شية العار ، ووسمة الشنار ، فأصبحت والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء والله يدعو إلى دار السلام.
    يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ، إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.


(249)
8
محاضرات
تاريخ الأمم الإسلامية
تأليف الشيخ محمد الخضري
    لقد أخرج الرجل هذا الكتاب بصفة التاريخ لكنه لم يجر على بساطته ، وإنما أودع فيه نزعاته الأموية فترى في كل ثنية منه هملجة ، وفي كل فجوة منه تركاضا ، فلا هو كتاب تاريخ يسكن إلى نقله ، ولا كتاب عقيدة ينظر في نقده ، وإنما هو هياج ولغط يعكر الصفو ، ويقلق الطمأنينة ، فكان الأحرى بنا الاعراض عنه و عن أغلاطه ، لكن لم نجد بدا من لفت القارئ إلى نزر من سقطاته.
    1 ـ قال في ج 2 ص 67 : ومما يزيد الأسف أن هذه الحرب ( صفين ) لم يكن المراد منها الوصول إلى تقرير مبدأ ديني أو رفع حيف حل بالأمة ، وإنما كانت لنصرة شخص على شخص ، فشيعة علي تنصره لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق الناس بولاية الأمر ، وشيعة معاوية تنصره لأنه ولي عثمان وأحق الناس بطلب دمه المسفوك ظلما ، ولا يرون أنه ينبغي لهم مبايعة من آوى إليه قتلته.
    ج ـ ليت الرجل بين لنا المبادئ الدينية عنده حتى ننظر في انطباقها على هذه الحرب ، وحيث لم يبين فنحن نقول : أي مبدأ ديني هو أقوى من أن تكون الحرب والمناصرة لتنفيذ كلمة رسول الله يوم أمر أمير المؤمنين عليه السلام بقتال القاسطين وهم أصحاب معاوية وأمر أصحابه بمناصرته يومئذ (1) ورأى من واجبهم جهاد مقاتليه وقال : سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، ليس وراء ذلك شيء (2).
    وأي مبدأ ديني هو أقوى من نصرة الرجل من يراه أولى الناس بالأمر كما
1 ـ راجع ص 188 ـ 195.
2 ـ أخرجه الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم كما مر في ص 190.


(250)
يلهج به الخضري نفسه ؟! وأي مبدأ ديني هو أقوى من مناصرة أمير المؤمنين الذي قال رسول الله فيه وفي آله وذويه : حربكم حربي (1) ؟! وقال له : يا علي ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني (2) وهل يسع المسلم التقاعد عن نصرته عليه السلام بعد ما سمع قول نبيه صلى الله عليه وآله ؟!
    وأي مبدأ ديني هو أقوى من مقاتلة الفئة الباغية بنص من الرسول الأمين يوم قال لعمار : تقتلك الفئة الباغية (3) ويوم قال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (4) وأي مبدأ ديني هو أقوى من المقاتلة تحت راية خليفة الوقت الذي انعقدت له بيعة أهل الحل والعقد ، وتمت شروطها عند من يرى الخلافة بالاختيار ، وثبت له النص الجلي وتواتر عند من لا يختار إلا المنصوص عليه ، وبطبع الحال أن الخارج عليه خارج على إمام الوقت باغ عليه يجب مقاتلته بنص من الكتاب المبين حيث قال : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله (5).
    وليت شعري أي حيف يحل بالأمة أعظم من تغلب مثل معاوية على بيضة الاسلام ورياسة أهله ، واستحوازه الخلافة التي ليست له لا بنص ولا بيعة ممن تقرر بيعته الخليفة ؟ فلم يعقد له إجماع ، ولا أثبتته شورى أو وصية ، ولا هو ولي دم عثمان حتى ينهض بثاره إن لم نقل : هو المثبط جند الشام والمتثاقل عن نصره حتى قتل ، و لم يكن له سابقة في الاسلام تشرفه ، ولا علم يسدده ، ولا تقوى يكبحه عن مساقط
1 ـ راجع الجزء الأول من كتابنا ص 336.
2 ـ راجع ص 193 من هذا الجزء.
3 ـ راجع الجزء الأول ص 329 ، 331 ، قال السيوطي في الخصايص 2 ص 140 : هذا الحديث متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر كما بينت ذلك في الأحاديث المتواترة. وستوافيك في الجزء التاسع من كتابنا هذا ألفاظه وطرقه وهي خمسة وعشرون طريقا.
4 ـ قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب 1 ص 366 : رواه البخاري في بعض نسخه و مسلم والترمذي وغيرهم. ويوجد في تاريخ الطبري 11 ص 357.
5 ـ سورة الحجرات : 8.
كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: فهرس