كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: 251 ـ 260
(251)
الشهوات ، وإنما هي ملوكية ارتادها ليملك الأزمة ، وتلقى عنده الأعنة ، ويحتنك أمر الأمة ، وفي الأخير تم له ذلك تحت رواعد الارهاب ، ولوائح الأطماع في منتئى عن الدين والاصلاح ، فثبت عرش ملوكيته بين مهراق الدماء ومنتهك الشرايع ، ومضلات الفتن ، ولو لم يكن له بائقة إلا استخلاف يزيد الفجور على الأمة بالترهيب والإطماع لكفاه حيفا يجب أن يكتسح عن مستوى الاسلام وبلاد المسلمين.
    2 ـ قال : أما معاوية فإنه بدون ريب يرى نفسه عظيما من عظماء قريش لأنه ابن شيخها أبي سفيان بن حرب وأكبر ولد أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، كما أن عليا أكبر ولد هاشم بن عبد مناف ، فهما سيان في الرفعة النسبية ( ج 2 ص 67 ) ج ـ ماذا أقول لمغفل ؟! يرى عنصر النبوة ، وآصرة القداسة المنتقلة بين أسلاب طاهرة ، وأرحام زكية ، من نبي إلى وصي إلى ولي إلى حكيم إلى عظيم إلى شريف إلى خاتم الرسالة إلى وصيه صاحب الولاية الكبرى ، لدة العنصر الابشمي ، ويراهما في الرفعة والشرف سيان ، وشتان بين الشجرتين : شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. وما أبعد ما بين الشجرتين : شجرة مباركة زيتونة ، والشجرة الملعونة في القرآن (1) بتأويل من النبي الأعظم (2) بلا اختلاف بين اثنين في أنهم هم المراد من الشجرة الملعونة كما في تاريخ الطبري 11 ص 356.
    وكيف يراهما الرجل سيان ؟! والنبي الأعظم يقول : إن الله اختار من بني آدم العرب ، واختار من العرب مضر ، واختار من مضر قريشا ، وأختار من قريش بني هاشم ، واختارني من بني هاشم (3) وكيف يراهما سيان ؟! وقد استاء رسول الله صلى الله عليه وآله من ثمار هذه الشجرة الملعونة طيلة حياته فما رؤي ضاحكا من يوم رأى في منامه أنهم ينزون على منبره نزو
1 ـ سورة الاسراء : 60.
2 ـ تاريخ الطبري 11 ص 356 ، تاريخ الخطيب 3 ص 343 ، تفسير القرطبي 10 ص 286 ، تفسير النيسابوري 15 ص 55 هامش تفسير الطبري.
3 ـ أخرجه البيهقي ، ابن عدي ، الحكيم ، الطبراني ، ابن عساكر ، راجع كنز العمال 6 ص 204.


(252)
القردة والخنازير. (1) فأنزل الله : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس.
    وكيف يراهما سيان ؟! وبنو أمية هم الذين اتخذوا عباد الله خولا ، ومال الله نحلا ، وكتاب الله دغلا. كما أخبر به النبي الصادق الأمين (2).
    وكيف يرى أبا سفيان شيخ قريش ؟ ! وهو عارها وشنارها وهو الملعون بنص النبي الأعظم بقوله : أللهم ؟ العن التابع والمتبوع ، أللهم ، عليك بالأقيعس (3) يوم رأى أبا سفيان ومعه معاوية. وبقوله : أللهم العن القائد والسائق والراكب.
    يوم نظر إليه وهو راكب ومعه معاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق (4).
    وكيف يراه شيخ قريش لدة شيخ الأبطح ؟! وفيه قال علقمة :
إن أبا سفيان من قبله لكنه نافق في دينه بعدا لصخر مع أشياعه لم يك مثل العصبة المسلمه من خشية القتل على المرغمه في جاحم النار لدى المضرمه (5)
    وليت الخضري يقرأ كلمة المقريزي في النزاع والتخاصم ص 28 وهي : أبو سفيان قائد الأحزاب الذي قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وقتل من خيار أصحابه سبعين ما بين مهاجري وأنصاري منهم : أسد الله حمزة بن عبد المطلب بن هاشم ، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق أيضا وكتب إليه :
    باسمك اللهم أحلف باللات والعزى وساف ونائلة وهبل ، لقد سرت إليك أريد استئصالكم. فأراك قد اعتصمت بالخندق فكرهت لقائي ولك مني كيوم أحد.
    وبعث بالكتاب مع أبي سلمة الجشمي فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد أتاني كتابك وقديما غرك يا أحمق بني غالب وسفيههم
1 ـ تفسير الطبري 15 ص 77 ، تاريخ الطبري 11 ص 356 ، تاريخ الخطيب 9 ص 44 ج 8 ص 280 ، تفسير النيسابوري هامش الطبري 15 ص 55 ، تفسير القرطبي 10 ص 283 ، النزاع والتخاصم ص 52 ، أسد الغابة 3 ص 14 من طريق الترمذي ، الخصايص الكبرى 2 ص 118 عن الترمذي والحاكم والبيهقي ، تفسير الخازن 3 ص 177.
2 ـ النزاع والتخاصم ص 52 ، 54 ، الخصايص الكبرى 2 ص 118.
3 ـ قال البراء بن عازب : يعني معاوية.
4 ـ كتاب نصر بن مزاحم في حرب صفين 244 ، 148 ، تاريخ الطبري 11 ص 357.
5 ـ كتاب نصر ص 219.


(253)
بالله الغرور وسيحول الله بينك وبين ما تريد ؟ ، ويجعل لنا العاقبة ، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وساف ونائلة وهبل يا سفيه بني غالب ).
    ولم يزل يحاد الله ورسوله حتى سار رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة فأتى به العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أردفه ، وذلك أنه كان صديقه و نديمه في الجاهلية ، فلما دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يؤمنه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ويلك يا أبا سفيان ؟ ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال : بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأجملك وأكرمك ، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا. فقال يا أبا سفيان ؟ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ فقال : بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأجملك وأكرمك ، أما هذه ففي النفس منها شيء . فقال له العباس : ويلك ؟ إشهد لشهادة الحق قبل أن تضرب عنقك. فشهد وأسلم. فهذا حديث إسلامه كما ترى ، واختلف في حسن إسلامه فقيل : إنه شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأزلام معه يستقسم بها ، وكان كهفا للمنافقين ، وإنه كان في الجاهلية زنديقا ، وفي خبر عبد الله بن زبير إنه رآه يوم اليرموك قال : فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان : إيه بني الأصفر ، فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان :
وبنو الأصفر الملوك ملوك الر وم لم يبق منهم مذكور (1)
    فحدث به الزبير أباه فلما فتح الله على المسلمين فقال الزبير : قاتله الله يأبى إلا نفاقا ، أو لسنا خيرا من بني الأصفر ؟.
    وذكر المدايني عن أبي زكريا العجلاني عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : حج أبو بكر رضي الله عنه ومعه أبو سفيان بن حرب فكلم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته فقال : أبو قحافة اخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب. فقال : أبو بكر يا أبا قحافة إن الله بنى بالاسلام بيوتا كانت غير مبنية ، وهدم به بيوتا كانت في الجاهلية مبنية وبيت أبي سفيان مما هدم. ا ه‍.
    وكان يوم بويع أبو بكر يثير الفتن ويقول : إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم ، يا آل عبد مناف ؟ فيم أبو بكر من أموركم ؟ أين المستضعفان ؟ أين الأذلان علي و
1 ـ هذا البيت من جملة أبيات للنعمان بن امرئ القيس.

(254)
عباس ؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ ثم قال لعلي : أبسط يدك أبايعك ، فوالله لئن شيء ت لأملأنها عليه خيلا ورجلا ، فأبى علي عليه السلام عليه فتمثل بشعر المتلمس (1) :
ولن يقيم على خسف يراد به هذا على الخسف مربوط برمته إلا الأذلان غير الحي والوتد وذا يشج فلا يبكي له أحد
    فزجره علي وقال : والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت للاسلام شرا ، لا حاجة لنا في نصحك (2) وجعل يطوف في أزقة المدينة ويقول :
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم فما الأمر إلا فيكم وإليكم ولا سيما تيم بن مرة أو عدي وليس لها إلا أبو حسن علي
    فقال عمر لأبي بكر : إن هذا قد قدم وهو فاعل شرا ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستألفه على الاسلام فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل فرضي أبو سفيان وبايعه (3) وقد سبق الخضري في رأيه هذا معاوية فقال فيما كتب إلى علي أمير المؤمنين : نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل. فأجاب عنه أمير المؤمنين بقوله : لعمري إنا بنو أب واحد ولكن ليس أمية كهاشم. ولا حرب كعبد المطلب. ولا أبو سفيان كأبي طالب. ولا المهاجر كالطليق. ولا الصريح كاللصيق. ولا المحق كالمبطل. ولا المؤمن كالمدغل. ولبئس الخلف خلف يتبع سلفا هوى في نار جهنم ، وفي أيدينا بعد فضل النبوة (4).
    ( قال الأميني ) ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ؟! قل : هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون.
    3 ـ قال : نقول إن فكر معاوية في اختيار الخليفة بعده حسن جميل ، وإنه
م 1 ـ هو جرير بن عبد المسيح من بني ضبية ، توجد ترجمته في ( الشعر والشعراء ) لابن قتيبة ، و ( معجم الشعراء ).
2 ـ الكامل لابن الأثير 2 ص 135.
3 ـ العقد الفريد 2 ص 249.
4 ـ كتاب صفين لابن مزاحم 538 ، 539 ، الإمامة والسياسة 1 ص 100 ، مروج الذهب 2 ص 61 ، نهج البلاغة 2 ص 12 ، شرح بن أبي الحديد 3 ص 424 ، مربيع الأبرار للزمخشري باب 66 ).


(255)
ما دام لم توضع قاعدة لانتخاب الخلفاء ، ولم يعين أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم ، فأحسن ما يفعل هو أن يختار الخليفة ولي عهد قبل أن يموت ، لأن ذلك يبعد الاختلاف الذي هو شر على الأمة من جور إمامها. ص 119.
    وقال : ومما انتقد الناس معاوية أنه اختار ابنه للخلافة وبذلك سن في الاسلام سنة الملك المنحصر في أسرة معينة بعد أن كان أساسه الشورى ويختار من عامة قريش وقالوا : إن هذه الطريقة التي سنها معاوية تدعوا في الغالب إلى انتخاب غير الأفضل الأليق من الأمة ، وتجعل في أسرة الخلافة الترف والانغماس في الشهوات والملاذ والرفعة على سائر الناس.
    أما رأينا في ذلك فإن هذا الانحصار كان أمرا حتما لا بد منه لصلاح أمر المسلمين وألفتهم ولم شعثهم ، فإنه كلما اتسعت الدائرة التي منها يختار الخليفة كثر الذين يرشحون أنفسهم لنيل الخلافة ، وإذا انضم إلى ذلك اتساع المملكة الإسلامية ، وصعوبة المواصلات بين أطرافها ، وعدم وجود قوم معينين يرجع إليهم الانتخاب ، فإن الانتخاب واقع ، ونحن نشاهد أنه مع تفوق بني عبد مناف على سائر قريش ، واعتراف الناس لهم بذلك وهم جزء صغير من قريش فإنهم تنافسوا الأمر وأهلكوا الأمة بينهم ، فلو رضي الناس عن أسرة ودانوا لها بالطاعة واعترفوا باستحقاق الولاية لكان هذا خير ما يفعل لضم شعث المسلمين ص 124.
    إن أعظم من ينتقد معاوية في تولية ابنه هم الشيعة مع أنهم يرون انحصار ولاية الأمر في آل علي ، ويسوقون الخلافة في بنيه ، بتركها الأب منهم للابن ، وبنو العباس أنفسهم ساروا على هذه الخطة.
    ج ـ لم ينتقد معاوية من ينتقده لمحض اختياره وإنما انتقده من ناحيتين : الأولى عدم لياقته للتفرد وهو كما قال أمير المؤمنين في كلام له : لم يجعل الله عز وجل له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الاسلام ، طليق ابن طليق ، حزب من هذه الأحزاب لم يزل لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين عدوا هو وأبوه دخلا في الاسلام كارهين (1) وفي الأمة أهل الحل والعقد الذين اختاروا خلافة أبي بكر ، ثم وافقوا
1 ـ تاريخ الطبري 6 ص 4.

(256)
على الوصية إلى عمر وأقروها ، وأصفقوا مع أهل الشورى على خلافة عثمان ، وأطبقوا على البيعة طوعا ورغبة لمولانا أمير المؤمنين فثبتت خلافته ، ووجبت طاعته ، ولزمت معاوية بيعته ، فكان هؤلاء موجودين بأعيانهم أو بنظرائهم وهم الذين نقموا على معاوية ذلك العقد المشوم.
    الثانية : عدم لياقة من عينه من بعده وهو ذلك الماجن المتخلع المتظاهر بالفجور إن لم نقل بالكفر والالحاد.
    أما عدم تعيين أهل الاختيار فإن أراد عدم تعينهم فذلك بهتان عظيم لأن الموجودين في الصدر الأول في عاصمة الاسلام المدينة المنورة الذين تصدوا لتعيين الخليفة هم أهل الحل والعقد ، وكان أكثرهم موجودين إلى ذلك العهد ، وأما من توفي منهم فقد قيضت الظروف من بعدهم من يد مسدهم ، فإن يكن هؤلاء مفوضا إليهم أمر الخلافة بادء بدء فهم المفوض إليهم أمرها مهما تناقلت الخلافة ، فليس لأحد أن يختار من دون رضا منهم ، وإن هؤلاء القوم تعينهم الظروف والأحوال والمقتضيات المكتنفة بهم ، ولا يعينهم نص من الكتاب أو السنة.
    وإن أراد عدم تعيين هؤلاء الخليفة من بعد معاوية فإن ظرف التعيين ساعة موت الخليفة لا قبله.
    نعم : قد تنعقد الضمائر على انتخاب من يرون له الأهلية في أبان الانتخاب ، وما أدرى معاوية أنهم سوف يهملون أمر الأمة ساعة هلاكه ؟ ولماذا تفرد بالانتخاب من دون رضى منهم ؟ ولماذا خضع أفرادا من القوم بالتخويف وآخرين بالتطميع ؟ ومتى أبعد انتخابه الاختلاف الذي هو شر على الأمة ؟ وفي الملأ الديني أمم ينقمون منه ذلك ، وجموع ينتقدونه ، وشراذم يضمرون السخط ويتظاهرون به حذار بادرته.
    نعم : هناك زعانفة اشتروا رضى المخلوق بسخط الخالق ، وأعمتهم الصرر والبدر ، فأبدوا الرضا. ولو كانت هذه الفكرة حسنة جميلة فلماذا فاتت رسول الله صلى الله عليه وآله حين دنت منه الوفاة ؟ فلم يرحض عن أمته معرة الخلاف ، وترك المراجل تغلي حتى اليوم. وهل ترى لو كان أوصى إلى معين من أمته بالخلافة يوجد هناك لأحد مطمع غير المنصوص عليه ؟ ودعى سعد بن عبادة إلى نفسه ؟ وقال قائل الأنصار منا أمير ، ومنكم أمير ؟ وهتف


(257)
هاتف أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ؟ وازدلف المهاجرون إلى أبي بكر ؟ واجتمع ناس إلى العباس ؟ وبنو هاشم ومن يمت بهم وينتمي إليهم يقولون : إنها لأمير المؤمنين صلوات الله عليه ؟ هذه أسئلة حافلة ليس للخضري عنها جواب إلا أن يدعي أن معاوية كان أشفق بالأمة من رسول الله صلى الله عليه وآله.
    وأي خلاف رفعه تعيين يزيد وعلى عهده كانت واقعة الطف ، وتلاها فاجعة الحرة ، وأعقبهما أمر ابن الزبير ، وقصة البيت المعظم ؟! كل ذلك من جراء ذلك الاختيار ، وثمرة تلك الفكرة الفاسدة ، وفي الناقمين سبط النبوة حسين العظمة صلوات الله.
    عليه وبقية بني عبد مناف وعامة المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة.
    ثم إن كان معاوية لم يجد بدا من الاختيار فلماذا لم يختر صالحا من صلحاء الصحابة ؟ وفي مقدمهم سبط رسول الله الإمام الطاهر ، ولا معدل عنه في حنكة أو علم أو تقوى أو شرف.
    وكيف راق ( الخضري ) أن يرى هذا الاختيار حسنا جميلا صالح الأمة ولم يره حيفا وجناية عليها وعلى إسلامها ورسولها وكتابها وسنتها ؟! ورسول الله صلى الله عليه وآله يوقظ شعور أمته قبل ذلك بأعوام بقوله :
    إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية (1) وقوله : لا يزال هذا الأمر معتدلا قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد (2).
    موأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى : إن يزيد لما كان أبوه أمير الشام غزا المسلمون فحصل لرجل جارية نفيسة فأخذها منه يزيد فاستعان الرجل بأبي ذر فمشى معه إليه وأمره بردها ثلاث مرات وهو يتلكأ فقال : أما والله لئن فعلت فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أول من يبدل سنتي لرجل من بني أمية : ثم ولى ، فتبعه يزيد فقال : أذكرك بالله أنا هو ؟ فقال : لا أدري ، وردها يزيد.
    قال ابن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص 145 : لا ينافي هذا الحديث
1 ـ الخصايص الكبرى 2 ص 139 ، تطهير الجنان في هامش الصواعق ص 145 (2) الخصايص الكبرى 2 ص 139 ، تطهير الجنان في هامش الصواعق ص 145 وقال : مسند ؟ رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه انقطاعا.

(258)
المذكور المصرح بيزيد إما لأنه بفرض كلام أبي ذر على حقيقته لكون أبي ذر لم يعلم بذلك المبهم ، فقوله : لا أدري.
    أي في علمي وقد بين إبهامه في الرواية الأولى ، و المفسر يقضي على المبهم. وإما لأن أبا ذر علم أنه يزيد ولكنه لم يصرح له بذلك خشية الفتنة ، لا سيما وأبو ذر كان بينه وبين بني أمية أمور تحملهم على أنهم ينسبونه إلى التحامل عليهم ].
    وأما رأيه في حصر الخلافة باسرة فإنا لا نناقشه إلا من عدم جدارة الأسرة التي يجنح إليها ( الخضري ) للخلافة.
    نعم : لا بأس به إذا حصرت باسرة كريمة تتحلى باللباقة والحذق من الناحية الدينية والسياسية ، ونحن لا نقول بلزوم الحصر المذكور مع عدم اللياقة ، فإنه غير واف لقم جذور الفساد ، وقمع حذوم الاختلاف ، فالأمة متى وجدت من خليفتها الحيف والجنف تثور عليه وتخلعه ، وبطبع الحال يطمع في الخلافة عندئذ من هو أزكى منه نفسا ، وأطيب أرومة ، وأكرم خلقا ، وحتى من يساويه في الغرائز ، فأي مفسدة اكتسحها حصر الخلافة والحالة هذه ؟!
    جير : إذا حصرت بمن ذكرناه وشاهدت الأمة منهم التأهل ، فإن فيه منقطع أطماع الخارجين عن الأسرة من ناحية خروجهم عن البيت المعين لها ، ودحض معاذير الثوار والمشاغبين من ناحية عدم وجود أحداث توجب الثورة والخروج ، وعندئذ تتأكد خضوع الأمة لخليفة شأنه ما ذكرناه ، فتعظم شوكته ، وتتسق أموره ، وتمتثل أوامره ، فلا يدع معرة إلا اكتسحها ، ولا صلاحا إلا بثه ، والشيعة لا تقول بحصر الخلافة في آل علي عليهم السلام إلا بعد إخباتها إلى سريان ناموس العصمة في رجالات بيتهم المعينين للخلافة المدعومة بالنصوص النبوية المتواترة راجع ص 79 ـ 82 من هذا الجزء.
    4 ـ قال : وعلى الجملة فإن الحسين أخطأ خطأ في خروجه هذا الذي جر على الأمة وبال الفرقة والاختلاف ، وزعزع عماد ألفتها إلى يومنا هذا ، وقد أكثر الناس من الكتابة في هذه الحادثة لا يريدون بذلك إلا أن تشتعل النيران في القلوب فيشتد تباعدها ، غاية ما في الأمر أن الرجل طلب أمرا لم يهيأ له ، ولم يعد له عدته ، فحيل بينه وبين ما يشتهي وقتل دونه ، وقبل ذلك قتل أبوه ، فلم يجد من


(259)
أقلام الكاتبين ومن يبشع أمر قتله ويزيد به نار العداوة تأجيجا ، وقد ذهب الجميع إلى ربهم يحاسبهم على ما فعلوا ؟ والتاريخ يأخذ من ذلك عبرة وهي : أنه لا ينبغي لمن يريد عظائم الأمور أن يسير إليها بغير عدتها الطبيعية ، فلا يرفع سيفه إلا إذا كان معه من القوة ما يكفل النجاح أو يقرب من ذلك ، كما أنه لا بد أن تكون هناك أسباب حقيقية لمصلحة الأمة ، بأن يكون جور ظاهر لا يحتمل ، وعسف شديد ينوء الناس بحمله ، أما الحسين فإنه خالف يزيد وقد بايعه الناس ، ولم يظهر منه ذلك الجور ولا العسف عند إظهار هذا الخلاف 129 ـ 130.
    وقبل هذه الجمل يبرر ساحة يزيد عن الظلم والجور ويراه قرب علي بن الحسين إليه وأكرمه ونعمه.
    ج ـ ليت الرجل كتب ما كتب بعد الحيطة بشيء ون الخلافة الإسلامية و شروطها ، وما يجب أن يكتنفه الخليفة من حنكة لتدبير الشيء ون ، وملكة لتهذيب النفوس ، ونزاهة عن الرذائل ليكون قدوة للأمة ، ولا ينقض ما يدعو إليه ببوائقه ؟ ، إلى أمثالها من غرائز يجب أن يكون حامل ذلك العبء الثقيل متحليا بها ، لكنه كتب وهو يجهل ذلك كله ، وكتبه على حين أنه لم يحمل إلا نفسا ضئيلة تقتنع بما يحسبه دعة تحت نير الاضطهاد ، وعلى حين أن ضعف الرأي ودقة الخطر يحبذان له راحة مزعومة في ظل الاستعباد ، فلا نفس كبيرة تدفعه إلى الهرب من حياة الذل ، ولا عقل سليم يعرفه مناخ الضعة ، ولا إحاطة بتعاليم الاسلام تلقنه دروس الآباء والشهامة ، ولا معرفة بعناصر الرجال ليعلم من نفسياتهم الكم والكيف ، فلا عرف يزيد الطاغية حتى يعلم أنه لا مقيل له في مستوى الخلافة.
    ولاعرف حسين السؤدد والشرف والإباء و والشهامة ، حسين المجد والامامة ، حسين الدين واليقين ، حسين الفضل والعظمة ، حسين الحق والحقيقة ، حتى يخبت إلى أن من يحمل نفسا كنفسه لا يمكنه البخوع ليزيد الخلاعة والمجون ، يزيد الاستهتار والفسوق ، يزيد النهمة والشره ، يزيد الكفر والالحاد لم ينهض بضعة المصطفى إلا بواجبه الديني ، فإن كل معتنق للحنيفية البيضاء يرى في أول فرايضه أن يدافع عن الدين بجهاد من يريد أن يعبث بنواميسه ، ويعيث في طقوسه ، ويبدل تعاليمه ، ويعطل أحكامه ، وإن أظهر مصاديق كلي ينطبق عليه هذه الجمل هو : يزيد الجور والفجور والخمور ، الذي كان يعرف بها على عهد أبيه كما قال مولانا الحسين


(260)
عليه السلام لمعاوية لما أراد أخذ البيعة له : تريد أن توهم الناس ؟! كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ يزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة (1) عند التحارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف (2) وضروب الملاهي ، تجده ناصرا ، دع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه (3)
    وقال عليه السلام لمعاوية أيضا : حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية : وأما ما ذكرت من : أنك خير من يزيد نفسا. فيزيد والله خير لأمة محمد منك. فقال الحسين : هذا هو الإفك والزور ، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير مني ؟ (4)
    وفي كتاب المعتضد الذي تلي على رؤوس الاشهاد في أيامه ما نصه : ومنه : إيثاره ( يعني معاوية ) بدين الله ، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبر الخمير صاحب الديوك والفهود والقرود ، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة و. التوعيد والاخافة والتهدد والرهبة ، وهو يعلم سفهه ، ويطلع على خبثه ورهقه ، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره ، فلما تمكن منه ما مكنه منه ووطأه له وعصى الله ورسوله فيه ، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين ، فأوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الاسلام أشنع منها ولا أفحش مما ارتكب من الصالحين فيها ، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله ، وظن أن قد انتقم من أولياء الله ، وبلغ النوى لأعداء الله فقال مجاهرا بكفره ومظهرا لشركه :
ليت أشياخي ببدر شهدوا قد قتلنا القرم من ساداتهم فأهلوا واستهلوا فرحا لست من خندف إن لم أنتقم جزع الخزرج من وقع الأسل وعدلنا ميل بدر فاعتدل ثم قالوا : يا يزيد لا تشل من بني أحمد ما كان فعل

1 ـ المهارشة ، تحريش بعضها على بعض.
2 ـ المعازف ج معزف : آلات يضرب بها كالعود.
3 ـ الإمامة والسياسة 1 ص 153.
4 ـ الإمامة والسياسة 1 ص 155.
كتاب الغدير ـ الجزء الثالث ::: فهرس