الغدير ـ الجزء الخامس ::: 11 ـ 20
(11)
فاصبر فما يدرك غايات ما يطلب إلا الحازم الجلد
    وفي سنة 643 (2) تقدم الخليفة [ المستعصم أبو أحمد عبد الله ] بإرسال طيور من الحمام إلى أربع جهات لتصنيف أربعة أصناف منها مشهد حذيفة بن اليمان بالمداين ، ومشهد العسكري بسر من رأى ، ومشهد غني بالكوفة ، والقادسية ، ونفذ مع كل عدة من الطيور عدلان ووكيلا ، وكتب بذلك سجل شهد فيه العدول على القاضي بثبوته عنده ، وسميت هذه الأصناف باليمانيات. والعسكريات. والغنويات. و القادسيات. ونظم النقيب الطاهر قطب الدين الحسين بن الأقساسي في ذلك أبياتا و عرضها على الخليفة أولها :
خليفة الله يا من سيف عزمته موكل بصروف الدهر يصرفها
    ويقول فيها :
إن الحمام التي صنفتها شرفت والقادسيات أطيار مقدسة وبعدها غنويات تنال بها والعسكريات أطيار مشرفة ثم الحمام اليمانيات ما جعـلت لا زلت مستعصما بالله في نعم على الحمام التي من قبل نعرفها إذ أنت يا مالك الدنيا مصنفها غنى الحياة وما يهوي مؤلفها وليس غيرك في الدنيا يشرفها إلا سيـوفا على الأعداء ترهفها يهدي لمجدك أسناها وألطفها
    ثم سأل أن يقبض منها من يد الخليفة فأجاب سؤاله وأحضره بين يديه وقبضه فلما عاد إلى داره نظم أبياتا أولها :
إمام الهدى أوليتني منك أنعما وأحضرتني في حضرة القدس ناظرا وعليت قدري بالحمام وقبضها رفعت بها ذكري وأعليت منصبي حمام إذا خفت الحمام ذكرتها رددن علي العيش فينان أخضرا إلى خير خلق الله نفسا وعنصرا مناولة من كـف أبلج أزهرا فحزت بها عزا ومجدا على الورى فصرت بذاك الذكر منها معمرا
    ويقول في آخرها :
2 ـ الحوادث الجامعة 203.

(12)
قضى الله أن يبقى إماما معظما فدم يا أمير المؤمنين مخلدا مدى الدهر ما لاح الصباح وأسفرا على الملك منصور الجيوش مظفرا
    في المحرم من سنة 630 (1) قلد العدل مجد الدين أبو القاسم هبة الدين بن المنصوري الخطيب نقابة نقباء العباسيين والصلاة والخطابة ، وخلع عليه قميص أطلس بطراز مذهبا ودراعة خارا أسود ، وعمامة ثوب خارا أسود مذهب بغير ذوابة ، وطيلسان قصب كحلي ، وسيف محلى بالذهب ، وامتطى فرسا بمركب ذهبا وقرئ بعض عهده في دار الوزارة وسلم إليه ، وركب في جماعة إلى دار أنعم عليه بسكناها في المطبق من دار الخلافة وأنعم عليه بخمسمائة دينار ، وهو من أعيان عدول مدينة السلام وأفاضل أرباب الطريقة المتكلمين بلسان أهل الحقيقة ، كان يصحب الفقراء دائما ويأخذ نفسه بالرياضة والسياحة والصوم الدائم والتخشن والتباعد من العالم ، وكان الموفق عبد الغافر ابن الفوطي من جملة تلامذته فعمل فيه أبياتا طويلة ، ولما انتهى حالها إلى الديوان أنكر ذلك عليه ووكل به أياما ولم يخرج إلا بشفاعته وأول الأبيات :
ناديت شيخي من شدة الحرب في دسته جالسا ببسملة وركبة منه كنت أعهده وكان أبناؤها لديه على أصاب في الرأي من دعاك لها أول صوت دعاك عن عرض وشيخنا فـي الحرير والذهب بين يديه من قام في أدب يذم أربابها على الرتب سخط من الله شامل الغضب وأنت لما أجبت لم تسب لبيته مقبلا على السبب
    ويقول فيها :
قد كنت ذاك الذي تظن به شيخي أين الذي يعلمنا الزهد أين الذي لـم يزل يسلكنا أين الذي لم يزل يعرفنا لو لم تكن مسرعا إلى الرتب ويعتده من القرب ؟ إلى خروج عن كل مكتسب؟ فضل التمري بالجوع والتعب؟
    ومنها :
1 ـ الحوادث الجامعة ص 38.

(13)
أين الذي لم يزل يرغبنا وأين من غرنا بزخرفة وأي ذاك التجريد يشعرنا وأين من لم يزل يذم لنا وأين من لم يـزل بأدمعه وأين من كان في مواعظه ويقطع القول لا يتممه ويقسم الغمر أنه رجل لو كانت الأرض كلها ذهبا أسفر ذاك الناموس مختـيلا وكان ذاك الصراخ يزعجـنا شيخي بعد الذم الصريح لما نسيت ما قلته علـى ورع ويل له إن يمت بخدمته ما كان مال السلطان مكتسبا في الصوف لبساله وفي الجشب؟ متى اعتقدناه زاهد العرب ؟ إن سواه في السعي لم يخب ؟ الدنيا وقول المحال والكذب ؟ يخدعنا باكيا على الخشب ؟ يصول زجرا عن كل مجتنب منغلبا بالسماع والطرب ؟ ليس له في الوجود من أرب أعرض عنها إعراض مكتئب عـن راغب في التراث مستلب شكوى فقير على الدنا وصب أبيته جئته على طلب عني لما اكتسبت بالـدأب يمت كفورا وليس بالعجب لمسلم سالم من العطب (1)
    فكتب النقيب قطب الدين الحسين بن الأقساسي إلى النقيب مجد الدين المذكور أبياتا كالمعتذر عنه والمسلي له يقول في أولها :
إن صاحب النبي كلهم مالوا إلى الملك بعد زهدهم وكلهم كان زاهدا ورعا غير علي وآله النجب واضطربوا بعده على الرتب مشجعا في الكلام والخطب
    فأخذ عليه مآخذ فيما يرجع إلى ذكر الصحابة والتابعين وتصدى له جماعة وعملوا قصايد في الرد عليه ، وبالغوا في التشنيع عليه ، حتى أن قوما استفتوا عليه الفقهاء ونسبوه إلى أنه طعن في الصحابة والتابعين ونسبهم إلى قلة الدين فأفتاهم الفقهاء بموجب ما صدرت به الفتيا.
1 ـ بعد هذا البيت أربعة عشر بيتا ضربنا عنها صفحا.

(14)
    وقال ابن أبي الحديد في شرح ( نهج البلاغة ) ج 2 ص 45 : سألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عما ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه [ ج 1 ص 138 ] إن قوما يقولون : إن هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغري هو قبر المغيرة بن شعبة ؟! فقال : غلطوا في ذلك قبر المغيرة وقبر زياد بالثوية من أرض الكوفة ونحن نعرفهما وننقل ذلك عن آبائنا وأجدادنا وأنشدني قول الشاعر يرثي زيادا وقد ذكره أبو تمام في الحماسة.
صلى الإله على قبر وطهره زفت إليه قريش نعش سيدها أبا المغيرة والدنيا مفجعة عند الثوية يسفي فوقه المور (1) فالحلم والجود فيه اليوم مقبور وإن من غره الدنيا لمغرور   إلخ
    وسألت قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال : صدق من أخبرك ، نحن وأهلها كافة نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية وهي إلى اليوم معروفة وقبر المغيرة فيها إلا أنها لا تعرف قد ابتلعها السبخ وزبد الأرض وفورانها فطمست واختلط بعضها ببعض ، ثم قال : إن شئت أن تتحقق أن قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب ( الأغاني ) لأبي الفرج علي بن الحسين ، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة وأنه مدفون في مقابر ثقيف ، ويكفيك قول أبي الفرج فإنه الناقد البصير والطبيب الخبير فتصفحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور فوجدت الأمر كما قاله النقيب.
    توجد ترجمة قطب الدين الأقساسي في تاريخ ابن كثير 13 ص 173 ، قد أثنى عليه وقال : أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة رحمه الله.
    أفرد العلامة سيدنا المرعشي في [ مجالس المؤمنين ] ص 212 ترجمة باسم عز الدين بن الأقساسي وقال : إنه من أشراف الكوفة ونقبائها ، كان فاضلا أديبا ، له في قرض الشعر يد غير قصيرة ، روي أن الخليفة المستنصر العباسي خرج يوما إلى زيارة قبر سلمان الفارسي سلام الله عليه ومعه السيد المذكور ابن الأقساسي فقال له الخليفة في الطريق : إن من الأكاذيب ما يرويه غلاة الشيعة من محبي علي بن أبي طالب عليه السلام
1 ـ المور : التراب تثيره الريح.

(15)
من المدينة إلى المداين لما توفي سلمان وتغسيله إياه ومراجعته في ليلته إلى المدينة فأجابه ابن الأقساسي بالبديهة بقوله :
أنكرت ليلة إذ صار الوصي إلى وغسل الطهر سلمانا وعاد إلى وقلت : ذلك من قول الغلاة وما فآصف قـبل رد الطرف من سبأ فأنت فـي آصف لم تغل فيه بلى إن كان أحمد خير المرسلين ؟ فذا أرض المداين لما أن لها طلبا عراص يثرب والاصباح ما وجبا ذنب الغـلاة إذا لم يوردوا كذبا ؟ بعرش بلقيس وافى يخرق الحجبا في ( حـيدر ) أنا غال ان ذا عجبا خير الوصيين أو كل الحديث هبا
    هذه الأبيات ذكرها العلامة السماوي في [ الطليعة ] ونسبها إلى شاعرنا في الغدير السيد محمد الأقساسي ، وحسب أنه هو صاحب المستنصر ، ذاهلا عن تاريخي ولادة المستنصر ووفاة السيد صاحب الغديرية فإن السيد توفي كما مر سنة 575 ، والخليفة المستنصر ولد سنة 589 بعد وفاة السيد بأربعة عشر سنة واستخلف في سنة 624.
    وجعل العلامة السيد الأمين في ( أعيان الشيعة ) في الجزء الحادي والعشرين ص 233 ترجمة تحت عنوان أبي محمد عز الدين الحسن بن حمزة الأقساسي وذكر القصة والأبيات له ولم يعلم هو من أين نقله ، والحسن بن حمزة يكون عم شاعرنا فيتقدم على المستنصر بأكثر من صاحب الغديرية.
    وذكر ابن شهر آشوب في ( المناقب ) 1 ص 449 هذه الأبيات بتغيير يسير و زيادة ونسبها إلى أبي الفضل التميمي (1) وإليك لفظها.
سمعت مني يسيرا من عجائبه أدريت في ليلة سار الوصي إلى فألحد الطهر ( سلمانا ) وعاد إلى كآصف قبل رد الطرف من سبأ فكيف في آصف لم تغل أنت ؟ بلى إن كان أحمد خير المرسلين ؟ فذا وكل أمر ( علي ) لم يزل عجبا أرض المداين لما أن لها طلبا عراص يثرب والاصباح ما قربا بعـرش بلقيس وافى تخرق الحجبا بحيدر أنا غال أورد الكذبا خير الوصيين أو كل الحديث هبا

1 ـ أحد شعراء أهل البيت.

(16)
وقلت ما قلت من قول الغلاة فما ذنب الغلاة إذا قالوا الذي وجبا؟
    فرواية ابن شهر آشوب هذه الأبيات تثبت عدم كونها من نظم السيد قطب الدين الأقساسي أيضا إذ ابن شهر آشوب توفي سنة 588 قبل ولادة المستنصر بسنة ، وقبل وفاة السيد القطب بسبع وخمسين سنة ، ولعلها لأبي الفضل التميمي أو لغيره من أسلاف آل الأقساسي الأولين ، وأنشدها قطب الدين للمستنصر.
    لفت نظر
    يبلغني من وراء حجب البغضاء والإحن تكذيب هذه المكرمة الباهرة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وعزوها إلى الغلو مستندا إلى إحالة طي هذه المسافة البعيدة في هذا الوقت اليسير ، ولو عقل المسكين أن هاتيك الإحالة على فرضها عادية لا عقلية ، وإلا لما صح حديث المعراج [ ولم يكن إلا جسمانيا ] المتواتر المعدود من ضروريات الدين.
    ولا صحت قصة آصف بن برخيا المحكية في القرآن الكريم ، ولما تمكن عفريت من الجن من أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان من مقامه ، ولم يرده سليمان ولا الذكر الحكيم ، غير أن سليمان أراد ذلك بأسرع منه ، وشمول القدرة الآلهية على التسيير الحثيث والبطئ شرع سواء ، كما أنها بالنسبة إلى كلية الأمور الصعبة والسهلة كذلك ، فقد يكرم الله الولي المقرب بأقداره على أشياء لم يقدر عليه من هو دونه ، وقد خلق الله الناس أطوارا ، فتراهم متفاوتين في القدر ، فيقوى هذا على ما لا يقوى عليه ذاك ، وليس لقدرة الله سبحانه حد محدود ، ومن هنا وهناك اختلفت عاديات الموجودات في شؤونها وأطوارها ، فالمسافة التي يطويها الفارس في أمد محدود ، غير ما يطويه الراجل ، وللسيارات البخارية عدو مرب على الجميع ، وإنك تستصغر ذلك العدو إذا قسته بالطائرات الجوية لأنك تجدها تطوي في خمس ساعات مثلا ما تطويه الناس في خمسة أشهر.
    وهذه طيارة مستكشفة بريحية 19 تحركت من باريك في صباح 24 ابريل سنة 1924 فوصل في المساء إلى بخارست بعد أن قطع 1250 ميلا في 11 ساعة ، وفي اليوم التالي أضاف إليها 770 ميلا أخرى ، ولم تمض عليه خمسة أيام حتى كان قد وصل إلى الهند ، وقطع مسافة قدرها 3730 ميلا ، وقد وصلت سرعة الطيارات إلى ما فوق


(17)
150 ميلا في الساعة الواحدة ، وتحارب البعض منها في ارتفاع بلغ 22000 قدما (1)
    ومن الممكن أن يكشف لنا العلم في مستقبله ما هو أسرع سيرا من هاتيك كلها.
    إذن فأي وازع من أن يكون من عاديات الولي مهما أراد التمكن من أمثال هذا السير ؟! وما ذلك على الله بعزيز. على أنا لا نساوي مولانا أمير المؤمنين ومن جرى مجراه من أئمة الهدى عليهم السلام بغيرهم من أفراد الرعية ، ولا بأحد من أولياء الله المقربين ولا بأحد من حملة العلم والمكتشفين ، فنجوز فيهم صدور المعجز متى اقتضته المصلحة ، بل : هو من واجب مقامهم.
    وإن تعجب فعجب أن فئتا ممن ران على قلوبهم ما كانوا يعملون تحاول دحض هذه المكرمة في مولانا أمير المؤمنين وهم يخضعون لمثلها في غيره ممن هو دونه من دون أي غمز ونكير.
    1 ـ روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه 4 ص 33 عن السري بن يحيى قال : كان حبيب بن محمد العجمي البصري يرى يوم التروية بالبصرة ويوم عرفة بعرفات.
    2 ـ قال الحافظ ابن كثير في تاريخه 13 ص 94 : ذكروا أن الشيخ عبد الله اليونيني المتوفى 617 كان يحج في بعض السنين في الهواء ، وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهاد وصالحي العباد ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء وأول من يذكر عنه هذا : حبيب العجمي ، وكان من أصحاب الحسن البصري ثم من بعده من الصالحين.
    3 ـ كان أحمد بن محمد أبو بكر الغساني الصيداوي المتوفى 371 ينام بعد ما صلى العصر إلى ما قبل صلاة المغرب ، فجاءه رجل ذات يوم يزوره بعد العصر فغفل فتحدث معه وترك عادة النوم فلما انصرف سأله الخادم عنه فقال : هذا عريف الأبدال يزورني في السنة مرة.
    قال : فلم أزل أرصده إلى مثل ذلك الوقت حتى جاء الرجل فوقفت حتى فرغ من حديثه ثم سأله الشيخ أين تريد ؟ فقال : أزور أبا محمد الضرير في مغار ، قال الخادم : فسألته أن يأخذني معه فقال : بسم الله ، فمضيت معه فخرجنا حتى صرنا عند قناطر الماء فأذن المؤذن المغرب قال : ثم أخذ بيدي وقال : قل : بسم الله ، قال :
1 ـ بسائط الطيران ص 82 ، 118.

(18)
فمشينا دون العشر خطأ فإذا نحن عند المغارة وهي مسير إلى ما بعد الظهر قال : فسلمنا على الشيخ وصلينا عنده وتحدثنا عنده فلما ذهب ثلث الليل قال لي : تحب أن تجلس ههنا أو ترجع إلى بيتك ؟ فقلت : أرجع فأخذ بيدي وسمى ببسم الله ومشينا نحو العشر خطأ فإذا نحن على باب صيدا فتكلم بشئ فانفتح الباب ودخلت ثم عاد الباب.
[ تاريخ ابن عساكر 1 ص 443 ]
    4 ـ كان ببغداد رجل من التجار قال : إني صليت يوما الجمعة وخرجت فرأيت بشر الحافي يخرج من المسجد مسرعا فقلت في نفسي : انظر إلى هذا الرجل الموصوف بالزهد لا يستقر في المسجد ثم إنني اتبعته فرأيته تقدم إلى الخباز واشترى بدرهم خبزا فقلت : انظر إلى الرجل يشتري خبزا ، ثم اشترى شواء بدرهم فازددت عليه غيظا ، ثم تقدم إلى الحلوائي فاشترى فالوذجا فقلت : والله لا أتركه حتى يجلس ويأكل ثم إنه خرج إلى الصحراء فقلت : إنه يريد الخضرة ، فما زال يمشي إلى العصر وأنا أمشي خلفه ، فدخل قرية وفي القرية مسجد وفيه رجل مريض فجلس عند رأسه وجعل يلقمه فقمت لأنظر في القرية وبقيت ساعة ثم رجعت فقلت للعليل : أين بشر ؟ فقال : ذهب إلى بغداد ، فقلت : كم بيني وبين بغداد ؟ قال : أربعون فرسخا ، فقلت. إنا لله و إنا إليه راجعون ، أيش عملت في نفسي ؟ وليس معي ما أكتري ولا أقدر على المشي ، فقال لي : اجلس حتى يرجع فجلست إلى الجمعة القابلة فجاء بشر في ذلك الوقت ومعه شئ فأعطاه إلى المريض فأكله فقال له العليل : يا أبا نصر هذا الرجل صحبك من بغداد وبقي عندي منذ الجمعة فرده إلى موضعه ، فنظر إلي كالمغضب وقال : لم صحبتني ؟ فقلت : أخطأت ، فقال : قم فامش فمشيت معه إلى قرب المغرب فلما قربنا قال : أين محلتك من بغداد ؟ فقلت : في موضع كذا قال : إذهب ولا تعد. [ تاريخ ابن عساكر 3 ص 236 ].
    5 ـ قال الشيخ الجليل أبو الحسن علي : كنت يوما جالسا عند باب خلوة خالي الشيخ أحمد [ الرفاعي المتوفى 587 ] رضي الله عنه وليس فيها غيره وسمعت عنده حسا فنظرت فإذا عنده رجل ما رأيته قبل فتحدثا طويلا ثم خرج الرجل من كوة في حائط الخلوة ومر في الهوى كالبرق الخاطف فدخلت على خالي وقلت له : من الرجل ؟ فقال : أو رأيته ؟ قلت : نعم ، قال : هو الرجل الذي يحفظ الله به قطر البحر المحيط ، وهو أحد


(19)
الأربعة الخواص ، إلا أنه هجر منذ ثلاث وهو لا يعلم ، فقلت له : يا سيدي ما سبب هجره ؟ قال : إنه مقيم بجزيرة في البحر المحيط ، ومنذ ثلاث ليالي أمطرت جزيرته حتى سالت أوديتها ، فخطر في نفسه : لو كان هذا المطر في العمران. ثم استغفر الله تعالى ، فهجر بسبب اعتراضه ، فقلت له : أعلمته ؟ قال : لا إني استحييت منه ، فقلت له لو أذنت لي لأعلمته ، فقال : أو تفعل ذلك ؟ قلت : نعم ، فقال : رنق فرنقت ثم سمعت صوتا : يا علي ارفع رأسك. فرفعت راسي من رنقي فإذا أنا بجزيرة في البحر المحيط فتحيرت في أمري وقمت أمشي فيها فإذا ذلك الرجل فسلمت عليه وأخبرته ، فقال ناشدتك الله إلا فعلت ما أقول لك ، قلت : نعم. قال. ضع خرقتي في عنقي واسحبني على وجهي وناد علي : هذا جزاء من تعرض على الله سبحانه. قال فوضعت الخرقة في عنقه وهممت بسحبه وإذا هاتف يقول : يا علي دعه فقد ضجت عليه ملائكة السماء باكية عليه وسائلة فيه وقد رضي الله عنه. قال : فأغمي علي ساعة ثم سرى عني وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت [ مرآة الجنان 3 ص 411 ].
    6 ـ حكى الشيخ الصالح غانم بن يعلى التكريتي قال : سافرت مرة من اليمن في البحر المالح فلما توسطنا بحر الهند وغلب علينا الريح أخذتنا الأمواج من كل جانب وانكسرت بنا السفينة فنجوت على لوح منها فألقاني إلى جزيرة فطفت فيها فلم أر فيها أحدا وإذا هي كثيرة الخيرات رأيت فيها مسجدا فدخلته ، فإذا فيه أربعة نفر فسلمت عليهم ، فردوا علي السلام ، وسألوني عن قصتي فأخبرتهم ، وجلست عندهم بقية يومي ذلك ، فرأيت من توجههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمرا عظيما ، فلما كانت وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحراني ، فقاموا يبادرون إلى السلام عليه ، فتقدم وصلى بهم العشاء ، ثم استرسلوا في الصلاة إلى طلوع الفجر ، فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول : إلهي لا أجد لي في سواك مطمعا [ إلى آخر الدعاء ] ثم قال : بكى بكاء شديدا ، ورأيت الأنوار قد حفت بهم ، وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر ثم خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول :
سير المحب إلى المحبوب إعجال أطوي المحانة من قفر على قدم والقلب فيه من الأحوال بلبال إليك يدفعني سهل وأجبال


(20)
    فقال لي أولئك النفر : اتبع الشيخ فتبعته وكانت الأرض برها وبحرها و سهلها وجبلها يطوى تحت أقدامنا طيا كنت أسمعه كلما خطا خطوة يقول : يا رب حيوة كن لحيوة.
    وإذا نحن بحران في أسرع وقت ، فوافينا الناس يصلون بها صلاة الصبح.
[ مرآة الجنان 3 ص 421 ]
    7 ـ ذكر محمد بن علي الحباك خادم الشيخ جلال الدين السيوطي المتوفى 911 : إن الشيخ قال له يوما وقت القيلولة وهو عند زاوية الشيخ عبد الله الجيوشي بمصر بالقرافة : أتريد أن تصلي العصر بمكة بشرط أن تكتم ذلك علي حتى أموت ؟ قال : فقلت نعم.
    قال : فأخذ بيدي وقال : غمض عينيك فغمضتها فرحل بي نحو سبع وعشرين خطوة ثم قال لي : افتح عينيك فإذا نحن بباب المعلاة فزرنا أمنا خديجة ، والفضل بن عياض ، و سفيان بن عيينة ، وغيرهم ودخلت الحرم فطفنا وشربنا من ماء زمزم ، وجلسنا خلف المقام حتى صلينا العصر ، وطفنا وشربنا من ماء زمزم ثم قال لي : يا فلان ليس العجب من طي الأرض لنا وإنما العجب من كون أحد من أهل مصر المجاورين لم يعرفنا.
    ثم قال لي : إن شئت تمضي معي وإن شئت تقيم حتى يأتي الحاج ؟! قال : فقلت أذهب مع سيدي.
    فمشينا إلى باب المعلاة وقال لي : غمض عينيك فغمضتها فهرول بي سبع خطوات ثم قال لي : افتح عينك فإذا نحن بالقرب من الجيوشي فنزلنا إلى سيدي عمر بن الفارض.
[ شذرات الذهب 8 ص 50 ]
    8 ـ ذكر السخاوي في طبقاته : أن الشيخ معالي سأل الشيخ سلطان بن محمود البعلبكي المتوفى 641 فقال : يا سيدي كم مرة رحت إلى مكة في ليلة ؟ قال : ثلاث عشرة مرة ، قلت : قال الشيخ عبد الله اليونيني : لو أراد أن لا يصلي فريضة إلا في مكة لفعل.
[ شذرات الذهب 5 ص 211 ]
    9 ـ ذكر الحافظ ابن الجوزي في ( صفة الصفوة ) 4 ص 228 عن سهل بن عبد الله قال : لقد رأيت رجلا يقال له : مالك بن القاسم جبلي وقد جاء ويده غمرة فقلت له : إنك قريب عهد بالأكل ؟ فقال لي استغفر الله فإنني منذ أسبوع لم آكل ، ولكن : أطعمت والدتي وأسرعت لألحق صلاة الفجر وبينه وبين الموضع الذي جاء منه سبعمائة فرسخ. فهل أنت مؤمن بذلك ؟ فقلت : نعم. فقال : الحمد لله الذي أراني مؤمنا موقنا.
الغدير ـ الجزء الخامس ::: فهرس